المقدمة
مَلكٌ عادل، نهض بِأمّته وحماها في وجه الاجتياح الاستعماري، ولما ظفر لم يقف مكتوف اليدين أمام معاناة إخوته في القارة الأفريقية، بل جعل بلاده مركزًا لاستقلالهم وتحررهم جميعًا، وابتغى لها أن تكون بادرة وحدتهم. عندما يذكر اسم هيلا سيلاسي تجول هذه الصورة في مخيلة الناس، لعل جزءًا منها رسمته موسيقى الريغي، وجزءٌ آخر أصله نصوص المنظّرين الأفروسنترك، والصورة، أو للدقة: الأسطورة، مبنيةٌ على محو كافة تفاصيل زمانه، وخلقِ ماضٍ يحنّ الواحد إليه دون التفكير بما كان فيه وفي أسباب ما آل إليه.
يصادف أنّ ملكَ الملوك – أو «النجاشي» بالجعزية – العادل النهضوي الحامي كان أثناء فتراتٍ مرّت فيها البلاد بالمجاعة يملك قصرًا به 1200 من الخدم، سجّادها محاكٌ بخيوط الذهب، فقد دفعه ولعه بالذهب لأن يصنع من الذهب الخالص إطاراتٍ للدراجة الهوائية التي كان يجري عليها تمارينه الرياضية كل صباح بل وحتى مرحاض حمّامه، وأما ملابسه فقد كان يختارها حسب المشوار أو من سيقابِل، وإن لم يكثر في تذهيب ملابسه غير الرسمية فقد كان يتزيّن عند استقبال الشخصيات أو الاحتفالات الرسمية أو في رحلاته الخارجية بأكبر كمية ممكنة من الذهب دون التقيد ولو بأبسط المبادئ الأولية للذوق السليم.
كان ولع ملك الملوك بالذهب يكاد يصل إلى حد الهوس، فعندما ماتت كلبتُه لولو أقام لها جنازةً رافقتها كل الطقوس المَلكية المهيبة، وكان مثوى لولو الأخير تعلوه واجهة رخامية نقش عليها اسمها وتاريخ مولدها ووفاتها بأحرف من ذهب، وحبُّه لكلبته هذا يتبين في قصة أخبرني بها أحد المفكّرين الإثيوبيين: عندما وصل هيلا سياسي إلى كمبوديا في زيارةٍ رسمية عام 1969، وبعد ترحيبٍ من الأمير سيهانوك، بدأت الفرقة الموسيقية بعزف النشيد الوطني الإثيوبي، فإذا بالملك يطلب منها التوقف عن العزف ريثما تصل لولو – كلبة الملك – التي كانت ما تزال تهبط سلم طائرة البوينج الخاصة.
هيلا سيلاسي والكلبة لولو
يوم وفاتها ذرف سيلاسي من الدموع ما لم يذرفه على المجاعة التي قضت على أكثر من 200,000 شخصًا في إقليم ولو، وفي حبّها ضمن استخدام لواجهةِ قبرها نوعًا نادرًا زيِّنَ به غُرف القصر المِئتين، نوعٌ يستخرج من مناجم نائية يملكها الملك في إقليم سيدامو، ويستخرجه مُستخدَمون يعملون قسرًا بعد أن يقبضَ عليهم ويصطادون في شتّى بقاع البلاد. . .تمامًا كما كان يحدث في الماضي البعيد، عندما كان تجار الرقيق يصطادون السود من قارّتنا الأفريقية ليسوقهم إلى المستعمرات الأوروبية في الأمريكيتين.
قد كان العاطل عن العمل يطلع عليه الصباح متسكعًا في الطرقات خائفًا من رجال الشرطة وهراواتهم، بعد أن قضى ليلته على قارعة الطريق متخذًا من أوراق الصحف القديمة غطاءً له لاتقاء البرد، فيُقبَض عليه ويلقى به في شاحنة مغلقة لا نوافذ لها، لا يرى ضوء النهار مرة أخرى، إلى أن يصل إلى المنجم، وفيها يقضي مع غيره من المُستخدمَين نهاراتهم مقوّسي الظهور في ممر ضيق متعرج، لا يتوقفون عن العمل إلا لتناول وجبة الطعام الوحيدة التي تقدم لهم في هذا معتقلهم الذهبي، فيعودون إلى أكواخهم الحقيرة ليلًا بعد اثنتي عشر ساعة من الكدح الشاق للحصول على أجرٍ بالكاد يبلغ ضعفي ما يحصل عليه متسولٌ في ظهرية حظيظة.
ولا يترك المستخدمون في سلامٍ ليلًا، بل يرغمون على تناول دواء مُسهل لإثبات أنّ أحدًا منهم لم يبتلع بعضًا من قطع الذهب أثناء نخله التراب. . .فقد كان للملِك ضبّاطٌ مهمتهم التنقيب في الفضلات بحثًا عمّا يُسرَق من الذهب، ومن يشتبه في سرقته يُدان فورًا دون أن يتاح له خيار التماس العفو وطلب الرحمة.
وأما عن وجه تبنّيه للراستا ومناصرته للبان أفريكانزم، فسنتطرق لها لاحقًا، لكن إيجازًا يمكننا القول إنّ تمجيد شخصه والعلاقات العامة كان المحفّز وراء منحه قطعة أرضٍ للرّاستا لإدراكه قيمتهم الترويجية، ومحفّز دعمه حركة التحرر الأفريقي كان توطيد علاقاته مع القادة الأفارقة وتمديدها دون أن يمسّ بعلاقاته المقرّبة بمن يعادون الحركة، فقد كان يدعو ساسةَ الغرب ومشاهيره ورجال أعماله لحفلات باذخة يعقدها في قصره.
ولكن مثل أي زمنٍ وأي مكان، لا يمكن اختزالُ القصة لا في العناوين التفخيمية ولا في هواجس الفرد الحاكم وغرائبه، فحتى وإن أدى هيلا سيلاسي دورًا محوريًّا في التاريخ الإثيوبي الحديث فهو ليس الفاعل الوحيد فيه.
تافاري ماكونين، أو: قبل سيلاسي
في عام 1916 وقع انقلاب داخل القصر الملكي في أديس أبابا، خلع عن العرش الملك الطفل ليج ياسو، حفيد منليك الثاني مؤسس الدولة الإثيوبية، والملك الطفل المخلوع لم يملك أي سلطة فعليةٍ بالطبع، والانقلاب قاده الوصي على العرش وابنُ جنيرالٍ بارز قاد معركة عدوة في الحرب الإثيوبية الإيطالية لعامي 1895-1896، رجلٌ طموحٌ اسمه تافاري ماكونين، ولعدم وجود وريث يرتقي العرش جيء بالملكة زايديتو، ابنةُ منليك الثاني، لتصبح ملكةً على البلاد.
لكن خلافًا نشب بين الوصي والملكة، ولم يستسلم الوصي على العرش لهذا الواقع الجديد بسلطةٍ محدودة، وتلك الازدواجية للسلطة عكست التناقض الحاد المتفاعل داخل صفوف الطبقات الحاكمة أكثر مما عكست تصادم الطموحات الشخصية المجردة.
التفّ نُبلاء الإقطاع حول الملكة، إذ كوّنوا الشريحة الأكبر من مُلّاك الأراضي وطبقة الإكليروس، مفضّلين أن تظهر الدولة أمام العالم كدولةٍ واحدة، لكن ذلك لم يرأب الانقسام في الداخل إلى مناطق وأقاليم كل منها تحت حكم أميرٍ إقطاعي أو قائد عسكري. فالكنيسة الأرثوذكسية والأديرة كانت تملك مساحاتٍ شاسعة من الأرض، ما جعلها تخشى المركزية. وأمّا البرجوازية الصغيرة التجارية والقلّة من النخب المثقفة التي ظهرت في إثيوبيا، فقد حملت شعار «إثيوبيا موحدة» تحت حكومة مركزية، وقد أطلقت على حركتها اسم «الشبيبة الإثيوبية»، بزعامة راس تافاري ماكونين، الوصي على العرش والتواق للسلطة. وفي الوسط، في منطقةِ الحياد النسبي وقفت قوة أخرى: الجيش.
نشب هذا الصراع السياسي في مجتمعٍ احتوى من التناقضات ما لا يضاهيه أي مجتمعٍ آخر، حيث يتشابك في هذا المشهد نظام الرق مع الأشكال الأولية للإقطاع والتقاليد القبلية، ومعهُ جرثومة الرأسمالية الشرهة التي ستنتهي إلى الاصطفاف مع المركزية.
كان الصراع الطبقي الأساسي في الريف ينمو تلقائيًّا، وتنشب عنه الصراعات العنيفة بين الفلاحين والمُلَّاك الإقطاعيين المُستغِلّين.
وهذه التجمعات الزراعية للفلاحين الصغار ظلَّت آخذةً بالتقلّص منذ وقت بعيد، وتنحسر ليظل منها جماعاتٌ معزولة في مناطق نائية. وكان على كلّ فلاحٍ أن يعمل ما بين 120 و190 يومًا في السنة لأجل المالِك (الإقطاعي أو الكنيسة)، وأن يدفع إيجار الأرض إما بتقديم جزء من المحصول أو بعض رؤوس الماشية، وكان يترتب عليه أداء واجبات محددةٍ، والإذعان لنزوات المالِك.
بالإضافة إلى هذا الاستغلال والقهر المسلط على رأس الفلاح قد يفرض المالِك ضرائب أخرى، والأهم من ذلك ضرائبُ الدولة، ومن هذه الأخيرة يشتهرُ نوعان قاسيانِ بشكل خاص، وهما: «ديرجو» و«جابار»، فالأول يُلزم المزارع بتقديم الطعام، وخدمة كافة النبلاء والضباط والموظفين الرسميين سواءً كانوا يعبرون منطقته في سفرهم وتجوالهم أو يقيمون معسكرهم فيها، وأما الثاني فقد تكفل بإعالة الجهاز الإداري والعسكري بشكل أكثر مباشرةً.
كان على عائلات الفلاحين القيامُ بأعمال الصيانة في الحاميات والإدارات المحلية، وكانت نسبة الجابار المفروضة على الفلاحين تختلف حسب رغبات الطبقة التي كانت تتلقى هذه الضريبة التي تسدّد للحكّام والشخصيات ذات الشأن، كما أجبر هذا النظام آلافَ الفلاحين على تقديم أبنائهم للخدمة في الجيش وفرض على كلّ عائلة إطعام جندي واحد على الأقل.
بالرغم من هذا القهر والاضطهاد الذي عاناه الفلاحون، إلا أنها لم تكن الطبقة الأسوأ حالًا في المجتمع الإثيوبي، فالحياة الأشد تعاسة وبؤسًا واضطهادًا كانت حياة الرقيق الذين يعملون خدمًا في منازل الإقطاعيين، يتلوهم الرقيق العاملون في الحقول والمزارع (ومن الضروري الإشارة إلى أن عدد هؤلاء الأرقاء في الثلاثينيات لم يبلغ النسبة التي ذكرتها صحافة موسوليني في محاولة منها لتبرير الاجتياح الفاشستي لإثيوبيا).
اتفقت الحركات الثلاث المرتبطة بالقصر على الإبقاء على الإقطاع، لكن حركة الشبيبة الإثيوبية في محاولة منها لإصلاح الأمور وترقيعها، ولتدعيم مركزية الدولة، دعت للعمل على تطوير قوى الإنتاج، وتحقيق حد أدنى من منجزات الحضارة الحديثة، كما شجعت مبدأ إنشاء سوق محلية نامية، وإلغاء نظام الرق، والعمل على تأسيس نظام اقتصادي نقدي، وهكذا تحركت هذه المجموعة مع التاريخ، وكانت حركتها – بالمعنى النسبي للكلمة – ذات صبغة تقدمية.
ركزت هذه الحركة جهودها على المطالبة بإلغاء نظام الرق، لِعِلمها أن الملكة ستعارض هذا المطلب، وذلك رغم حتمية نهاية الرق كنظام. ففي منتصف القرن التاسع عشر ألغى الملك تيودروس الثاني تجارة العبيد، ومع نهاية ذلك القرن أعلن منليك الثاني أن نظام الرق لن يسمح بتطبيقه إلا على أسرى الحرب، بعد ذلك حُدِّدت مدة العبودية بسبع سنين فقط، وفي عام 1924، صدر مرسوم يحدد فئات العبيد الواجب تحريرها، ويحدد كيف ومتى يكون ذلك، بما في ذلك ضرورة التحرير الفوري للعبيد المنخرطين في الجيش، ما يضع اتجاه سيرٍ عام نحو الإلغاء الرسمي للرق العلني، دون المساس بالاسترقاق الخفي، ولكن حتى مثل هذه الخطوات المتواضعة اعتبرها المحافظون ورجال الكنيسة إجراءاتٍ جذريّةٍ ثوريةٍ للغاية، فالملكة كانت تردد: «إذا تغير أحدُ الأمور بِأحدِ الطُرق، فكل شي سيتغير بكل الطرق».
وفي العام 1926، في ذروة الخلاف غير المعلن بين الملكة والوصي على العرش تافاري ماكونين حول موضوع الرق وكيفية إلغائه الذي كاد يبلغ نقطة الانفجار، مات وزير الدفاع، ما خدم الوصي ومكّنه من السيطرة على الجيش ودحر محاولتي تمرّدٍ شجعتهما الملكة ضده، وفي أعقاب محاولة ثالثةٍ فاشلة في العام 1930 ماتت الملكة، فأعلن الوصي نفسه ملك ملوك على البلاد، واتخذ له اسمًا جديدًا: هيلا سيلاسي الأول.
هكذا ركبَ سدّة الحكم وارتقى العرش الذي طالما اشتهاه بعد طول انتظار، لكن ما لم يكن في حسبانه هو أنه سيكون آخر ملوك إثيوبيا.
هالة ملك الملوك وقداسته
أخذ الملك الجديد على عاتقه بكل همةٍ ونشاط إكمال مهمة توسيع رقعة الإقطاع ضمن حدودٍ جديدة بدأ ترسيخها من المركز في أديس أبابا.
كانت الإمبريالية العالمية في نهاية القرن التاسع عشر قد بدأت تتقدم من مهدها لإعادة اقتسام أفريقيا في مؤتمر برلين عام 1895، وكانت أسواق أوروبا في أمس الحاجة للمواد الخام ولليد العاملة الرخيصة. ولا شك أن الجهود التي بُذِلت من أجل تثبيت المركزية في إثيوبيا قد لعبت دورا هاما كعائق أمام التوسع الأوروبي، ولكن كيف كان أثرُ ذلك داخليًّا؟
تمكنت الأرستقراطية الإقطاعية في إثيوبيا من التغلب على أعدائها في الشمال، وأخذت تستعد للانقضاض على الجنوب لكي تتمكن من حكم البلاد كدولة واحدة، وسارع سيلاسي لتحقيق هذا الهدف كي يتسنى له مواجهة إعادة تقسيم البلاد الوشيكة الحدوث على يد الحكومات الأوروبية، ما دفعه لالتماس التأييد الشعبي، إنما – لأسباب طبقية – ليس بصيغة ديمقراطية، بل بالتعويد على الخضوع المطلق والولاء الكامل، ساعيًا لغرس عبارته المحببة «أنا إثيوبيا» في أذهان الناس، وكأنّه نسخةٌ إقطاعية عن موسوليني، يطمح لمنزلة الألوهية والزعامة الروحية للشعب.
وكان للتغيرات التاريخية الطويلة التي طرأت على كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية أن تخلق مناخًا ملائمًا في مرحلة صعود سيلاسي لتشجيع عبادة شخصية النجاشي وتنظيمها، فالكنيسة التي نشأت بانشقاقٍ عن الكنيسة الكاثوليكية في القرن الخامس الميلادي عن صراعاتٍ حول مسألة الطبيعة الواحدة للمسيح لم يتحقق استقلالها الفعلي عن الفاتيكان إلّا بوقوعها تحت حماية الكنيسة القبطية المصرية، وكان كل أساقفها من المصريين باستثناء واحد فقط، يعيّنهم بطريرك الإسكندرية، واستغلت بريطانيا ذلك أثناء حكمها مصر كفرصةٍ ذهبية للتدخل غير المباشر في الشؤون الداخلية لإثيوبيا، ولكن أديس أبابا في العام 1929 وقّعت اتفاقيةً مع القاهرة تنصُّ على تغيير القوانين التي سادت حتى ذلك الوقت، وإن احتفظت الاتفاقية لبطريرك الإسكندرية بالحق في تعيين رئيس الأساقفة، فقد أقرَّ لرجال الدين الإثيوبيّين الحق في اختيار مطارنتهم، ولم تمر عشرون عامًا حتى انتزعت كنيسة التوحيد الحق في تعيين رئيس الأساقفة.
وقد وظَّف النجاشي هذه الاستقلالية الوليدة ليحيط نفسه بهالة من الغموض والصوفية، فعلّقت صورُه في كل الكنائس وأقيمت الصلوات على شرفه في كل احتفال ومناسبة وقبل كل قداس وعِظة.
حتى كلمات وأعمال المسيح كانت تنسب لِهيلا سيلاسي، ورسم فنّانون ألمان لوحاتٍ وأيقوناتٍ يظهر فيها وجهُ المسيح شبيها بوجه سيلاسي، وحتى على المذابح في الكنائس تقمص وجه ملك الملوك صورة الثالوث المقدس بعينينِ شبه مغمضتين ووجهٍ حليق، وأضاف إلى ألقابهِ المتعددة لقبَ «رجل الله المختار»، وكُلِّفت الدعاية الرسمية بمحاولة التودد للجميع وقارنته بِداوود مراضاةً ليهود إثيوبيا، بل وكرر سيلاسي نفسه الزعم بأنه من سلالة الملك سليمان وملكة سبأ.
ونستون تشرشل وهيلا سيلاسي (لندن، 1954).
وقد عمل على تلقين الأطفال الإثيوبيين بتلك الأساطير منذ نعومة أظفارهم، وحكيت لهم تلك المرويّات عن لقاء الملك سليمان بالملكة العذراء التي رفضت أن تتزوجه رغبة منها في الحفاظ على عذريتها، وكيف أنه بحكمته الشهيرة، عقد معها قسمًا بألّا يعتدي عليها شريطة ألّا تسرق من طعامه ليلًا، فحرص الملك بحكمته البالغة على زيادة بهارات طعام المأدبة التي قدمها لها لكي تعطش الملكة ليلًا ويهزم رغبتها في المحافظة على عذريتها.
تفشي الإصلاح الشكلي، وتوطيد الحكم الجبري
لم يعرف الوضع الاجتماعي في البلاد أيّ تغييرات تقدّمية جوهرية خلال نصف قرن من حكمه الشمولي، لأنّ هدف هيلا سيلاسي الرئيس كحاكم للبلاد كان تنفيذ المهمة التي بدأها في مطلع القرن التاسع عشر: حماية قوة الأرستقراطية الإقطاعية وتدعيمها، ومن أجل تحقيق هدف كهذا كان من الضروري تحقيق السيطرة على قطاعات الأرستقراطية التي تمسكت بقوةٍ بأساليب إنتاجٍ وأنماط من التفكير انطوت على مفارقات تاريخية صريحة، ما استلزم بعض الرتوش لتحسين التوافق مع مستلزمات الزمان.
فإن استلهم هيلا سيلاسي في خلق هالته من موسوليني، لعلّ نهجه الحكومي أقرب إلى بسمارك، إنما دون ترك الامتيازات الطبقية للإقطاع أو مهاجمتها، فقد كان يخشى أن يقود التطور الاقتصادي الرأسمالي إلى تنمية الطبقة العاملة، وأن يفتح باب البلاد على مصراعيه للأفكار الثورية، وكان يخشى ظهور طبقةٍ من أهل الفكر والرأي، لشغفه الشديد بتأليه نفسهٍ وبالسلطة والمال.
وأما معارضتهُ للقوى الاستعمارية الأوروبية فأساسها هو كونه ممثلًا حقيقيًّا للأمراء والنبلاء الإقطاعيين، فهذه الشرائح تصدّت للغزو الأوروبي لأجزاء من البلاد منذ 1880 على الأقل للحيلولة دون وقوع المناطق المستهدفة في الجنوب والجنوب الغربي والشرق تحت سيطرة القوى الأجنبية، وعملت بعد ذلك بمسارعة تثبيت سلطة الدولة المركزية عبر مسيرةٍ معقدة أكملها هيلا سيلاسي بنفسه فيما بعد، وهنا تتوضح الخيوط المنطقية الكامنة خلف سياساته والموقف الذي اتخذه حيال الفاشية.
فهذا الرفضُ للقوى الاستعمارية الأوروبية جاوره ترسيخٌ للنظام الإقطاعي داخل البلاد، لاستناد الموقفين على المبدئ نفسه، إذ لم تنوي هذه الشرائح استبدال نظام سيطرتها بأي نظام أخر، فزحف الإقطاع من الشمال نحو وسط وجنوب إثيوبيا وكل رقعة مسّتها يد الإقطاع تدهورت فيها أحوال الفلاحين أكثر فأكثر، فنهج السادة الإقطاعيين مع الطبقة الفلّاحية كان أقرب للحكم بالموت على أعضائها.
لكن إعلانات الإصلاح لم تتوقف، فقرارٌ يتلو قرارًا حقق تقدّمًا كبيرًا على المستوى الشكلي والمظهري للبلاد دون أثرٍ يذكر على حياة عامة الناس، ففي العام 1923 صدر قرار يقضي بتحرير كل مستعبدٍ فور وفاة سيّده، وبعد ذلك بسبع سنوات صدر تعديل عليه يقضي بمنع نقل ملكية العبيد، و – تبعًا للإحصاءات الرسمية – حُرِّرَ ما مجمله 1,427 من المستعبدين في العام 1933، وتبعهم 3,637 في السنة التالية.
لكن في الحقيقة أن الكثيرين ماتوا رازحين تحت وطأة عبوديتهم حتى بعد 1935، فالحكومة لم تبذل جهدًا أو تذرف عرقًا لتطبيق هذا القرار أو تكترث لتنفيذه، وأمّا الأمراء ورجال الكنيسة والتجار والضباط الكبار والمسؤولون فقد بذلوا قصارى جهدهم لإبقاء أقدام العبيد مقيّدةً وأيديهم مكبّلةً.
وفي العام 1935 قرر هيلا سيلاسي أن يصدر قانونًا يقضي بإلغاء نظام الجابار، لكن تطبيقه اقتصر على مقاطعة ماجي استجابةً لأنشطةٍ تحمل في طياتها خطر الثورة، ومن ثمّ ألغي نظام الديرجو بأسلوب متماشٍ مع النهج العام، إعلانٌ عظيم وأثرٌ منعدم.
وفي العام 1942 صدرت قرارات تعلن نهاية عهد الرق كنظام. وبعد ثماني سنوات لم يكن في البلاد عبيد بالمعنى القديم، لكن من حُرِّروا من عبودية الماضي، أصبحوا فلاحين فقراء، وخدمًا خاضعين لكل أنواع الإذلال والعبودية. وعندما جاءت نهاية نظام الجابار مع نهاية عهد الرق، تقرر أن يخصص جزء من ميزانية الدولة العامة للمحافظة على المؤسسات العسكرية المحلية، كما تقرر أن يحصل الضباط على معاشات ثابتة، بدلًا من إكراه الفلاحين وإرغامهم على تقديم الطعام والخدمات إليهم، وبرغم ذلك استمر إفقار الشعب، وبقيت إثيوبيا كما كانت في الماضي رغم محاولة الحاكم انتهاج أساليب وطرائق جديدة كتغيير نظام الضرائب.
والسرعة الحلزونية لإلغاء الرق لم تتخلّف عنها إلّا سرعة إصلاح مؤسسة الإقطاع، فالإصلاحات وُضِعت رسميًّا لتضمن الإبقاء على الخصائص الجوهرية للإقطاع، والاكتفاء بإضفاء صفاتٍ جديدة عليها تتماشى مع الهيمنة البرجوازية العالمية وتتناغم معها.
ولا يكتمل أي حديثٍ عن الإصلاحات دون إلقاء نظرةٍ على الدستور الأول للدولة الإثيوبية لعام 1931.
شدّد الدستور على المركزية وجعلها إلزامية، ومركز الدولة كان أديس أبابا ومركز أديس أبابا هو النجاشي، ولكنّ النجاشي ليس النجاشي دون حاشيةٍ وأجهزة تتبعه، فمع أنّ الدستور نصّ على إنشاء برلمان ذو مجلسين، فقد ضمن لهيلا سيلاسي السلطة المطلقة عليه مع صلاحية تعيين أعضاء أحدِ مجلسيه، وأما أعضاء المجلس الآخر فتنتخبهم بطانته من النبلاء، وباستشارةٍ مسبقةٍ معه، وحتى تكتمل المسرحية، اقتصرت صلاحيات البرلمان على الموافقة على القرارات الملكية.
ولافتقار إثيوبيا لجيشٍ نظاميٍّ قدير، بدأت الحكومة بالبحث عن داعمٍ أجنبيٍّ بلا طموحاتٍ للسيطرة، ووقع اختيارها على بلجيكا لتقوم بدور المستشار العسكري وتوفّر العتاد العسكري مثل الطائرات الحربية وتعمل على تدريب طياري القوات الجوية الملكية، ولكنها ما برحت حتى التجأت إلى الدعم الأمريكي بالاستشارة والتسليح، بل واعتمد الأسلوب الأمريكي لتنظيم الجيش.
وقد توّج الإصلاحات الشكلية منجزٌ كان مدعاةً لتفاخر الملك السليماني، فمَكرمةً منه للشعب عمل هيلا سيلاسي على تطوير مستوى التعليم، وبعد 12 سنة من العمل الدؤوب والجهد الجهيد، أنشئت 30 مدرسة ابتدائية وثانوية، ودون استباق الأمور، عندما أسقط عرشه في 1975 كان 95% من سكان إثيوبيا أمّيين، ولم يتجاوز عدد طلّاب الجامعات 6,000 نسمة، هذا في بلد بلغ عدد سكانه 30 مليون نسمة وقتها.
وأما في الريف فالنسبة الأكبر من جماهير الفلاحين لم تتغير أوضاعها، فظلّ 2,4 مليون على أقل تقدير من أصل 6 ملايين فلّاحٍ دون أراضي، وكانوا يعملون في أراضي كبار المُلّاك ويحرثونها ويزرعونها في شروطٍ إقطاعية قاسية، يقدمون فيها ما بين 50 و75% من المحصول الزراعي كبدل إيجار.
وعندما حل الجفاف في إقليم وولو، فتكت المجاعة بأرواح 10% من السكان، فأدرك الناس أنّ المسؤولية تقع على النظام الإقطاعي التقليدي لمنعه الفلاحين من ببناء مخازن لإقامة التجهيزات لمواجهة مثل هذه الاحتمالات، ولما يعانون من جوعٍ مزمن، بلا ملبسٍ لائق، ويوم عملٍ مدته 14 ساعة، وأداته محراثٌ خشبي لم يتغير منذ قرون.
وأثناء الهجوم الإيطالي الفاشي على إثيوبيا، أغدق هيلا سيلاسي من منفاه الشعبَ بالوعود لكي يعبئ الناس ويحفز همتهم ليواصلوا مقاومتهم البطولية للعدو الذي لم ينعم بالراحة أو الهدوء، وقد استطاعت القوى الشعبية بنضالها ومقاومتها الرائعة أن تنهي الاحتلال الفاشي قبل أربع سنوات من سقوط النظام الفاشي في أوروبا.
وطالبت الجماهير بعد انتصارها على الغزو الإيطالي بوضع تلك الوعود موضع التنفيذ، ولشدة ضعف البناء السياسي الشعبي، اعتقد الناس أن النجاشي كان صديقًا مخلصًا للناس، فهو منزّهٌ عن النظام الذي يحكمه، رجلٌ صالحٌ لقيادة الجميع، مكانه بين السماء والأرض، بين الله والإنسان.
الانتفاع، البؤس، والتمرد
بينما قبع الجماهير في فقرهم وبؤسهم وعوزهم، تنامت أمام أعينهم ثروة الأرستقراطية وترفها وبذخها، فقد كانت عائلة بيري القاطنة في إقليم هرر – على سبيل المثال – تملك لوحدها حوالي 50 مليون فدان من الأراضي، وتتحكم بحياة ومصير 700,000 فلّاحٍ وفلّاحة.
وفي مقابل التقشف في الأعمال العمومية، شهدت أديس أبابا إعمارًا للترف مع مشروع إعادة بناء ضخم متلاءم مع المعطيات الطبيعية للمدينة، كجبل انطوطو والأنهار والسهول الخضراء التي تشكل بمجموعها مشهدًا طبيعيًّا خلّابًا أصبح خلفيّةً لتشييد هيكلٍ للبذخ من القصور والممرات الرحبة وحدائق اللهو والغناء، تسحر عيون السيّاح وزوّار الفنادق الحديثة القائمة وسط المدينة فتخفي عنهم الأكواخ الحقيرة والمستنقعات المحيطة بالمدن.
وما فرض من مساواة في الضرائب النقدية للأراضي المزروعة والأراضي البيضاء أدى إلى نشوء بورجوازية ريفية جديدة، فقد تدافع الموظفون البيروقراطيون والتجار القادمون من المدن على شراء الأراضي غير المستغلة، ووسّع كبار المُلّاك رقعة أراضيهم الزراعية.
ولأنّ الدولة كانت هيلا سيلاسي وهيلا سيلاسي كان الدولة، تجلى كرم دولته في توزيع قطع كبيرة من الأرض على البورجوازية الريفية الناشئة، والمتكونة أساسًا من أصدقائه من الشبيبة الإثيوبية. وشجّع النجاشي كبارَ الملّاك على التبرجز، مبيّنًا لهم سهولة استخدام العمالة الزراعية المأجورة بدلاً من تسخير الفلاحين، لما يكمن في توظيف الأولى من ثروةٍ أكبر، وإن كانت الخطة واجهت معارضةً من رجال الكنيسة في بادئ الأمر فقد أرختها رشوات النجاشي، وهكذا حققت الرأسمالية بعض الاختراقات في البنية الطبقية للمجتمع الإثيوبي، دون زوال الطبقتين الرئيسيتين في تاريخها: طبقة المُلّاك الإقطاعية، والفلاحون الفقراء.
لم تمضِ تلك الفترة دون أن يتظلّم الفلّاحون والفلّاحات لملك الملوك، وهو احتجّ بأن بطانته حجبت عنه بؤس حياتهم وتردي أوضاعهم تحت الإقطاع، ما أخفى عن أعينه حقيقة معاناة الناس، فكان للتمرّد الأول أن يسير في ضمن إطار سردية الملك الصالح والبطانة الطالحة. خرج الناس على الأسياد الإقطاعيين في عام 1950 في إقليم جوجام، وكادوا لا يصدقون أعينهم وقوّات الجيش الملكي تقاتلهم إلى جانب المُلّاك، بل والحال تكررت في الجنوب في أواخر الخمسينيات عندما قتل أعدادٌ كبيرة تحت وطأة أقدام جنود سيلاسي والناس تردد هتاف: «عاش النجاشي»!
ورصاص جنوده يخترق صدور المتمرّدين العارية، كان سيلاسي يتقن فن ذرف الدموع على طيش أبنائه الطيبين الذين لم يلتزموا بنصائحه، ولم يتقيدوا بالتعاليم المسيحية. . . ويصرح أنّه طلب من السادة الإقطاعيين بالتزام الاعتدال، وأنشأ بعد ذلك لجنةً خاصة لتطبيق العدالة فيما يتعلق بالقضية الزراعية التي أصبحت قضية ملحّة على جدول أعماله، وكلّ ذلك بغرض امتصاص السخط الشعبي المتزايد.
أضيف إلى هذه الإجراءات فيما بعد توزيع بعض قطع الأراضي العائدة للدولة على الفلاحين المُعْدمين، بما في ذلك توفير بعض القروض لهم، وفي العام 1961 وزعت بعض أراضي الدولة في إقليم أروس – قرب العاصمة – على الفلاحين الذين استصلحوها، وبعد أربع سنوات وقّع الملك قانونًا يقضي بوضع حدٍّ أقصى للنسبة المدفوعة كإيجار من المحاصيل عند 50%، ومعها شرط أن يقدّم المالكُ للفلاح البذورَ والدواب لِجرّ الحمولات، وحرّم القانون على الملّاك تحصيل الضرائب المستحقة للدولة من جيوب الفلاحين، وهذه الإصلاحات دفعت الفلاحين في كافة أرجاء البلاد والطَلَبة في أديس أبابا للتهليل والهتاف للملك لقانونه الذي سرعان ما صدق عليه مجلس العموم وعارضه مجلس الشيوخ، ما ساعد على توطيد صورة هيلا سيلاسي كمرجعٍ أعلى متسامٍ على صراعات القوى والمصالح المتضاربة.
تراكم الوعود، تفاقم التدهور
في العام 1955 قُدِّمَ مشروع دستورٍ جديد مُحسَّنِ المظهر بلا تغير في الجوهر، بكلماتٍ فخمةٍ وموادّ وَاعدةٍ فضفاضة تمخض عنها تغييرٌ محدود، فالأساس كان إبقاء النظام القائم وتوطيد سلطة الملك وشعبيته.
أسس الدستور الجديد للاقتراع السري العام لمجلس العموم ما فتح رياح تأثير الضغط الشعبي عليه، لكن مع الحفاظ بأحقية تعيين النجاشي لأعضاء مجلس الشيوخ، والحملة الانتخابية لعام 1957 هيأت فرصًا ضئيلةً ومحدودةً – ومهمة – للجدل وتبادل الآراء بشكل عام، وأهميّة هذه الخطوة تكمن في فتحها مجالًا لم تعرفه تقاليد البلاد من قبل.
ووضعَ الدستور موادًّا للإصلاح الزراعي لاقت تأييدًا واسعًا على مختلف المنابر والجرائد، بحكم رعاية النجاشي لها، ولعل وعود الإصلاح هذه ساهمت في اندلاع انتفاضة أديس أبابا في سبتمبر 1960، وإنْ لم يكتب للانتفاضةِ النجاح فقد فتحت الباب أمام تقاليد غير مألوفة، وأطلقت شعار: «فرض الإصلاح بالقوة».
من هذه التجربة أراد هيلا سيلاسي فتح بابٍ للإصلاح دون مخاطر التعبئة الجماهيرية له، فاتجه إلى التعليم، ولكن حتى لو نظرنا للأمور في نطاق المعقول، فالإصلاحات التي أجراها لم تبلغ الممكن، فقد افتتح جامعةً في أديس أبابا (وكان اسمها بالطبع جامعة هيلا سيلاسي الأول) واستقطب حَرمُها أبناء الأغنياء، وأرسل بعثات دراسية إلى الخارج، وخاصة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنشأ مكتبة وعدة مسارح ودور للسينما، وعندما دخل في التعليم الابتدائي 5% من أطفال البلاد من أطفال البلاد، اعتبرها النجاشي رقمًا قياسيًّا مشرفًا.
وأخيرًا أحدث منصب رئيس الوزراء اعتقادًا منه أن ذلك سيحسن مقبوليّته أمام العالم الخارجي ويبين انسجام سياسته مع روح العصر، ومن بين مختلف قوى هذا العالم الخارجي انصب تركيزه على تحصيل رضى الولايات المتحدة الأمريكية سعيًا منه للحصول على حمايتها، فقد إرتابه الشك تجاه القوى الأوروبية بسبب تاريخها الاستعماري في المنطقة، وحتى تجاه الاتحاد السوفييتي رغم وجود العلاقة معه نظرًا للمساعدة الكبيرة التي قدمها السوفييت لإثيوبيا لمواجهة الغزو الإيطالي الفاشستي، لكن النظام السوفيتي كان يخيفه ولم يشعر هيلا سيلاسي بالاطمئنان إلا بجعل بلاده الحليف العسكري الأشدّ ولاءً لأمريكا في أفريقيا.
ومن نافلة القول أنّ لجوء هيلا سيلاسي لأمريكا دون أوروبا يبيّن مبتغاه في مدّ روابط متينةٍ وقويّة ودائمةٍ مع الغرب دون استعداء الوصاية الاستعمارية القديمة، ونبذه الاتحاد السوفييتي رغم ما قدّمه من دعم كان لوقاية نفسه من الرياح الثورية التي عصفت القارة الأفريقية مع ثورة البان أفريكانزم، والهبّات اللاحقة الآتية من جهةِ الثورة الفيتنامية والثورة الكوبية وغيرهما، وتبوّؤ الاتحاد السوفيتي – ومعه دول الكتلة الاشتراكية – مقعد القوّة المهيمِنة المضادة للهيمنة الغربية وما حمله المشروع السوفييتي من تفعيلٍ للأفكار الثورية الدافعة باتجاه التغيّرات الاجتماعية العميقة ودقّ هذه الأفكار أبوابَ العالم الثالث وتبنّي حركاته لها.
هذا الوضع فتح أبواب التناقضات من كافة الجهات، وكلمات هيلا سياسي الفخمة وتنفيذه الرديء أنزلاه من سمائه السابعة وجعلاه محلًّا للنقد من اليمين والشمال، وتسليمه القواعد العسكرية للولايات المتحدة وتقديمه التسهيلات لها لإدخال الدولار وطرق الحياة الأمريكية لإثيوبيا أدّت إلى موجة عارمة من الاستياء في كافة الأوساط الاجتماعية من الأرستقراطية وحتى أفقر الفقراء.
كان تيار الحرية النسبية الذي شجعه نمو وتطور الرأسمالية قد أوجد المناخ الملائم لتغلغل الأفكار الماركسية في بعض الأوساط المثقّفة وأوساط الطلاب، وهذا ما سهّل نشوء حركة احتجاجٍ بين الجماهير، ما أثار غضب طبقة النبلاء، ولكن كلتا الظاهرتين في الواقع حملتا طابع التلقائية، ولم تذهبا إلى أبعد من نضالٍ يواجه العدو المباشر: الحاكم أو المالِك.
وأما العناصر المحافظة في الدولة فلم يُرضها اضمحلال قوّتها تضمحل أمام المنافسة الأجنبية، وكانت تفضل الثبات في مكانها دونما الحاجة إلى تحديث أشكال الاستغلال أو عصرنتها، والكنيسة الأرثوذكسية لم تحبّذ فكرةَ السماح لاتباع المعتقدات الأخرى – كالبروتستانتية السائدة في الولايات المتحدة – بممارسة شعائرهم الدينية، لكن هيلا سيلاسي كان ماهرًا في لعبة التوازن بل احترفها، ولديه الكلمات الملائمة لمعالجة كل ظرف وحادث.
فلكي يطبّع ارتمائه في أحضان الإمبريالية الأمريكية وإقامة قواعدها العسكرية في البلاد تدعيمًا لعدائها الفاشستي للسوفييت وحملتها الصليبية على الشيوعية، حاول التعتيم عليه ببريق جعل أديس أبابا مقرًّا لمنظمة الوحدة الأفريقية لتظهر حكومته بصورة الحكومة غير المنحازة والمسالمة مع الكل، بل والتقدّمية أيضًا.
استمرت الدعاية والتجليل دونَ تحسينٍ يذكر على حياة الناس، بل وما يذكر منه وقع بمقابل تنازلات مهولة للرأسمال الإمبريالي، مع تقديم امتيازاتٍ للولايات المتحدة وألمانيا الغربية مدتها نصف قرن للتنقيب عن النفط واستخراجه في إثيوبيا، وخاصة في أوغادين، وأخضع قطاع التعدين بأكمله لِأيدٍ أجنبية.
وحال المواصلات والنقل البري والجوي لم تكن أفضل، وأما باقي قطاعات اقتصاد البلاد فقد اقتسمتها فعليًّا مختلف القوى الأجنبية، فكانت صناعة السكر من نصيب هولندا، والنسيج من نصيب بريطانيا والبلجيك، والصناعات الكيماوية منحت لليابان، وبقيت الطاقة لفرنسا، وباختصار: إن إثيوبيا الدولة الإقطاعية، وما تحمله من جنينٍ رأسمالي، أصبحت رازحةً تحت الاستعمار الجديد، وما يتضمنه هذا الاستعمار من غرقٍ في الديون وفقدان لكل احتمالاتِ التطور الاقتصادي، هذا في وقت لم يتجاوز تعداد العمّال فيه 200,000 نسمة، في بلدٍ يبلغ عدد سكانها 30 مليون نسمة.
وقد كان هيلا سيلاسي يتباهى بإنشائه نظامًا مصرفيًّا بمعايير عالمية، والواقع أنّه مع إجبار الإنجليز على الانسحاب من إثيوبيا عام 1954 استعاد الامتياز المصرفي الذي منح لهم قبل 50 عامًا، ولم يسترد شيئًا سواه منهم، فقد أصدر بنك الحبشة أول ورقة نقدية في إثيوبيا عام 1915 في عهد منيلك الثاني، أما بنك هيلا سيلاسي الوطني فإنه لم يكتف في الشخصنة بطبع صوره على الأوراق النقدية، بل امتصّ الملك عبره ثروةً ضخمة أودعها في بنوك سويسرا.
بداية نهاية الملكية
في عام 1960 قام الجنيرال منغستو نواي ذو الميول اليسارية بمحاولة انقلاب، وفي يومه الثالث وقعت مجزرة في القصر الملكي قُتِل فيها وزير الدفاع وبعض كبار الضباط، وأُسِر رئيس الوزراء وزوجته ابنة النجاشي، ولم يتمكنا من الهرب إلّا بعد تلطيخ نفسيهما بالدماء والاختباء وسط الجثث التي تحملها شاحنةٌ لتقيها خارج القصر!
انتهت محاولة الانقلاب هذه إلى الفشل، لكنّ هذا الفشل أحدث انشقاقًا دمويًّا في الجيش ورسّخه، وإن كان لم يحظى بادئ الأمر إلّا بدعمٍ جماهيري محدود، فقد كسب جماهيريةً بمحاكمته التي بُثَّت عبر الراديو، فقد ثار غضب الناس سماع كلمات الجنيرال الأخيرة قبل إعدامه: «أنا أقبل حكمك عليّ بالإعدام بلا رحمة، وأنا لا أطلب منك الرأفة، بل أطلبها من الشعب الإثيوبي وحده، فأنا أفضل الموت على رؤية وجه هيلا سيلاسي لأطلب منه الرأفة. وكلّي يقينٌ أن بؤساء الشعب الإثيوبي سيُكملون محاولتي هذه التي نفذتها لمصلحة الوطن، وليس لمصلحتي أنا أو مصلحة المؤسسة العسكرية».
ما جرى في ذلك اليوم كان نذيرًا لما سيأتي بعد أكثر من قرابة العقد ونصف العقد من الزمن.
في 13 فبراير 1974، فجر أحدهم صرخة في محطة للمحروقات في أديس أبابا احتجاجًا على ارتفاع أسعار البنزين، وفي التقارير اللاحقة ذُكِر أنّه كان سائق سيارة أجرة، بلغ به الغضب والسقم حدًّا دفعه للخروج من سيارته وتحريض المارة والصراخ بأعلى صوته، فسرعان ما جذب جمعًا من الناس، ما برح حتى ازداد عددًا وارتجالًا في الشعارات والهتافات، فما بدأ ببضعة عشرات، بلغ المئات والألوف، يسيرون في الشوارع ويهتفون: «فليسقط غلاء البنزين!»، وعندما وصل الحشد إلى مدخل الجامعة، تضخم عدد المتظاهرين بانضمام الطلبة إليهم، وبعد أنْ يأس رجال الشرطة المحيطون بمباني الجامعة من تفريق المظاهرة بالطلقات التحذيرية في الهواء واستخدام الهراوات، ولأنّ تدهور الأوضاع وصل إلى حدٍّ صعّب حياة رجال الشرطة أنفسهم، انضموا إلى المظاهرة.
وبعد ثلاثة أيام انطلقت تظاهرة ضخمة قوامها مئة ألف متظاهر دعمًا لإضرابٍ نظّمه سائقو سيارات الأجرة، لوى ذراع الحكومة وأجبرها على التراجع عن أحدِ قرارتها لأول مرة في خلال نصف قرن من الحكم، فسحب قرار رفع سعر البنزين الذي أثار موجة الاستياء بدايةً، ولكنّ التموّج والاضطراب ظلّ طيفًا يتخلل كل شيءٍ في أديس أبابا، والكل بات يدرك أنّ قطيعةً قد وقعت مع الوضع القائم، والهدوء السابق لن يعود ولن ترأب وعود النجاشي ما تصدّع.
خلال يومين فقط، أعلن المعلمّون إضرابًا اعتراضًا على محاولات الدفع بتعديلات على القطاع التربوي تضرب في مصالحهم مباشرة، وفي 20 من فبراير نزل العمال والطلبة في الشوارع يهتفون، وإن كانت العفويّة الأولى قد هتفت لإسقاط الغلاء، فالتخطيط اللاحق هتف لإسقاط الحكومة، كهزّةٍ أولى من زلالٍ سَيدُكُّ بنظام الحكم وأركانه الاجتماعية، ونحن هنا نتحدث عن نظامٍ ظلت تجارة الرقيق قائمةً في مناطقه النائية وظلّ نظامه الإقطاعي المتخلف يملك مساحاتٍ شاسعة تفوق مِلكية الإقطاعيّ الواحد في بعض الحالات مساحة جزيرةٍ من جزر في الكاريبي، نظامٌ قام حتّى وقتها على العقيدة التفويض الإلهي للملك ترعرع عليها الناس جيلًا بعد جيل، يغرسها الآباء في الأبناء انتظارًا لكنز الرخاء الموعود.
لكن تراكم الوعود دون تغيّر الواقع أفرغ تلك العقيدة من أي قوّةٍ تشغيلية، فكان من قبّلوا يومًا الأرض التي وطأها رجل الله المختار وانحنوا عند مروره بهم خضوعًا، وتلك العيون التي كانت تترقرق بالدموع لكلمات البطل المنفي المُنتظر، لمعت اليوم ببريق مختلف وهي تعكس ألسنة نيرانٍ تلتهم صورة المعبود الذي هوى، وما بقي من الصورة من رماد بات رمزًا للشر والفساد والزيف الثيوقراطي المطلق. والأمر لا يختزل في صرخةٍ أشعلت نارًا أنارت روح الإثيوبيين، فمن السهل القول إنّ «الوعي» أدرك واقعه، لكن كيف لكل واحدٍ أن يدرك الحال لوحده، ويكشف لوحده وسط أدغال شائكةٍ متشابكة من الأهواء الشخصية والتحيّزات الجماعية والتضليل الإعلامي؟
ذات يوم سأل أحد الصحفيين الأجانب حارسًا خدم في قصر هيلا سيلاسي لقرابة الثلاثين سنة: «من الذي دفعك إلى الثورة ضد سيلاسي بعد كنت مؤمنًا به؟» فكان رده: «كل الناس».
مظاهرة من الإضراب العام في إثيوبيا (1974).
يقظة الجماهير الجماعية جعلت مسألة تحديد الهوية الطبقية أمرًا ممكنًا، فإدراك الفلّاحين تفعّل نتيجة التناقضات المستفحلة دونما علاج نتيجة مع ما تنمّيه الطبقة الحاكمة في وعي الناس من فصلٍ بين الفاعِل وفعلِه، بين القامِع وقمعِه، والمستغِل واستغلاله، تضاف إليها معرفة الناس بتجارب الشعوب الأخرى التي فتحت أفقًا لعالمٍ مختلف، فأدركوا أنّ ما يعانون منه ليس فقرًا بل إفقارًا، وليس جوعًا نتيجة قحطٍ طبيعيٍّ في الأرض، بل تجويعًا من مُلّاكٍ قحّطوا أراضيهم بشفط المحاصيل للبيع في الأسواق، وحجةُ استغفالِ البطانةِ لِنسل الأنبياء إن نجحت لسنةٍ أو عشر سنوات فلم تعد نافعةً بعد تلاحق الأزمات والصدمات والقمع، وتراكم الخبرات هذا انبثق في لحظةِ إدراكٍ جماعيٍّ، من سائقي سيارات الأجر وعمال الطرق وحتى موظفي التلغراف وموظّفي المكاتب، وبائعي الصحف، والعاطلين عن العمل، وصار من كان الأبَ المقدّس هو المتّهم رقم واحد.
كان عددٌ من الطلّاب يردد هتافات «يسقط النجاشي!» على مدخل الجامعة في السابق، فتقابلها بقية الشرائح الاجتماعية بالاستنكار والاستياء، لكنّ هذا الهتاف، في فبراير 1974، أضحى يدوّي في كل مكان، ووجدَ أتباعُ هيلا سيلاسي أنفسهم أقليةً صامتةً مهزومة. هنا بدأت نهاية الملك.
الضوء الأحمر للثورة
في تمام الثامنة من صباح 12 سبتمبر 1974، انطلقت سيارة فولكسفاغن بيضاء صغيرة عبر حدائق واسعة من أشجار الكافور العالية، والأزهار الضخمة النادرة، وتوقّفت للحظاتٍ أمامَ المدخل الرئيس للقصر الملكي. قلائل جدًا من كانوا على علمٍ بوجهةٍ تلك السيارة ونيّة من أقلّتهم لاعتقال هيلا سيلاسي الأول والأخير، ملك الملوك، أسد يهوذا، صفيُّ الله، سليلُ ملكةِ سبأ والملك سليمان، وغيرها من الألقاب التي تلبّسها.
رسمت الخطة بسريةٍ تامة، لدرجةٍ أنّ الجنود الثلاثة المكلفين بتنفيذ العملية لم يُعلَمَوا بِهدفها إلّا قبل دقائق معدودة من وصولهم إلى القصر، وإن كان اتجاه الرياح واضحًا للجميع، فقد جاء قرار الاعتقال بطلب قدّمه ملازمٌ مجهولٌ لكبارِ الضبّاط من جنيرالات وكولونيلات، حذّرهم فيه من الانتفاضة الجماهيرية في الشوارع وما تحمله طيّاتها من انفجارٍ ثوريٍّ محدق قد يطيح بالجميع.
لم يصرّح رسميًّا في اللاحق عن سبب استعمال تلك السيارة الصغيرة، لكنّ ما شاع بالنقل خارج القنوات الرسمية هو أنّ السبب إمّا كان نتيجة ما تتصف به الحركات الثورية من ارتجالية، عدم توفّر سيارةٍ أخرى سيارةً أخرى أو توجّس الضبّاط مما قد يفتعل ردّة فعلٍ غاضبة من الناس، أو أنّ عبرةً ما ضيّعها التاريخ أراد إيصالها صغار الضبّاط لملك الملوك بدخول حصنه عنوةً بِسيارةٍ رديئةٍ كهذه، ومهما كان الدافع وراء هذا التفصيل البسيط لهذه العملية، فالبئر الذي ألقي فيه سرّها سرعان ما شرب منه الناس.
اعتقال هيلا سيلاسي بالفولكسفاغن
بينما كانت السيارة تنعطف بأقصى سرعتها نحو شارعٍ قريبٍ من السكة الحديد، تنبّه أحدُهم للملك، بجسده الضئيل المنكمش، فها هو آخر أبناء سلالةٍ إقطاعيةٍ حكمت إثيوبيا لمدة ثلاثة قرون، يظهر عليه الانهيار، لربما كان السبب هو سرعة السير والانعطاف، أو خوفٌ أخذ عقله، ولربما صدّق لحظتها الكذبة التي باعها على الناس وكان ينتظر تدّخلًا إلاهيًّا سيدفع الجماهير التي خرجت سخطًا عليه لأن تنقلب بمعجزةٍ وتنقذ أباها الروحي وقائدها الخالد، والأرجح أنّ حاله كانت أقرب لـ «كلّ ما سبق».
صرخَ الرجل الذي تنبّه إليه، ولربما لم يكن أولَ من تنبّه إليه لكنّه بالتأكيد أول من أدرك ما رآه أمامه: «إنّه النجاشي! لقد قبضوا عليه!»، وما تلا ذلك من هتافٍ لم يجرؤ على الهمس به قبل ذلك حتى كبار ضبّاط القوّات المسلحة: «وحش! قاتل! سارق!».
آلافٌ تهتف في وجهه بكلماتٍ لم يعهدها من أفواهٍ لم تنطق باسمه إلّا حمدًا وتجليلًا، وملامح ساخطة لوجوهٍ كانت يومًا تأمل لو تمتّع ناظرها بلمح طيفه العابر في موكبٍ ذات مساء، ويا لها من ليلةٍ مباركة لو توقّفت السيارة وتسنى لهم تقديم مطالبهم والتماساتهم وتظلماتهم لملكهم شخصيًّا، وكان جل طموح الواحد منهم أن يرى ملك الملوك واقفًا بصدره الذي يصدّ الريح على الممر الواسع أمام فندق «هيلتون أديس أبابا» لتحلّ عليهم بركات يديه المقدّستين ببضعة دراهم بعد عرس يوم الأحد المقدّس.
في أيامٍ مضت، كان النجاشي يستقبلُ رعيّته في قصره ليحلّ النزاع بينهم مرةً كلّ أسبوعين، فيتنافس الناس على موطئ قدمٍ – إلّا الأرستقراطية، فلهم مقاعدُ مجهّزة – ليشاهدوه يحلّ النزاع بينَ رعيّته ويفصل في الدعاوى الشخصية بين غنيٍّ وفقيرٍ تارة، وبين فقيريْن تارةً أخرى، ويعلن الحكم فيكون حكمًا نهائيًّا لا رجعة فيه، وأمّا الدعاوى بين الأغنياء، فلها جلساتها الخاصة ودوائرها المغلقة مخصصةٌ لرجالات البلاط، ويتخالط فيها طِيبُ مختلف العطور، ويُستبدل فيها الفصلُ النهائيُّ العلني بمجاملاتٍ سمجةٍ وابتساماتٍ لزجة، وكان الحضور صغيرًا إلّا في مناسبات «توسّل أنفاس النجاشي» التي اجتذبت جمهورًا كبيرًا من البرجوازية، وفيها تحسم القضايا التي ترفعها المحكمة العليا لصاحب الجلالة.
تابعت سيارة الفولكسفاغن سيرها وكأنها تسبح في تيار الجماهير الهاتفة: «لص! مجرم! طاغوت!»، والأيدي التي كانت تتوسله صارت تتدافع لتقذف السيارة بالحجارة، وسيلاسي مقبوضُ الفكّ وممسوك النفس، ويظهر عليه البرود كنسيم الصباح، بلا توتّرٍ ظاهر، ولعلّه شرد أمام هذا الواقع المستحيل، فخلال أعوامه الثمانين لم يخطر له أنّه سيخرج إلى الناس في موكبٍ كهذا والناس تقذفه بأقذر الشتائم والألفاظ.
وصلت السيارة إلى ثكنةٍ عسكرية، حيث أودع هيلا سيلاسي في غرفة واسعة، وخلال عشر دقائق من وصوله دخل غرفته ضابطٌ شاب أخذ يقرأ له نص وثيقة تعلن عزله عن الحكم، وحالما انتهى الضابط من القراءة انفجر سيلاسي من الضحك وقال: «عندما أعود إلى القصر، سأمحوكم جميعًا!».
ألغيَ دستور 1955، وَحُل البرلمان، برلمانُ النبلاء والإقطاع، وألغيت المَلَكية، ما مهّد الطريق لِإنشاء المجلس العسكري التنفيذي المؤقت بعد بثلاثة أيام، على أن يحل المجلس محل لجنة التنسيق الانتقالية، ويمارس صلاحيته كأعلى سلطة في الدولة.
برغم أن كانت القوى الرئيسة المحركة للثورة كانت: البروليتاريا، والفلاحين الفقراء المسحوقين، والجناح الأكثر تقدمًا من البورجوازية الصغيرة، وبشكل خاص الطلاب والمثقفين الثوريين ثم صغار الضباط والجنود، فقد كانت قوى الثورة المضادة تنظّم صفوفها من خلال الانطلاقة الثورية الديناميكية التي فاجأت العالم وهو يرى ما ترسخ على مدى قرون ينهار بكل بساطة خلال بضع سنوات.
تألفت قوى الثورة المضادة من نبلاء الإقطاع، والبرجوازية التابعة للإمبريالية الأمريكية، ومنذ اللحظة الأولى للثورة انضمت القوى الرجعية العربية إلى القوى المضادة للثورة في هجومها الشرس واعتداءاتها المستمرة، فَأعلن الأمير فهد بن عبد العزيز، الرجل الثاني في السعودية على الصعيد الرسمي والرجل الأول على صعيد القوة الفعلية، بصراحةٍ أن الثورة يجب القضاء عليها واستئصالها، وناشد كافة القوى الرجعية اليمينية الإقليمية لتدارك الموقف ومنع إثيوبيا من أن تمسي جمهوريةً ثورية مستقلة، ما يؤدي لجعل البحر الأحمر «بحيرة غير عربية»، وبالطبع، فالمقصود بمسمّى «البحيرة العربية» هو حكم الرجعية العربية المنتجة للبترو-دولار، وعبّر الأمير عن خوفه من أنّ الجمهورية الوليدة ستكون عونًا لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
لهذا لعبت بعض القوى الإقليمية على أن يدب الخلاف بشكل تلقائي بين القوى الاجتماعية التي كانت قد شجعت أو اضطرت إلى تقبل مسألة خلع ملك الملوك من عرشه، فتحطم التوافق وبدأ الخلاف يأخذ طابعًا دراماتيكيًّا وعنيفًا حتى بداخل المؤسسة العسكرية، وكانت الطموحات الشخصية في معظم الحالات من الأسباب المباشرة التي جعلت بعض الكولونيلات والجنرالات والضباط يسيرون في ركاب تيار معين، أو ينضمون إلى إحدى المجموعات المتعددة التي بدأت تنشط سياسيًّا داخل تلك المؤسسة، وإنه لمن المنطقي أن يعمل الجيش على استبدال القانون القديم «أنا أطيع» بقانون جديد هو : «أنا أأمر» ، في وقت كانت الدولة فيه، وبكل مراتبها، تنهار وتتفكك.
كان الطموح الطبقي يكمن خلف تشجيع الطموح الشخصي ويتطابق معه. فمع أنّ أمان ميكائيل عاندوم رئيس المجلس الإداري العسكري المؤقت الذي أمسك بزمام السلطة حينها لم يرغب في أن يصبح الجنرال البونابرتي للثورة، لكنه شعر بكراهية شديدة تجاه فكرة نزع المِلكيات الخاصة من أراضٍ ومصانع ورساميل كبرى، وكان يشعر بلسعةٍ في دمه ورعبٍ في عروقه عند سماعه ضباط الصف يتحدثون عن ماركس ولينين وتروتسكي وغيفارا، ذلك بسبب أفكاره التي تشربها في الولايات المتحدة الأمريكية عن الوباء المخيف الذي بدأ يتسرب من القرن التاسع عشر، هو القضاء على حق الإنسان المقدس في تملك ثروات أنتجتها أيد أخرى وتعذبت في سبيلها نفوس بشرية عدة.
تم الانقلاب والتخلص من عاندوم، ثم أمسك أتنافو أباته برئاسة المجلس العسكري، ثم انتقل الحكم إلى منغستو هيلا مريام الذي اغتال اباته. ومن أجل الحصول على الدعم الجماهيري في البداية، اضطر منغستو إلى إجراء قانون الإصلاح الزراعي وتأميم الصناعة (كرشوة اجتماعية)، وأعلن نفسه «ماركسيًّا لينينيًّا» (ربما من دون قراءة ولا كلمة واحدة لماركس أو لينين) وأنشأ نظامًا ديكتاتوريًّا يقوم على الحزب الواحد (تحالف قادة الأحزاب اليسارية مع الفئات الراديكالية الدنيا والمتوسطة من ضباط الجيش) تحت سيطرة الفرد الواحد، وحكم على ظهور الطبقة العاملة من خلال سحق وحلِّ النقابات العمالية المستقلة وكل المؤسسات الديمقراطية الشعبية الوليدة للعمال والفلاحين. . .وتصفية الأقليات القومية الأخرى.
في وقتها انضمّت أغلب النخب البرجوازية الصغيرة من المثقفين والنخب المِهنية التي كانت تتحدث بلسان الثورة إلى حزب منغستو واستغلوا مواقعهم الجديدة داخل الحزب على حساب مصالح العمال والفلاحين، فالطمع وجشع غلب على أحزاب البرجوازية الصغيرة ودفع «الحركة الاشتراكية لعموم إثيوبيا» للتعاون مع نظام منغستو في قمع رفاق الأمس من «حزب الشعلة الثورية»، وذلك بالمشاركة في عمليات التصفية الجسدية والاعتقال الجماعي، ولكن منغستو انقلب وشنّ عليهم حملة دموية عام 1978. . .وحتى المعارضة المسلحة لم تصل إستراتيجيها للأسف إلى المستوى المطلوب.
بسبب الشوفينية التي اتصف بها نضالهم وضيق أفق القيادات، فأيُّ شخصٍ عارض نظام اللجنة التنسيقية للقوات المسلحة والشرطة والجيش (الديرغ) كان عرضةً للاعتقال أو الاغتيال، ولم يبقى من المناضلين الحقيقيين إلّا أقلية صغيرة تجاهلها المؤرخون اليساريون، بسبب ضغط المعسكر الشرقي أثناء الحرب الباردة من أجل الترويج لسردية أنّ الانقلاب العسكري تمّ بتوافق كافة التيارات الشيوعية، والواقع خلاف ذلك، فرغم الدور الحاسم للماركسيين الإثيوبيين من المدنيين في إسقاط الحكم الملكي الفاشي، فقد قام نظام الديرغ على اختطاف الثورة بتصفية من أنجحها من مدنيين وعسكريين (صغار الضباط والجنود) حتى استفرد منغستو بقيادة الجيش والحزب الحاكم.
لا أحد فينا اليوم يغفل أنّ التاريخ ليس خطًّا مستقيمًا للتقدم نحو مثلٍ عليا، وأنّ الثورات تجهض وتوأد ويتاجر بها، لكنّ حقيقة التدهور اللاحق لسقوط هيلا سيلاسي لا يجب أن تعمي أبصارنا عن خرافة المجد تحت حكمه، أو الوقوع في أحلام العودة إلى عصرِ الأب الرحيم، المستبد العادل النبيل الحامل لقناعات «البان أفريكانزم» كما يروج القوميون والأفروسنترك، فقد كان جبانًا – كما وصفه ماركوس غارفي في وقتٍ مبكّرٍ جدًّا –هرب من الغزو الإيطالي في 1935، جبانٌ حافظ على ممارسات العبودية في عهده، جبانٌ حفظ سلطته بآليات القمع والاضطهاد والتودد للغرب أكثر من الأفارقة، وبالرغم من جل الجهود الرامية لصبغ سيلاسي بصبغة آخر الأنبياء، فالشعب الإثيوبي يدرك الهوة الواسعة بين صورة هيلا سيلاسي الذائعة الأسطورية وبين حقيقة واقع عهده الاستبدادي.
قراءات
Zewde, Bahru, A History of Modern Ethiopia, 1855–1991.
Markakis and Ayele, Class and Revolution in Ethiopia.
Donham, Donald L, Marxist Modern : An Ethnographic History of the Ethiopian Revolution.
Zewde, Bahru, Pioneers Of Change In Ethiopia: The Reformist Intellectuals of the Early Twentieth Century.
Tareke, Gebru, The Ethiopian Revolution: War in the Horn of Africa.
Zewde, Bahru, The Quest for Socialist Utopia: The Ethiopian Student Movement, c. 1960-1974.
Baisvik, Randi Rønning, Haile Selassie’s students: The intellectual and social background to revolution, 1952-1977