الأيديولوجية الاجتماعية للسيارة (1973)

مقدّمة الهامش:

يتحدث الفيلسوف الماركسي وأحد روّاد الإيكولوجيا السياسية أندريه غورز في هذا النص عمّا يسمّيه «الأيديولوجية الاجتماعية للسيارة»، عن وسيلةٍ نقلٍ أنتجت بادئ الأمر كسلعةٍ تَرَفيّة تمايز بها الطبقات العليا نفسها عن الطبقات السفلى، وعما أحدثته إشاعتها اللاحقة في المجتمعات من تشظٍّ للمجتمعاتِ وتضييقٍ لِفسحة العيش وتأسيس التنافس بين الناس قاعدةً حتى في حقل المواصلات، فالسيارة، كما يقول، «تضيّع من الوقت أكثر مما توفّر، وتبعّد من المسافات أكثر مما تقطع».

يحزفنا هذا النص على التفكير بسياساتِ التخطيط المدني، وكيف نُشَكِّل مدننا وبلداتنا لِتُشكّل هذه المدن بدورها طبيعةَ علاقاتنا الاجتماعية، ويدفعنا للتساؤل حول الأسباب التي أدّت لأن تجتاحَ المجتمعاتِ منظومةٌ للنقل تستند إلى امتلاك كلّ شخصٍ عربتهـ/ـا المعدنيّة الخاصة ليـ/تقودها بسرعاتٍ عالية في تنافس جنونيٍّ مع عرباتٍ معدنيّة أخرى، منظومةٌ تعتمد على اليقظة الكاملة لكلِّ الأشخاص وفي كل الأوقات وانتباههم/ن لكل حركةٍ من كلّ شخصٍ وحيوانٍ وجماد في الطريق دونَ أي تنسيقٍ أو تخطيطٍ مسبق.

لا يكتفي غورز في هذا النص بتحليل مشكلة السيارة والنقل، بل يحاول طرح بدائل عملية، وسواءًا اتفقنا معها أو اختلفنا فهي تحضّنا على التفكير بمخارج محسوسة للأزمات الحالية.

  بداية النص  

أسوأ ما في السيّارات هي أنّها أشبهُ بِالقلاع أو الفيلّات المطلة على البحر: بمعنى أنّها سلعٌ تَرَفيّة اخترعت حصريًّا لمتعة الأقلية من فاحشي الثراء، ولم يكن مُرادٌ لها من حيث الطبيعة والتصميم أن يستخدمها عامة الناس. فعلى العكس من المكنسة الكهربائية والمذياع والدراجة الهوائية التي تحتفظ بقيمتها الاستعمالية حتى عندما يمتلكها الجميع، فإن السيّارة – كما الفيلّا المطلة على البحر – لا تكون مرغوبةً إلّا عندما يحرم منها الجماهير، وهكذا تعتبر السيّارة من حيث المفهوم والهدف سلعةً تَرَفيّة، يكمنُ جوهرها في تعسُّر دَمَقْرَطَتِها. فإذا استطاع الجميع اقتناء التَرَفيّات، لن يتمتع أحدٌ بمزاياها، بل على العكس من ذلك: يبتز كل شخصٍ الأخر ويغشه ويحبطه، وهو في المقابل يُبتَز ويُغَش ويُحبَط أيضًا

هذا أمرٌ معروفٌ للجميع في حالة الفيلّات المطلة على البحر، فلم يجرؤ أي سياسيٍّ حتى الآن على الادعاء بأن دمقرطة الحق في الإجازة يعني وجود فيلّا شخصيةٍ مع شاطئٍ خاصٍ لكل عائلة، إذ أنّ الجميع يدرك أنّه لو خصّص لكلِّ عائلة – من ثلاثة أو أربعة ملايين عائلة – عشرة أمتارٍ فقط من الساحل، لتطلب الأمر 140 ألف كيلومترٍ ليحصل كلٌ على نصبيه، مما يعني تقسيم الشاطئ إلى قطعٍ صغيرةٍ، أو حشرالفلل معًا، إلى درجةٍ تصبحُ فيها قيمتها الاستخدامية صفريةً وتتلاشى مزاياها مقارنةً بالمجمّعات الفندقية. باختصار، تفضي دمقرطة الوصول إلى الشواطئ إلى حلٍ واحدٍ فقط، ألا وهو الحل المشاعي، وهو حلٌ يتعارض بالضرورة مع ترف الشواطئ الخاصة، وهو امتيازٌ تعتبره أقليةٌ صغيرةٌ حقًّا لها على حساب الجميع.

السؤال إذن يطرح نفسه: إن كانت هذه المسألة واضحةً تمامًا فيما يتعلق بالشواطئ، فلماذا لا يُعتَرف بها فيما يتعلق بالمواصلات؟ أليست السيارة، مثل المنازل الشاطئية، تشغل مساحةً قابلةً للاستنفاد؟ أوليست تَحرمُ الأخرينَ من استخدام الطرق، من المشاة، وراكبي الدراجات الهوائية، والحافلات الكهربائية؟ أوليست تخسر قيمتها الاستخدامية عندما يستخدم كل شخصٍ سيارته الخاصة؟ لكن مع ذلك يصرُّ الكثير من السياسيين على حق كل أسرةٍ في الحصول على سيارةٍ واحدةٍ على الأقل، وترك الأمر «الحكومة» لِتسهّل مواقف السيارات، والقيادة بسهولةٍ في المدن، والترحال جموعًا غفيرةً في الإجازات بسرعة موحّدةٍ قدرها 70 ميلٍ في الساعة. سرعان تتجلى فظاعةُ هذا الهراء الغوغائي، لكن حتّى اليسار نفسه لا يستنكف عن اللوذ إليه. لماذا تعامل السيارة إذن مثل البقرة المقدسة؟ ينبغي في هذا الصدد التماس الجواب في ناحيتين من نواحي قيادة السيارة:

  • تؤدي قيادة السيّارات إلى انتصارٍ مطلقٍ للأيديولوجية البورجوازية على مستوى الحياة اليومية، حيث أنّها توهم كلّ فردٍ بأنه قادرٌ على السعي وراء مصلحته الخاصة على حساب الآخرين. فلنأخذ لنا مثالًا في الأنانية القاسية للسائق الذي يقتل «الآخرين» مجازيًّا إذ لا يظهرون له إلا كعقباتٍ مادّيةٍ أمام سرعته. وهذه الأنانية العدوانية والتنافسية هذه تنذر بحضور السلوك الكوني للبورجوازي، الذي انبثق منذ أن أصبحت القيادة أمرًا شائعًا (وكما قال لي صديقٌ من ألمانيا الشرقية: «لن تصبح عندكم اشتراكيةٌ مع أناسٍ كهؤلاء»، بعد أنْ ضايقَهُ مشهد حركة المرور في باريس).
  • السيارة مثالٌ تناقضيٍّ لِأداةٍ تَرَفيّة انخفضت قيمتها بسبب انتشارها، لكن انخفاض القيمة العملية هذا لم يتبعه تقهقرٌ أيديولوجيٌّ، فأسطورة لِذّة السيارة وفائدتها مستمرةٌ، رغم أنّ تفوّق النقل العام كان سيتّضح لو كان منتشرًا. هذه الأسطورة سهلة التفسير، إذ أدّى انتشار السيارة الشخصية إلى إزاحة النقل العام عن الساحة وتغيير تخطيط المدن والإسكان بطريقةٍ تنيط إلى السيارة وظائفَ باتت ضروريةً من جرّاء انتشارها. وكَسرُ هذه الحلقة يتطلب ثورةً أيديولوجيةً (ثقافيةً)، وهو أمر لا يُترقب بطبيعة الأمر من الطبقة الحاكمة (بشقيها اليميني واليساري).

لنمعن النظر في هاتين النقطتين:

اختُرعت السيارة لِتوفير امتيازٍ جديد لا سابق تاريخيٌّ له إلى قِلّةٍ قليلةٍ من الأثرياء: الترحال بسرعةٍ تفوق سرعة أي شخصٍ آخرٍ، الأمر الذي لم يُحلَم به حتى تلك اللحظة. كانت سرعة جميع العربات متماثلةً، سواءً كُنت غنيًّا أو فقيرًا، فَعرباتُ الأغنياء لم تكن أسرع من عربات الفقراء، والقطارات كانت تحمل الجميع بنفس السرعة (ولم تتغير سرعتها حتى بدأت بالتنافس مع السيارات والطائرات). إذن، وحتى مطلع القرن التاسع عشر، لم تكن سرعة ترحال النخبة مختلفةً عن سرعة ترحال بقية الناس. كانت من المفترض للسيارة أن تغيّر كل ذلك، فَلِأول مرّةٍ في التاريخ كان للفروقات الطبقية أن تنسحب على وسائل النقل.

بدت وسيلة النقل هذه بعيدة المنال في البداية عن متناول الجماهير، إذ أنّها كانت مختلفةً تمامًا عن وسائل النقل العادية، ولم تشابِه وسائلَ النقل الأخرى – مثل: العربة أو القطار أو الدراجة الهوائية أو الترام المجرور بالخيول – حيث ظهرت ككائنٍ غريبٍ ذاتيِّ الدفع ذو أعضاء ميكانيكيةٍ شديدة التعقيد ومخفية عن الأنظار، وزنهُ لا يقل عن الطن. هنا تكمن إحدى الجوانب المهمة لأسطورة السيارات، فللمرة الأولى ها هم الناس يقودونَ مركباتٍ خاصةٍ يجهلون آلية تشغيلها ويحتاجون أن يأتمِنوها لمتخصصٍ لأجل صيانتها والحفاظ عليها، وها هنا تكمن مفارقة السيارة: تبدو أنّها تمنح صاحبها حريةً غير محدودةٍ، تسمح له بالترحال أينما ومتى أراد، بسرعةٍ تفوق سرعة القطار أو تساويها على الأقل، لكن الواقع هو أنَّ هذا الاستقلال الضاهري يخفي تبعيةً شديدةً، فعلى العكس من راكِب الخيل أو قائد العربة أو راكب الدراجة الهوائية، ينبغي على سائق السيارة الاعتماد على التجار والمختصين لأجل إمدادات الوقود، وأبسطِ الإصلاحات، والمحركات والتشحيم والإشعال، وعلى تبادليّة قطع الغيار. وعلى العكس من جميع مالكي وسائل النقل السابقة، فإن علاقة سائق السيارة بمركبته أُريد لها أن تكون علاقةَ مستهلكٍ ومستخدمٍ، لا علاقةَ مالِكٍ وَسَيّدٍ. بعبارةٍ أخرى، تفرضُ هذه المركبة على مالِكها استهلاكَ واستخدامَ مجموعةٍ من الخدمات التجارية والمنتجات الصناعية التي لا يمكن أن تتوفّر له إلّا بواسطة طرفٍ ثالثٍ. وهكذا يُخفِي الاستقلال الظاهري لمالك السيارة تبعيّته الجذرية الفعلية.

كان أباطرة النفط أول من أدرك فرصة الانتفاع من التسويق للسيارة وانتشار استخدامها، فإذا كان من الممكن حثُّ الناس على الترحال بالسيارات، فسيتيح لهم ذلك بيعَ الوقود اللازم لتشغيلها. فلأول مرةٍ في التاريخ إذن، سيعتمد الناس لتنقلهم على مصدرٍ تجاريٍّ للطاقة، وسيوازي عدد زبائن قطاع النفط عدد سائقي السيارات، وبما أنّ عدد السيارات سيعتمد على عدد العائلات، فجميع السكان سيصبحون زبائن لدى تجارِ النفط. وهكذا حقّقوا لأنفسهم حلمَ كلِّ رأسماليٍّ: كافة الناس متّجهون إلى الاعتماد على سلعةٍ واحدةٍ يحتكرها قطاعٌ واحدٌ لتلبية حاجياتهم اليومية.

كل ما تبقى هو حثّ الناس على قيادة السيارات، والإقناع لم يستلزم جهدًا كبيرًا، فالأمر لم يتطلب سوى خفض سعر السيارة باستخدام أدوات الإنتاج الكبرى وخطوط التجميع ليتدافع الناس على شرائها دون أن يدركوا أنّهم يُساقُونَ رغمَ أنوفهم. واقعًا، ماذا عرض عليهم قِطاعُ السيارات؟ «إنّك، من الآن وصاعدًا، مثلك مثل النبلاء والبورجوازيين، ستمتع بامتياز القيادة بسرعةٍ تفوق سرعة أيِّ شخصٍ آخرٍ. إنكَ، في مجتمع السيارات، تتاح لك امتيازات النخبة».

تدافع الناس لشراء السيارات، حتى بدأت الطبقة العاملة بشرائها هي الأخرى، وحينها أدرك سائقو السيارات الحيلة التي وقعت عليهم. فلقد وُعِدوا بامتيازٍ برجوازيٍّ، واستدانوا للحصول عليه، لكنّهم أدركوا الآن أنّه متاحٌ للجميع. ما فائدة الامتياز إن كان بمقدرة الجميع الحصول عليه؟ إنّها لعبة مضلِّلة بل وأسوأ من مضللة، فهي تحرّض الكل ضد الكل، ما ينتج شللًا عامًا ناتجًا عن الصدام العام. فعندما يدّعي الكل حق القيادة بالسرعة الامتيازية للبرجوازية، يتوقف كل شيء، وتنهار حركة المرور في المدينة – سواء كان ذلك في بوسطن أو باريس أو روما أو لندن – إلى ما دون سرعة الترام المجرور بالخيول، وفي ساعات الذروة ينهار متوسط السرعة في الطرق السريعة إلى ما دون سرعة الدراجة الهوائية.

ما من علاجٍ، فكل الأدوية جُرِّبت وكلها فاقمت الحالة سوءًا. فمهما زادوا من عدد الطرق السريعة، وعدد الطرق المحيطة، والجسور، وعدد الطرق برسوم استخدام، وطرقٍ بستة عشر مسار، فالنتيجة واحدة: كلما ازداد عدد الطرق في الخدمة، ازدحمت بمزيدٍ من السيارات وأصبحت حركة المرور مكتظةً إلى حد الشلل. وما دامت المدن موجودةً، فالمشكلة ستبقى دون حلٍ، وبغض النظر عن عَرْضِ الطريق السريع أو حدود سرعته، فسُرعة الخروج منه باتجاه المدينة لا يتجاوز متوسط سرعةَ شوارعها. وطالما تراوح متوسط سرعة شوارع باريس بين 10 و20 كيلومترٍ في الساعة (متفاوتًا مع الأوقات)، فلن يتمكن أحدٌ من الخروج من الطرق السريعة والدخول للعاصمة بسرعةٍ تزيد على 10 أو 20 كيلومتر في الساعة.

ينطبق الأمر نفسه على جميع المدن، فمن المستحيل القيادة بسرعةٍ لا يعلو معدّلها 20 كيلومتر في الساعة في شبكةٍ متداخلة من الشوارع والطرق والجادات المنطبعة على المدن التقليدية. وأمّا تطويرُ مركباتٍ أسرع فلن يؤدي إلّا إلى تعطيل حركة المرور، ما يتسبب باختناقاتٍ مروريةٍ وشللٍ مروريٍّ كاملٍ في آخر المطاف.

فإن أُريد للسيارة أن تسود، فلا يوجد غير حلٍ واحدٍ: التخلص من المدن، أيّ: نشرها وتمديدها على طول مئات الأميال من الطرق الشاسعة، لتغدو ضواحيَ تغذي الطرق السريعة، وقد وقع ذلك فعلًا في الولايات المتحدة. يلخص إيفان إيليتش نتيجة ذلك من خلال هذه الأرقام المفزعة: «يخصص الأمريكي العادي أكثر من 1,500 ساعةٍ سنويًّا لسيارته (ما يعادل 30 ساعةً أسبوعيًا، أو أربع ساعاتٍ يوميًّا، بما في ذلك أيام الأحد). يشمل ذلك الوقتَ المقضيَّ خلف عجلة القيادة، سواء كانت السيارة متحركةً أو متوقفةً، وساعات العمل لِدفع ثمنها وثمن وقودها، وعجلاتها، ورسوم مرورها، وتأمينها، وتذاكر مرورها، وضرائبها. يستغرق الأمريكي، بالتالي، 1,500 ساعةٍ لقطع 6,000 ميلٍ (على مدار العام)، أي أنه (أو أنها) يستغرق ساعةً لقطعٍ ثلاثة أميالٍ ونصف الميل. في الدول التي تفتقر إلى قطاع نقلٍ، يسافر الناس بهذه السرعة سيرًا على الأقدام، مع ميزة قدرتهم على الذهاب إلى أي مكان يريدونه دون أن تقيَّدهم طرقٌ إسفلتيةٌ».

يشير إيليتش إلى أنّ الترحال في الدول غير الصناعية يستهلك 3-8٪ من وقت الناس (مما يساوي ساعتين إلى ست ساعاتٍ أسبوعيًا). بالتالي، فإن شخصًا يسير على قدميه يقطع نفس عدد الأميال في الساعة الذي يقضيه من يسافر بالسيارة، إلّا أنّه يخصّص للترحال وقتًا يقل بمقدار 5 إلى 10 مرّات. الفكرة: كلما ازداد عدد السيارات السريعة في مجتمعٍ ما، فبعد حدٍّ معينٍ، يزداد الذي يستغرقه الناس في الترحال ويخسرونهُ فيه. هذه حقيقةٌ رياضيةٌ.

السبب؟ لقد شهدنا ذلك للتو، حيث قُسمت المدن والقرى إلى ضواحٍ تمتد على طول الطرق السريعة، إذ كانت تلك الوسيلة الوحيدة لتجنب الاحتقان المروري في المراكز السكنية. لكن عيب هذا الحل واضحٌ: لا يستطيع الناس التنقل بسهولةٍ بسبب بعدهم عن كل شيء. فلكي يفسح المجال للسيارات، ازدادت المسافات، مما أدى إلى عيش الناس بعيدًا عن عملهم، وبعيدًا عن مدارسهم، وبعيدًا عن الأسواق المركزية، وهذه الأخيرة تتطلب بدورها سيارةً أخرى حتى يتسنى للشخص أن يتسوّق في حين يُوصَل الأطفال إلى مدارسهم. والنزهات؟ إنسى. والأصدقاء؟ لكَ جيرانُك ولا أحد سواهم. خلاصة القول، تستهلك السيارة أكثر مما توفره من الوقت، وتزيدُ من المسافاتِ أكثر مما تقطع. لا خلافَ أنّك الآن يمكنك أن تصل إلى عملكَ بسرعة 60 ميلٍ في الساعة، لكن سبب ذلك هو أنّك تعيش بُعد 30 ميلًا عن مكان العمل ومستعدٌّ لِقضاء نصف ساعةٍ لقطع آخر ستة أميال. بكل اختصار: «يُستنزَف جزء كبير من يوم العمل لتسديد تكلفة الوصول إليه». (إيڤان إيليتش)

ربما تقولون: «لكن بهذه الطريقة، يمكننا على الأقل الهروب من جحيم المدينة، بمجرد انتهاء يوم العمل». وصلنا أخيرًا إلى مرادنا: «المدينة»، تلك المدينة التي اعتُبرت أعجوبةً على مرّ الأجيال، التي اعتبرت المكان الوحيد الذي يستحق العيش فيه، ها هي الآن تعتبر «جحيمًا» يريد الجميع الهرب منه والعيش في الريف. لِم الانقلاب هذا؟ لا يوجد إلّا سببٌ واحدٌ فقط: السيارة. السيارة جعلت المدينة الكبيرة غير صالحةٍ للسكن، جعلتها كريهة الرائحة، جعلتها صاخبةً خانقةً غُباريةً ومكتظةً إلى درجةِ أنّ لا أحد الآن يرغب في التنزّه فيها مساءً. فبما أنّ السيارات قد قتلت المدينة، فنحن بحاجةٍ إلى سياراتٍ أسرعٍ لكي نهرب من المدينة عبر الطرق السريعة إلى ضواحٍ أبعد. يا لها من حُجةٍ دائريةٍ صافية: امنحونا مزيدًا من السيارات لكي نهرب من الدمار الذي سببته هذه السيارات.

من كونها ترفًا وعلامة امتيازٍ، أصبحت السيارة بالتالي ضرورةً حيويةً، إذ يجب اقتناء واحدةٍ للهرب من جحيم مدن السيارات. هكذا فازت الصناعة الرأسمالية باللعبة: أصبح الفائض غير الضروريُّ ضروريًا، فلم تبقى أيُّ ضرورةٍ لإقناع الناس بالحاجةِ إليها، فَضروريتها أصبحت حقيقةً حياتيةً. لربما يشكّك المرء بضرورتها عندما يشهد المركبات الآلية على طرق النزوح، حيث تمتد طرق الهروب ساعات الذروة – الثامنة والتاسعة والنصف صباحًا، والخامسة والسابعة والنصف مساءً، بل وما يطول لخمس ساعات في عطلة نهاية الأسبوع – بِمواكب سيّاراتٍ، مصدّاتها تكادُ تلتحم، تسير بسرعةٍ لا تتجاوز في أفضل الأحوال سرعة الدراجة الهوائية وتحيطها غيومٌ كثيفةٌ من أدخنة البنزين. ماذا تبقى إذن من مزايا السيارة؟ ماذا يبقى عندما تَفْرضُ أبطأ سيارةٍ السرعةَ القصوى في أي طريق؟

الحال أنّه، يا لها من عدالةٍ كونية، بعد أن قتلت السيارةُ المدينةَ، ها هي تقتل نفسها. وبعد أن وَعَدَ قطاعُ السياراتِ الجميعَ بالنقل السريع، ينتهي الأمر به إلى نتيجةٍ سهلةِ التنبّؤ ولا خلاف عليها: الجميع سيسير بسرعة أبطئهم، بسرعةٍ تحددها القوانين الأساسية لجريان الموائع. والأسوأ من ذلك: بعد أن اختُرِعت لتسمح لمالكها بالذهاب حيثما يشاء وقتما يشاء وبالسرعة التي يشاء، تصبح السيارة مركبةً لا يُعوَّل عليها، وتصبح أضعف المراكب وأخطرها وأكثرها إرباكًا. فَحتى لو خصصت لرحلتك فائضًا من الوقت فالاختناقات المرورية تعطلك إلى أجلٍ غير مسمّى. بل وأنتَ ملزمٌ بالطريق التزام القطار بسككه، ومثلك مثل ركّاب القطار لا يمكنك التوقف متى ما أردت، ومثلك مثل القطار، مجبرٌ بالسير بسرعةٍ يحددها غيرك. باختصار، ليس لدى السيارة أيّ من مزايا القطار، فقط عيوبه يضافُ إليها بعضٌ من عيوبها الخاصة: الارتجاج وضيق المساحة وخطر الحوادث والجهد اللازم لقيادتها.

قد تقول الآن: لكن الناس لا يستقلون القطارات. فعلًا! أنّى لهم أنْ يستقلوها؟ هل سبق لك أن سافرت من بوسطن إلى نيويورك بواسطة القطار؟ أو من إيفري سور سين إلى لو تريبورت؟ أو من غارش إلى فونتينبلو؟ أو من كولومب إلى جزيرة آدم؟ هل سبق لك أن سافرت بواسطته في يومٍ من أيام الصيف؟ جرّبه إذن، مع تمنياتنا لك بالتوفيق. ستلحظ عندئذ أنّ قطاع السيارات الرأسمالي قد استعد لكل شيء، ففي الوقت الذي تقتل السيارة فيه نفسها، فإنها تمهّد زوالَ بديلها، جاعلةً من السيارة ضرورةً جوهريةً. إذن سمحت الرأسمالية أولًا بتدهور خطوط السكك الواصلة بين المدن والأرياف المحيطة بها، ومن ثم تخلّصت منها تمامًا. لم يتبقى إلّا شبكة السكك فائقة السرعة الرابطة بين المدن التي تتنافس مع خطوط الطيران على زبائن من الطبقة البورجوازية. يا للتقدم!

حقيقة الأمر أنّه ما من خيارٍ آخر، فليس فينا شخصٌ يمتلك حرية الاختيار في اقتناء السيارة، فَعالمُ الضواحي مُصمَّمٌ باعتمادٍ عليها، وكذلك الحال بالنسبة للمدن. ولهذا السبب فذاكَ الحل الثوري المثالي: التخلص من السيارة لصالح الدراجة والترام والحافلة وسيارة الأجرة المُسيَّرة، لم يعد قابلًا للتطبيق في مدنٍ كبيرةٍ مثل لوس أنجلوس وديترويت وهيوستن وتراب أو حتى بروكسل، فقد صممن وبُنِين للسيارة وليس لأي شيءٍ سواها، فتترامى أطرافُ هذه المدن المتشظية على طول طرقٍ فارغةٍ تتكرر على جانبيها نفس المشاريع التنموية، ولسان حال تخطيطها العمراني (الصحراوي) يقول: «صُمِّمَت الشوارع هذه لتنقل الواحدَ بأسرع ما يمكن مِنْ عملهِ إلى منزلهِ ومِنْ منزله إلى عمله، فهي صُمِّمَت للعبورِ، لا للعيش. ففي نهاية يوم العمل، عليكَ البقاء في بيتك، ومن يبقى في الشوارع بعد أن يحلّ ظلام الليل يجبُ أن تشتبه به»، فأن تتنزه ليلًا يعتبر – في بعض المدن الأمريكية – عرضةً للاشتباه في ارتكاب جريمةٍ ما.

هل انتهت اللعبة إذن؟ كلّا، لكن على بديل السيارة أن شاملًا. إنْ أردنا للناس أن يتخلوا عن سياراتهم، فلن يكفي توفير نقلٍ جماعيٍّ أريح، بل يجب أن يكونوا مستعدّين على الاستغناء عن وسائلِ النقل تمامًا نتيجةً لشعورهم بالألفة في أحيائهم ومجتمعهم ومُدنهم الصالحة للإنسان، حيث يستأنسون بالمشي من المنزل للعمل أو أن يستعملوا الدراجة إن لزم الأمر. ما من وسيلة نقلٍ وهربٍ سريعةٍ ستعوضنا عن كُدرة العيش في مدينةٍ غير صالحةٍ للسكن لا يستأنس أحدٌ العيش فيها، أو عن غيظ الذهاب للمدينة من أجل العمل، أو من ناحيةٍ أخرى، عن النوم وحيدًا.

كتب إيليتش: «سيكسّر الناس قيود النقل المهيمِنة عندما يقعون مرّةً أخرى في حبِّ إيقاعهم الخاص في أراضيهم، وينفرون من الابتعاد عنها». لكن، لكي يحب شخصٌ ما «أرضه»، يجب أن تكون أولًا صالحةً للعيش، لا لِحركة المرور. يجب أن تعود الأحياء والبلدات عوالمَ صغيرةً تتسعُ لِعيش الناس وعملهم واسترخاءهم وتعلّمهم وتواصلهم، يمكن تشايُع إدارتها كمكانٍ مشتركٍ لمعيشتهم. فعندما سُئِلَ ماركوزه عمّا سيقضي الناس وقتهم في فعله بعد الثورة، بعد التخلّص من التبذير الرأسمالي، كان جوابه: «سنهدم المدن الكبيرة وسنبني بدلًا منها مُدنًا جديدةً. سيشغل ذلك بعضًا من وقتنا».

قد تكون المدن الجديدة هذه عبارةً عن اتّحادٍ بلداتيٍّ (أو أحياءٍ) مختلفةٍ، تحيطها أحزمةٌ خضراء، يقضي مواطنوها – خاصةً أطفال المدارس – عدة ساعاتٍ في زراعة ما يحتاجونه من منتجاتٍ طازجةٍ. وللتنقل اليومي، لهم أن يستخدموا جميعَ أنواع وسائل النقل الملائمة لمدينةٍ متوسطة الحجم: دراجاتٌ هوائية، أو ترامات، أو حافلاتٌ كهربائيةٌ، أو سيارات أجرةٍ مُسيَّرة. وللرحلات الأطول خارج المدينة – وكذلك للضيوف – يتاحُ عددٌ من السيارات المشاعية في مرائب الحي. تلغى ضرورية السياراتِ عندئذٍ، ويتغير كل شيء: العالم والحياة والناس. لكن أمرًا كهذا لن يتحقق من تلقاء نفسه.

ما العمل، إذن، لتحقيق ذلك؟ أهم ما في الأمر ألا يُتناول النقل كمشكلةٍ بحد ذاته، بل يجب أن يُربط دائمًا بمشاكل المدينة، بتقسيمها الاجتماعي للعمل، وبالكيفية التي تُجزّأ بها أبعادُ حيواتنا المختلفة. جزءٌ للعمل، وآخرٌ لـ «العيش»، وثالثٌ للتسوق، وَرابعٌ للتعلم، وخامسٌ للترفيه عن النفس. كيفُ ننظِّم حيواتنا مسألةٌ تحمل في طياتها التجزئة التي تبتدأ مع تقسيم العمل في المصنع، فهذه تقطّع الشخص شرائحًا، إنّها تقطّع وقتنا وحياتنا شرائحًا منفصلة، حتى نصبح في كلٍ منها مُستهلِكًا ساكنًا تحت رحمة التجار، وحتّى لا يخطر ببالنا أنّ العمل والثقافة والتواصل والترفيه وتلبية الحاجيات والحياة الشخصية، كلها يجب أن تكونَ كتلةً واحدةً مجتمعةً: حياةٌ موحدةٌ، ويدعمها نسيجٌ اجتماعيٌّ مشاعيّ.

المصدر: نُشِرت في لو سوفاج (Le Sauvage) وعُرِّبَت عن الإنجليزية.

Skip to content