اليسار واليمين في أمريكا اللاتينية في يومنا هذا

مقدمة الهامش:

أجرى الباحث الكندي جيفري ويبر هذه المقابلة مع عالم الاقتصاد الأرجنتيني والناشط كلاوديو كاتز في مايو 2019، أي قبل موجة الاحتجاجات الجديدة التي عصفت تشيلي أكتوبر الماضي والانتخابات الرئاسية الأرجنتينية التي خسرها مرشح اليمين ماوريسيو ماكري. في هذه المقابلة، يقدم كاتز صورة عامة عن القوى الفاعلة في أمريكا اللاتينية، وفرص اليسار فيه. سننشر عما قريب مقالًا نشره كاتز مؤخرًا عن انتفاضة تشيلي، وانتخابات الأرجنتين، والانقلاب في بوليفيا ضد حكومة إيفو موراليس.

  نص المقابلة  

في 5 مايو 2019، تحدثت مع عالم الاقتصاد الأرجنتيني كلاوديو كاتز في شقته في بوينس آيرس. ناقشنا موضوعات من كتابيه الأخيرين، النيوليبرالية، النيوتَنموية، الاشتراكية (2016) ، ونظرية التبعية، بعد خمسين عامًا (2018) ، وعن تعقيدات هذه اللحظة في المنطقة. في كلامه المفيض والثاقب، يفسر كاتز الأسباب الأساسية وتوقيت تراجع الموجة الأخيرة للحكومات التقدمية في أمريكا اللاتينية، وفي الوقت نفسه، يشدد على وهن «الرجوع المحافِظ» الذي جاوره، وهنٌ مثاله الأوضح هو شلل حكومة جايير بولسونارو في البرازيل.

في هذا التعلُّق ما بين التقدم والرجوع، ما يزال التوازن غير واضح: فنزويلا، يقول كاتز، هي الساحة الأهم للمعركة خارج البرلمانات على التوجه السياسي للمنطقة ككل—نتيجة هذه المعركة لها تأثيرٌ حاسم على التطورات في باقي المنطقة، فهي جسدت أجرأ الوعود وأعمق التناقضات في الدورة التقدمية للمنطقة. وما بين النزاعات الانتخابية القادمة، السباق الرئاسي الأرجنتيني الجاري في أكتوبر 2019 سيكون الاختبار الأوضح في أمريكا اللاتينية على المدى القريب والمتوسط؛ فقد أدخل المؤسسات المالية الدولية في صراع لإثبات شرعية وصفاتها. وفيما يتعلق بالجغرافية السياسية والمجال الدولي، فأبعاد النزاع ما بين الولايات المتحدة والصين، بالنسبة لِكاتز، ذات أهمية كبيرة في كامل أرجاء أمريكا اللاتينية، مما يستلزم إعادة النظر في الإمبريالية ومناهضة الإمبريالية. في المجمل، ما يقدمه كاتز هو صورة بانورامية واضحة للعوامل التي تشكل السياسات التحررية في أمريكا اللاتينية في يومنا هذا وتدفعها نحو مستقبلٍ ما زال مجهولًا.

. . .

بدايةً، هل بإمكانك تلخيص الجوانب الأهم من تكوينك السياسي والفكري؟

حسنًا، أنا ناتجٌ اعتيادي لجيل السبعينات في أمريكا اللاتينية. بدأت نشاطي في اليسار في السادسة عشر من العمر، كمناضل في حزبٍ يساري، وانخرطت في نشاطات شبه سرية طوال فترة الديكتاتورية العسكرية (1976-1983). كنت أيضًا منخرطًا في المجال المهني. كنت صحفيًا وبعدها عدت إلى الجامعة ونميّت نشاطي هناك أكثر في السنوات والعقود التالية. ولاحقًا، كانت هنالك لحظة جديدة، انتفاضة 2001، التي غيرت نشاطي السياسي مرةً أخرى، وأسسنا شبكةً من علماء الاقتصاد اليساريين. كنا منخرطين جدًا في سيرورات التجمعات الشعبية لعامي 2001 و2002. ولاحقًا، مع التغيرات في أمريكا اللاتينية، قمت برحلاتٍ عدة إلى فنزويلا وكوبا والبرازيل وغيرها من بلدان أمريكا اللاتينية، مشاركًا في مبادراتٍ متنوعة انبثقت في تلك الفترة. وكما هو معتادٌ الآن، كل شيء أكتبه متوفر في موقعي الإلكتروني.

لكي نضع تاريخ تيارات اليسار الجديدة في المنطقة في سياقها مع بدايات القرن الواحد والعشرين، هل يمكنك أن تصف بإيجازٍ تمرّد الحركات الشعبية نهاية التسعينات وبداية الألفية الجديدة؟

في تلك اللحظة، استخدمت مصطلح «انتفاضة شعبية» للإشارة إلى تلك الحركات، للتمييز بينها وبين الثورات الكلاسيكية لأمريكا اللاتينية—الثورة المكسيكية والبوليفية والكوبية والنيكاراغوية. خلافًا لتلك الثورات الاجتماعية، هذه الانتفاضات لم تتضمن مواجهةً مباشرة مع الدولة، أو بناء قوة شعبية مستقلة، أو نتيجةً عسكرية. بذلك المعنى، الثورة هنا، والانتفاضة هناك. كانت الانتفاضات عملياتٍ شديدة العمق، لكنها لم تصل أبدًا إلى نفس النقطة التي وصلتها التجربة الثورية في أمريكا اللاتينية. والدورة التقدمية انبثقت من هذه الانتفاضات. الدورة التقدمية هي نتيجةٌ لهذه العمليات المهمة: التحويل الاجتماعي والاقتصادي لأمريكا اللاتينية وعودة ظهور نوعٍ من التمرد، كلاسيكي من جانب التقاليد السياسية، وجديد في نوع فاعِليه ونوع التحرك.

توازن القوى تغير، والمشاريع النيوليبرالية الأصلية هُزَّت، وفقدت بوصلتها، وفقدت الحكومات التي مثلَّت هذه المشاريع مباشرةً، ومعها امتزج سيناريو اقتصادي دولي مؤاتٍ في أمريكا اللاتينية، وارتفعت أسعار السلع الأساسية، مما ولد دينامية مهمة جدًا للتعافي الاجتماعي والاقتصادي.

أجادل أنَّ سمةً مهمة أخرى للدورة التقدمية هي المكاسب الديموقراطية، في النطاق المباشر، أي الشارع، وفي توازن القوى الاجتماعية، وتراجع الأجهزة القمعية للدولة. وكانت هنالك مكاسب دستورية وتشريعية مهمة. وكانت هنالك مكاسب رمزية أيضًا، مثل وصول رجلٍ من السكان الأصليين إلى الرئاسة في بوليفيا، تحدٍّ للإرث العنصري للمنطقة—ودساتير متقدمة جدًا جدًا في فنزويلا وبوليفيا.

الدورة التقدمية أنعشت أيضًا الإرث السابق، الأيديولوجيات السياسية الشعبية في أمريكا اللاتينية. وكان هنالك لقاءٌ جديد مع الثورة الكوبية ولقاءٌ جديد مع الإرث المناهض للإمبريالية.

كانت الدورة بارزةً جدًا أيضًا بسبب التباين مع الحكومات التي حافظ اليمين على قوته فيها—في كولومبيا، تشيلي، بيرو، والمكسيك حتى وقتٍ قصير—أي، جزءٌ كامل استمر خارج الدورة التقدمية ومعاديًا لها.

كيف تصف نقاط ضعف ونقاط قوة تلك الحكومات؟ وفي أيِّ الحالات كانت التغييرات الشعبية أوسع وأكثر تقدمًا من غيرها؟

هذه المقابلة تتعلق بمواضيع كتابي الأخيرين أليس كذلك؟ في هذا الكتاب، «النيوليبرالية، النيوتنموية، الاشتراكية»، المنشور في 2016، أجادل أنه في داخل الدورة التقدمية كانت هنالك حكومات يمكن أن نسميها يسار الوسط، وحكومات أكثر راديكالية. لدينا نيستور كريشنر ولويس إيناسيو لولا دا سيلفا من جهة، وهوغو تشافيز وإيفو موراليس من جهة أخرى.

يبدو لي أن الطرفين لا ينتميان للنوع نفسه، بل يشكلان فروعًا مختلفة. حكومات يسار الوسط وسّعت نطاق الحقوق، لكنها عملت دون تغيير المنظومة السياسية. أضف على ذلك أنها كانت حكوماتٍ تهتز ذعرًا عند اشتعال أي تحشيد شعبي كبير. إذن، هي حكومات قبلت بالتغييرات والتحسينات، لكنها حملت خوفًا دائمًا من النشاط الشعبي. في الأرجنتين، في عهد كيرشنر، يرى الواحد ذلك حين تحدث مظاهرات، وموقف الحكومة في البرازيل كان واضحًا جدًا في وجه مظاهرات 2013، تلك المظاهرات التي غيرت السيناريو البرازيلي؛ حزب العمال (حزبُ لولا دا سيلفا وديلما روسيف) لم يتعلم أي شيء من ذلك، وبالتالي تمكن اليمين من استغلال الوضع.

على المستوى الاقتصادي، تشكل هذه الحكومات ما أسمّيه نيوتنموية، بمعنى أنها حاولت إعادة تشكيل الصناعة واستعادة القيود التنظيمية، لكن دون تعديل ما غيرته النيوليبرالية. النيوليبرالية غيرت توجيه الاقتصادات، واضعةً التجارة الزراعية وتصدير المنتجات الأولية في مركزها كمحور. حاولت النيوتنموية الحد من ذلك، لكن دون السعي نحو تعديلٍ جوهري للوضع. تبيَّن ذلك جدًا في الأرجنتين مع أهمية التجارة الزراعية، وفي البرازيل مع النظام المالي. أي أن التغييرين الأهم الذين وجب فرضهما: هنا في الأرجنتين، إدارةُ التجارة الخارجية، وفي البرازيل إدارة النظام المالي. لم تسعى الكيشنرية ولا لولا إلى التغيير بهذا المعنى. ونتيجة ذلك، ما حدث في الحالتين هو تحسينٌ في الاستهلاك؛ لكنه تحسينٌ هزيلٌ جدًا للاستهلاك، لأنك إن حسنت الاستهلاك دون أي تغيير في البنية الإنتاجية، فالوضع ضعيفٌ في وجه تغير السيناريو.

اتضحت آثار محدودية حكومات يسار الوسط حقًا فيما تلاها. في حالة البرازيل، يتحمل حزب العمال الكثير من المسؤولية عن وصول جايير بولسونارو إلى الحكم؛ ما أعنيه بذلك هو أن حزب العمال، خصوصًا في الفترة المتأخرة، فترة ديلما روسيف، غشَّ القطاعات التي أيدته، وبالتالي، خسر وزنه في الطبقة الوسطى، وخسر وزنه في الطبقة العاملة، ولم يحافظ على سلطته إلا في ولايات الشمال. كان ميشال نائب الرئيسة تحت روسيف، وزير ماليّته كان نيوليبرالي متطرف. إذن، يبدو لي أن حزب العمال ولَّد انخفاضًا للمعنويات، وخيبةُ الأمل توّجها تركُ روسيف الرئاسة دون مقاومة، وقبولها بانقلاب 2016 الذي سمح بقدوم اليمين.

الأرجنتين مختلفة. الأرجنتين مختلفة جدًا. لأنه، وإن جرى في الأرجنتين عملية غش، وعملية خيبة أمل، فَكريستينا فرنانديز دي كيرشنر غادرت المكتب الرئاسي بقدرٍ مهول من التعاطف الشعبي، وما بعد ذلك، طوال السنين التالية، الاختلافات البرازيل والأرجنتين كانت شاسعة؛ اختلاف الأبيض والأسود.

شهدنا في البرازيل هبوطًا في التحشيد الشعبي، بينما ظل التحشيد في الأرجنتين؛ هناك شهدنا عودةً للجيش، هنا استحالةُ عودة الجيش؛ هناك، انهيار النظام السياسي، هنا إعادةُ تشكيل وحفاظ على النظام السياسي. هنا، نجد أشكالًا جديدة للنشاط الشعبي، مثل مظاهرات مليونية للنساء لأجل الإجهاض، وحفاظ على وزن النقابات العمالية. الأرجنتين بلدٌ شهدت 40 إضراب عام منذ بداية الثمانينات وأربع إضرابات عامة أثناء حكم ماوريسيو ماكري؛ وحين يكون هنالك إضرابٌ عام، فهنالك إضرابٌ عام. بالتالي، تراث الأرجنتين هو تراث بلدِ اضطرابات، بينما البرازيل بلدٌ حوفظ فيها على النظام. لربما ذلك مثيرٌ للاهتمام، لأن حكومتين من النوع نفسه انتهيا بنتائج مختلفة على المستوى السياسي، وإن لم يكن على المستوى الاقتصادي؛ على المستوى الاقتصادي كلاهما انتهيا عند الحدود نفسها. لكن شيئًا ما حصل هنا، وحصل آخر هناك.

لربما الإكوادور هي حالةٌ ثالثة مثيرة للاهتمام. إنها مثيرة للاهتمام لأننا يمكن أن نضع رافاييل كوريّا تقريبًا في نفس الطيف مع لولا وكيرشنر، وإن اتصف بسلطوية أكبر بكثير مما رأيناه في الأرجنتين والبرازيل—اشتباكٌ مع الحركات الاجتماعية، أقوى بكثير مما شهدناه في البرازيل والأرجنتين. مستوى السخط الذي أثاره كورَيّا في الكثير من الحركات الشعبية لم يحصل لا في الأرجنتين ولا البرازيل. لكن ما هو مثير للاهتمام في الإكوادور، على ما يبدو لي، هو أنَّ لينين مورينو، الذي فاز في انتخابات 2017، هو أحد رجال كورَيّا.

فاز ببرنامجٍ انتخابي ضد اليمين وانتهى به الأمر إلى تشكيل أكثر الحكومات يمينيّة في أمريكا اللاتينية، حكومةٌ تساوي حكومة ماكري، فيما يتعلق باتفاقياتها مع صندوق النقد الدولي. هذا الرجل الذي سمح للتو بتسليم جوليان أسانج، نزع عن نفسه إمكانية الدفاع عن النفس بصورةٍ فاضحة. المهم هو أنه رجلٌ ينتمي للعملية نفسها. وهذا ما كررته مرارًا، أنه في البرازيل مثلما في الأرجنتين، وأيضًا من داخل العملية نفسها، كانت هنالك عناصر يمينية تمامًا. تامر، مثلًا، هو لينين مورينو البرازيل. الأرجنتين لم تصل إلى تلك المرحلة، لكن في كلا هاتين الحالتين هنالك عنصر آخر كشفَ حدود هذه العمليات.

نوعُ الحكومات الآخر هو ما أسميته بالحكومات «الراديكالية»، إن صح التعبير. تتضمن هذه فنزويلا وبوليفيا و، جزئيًا، كوبا. النقطة المعقدة هي التشافيزمو (تشافيزية)، وهي لربما الظاهرة الأهم في كامل التاريخ المعاصر لأمريكا اللاتينية. لا يمكن أن تقارن التشافيزمو بِالكيشنرية ولا بِلولا، وأجادل أيضًا أنها لا تقارن حتى بـ إيفو موراليس في بوليفيا. في المقام الأول، لأن مستوى التمكين الشعبي الذي ولّدته التشافيزمو لم يُشهَد في أي مكان آخر، لربما في بوليفيا، لكن بالتأكيد لا في البرازيل ولا في الأرجنتين—مستوى المشاركة، وشبكات التنظيم الشعبي، والإبداعية، واليقظة السياسية.

لربما ذلك مفاجئ لأن فنزويلا، خلافًا للأرجنتين والبرازيل وبوليفيا والإكوادور، لم تمر بعمليات مشابهة في الماضي. لم يكن هنالك بيرونية1البيرونية: حركة سياسية شعبوية قوية في الأرجنتين تقوم على فكر الرئيس السابق خوان دومينغو بيرون كما في الأرجنتين، ولا مثيلٌ للحركة القومية الثورية كما في بوليفيا، لا شيء كذلك في تاريخ فنزويلا. بعد عدم حصول تاريخٍ كهذا، الأمر كما لو أن فنزويلا كثَّفت في فترة قصيرة ما جرى سابقًا في عدة بلدان. جعل ذلك الأمر أكثر استقطابيةً، والأهم من ذلك أنّه ولَّد ردةً فعلٍ من الطبقات المسيطرة الفنزويلية لا مثيل له في المنطقة. ألِفَت الطبقة الحاكمة في الأرجنتين البيرونية لسبعين عامًا؛ في البرازيل، قبلَ لولا، كانت هنالك تجربة لويس بريستيس2لويس كارلوس بريستيس (3 يناير 1898 إلى 7 مارس 1990): ملازم برازيلي، أصبح لاحقًا مناضلًا شيوعيًا وسياسيًا برازيليًا. وكان واحدا من المنظمين ثورات التينينتي (الضبّاط) في العشرينات، والمعارضة الشيوعية لحكم فارغاس الدكتاتوري. وكان أيضا الأمين العام للحزب الشيوعي البرازيلي.، وناهيك عن العمليات السياسية المتتالية في بوليفيا. لأن فنزويلا لم تمر بأمر مماثل، كانت ردةُ فعلها كما لو أنها في ثلاثينات أو أربعينات القرن الماضي، كما لو أنها اكتشفت للتو أن الشعب موجود. هذا ما جعلها عمليةً حَرِجة بهذا القدر.

إلى ذلك نحتاج أن نضيف راديكالية تشافيز السياسية. كان تشافيز شخصية مميزةً جدًا؛ كان مزيجًا للتوجه المناهض للإمبريالية في أمريكا اللاتينية، لكن مع امتصاصٍ مهول للثورة الكوبية، وهذه سمةٌ أخرى لم توجد في الحالات الأخرى. الأمر كما لو أن أيديولوجيا الثورة الكوبية عملت كالأيديولوجيا المنظِّمة لنشاط تشافيز. أضف إلى ذلك أنَّ فنزويلا بلد غنيٌ بالنفط، وبالتالي له أهمية لدى الولايات المتحدة لا يملكها أيُّ بلدٍ آخر. نتيجةً لذلك، انتهى الأمر بفنزويلا بأن أصبحت نقطة الانفجار في المنطقة، بسبب هذا المزيج؛ لكن حتى لو لم يحصل أيٌّ مما تحدثت عنه، ولأن فنزويلا لديها أكبر احتياطات النفط في العالم، فأمريكا ستنظر لها كما تنظر للعراق أو ليبيا، وهو أمرٌ لا ينطبق على باقي بلدان أمريكا اللاتينية. لا تملك أي بلاد أخرى هذه الأهمية الاستراتيجية. حقيقةٌ أن سيتغو، شركة النفط الفنزويلية، تتصرف في الولايات المتحدة بشركة فرعية وتؤثر بشكلٍ حاسم على سعر النفط الداخلي في الولايات المتحدة يعطيك صورةً عن مدى أهميتها الاستراتيجية.

حوَّل ذلك التشافيزمو إلى عملية عظيمة متموضعة داخل الدورة التقدمية، وفي الوقت نفسه هي عمليةٌ مختلفة نوعيًا عن باقي الدورة التقدمية. مارست فنزويلا قيادةً من نحو ما على الدورة التقدمية، لكنها كانت تجربةً من مستوى مختلف، شيءٌ أكثر راديكاليةً بكثير من الدورة التقدمية. يمكن رؤية ذلك أيضًا على المستوى الاقتصادي، لأن إعادة توزيع ريع النفط يتجاوز في فائضه توزيع الدخل في الأرجنتين أو الإكوادور أو البرازيل، لكن المفارقة أنه اتكل على اقتصادٍ هشِّ جدًا، أكثرُ اتكالًا على منتجٍ واحد، وبالتالي عرضة للتوتراتٍ أشد بكثير.

بسبب هذا المزيج من العوامل، ما تزال فنزويلا تحتل مركز الصراع في أمريكا اللاتينية، ذلك رغم انتهاء الدورة التقدمية منذ زمن. ما يحدث هناك مهمٌ جدًا لدرجة أنه، مع أو بدون الدورة التقدمية، نَجِد هذه الرجعية اليمينية. حتى لو كان من الصحيح أن موت تشافيز غير الكثير، وأن العملية عانت من نكساتٍ جسيمة، وفي المقام الأول، أن الحرب الاقتصادية أوشكت أن تُدمّر البلد. لا يمكن مقارنة الأزمة الاقتصادية الفنزويلية إلا بأزمة الثلاثينات في الولايات المتحدة، بنفس الانخفاض المئوي للناتج المحلي الإجمالي، والهجرة الجماعية للخارج، والانهيار الاقتصادي. سيناريو تمتزج فيه الحرب الاقتصادية وعداوة الطبقات المسيطرة، مع مستوى عالي من الارتجال، وانعدام المسؤولية والفساد داخل الحكومة الفنزويلية، مما خلق وضعًا سريع الاشتعال.

بهذا المعنى، رغم أن الدورة التقدمية لم تعد موجودة، فنزويلا ما تزال قائمة. فنزويلا ستعرّف ما سيجري في مستقبل أمريكا اللاتينية وما ستنتهي عليه الأمور في الدورة التقدمية. لو كانت فنزويلا قد اختفت، سنكون نتحدث عن رصيد الدورة التقدمية لا أكثر. لكن فنزويلا من الأهمية بمكان حتى أنها تبقي ببقائها كل ما حدث في الدورة التقدمية، لأن نتيجة أحد محاور الدورة ما تزال غير محسومة، وهو المحور الأكثر راديكالية، ويحتوي أعسر المشاكل حلًا.

لهذه الأسباب، ما يحصل في فنزويلا الآن سيحدد التاريخ. حاليًا، هنالك محاولة انقلاب جديدة. مرةً أخرى، هنالك درجة نفاق مقززة في خطاب الإعلام. تُقدَّم فنزويلا كمأساة إنسانية، لكن كولومبيا، بستة ملايين نازح، والجموع المهاجرة من أمريكا الوسطى إلى الولايات المتحدة، لا يشكلون مأساة إنسانية. إنها مأساةٌ للإعلام، لكن في المكسيك اغتيل 100 صحفي، وفي كولومبيا، لا أدري، أهي 100 أم 200 قائد وقائدة اجتماعية اغتيلوا منذ اتفاقية السلام، بينما في فنزويلا لا يوجد اغتيالٌ واحد. يعني ذلك أن نقاشَ فنزويلا معقد، لأن البروباغندا تشوش النقاش. إنه ليس شغفًا؛ الشغف منطقي. لكن لا يمكن للواحد أن يحدث عن الحقائق، لأن الواقع ملغي.

وبالتالي هذا هو الموضوع المفتاح لكيفية حل مسألة فنزويلا، وهو نضالٌ ذو جبهتين: نضالٌ ضد الانقلاب وضد الولايات المتحدة؛ وهو نضال في داخل التشافيزمو لتحديد ما إذا كانت التشافيزمو ستتعافى.

أشاركُ كلَّ انتقادات القطاع الحرج للتشافيزمو، من كل الحقول. يبدو لي أن الأخطاء، إن وصفناها بلباقة، التي ارتكبت في المجال الاقتصادي غير مقبولة بتاتًا. لكن في الوقت نفسه، فمستوى المقاومة الشعبية مفاجئ تمامًا. لا يوجد بلدٌ آخر يمكنه مقاومة ما يجري لفنزويلا، وجزئيًا، ما يفسر ذلك هو قوة العملية من الأسفل. لمن جايلَ العمليات السابقة، وهنا في الأرجنتين نحن نعرف ما هي المكاسب الشعبية، وهي ليست شيئًا يمكن محوه بسهولة؛ فهي تستمر لعقود. إنها شيء يظل قائمًا في الوعي الشعبي. إذن، يمكن لمن عاصر تجارب الأرجنتين أن يفهم لمَ يشدّ الفنزويلي قبضته على هذه المكاسب، ويقاتل بقوة. دون ذلك، سيكون عدم سقوط مادورو حقيقةً يعجز تفسيرها.

وبالتالي سنرى ما سيجري. من الصعب الحديث عن الظرف الراهن، لكن خلال شهرين، إعلانُ هوان غويدو نفسهُ رئيسًا فشل، ومحاولة دخول البلاد بالشاحنات بذريعة الكارثة الإنسانية فشلت، ومحاولات الانقلاب الاثنتين أو الثلاث أفشلت، وحرب الكهرباء فشلت. إنه حالٌ مفاجئ.

من المثير للاهتمام أيضًا التفكير بفنزويلا واختلافها مع بوليفيا. إنه موضوع يستحق الدراسة. الراديكالية الخطابية والأيديولوجية متشابهة جدًا. خطابُ إيفو موراليس شبيهٌ بخطاب تشافيز. لكن مع ذلك، مستخدمًا ريع الغاز الطبيعي، تمكن موراليس من تحقيق درجة عالية جدًا من الاستقرار على مستوى الاقتصاد الكلي، بدرجةٍ تحسده عليها الحكومات اليمينية. يبين ذلك حقيقةً موضوعية—بوليفيا ليست تهديدًا، وعندما لا تكون بلادٌ ما تهديدًا، هنالك ميلٌ لتجاهلها. لا أحد في وزارة الخارجية الأمريكية يراقب بوليفيا. إن سارت الأمور بشكل سيء، فليكن، وإن سارت بشكلٍ جيد، فليكن. أعطى ذلك بوليفيا مساحةً للمناورة لم تتمتع بها فنزويلا. وبمستوى تأخير تنمية أكبر بكثير من أي بلدٍ آخر في المنطقة، فأي تحسين له معنى أكبر بكثير. وأخيرًا، لربما من المهم أنهم أداروا البلاد بالتقليد الفلّاحي المحلّي المنغلق للألتيبلانو (السهول المرتفعة في بوليفيا)، مما جعل إيفو موراليس يتصرف على نحوٍ محافظ. وذلك نقيض حيوية تشافيز الكاريبية التي أطلقت مشاريع كبرى. في الوقت نفسه، لم تكن بوليفيا أبدًا نقطة مرجع لأمريكا اللاتينية، بينما فنزويلا كانت كذلك. وبالتالي لدينا مصيران تاريخيان مختلفان.

وكوبا حالةٌ منفصلة. لكن المثير للاهتمام بالنسبة لكوبا هو أنه لديها شيءٌ مشترك مع بوليفيا المستقرة، وهي تلك المعاجز التي لا يمكن لليمينيين فهمها. بلدٌ لا شيء لديها، لديها لا شيء من لا شيء من لا شيء، وهي جزيرة . . . ليس لديها إلا السياحة وبعض المعادن، لا شيء. لكن لديها أكثرُ مستويات التعليم والتغذية والأهم من ذلك كله، أكثرُ مستويات الصحة إثارةً للإعجاب في المنطقة كلها. وحقيقةٌ أخرى تجذبُ انتباه الواحد: مستوى منعدم للجريمة، وهو أمرٌ غير معقول في باقي أمريكا اللاتينية. بلدٌ لديها مليون سائح سنويًا، لكن السياحة لا تلوث المجتمع. هذه السياحة نفسها في بورتو ريكو، والكاريبي المكسيكي، أو بيليز، تنتج كوارث، لكن ليس في كوبا. وبالتالي هنا نرى آثار البناء على المدى الطويل، في وعي السكان، قيمُ مجتمع. إنه مثالٌ مثيرٌ للاهتمام حقًا لكل أمريكا اللاتينية. لكن ذلك موضوعٌ آخر تمامًا.

سأختم بالتالي. سيناريو الدورة التقدمية متكثّفٌ الآن فيما يجري في فنزويلا، والأشكال الممكنة المختلفة لمستقبل المنطقة تنبع مما يجري في فنزويلا.

من وجهة نظرك، متى ولماذا بدأ ما يسمى بـ «نهاية الدورة التقدمية»؟

مع الرجوع المحافِظ. يمكن القول إن الدورة انتهت مع فرض الرجوع المحافِظ، ولحظاتها المركزية كانت الانقلاب في البرازيل، وبولسونارو لاحقًا، وانتصار ماكري في الأرجنتين في 2015. الواقع هو أن الرجوع المحافِظ هو مزيجٌ من الانتخابات والانقلابات. التغير الكبير الحاصل واقعٌ في النظام السياسي لأمريكا اللاتينية. كل أشكال العقيدة الدستورية في طور خسارة أهميتها في وجه أشكال أكثر سلطوية. وأهميةُ هيكل القوة تتسارعُ يومًا بعد يوم. الانتخابات عنصرٌ ثانوي. في البلدان حيث اليمين أكثر ترسُّخًا—كولومبيا، بيرو، تشيلي—الانتخابات لا أهمية لها. مستوى المشاركة الشعبية شديد الانخفاض. يكثر الكلام ضد فنزويلا، لكن في فنزويلا عدد المصوِّتين في أي انتخاب أكبر بأضعاف من الأعداد التي نجدها في كولومبيا أو بيرو أو تشيلي.

يحكم الرجوع المحافِظ على أساس إلغاء السياسية ومراقبة متطرفة على المجتمع. إذن، المشكلة هنا هي، إلى أي حد استقر الرجوع المحافظ. يمكننا القول إن الدورة التقدمية، كما عرفناها، انتهت قبل حين. لكن هل كان هنالك رجوعٌ محافظ، أم هو هش؟ أعتقد أنه هش. إنه يولد رموزًا مهمة—مثلًا، إلغاء أوناسور3اتحاد بلدان أمريكا الجنوبية ومحاولة إنشاء منتدى تقدم أمريكا الجنوبية (بروسور)، وتأسيس مجموعة ليما لتنظيم الانقلاب في فنزويلا. لكن هذه المشاريع مشاريعٌ غير متماسكة أبدًا أبدًا أبدًا. على سبيل المثال، خسرت أحد أعمدتها المفتاحية، المكسيك، بعد انتصار مانويل لوبيز أوبرادورفي 2018.

قواعد الرجوع المحافِظ هشة، لأن المشروع الاقتصادي النيوليبرالي الكلاسيكي للتسعينات والعقد الأول للألفية الجديدة في أمريكا اللاتينية يواجه الآن سيناريو دولي مختلف. نتيجةً لذلك، النيوليبراليون الآن محتارون، ومضطربون، ولا علم لديهم بما يجب فعله. بعبارة أخرى، هنالك مشكلة كبيرة، لأن النيوليبرالية هي الخصخصة، فتح الأسواق، لكن كيف تفتح الأسواق والتجارة في وسط الحروب التجارية التي نشهدها في العالم؟ أهنالك معنى لأن تقول أنا نيوليبرالي في ضوء ترمب؟ الحليف الأكثر جدية سيكون الصين، لكن هنالك تناقضٌ بديهي في ذلك، في أن النيوليبرالية عقيدة أمريكية موالية لليانكيين، بختم موافقة الولايات المتحدة. لا يمكن لأحد القول إن مثله الأعلى هي التجارة الحرة الصينية. أضف لذلك حقيقة أن الاستثمارات الأساسية آتية من الصين، ومن الواضح أنه، خلافًا للتسعينات والعقد الأول للألفية الجديدة، خلافًا للنيوليبراليين الأوائل، نشهد الآن نيوليبرالية دون نجم شمال، دون استراتيجية. وكنتيجة، فتعبيراتها الاقتصادية هشةٌ جدًا. لأنها لا تعلم ما ترغب به حق المعرفة، وما يجب أن يكون عليه مشروعها.

ها نحن في وسط رجوع محافِظ يتصف بنيوليبرالية زومبي، وبالتالي الآفاق واسعة. كان لدى الدورة التقدمية مشروع أمريكي لاتيني لم يقلع، لكن ليس هنالك مشروعٌ نيولبرالي، ما عدى تنظيم انقلاب في فنزويلا، وذلك لا يشكل مشروعًا. حتى حينما قالوا «سوف نلغي أوناسور ونؤسس شيئًا آخر»، أسسوا شيئًا آخر بغرض تنظيم انقلاب، وليس لأن لديهم استراتيجية ما. من المبكر أن نتحدث عن دورة واضحة للرجوع المحافِظ.

وذلك يفسر ضعف بولسونارو وماكري، مثلًا، في الظرف الراهن؟

نعم. أعتقد أن الامتحان الأكبر لليمين هو بولسونارو. الإجابة على مسألة ماهية هذه الأنظمة اليمينية في أمريكا اللاتينية تحديدًا، سيوفرها بولسونارو. ما سيحصل مع بولسونارو سيدلُّنا على ما سيحصل مع اليمين الجديد في أمريكا اللاتينية. لأن بولسونارو هو الصورة الخالصة لليمين الجديد، شبيهٌ جدًا لما نشهده في أوروبا، إنه الصورة الأمريكية اللاتينية لخطاب اليمين المتطرف، مستفز جدًا، معادي للمكاسب الديموقراطية، ومع الانحياز المباشر مع الولايات المتحدة، والاقتصاد السياسي النيوليبرالي، وما ظللنا نناقشه طوال العام الماضي: إلى أي قدر بولسونارو فاشي، أم غير فاشي. أعتقد أن الواحد يمكن له القول إن لدى بولسونارو مكونات، عناصر فاشية، لكن الفاشية عملية، وماذا ستكون عملية فرض الفاشية على البرازيل ما يزال أمرًا مجهولًا. قد لا يمثل بولسونارو إلا نقطة انطلاق.

لكي يكون هنالك نظامٌ فاشي في البرازيل، يجب أن يفرض القمع جذورًا أعمق ويكون له قيادة يمينية واضحة. هنالك سابقتين لما قد تكون عليه هذه الفاشية، أولها أوغستو بينوشيه. يجب على بولسونارو أولًا الوصول إلى مستوى بينوشيه، ذلك المستوى من القمع وذاك المستوى من السلطة للثورة المضادة في الطبقة الوسطى، في وجه تهديد… كردة فعل رجعية في وجه سالفادور أييندي، أن يملك ذلك. ولكي تغرس تلك الأيديولوجيا المناهضة للشيوعية جذورها، وأن تكسب صلابة النظام تلك، يجب أن ينمي قاعدة شعبية أشبه لما يملكه أوريبِه في كولومبيا. لا أقصد هيكل التنظيمات الشبه عسكرية، إنما دعم قطاعٍ من الطبقة الوسطى اليمينية الموجود في تراث الأوليغارشية الكولومبية. وبولسونارو أبعد ما يكون من الوصول لهاذين الهدفين.

والمشكلة هي أن حكومة بولسونارو، خلال الثلاثة شهور التي قضاها في الحكم، مجرد نكتة، أضحوكة، سجلٌ من الهراء. حتى أثناء الكرنفال، كان هنالك فرقٌ تسخر من بولسونارو، بسبب برنامجه المثير للسخرية؛ أقواله حزمة من الأفكار المجنونة، لكنه هذيانٌ داخل حكومة مشلولة تمامًا. قد يكون ترمب يهذي أيضًا، لكن بولسونارو ليس ترمب. حكومة بولسونارو حكومةٌ لا تفعل شيئًا.

حتى البرجوازية البرازيلية ساخطة على بولسونارو. جاهلٌ بالحكم، أو بعبارة أخرى، إنه لا يعرف أبجديات الإدارة العامة. حتى في المغامرات الدولية: يذهبون إلى القدس، إلى إسرائيل، مما يسبب لهم مشاكلَ لأن البرازيل تعمد كثيرًا على الصين وتعتمد على التجارة الأجنبية مع البلدان العربية. إذن، نرى بولسونارو يلعب بالصادرات البرازيلية، والطبقة المسيطرة لن تسمح بذلك. لذلك السبب، حكومة البرازيل الفعلية هي الجيش. وإنْ استمر بهذا الاتجاه، فسينتهي الأمر بالجيش باستبدال بولسونارو، وسيحل نائب الرئيس هاميلتون موراو محله. وبالتالي، إن كان اليمين الجديد في أمريكا اللاتينية هو بولسونارو، فليس هنالك يمين جديد. إن كان هذا هو اليمين الجديد . . . سنرى، ومن الصحيح أنه بعد ثلاثة شهورٍ فقط في الرئاسة، من المبكر التصريح بثقةٍ عما سيجري.

الحقيقة الأخرى المثيرة للاهتمام هو أنه لا يوجد بولسونارو آخر في أمريكا اللاتينية. هنالك يمين رجعي، مثل أوريبِه، تقليدي، لكن بولسونارو آخر؟ ومن المثير للاهتمام أنه في المكسيك، انتصر لوبيز أوبرادور، بعبارة أخرى، هنالك انعطاف مهم في البلد المهم الآخر في المنطقة، وأزمة كبيرةٌ جدًا لليمين المكسيكي القديم. وأود الإشارة أيضًا، إلى أنه في الانتخابات في كولومبيا وتشيلي، هنالك نمو مهم ليسار الوسط. بعبارة أخرى، في معقَلي اليمين الآخرَين، ما نشهد نموه هو غوستافو بيترو في كولوميا، وتشكيلاتٌ جديدة ليسار الوسط في تشيلي. وبالتالي موضوع اليمين مفتوحٌ تمامًا.

ما هو دور الإمبريالية في كل ما ذكرت؟ هل يمكن اختزالها في الولايات المتحدة؟ وما هو دور الصين في كل ذلك؟

من الواضح أن ترمب يحاول إنعاش هيمنة الولايات المتحدة في وجه الصين. هذا هو جوهر ترمب. وكجزءٍ من استراتيجية استعادة وزن الولايات المتحدة في العالم في وجه الصين، أمريكا اللاتينية قطعة مفتاحية. إنها قطعة مفتاحية لأن أمريكا اللاتينية، بالنسبة للولايات المتحدة، تشكل باحتها الخلفية. تحدي الصين ليس في العالم، بل في أمريكا اللاتينية؛ بعبارة أخرى، بالنسبة للولايات المتحدة، مشكلة الصين ليست مشكلة الصين في العالم، إنها مشكلة الصين في إقليمها.

إن موقف ترمب في أمريكا اللاتينية هو محاولة إنعاش السلطان بطريقةٍ جلفة وبدائية جدًا. العودة إلى ما يمكن تسميته بسياسات الهراوة: «أنا أسيطر عليكم وأنتم تُخضِعون أنفسكم لي». لهذا ترمب يشتم المكسيكيين، يبني جدرانًا، يشتم الكاريبيين، ويحتقر أمريكا اللاتينية. ليست لديه سياسات محاولة تشكيل كتلة، بل يعتبرهم توابع يجب إخضاعهم. بهذا المعنى ترمب يلعب بالنار، لأن هنالك حكومات تتبعه، لكن هنالك ما هو معقد بعض الشيء فيما يفعله ترمب. إنه يعامل بلدان أمريكا اللاتينية كما لو كانت مستعمراته، لكنه لا يمكنه ذلك واقعًا، لأنه ليس في شروطٍ تتيح له التصرف كقوة عسكرية فيما يتعلق بمستعمراته.

بالتالي ترمب يتكلم، لكنه لا يفعل. أنظر إلى الانقلاب في فنزويلا، تتعامل معه أمريكا كأي انقلاب آخر: أبرامز، سبينس، بولتن، روبيو، بومبيو، يتصرفون كما لو كانوا في عصر روزفلت، روزفلت الأول، ثيودور روزفلت؛ يعتبرون أنفسهم ملّاكًا مباشرين، ويعتقدون أنَّ لهم أن يتصرفوا كما يحلوا لهم. ورغم ذلك، حتى الآن، لم يحصل غزوٌ في فنزويلا، كما حصل في غرينادا في 1983، وباناما في 1989، أو حتى انقلاب، مثلما هي حالة مانويل سيلايا في هندوراس في 2009.

إذن، فهنالك طلاقٌ بين ما تقوله الولايات المتحدة وما بإمكانها القيام به بفعالية. من غير المحتمل أبدًا أنْ يمكن للولايات المتحدة أن تكرر في فنزويلا ما فعلته في ليبيا أو ما فعلته في العراق. إذن، سياساتُ ترمب سياساتٌ مغامِرة جدًا، وحتى هذه اللحظة—من المبكر أن نخط حسابًا ختاميًا—لا توجد أي نتائج واضحة.

الشيء الوحيد الذي حققه ترمب هو إعادة التفاوض حول اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا). تلك واقعًا حقيقةٌ مهمة، بسبب ما سعت إليه الولايات المتحدة. لا يريد ترمب القطع مع العولمة، ما يريده ترمب هو إعادة التفاوض حول الاتفاقيات متعددة الأطراف وتحويلها لاتفاقيات ثنائية الأطراف. وبجعلها ثنائية الأطراف، ويصبح وزن الولايات المتحدة فيها أكبر، بمحاسبةٍ على حقوق الملكية، بمحسوبية أكثر لصالح الشركات الأمريكية، وذلك حققته نافتا. إذن، فالوضع متناقض، لأنه لا يمكنه توظيف القوة العسكرية، والاتفاقية الوحيدة في العالم التي تمكن من إعادة التفاوض عليها هي الاتفاقية مع المكسيك. بالتالي من اللافت للنظر موقف ترمب الحذر تجاه لوبيز أوبرادور. على كلٍ، في هذه الحقل، أقول إنه على الواحد أن يفرق بين ما يقال وما يُفعَل.

يبدو لي أن الأولويات الاقتصادية للولايات المتحدة هي إعادة التفاوض حول الاتفاقيات التجارية، وزيادة الصادرات، والحد من الوجود الصيني، والتنافس مع الصين، هذا ما يسعون إليه. ولتحقيق ذلك، يحتاجون إلى تغيير حكومة فنزويلا. فنزويلا مهمة جدًا بالنسبة للولايات المتحدة، ليس فقط لوجود النفط، بل لأنها ستكون رسالة للصين وروسيا: «لا دخول هنا». بالتالي، كل شيء يترتب على ما سيحدث في فنزويلا—كل شيء، كل شيء، كل شيء متركِّز في فنزويلا.

إن لم تحقق الولايات المتحدة أهدافها، إن بقت التشافيزمو، فستكون مثل سوريا، حيث تمول روسيا دورها العسكري، وتملك حضورًا عسكريًا في فنزويلا؛ إن لم تغير الولايات المتحدة ذلك الوضع، فستمدّ روسيا قوتها إلى أمريكا اللاتينية. إنْ لم تتمكن الولايات المتحدة من تغيير الوضع، فوجود الصين أيضًا لن يُرَد. إذن حتى هذه النقطة نحن هنا، نراقب ما سيجري، لكن الحقيقة البنيوية هي أن الصين تخترق والولايات المتحدة تتراجع، والولايات المتحدة تريد استعادة الأرضي التي خسرتها.

المشكلة الكبيرة هي أنَّ الحلفاء الطبيعيين للولايات المتحدة هنا هي الحكومات اليمينية لأمريكا اللاتينية؛ لكنها حكوماتٌ طبقاتها المسيطرة لديها علاقاتٌ قريبة جدًا بالصين، وليس لدى الولايات المتحدة ما تقدمه كبديل. تبيع الطبقات المسيطرة في الأرجنتين والبرازيل الصويا إلى الصين، والولايات المتحدة لن تشتري هذه الصويا. الولايات المتحدة نفسها تصدّر الصويا؛ بعبارة أخرى، إنها منافس. إذن، فما الذي تكسبه الشركات الزراعية في الأرجنتين والبرازيل بدخول اتفاقٍ مع منافسهم، الولايات المتحدة، بدل عميلهم، الصين؟

ما تحاول الولايات المتحدة فعله، إذن، أمرٌ صعبٌ جدًا. وفي الوقت نفسه، تحاول كل طبقة حاكمة في أمريكا اللاتينية الحفاظ على أعمالها، تحاول الحفاظ على عملها في توازن، ولكن الاستقرار منعدم لعدم وجود استراتيجية. بعبارة أخرى، بولسونارو سيعترف بإسرائيل، لكنه يجب أن يبيع للصين، وفي ذلك خلاف؛ ماكري يؤيد الانقلاب في فنزويلا، لكننا هنا في الأرجنتين لا نبيع للصين فقط، بل إن احتياطي البنك المركزي يعتمد على قرضٍ من الصين، فكيف للحكومة أن تدير هذا الوضع؟

أرى في هذا وضعًا حرجًا جدًا، تعرِّف فنزويلا جوهره، كما أكدت. أي أنه إنْ حدث شيءٌ هناك بهذا الاتجاه أو ذلك، فسيعني أن هذا الطرف سيفوز، أو ذاك الطرف سيفوز.

إذن، بالنسبة لي، الصين حدثٌ جديد جدًا. بمعنى ما، إن أمريكا اللاتينية شبيهٌ جدًا بأفريقيا، لكنها في الوقت نفسه تتمايز عنها. إنها شبيهة بأفريقيا لأنهما مكانان حيث الصين ركَّزت استثماراتها في المواد الأولية وتعتمد على هذه المواد الأولية. والصين مستثمرة في البنية التحتية للمنطقتين. التمايز يقع في أن أمريكا اللاتينية أكثرُ نموًا من أفريقيا وتجربتها السياسية أكبر بكثير، وأنَّ أمريكا اللاتينية هي الباحة الخلفية للولايات المتحدة، بينما أفريقيا هي الباحة الخلفية لأوروبا.

أثناء الدورة التقدمية للعقد السابق، كان هناك وعيٌ ما بالحاجة للتفاوض مع الصين بشكلٍ مختلف، لأنه حتى الآن كان الخاسر الأكبر في العلاقة الأمريكية اللاتينية-الصينية هي أمريكا اللاتينية. بمعنى ما، أمريكا اللاتينية تبيع البضائع الأولية، والصين تبيع البضائع المصنّعة، وهنالك عجزٌ ضخم في الميزان التجاري، والمنطقة تعيد خلق حالة تبعية. كان هنالك وعيٌ بذلك، ولم يكن هنالك فعل. كان هنالك أفكارٌ كثيرة حول التفاوض مع الصين ككتلة، على سبيل المثال، لكنها لم تترجم لأفعال. ولم تترجم لممارسة لأن التفاوض ككتلة يتضمن خفض استقلالية كل مجموعة قومية، كل برجوازية قومية. إن تفاوضنا ككتلة، فستكون أوناسور تتفاوض مع الصين مثلًا، وليس مجموعة التصدير الأرجنتينية هذه أو تلك. ولأن الطبقات المسيطرة قوية جدًا في داخل دولها، فكتلة تفاوضية إقليمية من هذا النوع لم تُحقَّق. ولكن ذلك المسار الوحيد الممكن للتنمية في أمريكا للاتينية، الوحيد.

لا أعتقد أن الصين مثلُ الولايات المتحدة بالنسبة لأمريكا اللاتينية؛ يبدو لي أن ذلك تبسيط. إنها فكرةٌ خارج السياسة، فكرةٌ من عالم الفكر، أن هنالك إمبريالية 1، وإمبريالية 2. إنها تنظر للعالم من الخارج. أنا في أمريكا اللاتينية، وإنْ رغبت بعملية تنمية تقدمية في منطقتنا، فالصين ليست تماثل الولايات المتحدة. أحدهما هي مضطهدنا التقليدي، والآخر هي ثقلٌ موازِن ممكن، مما سيعتمد على كيفية تصرف المنطقة. يمكن لأمريكا اللاتينية أن تأخذ في الصين شريكًا، في مشروع تحرر. حتى هذه النقطة هي مجرد فكرة، لكن من المهم النظر فيها لتجنب ارتكاب التبسيط القائل إننا ننتقل من تبعية لأخرى. لا أعتقد ذلك، الموضوع أكثرُ تعقيدًا.

في الظرف الراهن في أمريكا اللاتينية، ما هي آفاق اليسار فيما يعلق بالقدرة على خوض النضالات الاجتماعية والانتخابية؟

حسنًا، أنظر، الأمر الأول هو النضال، النضال الشعبي. في هذه اللحظة، اليمين يملك المبادرة، لكن أمريكا اللاتينية ما تزال أحد المناطق التي تملك أكبر مستويات التحشيد الشعبي في العالم؛ ليس مثل الدورة التقدمية، لكنها ما تزال منطقةً بمستويات نشاطٍ سياسي أعلى من بقية العالم.

أظن أن علينا الحذر لألا نقع في خطأين: من الخطأ أن نعتقد أن شيئًا لم يتغير وأننا الآن مثلما كنا قبل عقد. لا. استُنفذت آثار تلك الانتفاضات الأربع التي ولدت الدورة التقدمية، ولم تظهر موجةٌ جديدة كتلك محلها. لدينا مقاومات، لكن لا توجد انتفاضاتٌ أربع مثل تلك الفترة. إذن، مررنا بتغيرٍ كبير، لكن في الوقت نفسه هذا التغيير لم يدفن ما سبقه، ونحن لم نمر بمرحلة مثل ما رأيناه، مثلًا، في السبعينات، مع انقلاب بينوشيه، أو انقلاب خورخي فديلا في الأرجنتين؛ بعبارة أخرى، لا توجد سيرورات ثورة مضادة بعد.

لعدم وجود ثورة مضادة، هنالك عملية تقدم اليمين، لكن في وجه مقاومة شعبية. وأظن أن علينا موضعة أنفسنا على ذلك المستوى، النضال يوجد على تلك الأرض. ومن المثير أنَّ هنالك جيلٌ جديد. الحاضِرون في النضال اليوم ليسوا جيلَ الدورة السابقة. وقد استوعبَ من هم في خضم النضال الحالي تجربة الدورة التقدمية. سنرى كيف يترجم ذلك سياسيًا، فنحن لا نعلم. لكن الجيل الذي أنتج الدورة السابقة قام بذلك دون تجربة، ناهضًا من نيوليبرالية خالصة. اليوم، الجيل الجديد يقود العملية. وسنرى. سنرى ما هي النتيجة في المستقبل. إنها مجهولة، حتى اللحظة هي مجهولة.

المستوى الآخر هو الانتخابي. مع المستوى الآخر هنالك بلدٌ واحد ذو أهمية—الأرجنتين. ما يحصل هنا أمرٌ حاسم، مثلما فنزويلا ستحدد السيناريو على مستوى الجغرافيا السياسية والمستوى الاجتماعي. نتيجةُ انتخابات الأرجنتين في أكتوبر 2019 ستكون حاسمة. إنه الانتخاب الرئيس. نحن في لحظةٍ حيث ماكري في انحسار كامل، وترمب ما يزال يقامر بكل أوراقه على إعادة انتخاب ماكري. بالتالي، نجد صندوق النقد الدولي يقدم قروضًا غير اعتيادية، إلى بلدٍ ستتخلف عن التسديد، بلد لن تكون قادرة على تسديد الدين، نرى دينًا يقدم لها سيهدد التوازن المالي لصندوق النقد نفسه. انطباعي هو أنها لن تنجح. أنت زرت البلاد هنا ولحظت أن احتمال فوز ماكري بعيد للغاية. بعيدٌ للغاية، لكن لا يمكن استبعاده. وبالتالي، تغيّر الدورة في الأرجنتين، وصول حكومة مختلفة إلى المكتب الرئاسي، حتى لو لم تكن كريستينا فرنانديز دي كيرشنر قائدتها، سيغير كل الحقائق في المنطقة.

لدى فرنانديز نزعةٌ محافظة جدًا، محافظة جدًا. لكنها إنْ وصلت إلى المكتب الرئاسي، ليس المهم ما تقوله أو ما تكونه، وصولها سيعني تغييرًا بليغًا جدًا جدًا. بهذا المعنى، الشهور القادمة في الأرجنتين مفتاحية، للسيناريو الانتخابي، ولأن الأرجنتين ستكون على الأرجح في أزمة اقتصادية، وستتخلف في تسديد الدين، أو شيء ضخم مثل ذلك، سيكون هنالك أثرٌ قوي على باقي المنطقة. سيحدث ذلك في بلدةٍ حيث مستويات التحشيد الاجتماعي أقلُّ مما اعتدنا عليه هنا، لكنه أكبر بكثير مما هو اعتيادي في الأماكن الأخرى. إذن، في الأشهر القادمة، الأرجنتين ستكون في مركز كل ذلك.

أخيرًا، علينا أن نرى ما سيجري على المستوى الأيديولوجي، على مستوى بناء البدائل. هنا أيضًا، هذه فترةٌ صعبة، لكن كل بنى اليسار الأمريكي اللاتيني من العقد السابق ما تزال قائمة. وسنرى كيف يُترجَم ذلك. التحالف البوليفاري لشعوب أمريكتنا (ألبا)4منظمة حكومية دولية تقوم على فكرة التكامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لبلدان أمريكا اللاتينية و‌الكاريبي. تأسست في البداية من قبل كوبا وفنزويلا في عام 2004، وهي مرتبطة بالحكومات الاشتراكية والديمقراطية الاشتراكية الراغبة في تعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي على أساس رؤية الرعاية الاجتماعية. ما يزال قائمًا، حركة عمال الريف عديمي الأراضي5حركة عمال الريف عديمي الأراضي: حركة اجتماعية في البرازيل، مستلهمة من الماركسية، تُعتبر عمومًا من أكبر الحركات في أمريكا اللاتينية بعضوية غير رسمية تقدر بـ 1.5 مليون شخص موزعين على 23 ولاية من أصل 26 ولاية برازيلية. تهدف حركة العمال عديمي الأراضي إلى إتاحة الفرصة أمام العمال الفقراء لامتلاك الأراضي من خلال إصلاحها في البرازيل والتصدي القضايا الاجتماعية التي تجعل ملكية الأراضي أكثر صعوبة، مثل التوزيع غير المتكافئ للدخل والعنصرية والتمييز الجنسي والاحتكارات الإعلامية. تسعى حركة العمال إلى توفير طريقةٍ حياةٍ مستدامة للقرويين الفقراء. البرازيلية ما تزال قائمة، شبكات مثقفي اليسار الأمريكي اللاتيني ما تزال قائمة، الماركسية الأمريكية اللاتينية ما تزال حية. على المستوى النظري شهدنا تقدماتٍ مهمة. لقد كان عقدًا مثمرًا جدًا. هنالك العديد من مثقفي/ـات أمريكا اللاتينية الذين كتبوا أشياء أصلية مثيرة جدًا للاهتمام، تعكس السياق سريع الاشتعال لأمريكا اللاتينية. بهذا المعنى، حتى بالمستوى الفكري، أظن أن بإمكاننا التفاؤل بشأن بما يجري.

المصدر: مجلة فيوبوينت

Skip to content