«سورة الكورونا» والاستثناء التونسي

توطئة

إذا كان القارئ ينتظر نصًا تحليليًا حول الفكاهة والسخرية وموقعهما من الحريّات الفردية وعلاقتهما بالفضاء العام والخاص فأعتذر على تخيب ظنه، وإذا كان ينتظر نصًا صحفيًا يسرد وقائع الحادثة، أعتذر مرة أخرى، هذا النص هو محاولة أولية في صياغة مانيفتسو للحريات الفردية، مستوحى هو الآخر من مطلع مشروع بحثي اشتغلت عليه مع مجموعة من الرفاق في تونس وليبيا والسودان قبل بضع سنوات. لم ير هذا المانيفستو النور بعد، وربما لن يراه، لكن قضية آمنة الشرقي، أو ما يعرف إعلاميًّا بـ «قضية سورة الكورونا»، حثتني على كتابة بعض الملاحظات الأولية حول ما حدث ويحدث. هذا النص هو رأي ذاتي لا يخضع لشروط ومعايير بحثية، وهو محاولة لتقريظ الحرية باعتبارها القيمة الأهم التي تتفرع منها باقي الحريات والقيم الحداثية والتنويرية، وهي تصور لواقعنا وموقع الحرية في المنطقة العربية.

الفكاهة؛ أطوارُها

قبل الشروع في التعاطي مع قضية سورة الكورونا، أودّ أن أقدم توضيحًا سريعًا لما حدث في تونس قبل انتشار الوباء وإثره، ففي تونس، مثلها مثل باقي الدول العربية، يغلب المخيال الديني على شرائح هامة من المجتمع، ويلعب دور المحددّ بل والمقاربة الرئيسة في تَمَثّل الأزمات. فقد وقع التعاطي في البداية من قبل التونسيين والعرب بوباء كورونا بتهكّم وتشفي كبيرين، إذ وجد البعض في الوباء عقابًا إلهيًّا للصين والشعوب غير المسلمة التي تهاجم الإسلام والمسلمين، وتستهلك وتأكل ما وقع تحريمه دينيَّا. وبالطبع، لم يطل الحديث كثيرًا بهذا المنطق حين داهم الوباء تونس والبلدان العربية، ورغم بقاء الديني والمقدس حاضريْن كسرديّة ومقولة تحليلية طاغية في قلب الأزمة، إذ بقيت المساجد ورجال الدين يعتبرون أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، بل وذهب البعض إلى التأكيد على أهمية الوضوء باعتباره واقيًا من الإصابة بالفيروس، بالإضافة إلى ازدهار الطب البديل وتقديمه علاجًا واقيًا من الكورونا. 

هكذا إذن، سيطرت البنى الذهنية التقليدية والمتشبعة برواسب من الفكر الديني المتشدد في المشهد طيلة أيام. إلا أنه، وفي محاولة انعكاسية لهذه التصورات الدينية – التي لم تثبتت نجاعتها علميًا – وأمام غياب الثقة في المؤسسات الصحية وبحثية من قبل عديد التونسيين الذين حاولوا صياغة إعجازات دينية علمية، راجت على شبكات التواصل الاجتماعي سورة الكورونا، وهي سورة تحاكي النص القرآني، إذ يدرجه البحاثون والنقّاد في آداب اللغة العربية في إطار جنس من الكتابة الإبداعية يعرف باسم «المحاكاة اللغوية»، حيث يعمد صاحب هذه النصوص بأسلوب ساخر إلى وضعها في قوالب تُذَكِّر بنصوص مرجعية في الموروث الثقافي العربي.

ولكن، ورغم أنّ النص يبرهن على أنه انتصار للفكاهة أكثر منه تعدي على «مقدّسات محلية ظرفية»، أقول مقدّسات محلية ظرفيّة لأن التاريخ العربي يتحفنا بعديد الفكاهات والنوادر التي تقوم بسحب الديني نحو الدنيوي وجعله محلّ تندّر دون تكفير أو إقصاء، ولنا في الإسلام الشعبي والطرقي في عديد الأماكن وفي ظرفيّات مختلفة خير مثال على ذلك، إلّا أننا أمام واقع عبوس جامد، يتناول الديني على أنه غير قابل للمساس. ويجعلنا هذا الأمر نفكر، إذا كان المرفوض هو أنّ هذه الصورة تسببت في تهديد ناشرتها وَوصولها حدّ المحكمة، فَهل المرفوض هو السخرية والفكاهة، أم التعدي الديني والمقدس، أم كلاهما؟

ما حدث، ما يحدث

عمدت الشابة التونسية آمنة الشرقي إلى نشر سورة الكورونا منذ ثلاثة أشهر تقريبًا، تاريخ تسجيل أول حالة مصابة بالفيروس في تونس، وتحاكي السورة النصّ القرآني من ناحية التراكيب، وهذه المحاكاة التي خلّفت جدلاً واسعًا على شبكات التواصل الاجتماعي، وصلت حد التهديد بالقتل، ليعيد هذا الجدل مؤلفات عربية قامت بمحاكاة النص القرآني في محاولة للدفاع عن المدونة التي نشرت السورة، وأن ما قامت به لا يعدو أن يكون سوى أمرًا بسيطًا في زمن سابق من الحضارة العربية.

لا تخلوا المدونة النثرية والشعرية في الحضارة العربية الإسلامية من نصوص وأعمال حاكت النصّ القرأني.

يتحدث منصف الوهايبي، وهو كاتب وناقد أدبي من تونس، عن هذه المحاكاة التي كانت موضوع أطروحة دكتوراه دولة قام بها في تسعينات القرن الماضي، ويقول: «مثل هذه المحاكاة قديمة في التّراث العربي، حتى منذ عهد النبوّة. ولكنّ «الأغرب» أنّها تواصلت بعد ذلك على نحو ما نجد عند الإمام السيوطي صاحب «الإتقان في علوم القرآن» في مصنّفه الممتع «رشف الزّلال من السّحر الحلال»»، ويضيفُ الوهايبي عن المحاكاة القرآنية في الشعر العربي ما جاء في أخبار أبو تمّام:

أيّهذا العزيز قد مسّنا الضّرّ وأهلـنا أشتاتُ
في الرّحال شيخ كبير ولدينا بضاعة مزجاةُ
قلّولنا طلاّبها فأضحت خسارا فتجاراتنا بــها ترّهاتُ
فاحتسب لنا الأجر وأوف لنا الكيل وصدّق فإنّنا أمواتُ

هذه الأمثلة التي يوردها منصف الوهايبي، هي أمثلة لا تتحدد بظرفية أو حقبة زمنية بعينها، فهي قبل الإسلام وفي فجر الإسلام وبعد عهد النبوة، أي أنها لا تخضع لإطار زمني واحد، ولم تشهد شيطنة أو رفض ونبذ وإقصاء خلال تداولها وتعاطيها، وليس لنا من أمثلة داعمة أفضل من رائعة أبي العلاء المعري «رسالة الغفران» في التاريخ الوسيط وهي رسالة نثرية في رداءٍ روائيٍّ نقدي ولسانٍ فلسفي يجسدُ كوميديةً إلهية، مسرح البشر فيها يكون الجنة والنار، وتضمُ هذه الرسالة آراء أبي العلاء في الدين، والعلم، والأخلاق، وفي أساليب الشعوب وفنونها، وقد كتبها ردًّا على رسالة ابن القارح الذي جعل منه فارسًا يمتطي جواد رسالته الخيالية التي حاور فيها الشعراء والأدباء واللغويين، أو ننظر إلى «حدّث أبو هريرة قال» لعميد الأدب التونسي محمود المسعدي في تاريخنا المعاصر ومحتوى هذا العمل يتحدث عن أبي هريرة وهو يعيش في مكة المكرمة التي ترمز إلى التقيد بالروابط الاجتماعية والطقوس الدينية. فهو ملتزم بعباداته متزوج بطريقة شرعية، يمثل الرجل التقليدي فارغ الكيان في عالم راكد لا حراك فيه، وَصِلته به تقوم على التسليم بكلّ شيء، إلى أن يجيئه صديق له يدعوه إلى الخروج عن المألوف «أصرفك عن الدنيا عامة يوم من أيامك» فالبعث الأول منطلقه عوامل خارجية عن أبي هريرة الذي لم يكن مستعدًا للرحيل. كان الخروج من مكة فجرًا. وهذا الفجر يرمز به إلى ابتداء المغامرة الوجودية.

هذان العملان، يستمدان شاعريتهما اللغوية من القاموس الديني، أي استقاء التراكيب والتشابيه من المدونة الدينية مثل الحديث و القرآن، ويستمدان شرعيتهما الأدبية كمحتوى نقدي يحاكي الواقع في سخرية أو مرارة من خلال مزج الواقع بالدين ونقل مشاكل المعاش اليومي بتصوّرات دينية لا تخلو من طرافة، مما يحيلنا إلى عدم وجود قطيعة بين الديني والواقع. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذين العملين الذين أوردتهما، أو الأمثلة التي ذكرها منصف الوهايبي، تجعلنا أمام تصوّر أدبي كامل يحاكي النصّ القرآني، أي أننا إزاء تقليد أدبي متأصل في المدونة الأدبية يحاول العديد الآن طمسه ونكره. 

إضافة إلى ذلك، يورد محمد البنا، في مقالته «بيرم كما عرفته، ومحمد العتر: ألحان مصرية، ومجلة الجراد»، القاهرة، يوليو 1994، ما كتبه محمد بيرم التونسي، وهي «سورة الستات» التي وقف فيها منصف الوهايبي وقفة المتأمل في جماليتها في المقال نفسه ويقول التونسي في هذه «السورة»:

يا أيّها المحافظ إذا أبصرتم النّساء يقصّرن ملابسهنّ، ويبدين صدورهنّ، فأصدروا لهنّ منشورا * ألاّ يتخطّطن ويتحكّكن ويقوّرن الثّوب تقويرا * إنّما الأحمر والأبيض والكحل والأقلام زينة من عمل الشّيطان، وليست شيئا مشكورا * صنعة الله التي تعجب المتّقين من الرّجال، ولا يعجب الأحمرُ إلاّ رجلا غفيرا * وقـل للمتزوّجات يسترن أفخاذهنّ، ويغطّين سمّانات أرجلهنّ، ولا يلبسن فستانا قصيرا * ذلك بأنّهنّ تزوّجن، ومن تتزوّج فقد فازت فوزا كبيرا * العانسات والأبكار يغسلن وجوههنّ، ويمشّطن شعورهنّ، ولا يضعن جبسا ولا جيرَا * ليعلم الذين يخطبون ذات البعل وغير ذات البعل وكفى بذلك تفسيرَا * ما كان لرجل يتبع المرأة وهو مؤمن، إنّ الرّجل كان خنزيرَا * يا نساء الشّعب إن يملك منكنّ الرّجال أغراضهم فلن تتزوّجن أبدا، ولو أعجبتهنّ كثيرَا * الرّاقصون للرّاقصات، والصّرماحون للصّرماحات، والمعلّمون للمعلّمات. ولا تتزوّج شريفة خنزيرَا * حرّمت على المؤمنات السّمكة والأساور من القشرة والحجل، وما جعل الله من أرجلهنّ جنزيرَا.

 إن هذه السورة، والتي كتبها محمد بيرم التونسي في سياق وصفه لواقع النساء حينها لا تخلو من جمالية لغوية وطرافة وفكاهة، وجمالية لغوية، وذلك في وقعها الصوتي التي ترد كقصيدة عمودية في نطقها تتألف من صدر وعجز، وطرافة وفكاهة في نقده للفقهاء والمتزمتين.

دفاعًا عن آمنة الشرقي، دفاعًا عن حرية التعبير

المجال الذي أود أن أكتب فيه، وهو أهمية حرية التفكير وحرية التعبير، وهذا المجال أضيْقُ من ذكر الأمثلة والنماذج التي حاكت النص القرآني بفكاهة أو بجديّة، وحتى لا أبتعد عن الفكرة الرئيسة، نطرحُ الأسئلة التالية: ما حدود الحرية؟ ما المقدس؟ وما هذا التعارض الذي يقدمه لنا البعض كحقيقة حتمية بين الحرية والمقدس (الدين)؟

قوبل نشر الشابة التونسية آمنة الشرقي برفض وسخط كبيرين، وصل حد التهديد بالقتل وطردها من مقرّ سكناها الحالي، بل ووصل الأمر إلى مقاضاتها ومحاكمتها بستة أشهر سجن وغرامة مالية تقدر بألفي دينار (قرابة 650 دولار أمريكي) بتهمة الدعوة والتحريض على الكراهية بين الأديان والأجناس والسكان، وكذلك بتهمة النيل من الشعائر الدينية.

ورغم المساندة الكبيرة التي تلقتها من أطياف واسعة من المجتمع المدني والأحزاب التقدمية إلّا أنّه حكم عليها بستة أشهر، ويبدو أن الذين تولوا النظر في قضية آمنة الشرقي استجابوا لنزعاتهم الفكرية والأيديولوجية الضيقة وتغافلوا عن حقيقة شيوع محاكاة النص القرآني التي حدثت في مناسبات عدة سابقًا كما عبرت الصحفية فاطمة البدري.

وتمثل هذه الحادثة، وصمة عار في تاريخ تونس بعد الثورة، التي أكد دستورها على حرية الضمير والمعتقد والتعبير، خصوصًا مع تأكيد دستور 2014 على مدنية الدولة وأن الشريعة ليست مصدر التشريع، ورغم هذه التأكيدات، إلا أنّ حادثة «سورة الكورونا» تجعلنا نعيد النظر في مدى توافق هذه التأكيدات مع الحكم الذي سلط عليها، ولنا أن نلقي نظرةً بسيطة على “آياتِ” هذه السورة لنرى إن كانت تستحق توجيه نيران أجهزة الدولة القمعية عليها:

كوفيد، والفيروس المبيد، بل عجبوا أن جاءهم من الصين البعيد، فقال الكافرون إنه مرض عنيد، كلا بل هو الموت الأكيد، لا فرق اليوم بين الملوك والعبيد، فاعتصموا بالعلم واتركوا التقاليد، ولا تخرجوا لتشتروا السميد، وامكثوا في بيوتكم إنه بلاء شديد، واغسلوا أيديكم بالصابون الجديد، صدق جيلو العظيم.

كل هذا رغم أنَّ آمنة الشرقي ليست وحدها من حاكت النصّ القرآني حديثًا في تونس، فرئيس الجمهورية التونسية الحالي قيس سعيد ألقى قصيدة للشاعر أحمد مطر يحاكي فيها النصّ القرآني تقول: «إذا الدساتيرُ سُئلَتْ بأيِّ حِبْرٍ كُتِبَتْ لانْتَفَضَتْ فُصولُها وصرخَتْ بنودها بحبر مستورد من عواصم غربية»، ما يحيل إلى الآية الثامنة من سورة التكوير {وإذا الموؤودة سُئلت بأي ذنب قُتلت}، ولكن رغم ذلك، لم تقع ملاحقة قيس سعيّد أو الامتعاض مما فعله، فما لنا إلّا أنْ نتساءل عن أسباب هذه الاستهداف المحدد لآمنة دون غيرها.

حين نشرت آمنة الشرقي السورة، كانت رائجة حينها، لم تكن أول من ينشره، وهي بالتأكيد ليست الأخيرة (فقد تضامن معها العديد بإعادة نشر الصورة) ولم تتوقع أن يحدث كل هذا الهجوم عليها، فكما قالت في حديث مع مدونة ترند: «نشرت تلك الصورة وعبرت عن أفكاري بشخصية مكشوفة، لأننا نعيش في دولة تضمن حرية التعبير عن الرأي والمعتقد».

وتستدرك: «لم أتوقع كل هذا الهجوم والتهديد، أغلب معارفي ملحدون، وبعض المتدينين يقبلوننا بأفكارنا دون إقصاء، ويحاوروننا باحترام».

آمنة الشرقي هي ناشرة النص وليست كاتبته – ورغم أن كتابته أو نشره لا يغيّر شيئًا في نظري – أي أنها بريئة من الناحية القانونية كما دافع عنها شكري المبخوت في تدوينته قائلًا: «لقد ثبت بالبرهان القاطع انّ النصّ المسمّى بسورة الكوفيد نقول ولم تنشئه المواطنة آمنة الشرقي إنشاء وإذا سلّمنا جدلا بأنّه نصّ دال على ما ذكر في الحكم وينمّ عن استهزاء بالقرآن الكريم يصمه الفقهاء القدامى بالكفر فإنّ الحكم الصادر في حقها قد ألبس التهمة لغير صاحبها بما أنّ القاعدة الفقهيّة القديمة تقول بأنّ ناقل الكفر ليس بكافر فكيف يكون القضاء المدنيّ أشدّ تطرّفا وانغلاقًا من القضاء الشرعيّ الذي ألغاه قانون 3 أوت 1956 بتوحيد القضاء».

مفترق الطرق

قدمت تونس كنموذج للتعايش بين الأديان والتعايش السلمي، بل وقع اعتبارها عاصمة للثقافة الإسلامية وَراعية لحج الغريبة اليهودي، بالإضافة الى وجود وُزراء يهود في حكوماتها منذ الاستقلال، ولكن هذا لم يشفع لناشرة السورة، وليست وضعية آمنة الشرقي بمعزل عمّا يحدث في تونس، فخلال العشر سنوات الأخيرة حدثت عديد من أحداث العنف والصنصرة والتضييق والرقابة، منعت مسرحية «ألهاكم التكاثر» بسبب عنوانها، وهُوجِم على قصر العبدلية بسبب اللوحات والصور التي وقع عرضها هناك، بالإضافة إلى اقتحام صالة سينما الحرية بتونس لعرضها فيلم «لا ربي لا سيدي» للمخرجة الشيوعية نادية الفاني، وقام غازي الجابري بطلب لجوء سياسي بسبب كتابه «وهم الإسلام». كل هذه الحوادث حصلت بعد 2011، أي تاريخ الثورة التونسية، ما كانت لتحصل في تقديري قبلها، ليس لأنّ النظام كان يحكم قبضته الأمنية ويقمع جميع الأنفس الإبداعية التقدمية فقط، ولكن لأن الذهنيّات تغيرت كذلك.

تقول آمنة الشرقي حول ما حصل لها إثر استدعائها من طرف النيابة العمومية : «تفاجأت باستدعائي للتحقيق وبطريقة اعتبرتها رجعية ولا تستند لروح القانون. فقد تم استجوابي من قبل سبعة ممثلين للنيابة العمومية، حيث وجهوا لي تهم ممارسة العنف والإساءة للدين، وهنا أتساءل كيف يمكن أن تكون تلك التدوينة عنيفة؟».

بات تجديد الخطاب الديني أولوية في مدار اهتمام الأوساط الأكاديمية والدينية، لتقدم المؤسسات الدينية عديد المراجعات في مسائل لم يقع التطرق لها سابقًا مثل الإجهاض والحدود وحكم الردّة، ولكن لم يقع التطرق لمسألة التعاطي الفكاهي مع المقدسات، وبقينا أمام فتاوي  تحرّم النكت الدينية والمس من الشعائر الدينية، مستندين خصوصًا إلى الآية: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (سورة التّوبة، الآية 65). 

كانت هذه الآية هي المحدِّد في مسألة اللعب والاستهزاء بالدين وبالرموز الدينية، ورغم أنّ المحتوى المنشور على شبكات التواصل الاجتماعي في تونس والعالم العربي يحفل بمضامين الاستهزاء بالديانات الأخرى والكراهية إلّا أنّ السُلَط القانونية لا تتحرى – أو أقلُّه لا نجد مثل هذه الهبّة الشعبية تجاه الحادثة – إلّا حين يقع المس من الرموز الدينية في المخيال الإسلامي مما يجعلنا نعتبر أنّ مقاضاة ناشرة سورة كورونا ومحاكمتها خاضعان لمزاجية أكثر من احتكامهما لنصوص قانونية، وخصوصًا الفصل السادس من الدستور الذي يؤكد على حرية الضمير والتعبير.

تكميم الأفواه، عودة لمحاكم التفتيش

فتحت ثورة 14 جانفي/ يناير الباب على مصرعيه من أجل التعبير بكل حرية، وما وقع اعتباره من التابوهات أو المحرمات مثل الدين والجنس والسياسة والتي كان يجب تحاشي الخوض فيه، لم يعد كذلك، حيث ساهمت الثورة في فتح النقاش ورفع الأصوات المقموعة سابقًا، ولكن لم يعد الأمر كذلك. ورغم الهامش الكبير الذي حققته تونس في مجال حرية التعبير والرأي، إلّا أنّ الامر لم يعد كذلك طيلة بعض السنوات الماضية،  حيث تزايد عدد الملاحقات القضائية والقانونية ضد الفنانين/ات والمدونين/ات والكتاب بسبب تدوينات أو أعمال فنيّة. إذ حافظت السلطات المختلفة في تونس على الارث القمعي لنظام بن علي في التشريعات والقوانين لتساهم في الحدّ من حرية التعبير وتخويف أي شخص ينتقد السياسات العامة في البلاد أو المؤسسة الأمنية والعسكرية أو “الرموز” الدينية، وتعتبر حادثة آمنة الشرقي بنشرها لسورة الكورونا تجليًا واضحًا لعودة سياسة تكميم الأفواه ومحاكم التفتيش، عن طريق بعض القضاء والأجهزة القانونية التي تحتكم الى مشاعرها ومرجعيات دينية لا إلى منظومة حقوقية أو تقنية. ويعتبر تجريم آمنة الشرقي محاولة أخرى للصنصرة والرقابة ومحاربة التعبير السلمي على الانترنت، وتعتبر مجلة الاتصالات والمجلة الجزائية والمرسوم عدد 115/2011 المتعلقين بحرية الصحافة والتعبير، وتمثل هذه الفصول تجسيدًا للقيود التي تواجه حرية التعبير والتدوين السلمي في تونس ومنها الغرافيتي، التدوين، الاحتجاج الفني والمحاكاة السوداء، ومنها الفكاهة.

وتطرح الفكاهة نفسها أمام واقع ينبذ النقد الفكري والفلسفي والعلمي للدين ويشكك فيه، لتصبح الفكاهة والمحاكاة والخيال الوسائل الأنجع في مجابهة الديني والتصورات الدينية، وتصبح تيارًا رسميًا، إذ راج فن الكاريكاتير والمدونات الساخرة والصفحات والمواقع الهزلية التي تنتقد وتعالج ظواهر دينية واجتماعية وسياسية بأسلوب هزلي، وإلى ذلك تمثل جرأة نقدية.

لو أتيح لي تلخيص موقفي من قضية آمنة الشرقي، لقلت، هي معركة ضد القمع، ضد الأنظمة التي تاجرت وسلبت الحلم وساهمت في نشر الجهل والتكفير.

تمثل قضية آمنة الشرقي وصمة عار في تاريخ تونس بعد الثورة، تونس المدنية الديمقراطية التقدمية، فبعد إصدار هذا الحكم سنرى أنّ هذه الديمقراطية ليست إلّا شعاراتٍ تقدّم للمجتمع الدولي ولا تعكس الواقع. 

وإلى ذلك، تمثل هذه القضية محاكمة للخيال، وللفكاهة، وعودةً إلى محاكم التفتيش التي تصادر الضمائر والمعتقدات والآراء، وستتوالى مثل هذه القضايا إن لم يقع الحسم في مسألة الحرية بشكل جذري، بعيدًا عن تقديرات قضاة ربما يحتكمون لتصوراتهم الذاتية لا لقيم كونية. وبعيدًا عن هلامية مفهوم المقدّس الذي لا يمكن تحديده باعتبار أنه يمثل وجهة نظر، وجهة نظر لا غير.


 أتوجّه بالشكر لكل الرفاق والرفيقات الذين ساهموا في تطوير هذا النص بملاحظاتهم الهامة  وعلى رأسهم هادي يحمد، زينب توجاني، نادر الحمامي، يوسف بن موسى، ضو الصغير ورولى الصغير، ويبقى أي خلل أو قصور في هذا النصّ خطأ أتحمل مسؤوليته الكاملة.

Skip to content