مقدمة التحرير: الانتفاضة الزاباتية في سياقها التاريخي

في العاشر من سبتمبر/أيلول 1910 تجمعت في ميدان الدستور في مدينة مكسيكو عدد من الوفود الدبلوماسية ورجال الأعمال من أوروبا والأمريكيتين احتفالًا بمئوية استقلال المكسيك من إسبانيا، لتستعرض فيها العمق الحضاري للمكسيك ومضاهاته للحضارات الأوروبية التي استعمرتها سابقًا، وتبين تقدّمها الحداثي وازدهارها الاقتصادي بعد أكثر من 30 عامًا من السلام تحت حكم بورفيريو دياز، حقبةٌ سمّيت تيمنًا به «حقبة البورفيرياتو».

ولكن الحفل كان ينقصه شيءٌ واحد: السواد الأعظم من فقراء المكسيك من فلّاحين وسكّان أصليين الذين سعى نظام البورفيرياتو لإخفائهم من العاصمة وإبعادهم عنها، ولكن هذا الإخفاء لم يستمر طويلًا، فقد دخلت هذه الجموع مسيّرةً للتاريخ بعد أقل من ثلاثة أشهر في ثورةٍ أطاحت بالنظام وشقّت طريقًا آخرَ لمستقبل لبلاد.

كان من القيادات الفلّاحية لهذه الثورة رجلٌ اسمه إيميليانو زاباتا، قاد انتفاضةً لأجل حقوق الفلّاحين من ولاية موريلوس انتهت باغتياله قبل اختتام الثورة ووضع دستورها، ولكنّ روح الزاباتيستا (أي: الزاباتية) ظلت حاضرةً تلهم مختلف حركات اليسار وحركات العدالة الاجتماعية في المكسيك وأمريكا اللاتينية خارجهما، ولعلّ أشهرها اليوم ما يدعى جيش زاباتيستا للتحرير الوطني.

الاستعمار بعد الاستعمار

ابتدأت حرب الاستقلال عن إسبانيا في 1810 بـ «صرخة إيداغلو»، الأب الكاثوليكي الذي دعا للاستقلال وقاد جيشًا من الفلّاحين الجائعين من رجال ونساء وأطفال وشيوخ في انتفاضة منيت بالهزيمة وبقطع رقبة إيداغلو نفسه ولكن تمخض عنها استقلال البلاد في آخر المطاف، ولكن أراضي ما يسمّى اليوم بالمكسيك قاست بعد إعلان الاستقلال عقودًا من الحرب، بعضها داخليٌّ بين الحزب الليبرالي والحزب المحافظ فيما عرف بحرب الإصلاح، وبعضها غزوٌ خارجيٌّ، من فرنسا تارةً بطلبٍ من المحافظين، وتارةً أخرى من الولايات المتحدة التي تدخلت دعمًا لاستقلال تكساس للحفاظ على العبودية فيها بعد أن ألغتها الجمهورية المكسيكية الوليدة.

انتهت تلك الحروب بانتصار الحزب الليبرالي بقيادة القيادي من أصولٍ هندية بينيتو خواريز في 1867 ولكن لم يتحقق الاستقرار السياسي حتى انقلاب الجنيرال الليبرالي بورفيريو دياز على قادتِه في 1876 بذريعة مبدأ رفض منح ولاية ثانية للرؤساء، ليستبدّ بالحكم لما يتجاوز الثلاثين عامًا ويتحكم بنتائج الانتخابات فيها جميعًا

ومثله مثل بقية نُخب الاستقلال – ذوي الأصول الإسبانية – في أمريكا اللاتينية الذين استعانوا برمزيات إمبراطوريات الشعوب الأصلية ومقاتليها ضد الفتح الكولومبوسي لتدعيم الشرعية المحلية لمطامح الاستقلال، كما تشير المؤرخة ريبيكا إيرل، لم يكن لتوظيف الرمزيات التاريخية لإمبراطورية الأزتيك ليمنع نظام البورفيرياتو من تصوير نفسه كاستمرارٍ للاستعمار الأوروبي ولم يثنيه عن ازدراء وتهميش الشعوب الأصلية الحاضرة التي شكَّلت أغلبية الطبقات الفلّاحية والفقيرة فيها.

تصوّر بورفيريو دياز حكمه بالحكم الهادف لتحديث المكسيك و«التقدم» به، وأحاط نفسه بزمرة سمّيت بـ «العلماء» (Científicos) بدعوى إقامتهم الحكم والإدارة على أسسٍ علمية، وكان النظام يتبختر بالانتعاش الاقتصادي الذي مرت به البلاد والنموّ الذي استحال تحقيقه أثناء سنين الحرب والغزو، من توسعة شبكة السكك الحديدية وإضاءة شورع المدن الرئيسة وتمديد نظام الصرف الصحي، ولكن المؤشرات الاقتصادية أخفت وراءها ما تخفيه اليوم: ارتفاع الأرقام شيء والواقع الاجتماعي وراء هذه الأرقام شيءٌ آخر.

فبالنسبة للنمو الاقتصادي كان على حساب المجتمعات الفلّاحية من الشعوب الأصلية التي استحوذ على أراضيها كِبار المُلّاك (hacendados) وحوّلوها من الزراعة الكفافية التي يعيش عليها الناس إلى محاصيل تجارية تتضمن عملية إنتاجها تجويعهم وملأ جيوب كبار الملّاك، وأما السكك الحديدية فكانت لتصدير الثروات المعدنية بِغاية إرباح المستثمرين الأجانب، وأما المقاييس الاجتماعية العامة مثل محو الأمية فلم يحقق فيها إلّا تغيّر بسيط، بارتفاع معدل الإلمام بالقراءة والكتاب من 14.4% إلى 19.6% ما بين 1895 و1910، وتقاس على ذلك بقية المؤشرات الاجتماعية.

في السنين السابقة لمئوية الاستقلال وأثناء التخطيط لها، عمل النظام على رفع مستوى النظافة العامة في العاصمة، وذلك بزجّ الفقراء في السجون بمعدّل 10 آلاف شخص سنويًّا لكيلا يظهر في الشوارع سوى النخب الأنيقة، وسعى لفرض الألبسة الأوروبية «الحديثة» على النازحين من الريف، ولتبيان الامتداد التاريخيّ الحضاري للمكسيك للزوار من أوروبا وأمريكا الشمالية أعيد بناء أهرام تيوتيهواكان، لما تمثّله من حضارةٍ قديمة قدرت على تشييد بناياتٍ هندسية معقدة، وهُجِّر الأهالي الأصليّون من حولها – الامتداد الفعلي لتلك الحضارة – لما يمثّلونه من «انحطاط عرقي» و«عائق أمام تقدم الحضارة».

لم يكن الحفل مجرد استعراضٍ ثقافيٍّ أمام المستعمرين السابقين ولم تقف أغراضه عند إبهارهم بالعمق الحضاري المكسيكي أو ادعاء المساواة بين المكسيك وبينهم، بل استهدف في الجزء الأكبر منه تقديم صورة عن مكسيك مستقرة بغرض اجتذاب المزيد من رؤوس الأموال والاستثمار الأجنبي، وقصد لمزاعم الامتداد التاريخي والتحضّر على النمط الأوروبي أن تكون دلالةً على هذ الاستقرار، بل واعتقدَ أنها كذلك.

واجه نظام البورفيرياتو عدة أزماتٍ يوم الاحتفال، فمن جهة لم يكن في السكّان الهنود الكثير من المتحمّسين لأن يستخدموا كتماثيل تستعرض للأوروبيين كدليلٍ على ماضٍ جليل، ومن جهة أخرى أراد أن يجذب جمهورًا كبيرًا من الناس لتبيان شعبية النظام وأن يظهر هؤلاء الناس بمظهر يناقض واقع تهميشهم وفوضويّة عيشهم تحت نظام الاستغلال الاستعماري المستمر، ولهذا امتزج الاحتفال، كما يشير مايكل غونزاليس، بقمع الجمهور الذي حاول النظام اجتذابه.

1910: أول ثورة اجتماعية للقرن العشرين

لم يلغي نظام البورفيرياتو دستور النظام الذي انقلب عليه بل حاول الحفاظ على شكليّاته، فكانت الانتخابات تجري دوريًّا وتضبطها الزعامات التابعة للرئيس لضمان نتيجة واحدة مهما تعدد المرشحون، وفي المقابل لم تغب عن المكسيك الرياح الثورية التي جابت العالم في بداية القرن العشرين، فقد ازدهرت الصحافة الثورية، وخصوصًا الأناركية منها بريادةِ الإخوة فلوريس ماغون، والحركات العمّالية في المناجم والحركات الفلّاحية في الريف، بل وحتى الطبقة الوسطى وبعض الشرائح الغنية كانت تدعو لالتزام بالدستور ورفض انتخاب بورفيريو دياز مرةً أخرى (وأخرى، وأخرى).

بعد هزيمة المرشح الرئاسي الثري فرانسيسكو ماديرو المعارض لدياز في انتخاباتٍ ساد فيها الغش المعتاد، توقّع مناصروه – وأغلبهم من الطبقات الوسطى والثرية – أنّه سيعود أدراجه إلى أراضيه الواسعة في الشمال المكسيكي، فلا أحد منهم كان مستعدًا لخوض مخاطر العمل الثوري، ما عدى ماديرو نفسه.

دعا ماديرو للثورة على النظام، فنهض إلى جانبه جيش التحرير الجنوبي بقيادة إيميليانو زاباتا في موريلوس، والشعبة الشمالية بزعامة القائد الشعبي بانشو فيا في تشيواوا، وتمكّنوا من هزيمة الجيش الفيدرالي، ما دفع بورفيريو دياز للاستقالة والرحيل إلى منفاه في فرنسا حيث توفي، وترشح فرانسيسكو ليون دي لا بارا رئيسًا انتقاليًّا ودعا القوى غير النظامية لإيقاف التعبئة وتعهد بإنجاز الإصلاحات التي تعهد بها سابقه، ولكن القوى الفلّاحية في ولاية موريلوس رفضت أوامر إيقاف التعبئة، ما أدى إلى هجمةٍ أخرى من الجيش فشلت في إيقاف النشاط الثوري ونجحت في حرق وتدمير قرى الفلّاحين هناك، ما جعل الرئيس الانتقالي يبدو كامتدادٍ للرئيس السابق.

أدى تدافع الأحداث إلى استقالة دي لا بارا في 1911، فأمسك ماديرو زمام الحكم، وسرعان ما انهار تحالفه مع القيادات الفلّاحية والعمّالية بسبب تردده عن إقامة أي إصلاحات جذرية ورفض الطبقات الثرية الحاكمة التعاون مع إصلاحاته المتواضعة، فأدان الزاباتبيّون ثورة ماديرو وأعلن زاباتا خطّةً لإزاحته وإجراءات إصلاحات زراعية عامة، ولكن أحد جنيرالات ماديرو الذي كلّفه بإخماد الانتفاضة في العاصمة استبق الأحداث وانقلب عليه في 1913 واغتاله بدعمٍ من الولايات المتحدة وألمانيا، وهو الآخر لم يدم حكمه أكثر من السنة ونصف السنة حتى عزله عن الحكم قائد الجيش الدستوري فينوستيانو كارانزا في صيف 1914 وعمل على صياغة الدستور المكسيكي لعام 1917 قبل أن يُغتال هو الآخر في 1920.

أدت العملية الثورية لدكّ كافة أركان نظام البورفيرياتو، ولم تقف عند إحداث إصلاحات سياسية بل استهدفت القوى الفلّاحية والعمّالية بوضوح إشاعة الثروة العامة واسترداد الأراضي المنهوبة من الطبقة البرجوازية الناشئة، وجرت العديد من التجارب والمبادرات الثورية، بعضها أجري «من الأعلى» مثل ما قامت به القيادات الثورية التقدمية في ولاية يوكاتان من إصلاحات في نظام الزواج الكاثوليكي وإرساءٍ لقواعد الزواج بـ «الحب الحر» وتسهيل الطلاق بنتائج تخالط فيها الزين بالشين، وألغيت حالما أسقطت القيادات لأن جذورها كانت ضحلة، وبعضها الآخر، مثل الانتفاضة الزاباتية، كان لها الأثر الأبقى رغم أنّ زاباتا نفسه – الذي اغتيل قبل اختتام الحقبة الثورية واستقرار الأوضاع في المكسيك – لم يحمل أيديولوجيةً صريحة ما عدى إخلاصه التام دون تنازل أو تراجع لقضيّة فلّاحي جنوب المكسيك ومشاعاتهم المنهوبة.

الحركة الزاباتية الجديدة

انطلقت الحركة الزاباتية الجديدة في 1994 ردًّا على مساعي السلطات المكسيكية تفكيك الضمانات التي وفرّها دستور الثورة للجماعات الفلّاحية من منع لبيع مشاعات وسير السلطات في طريق الخصخصة وفتح الحدود لرؤوس الأموال الأجنبية بعد ضغط الولايات المتحدة على دول أمريكا اللاتينية لترك نظام التصنيع لاستبدال الواردات وتبنّي «الإصلاحات النيوليبرالية» بأن رفعت أسعار الفائدة على الديون، لتعود المكسيك إلى الحال التي كانت عليها في حقبة البورفيرياتو التي ظلّت حاضرةً في الذاكرة، ولم تكن المرجعية التاريخية وحدها هي الدليل، فتجارب بقية دول أمريكا اللاتينية مع هذه الإصلاحت وما تضمنته من قمعٍ وحشيٍّ وإفقار وتجويع للطبقات الشعبية كانت خير دليلٍ على الكارثة القادمة.

كان من الطبيعي أن يستلهم المنتفضون والمنتفضات في أرياف الجنوب المكسيكي من الحركة الزاباتيّة الأولى، إنما هذه المرة بأيديولوجية أوضح ومعاداةٍ صريحةٍ للرأسمالية كمنظومة، وبعد التمرّد الأول لجيش زاباتيستا للتحرير الوطني في مطلع 1994 ومواجهة السلطات له بالمجازر وخروج جماهيريّ متضامن معه ثنى السلطات عن مواصلة حملتها القمعية، أعلن جيش زاباتيستا وقف إطلاق نار مع الحكومة الفيدرالية دون نزع السلاح، وعمل على توسعة حاضنته الشعبية في ولاية تشياباس حتى بلغت اليوم ما يقدّر بحوالي 300,000 زاباتيٍّ وزاباتيّة في مئات القرى المحكومة ذاتيًّا.

لم تترك الحركة الزاباتية الجديدة الشاغل الأساسي للرجل الذي سمّيت تيمنًا به لكنها وسّعت أنشطتها للتعاون والتعاضد مع الحركات اليسارية وحركات الشعوب الأصلية الأخرى في أمريكا اللاتينية وخارجها، بأنشطة تضامنية ضد الحصار الأمريكي على كوبا، ولقاءاتٍ «مَجَرّية»، من باب الدعابة من جهة، والانفتاح على كل غريبٍ وإن لم يُعلم وجوده.

وفي مثل هذا اليوم، قبل 20 سنة، جال ممثلّو جيش زاباتيستا أرجاء البلاد ووجهتهم العاصمة المسكيكية للضغط على السلطات لوضع تعديلاتٍ دستورية تحمي حقوق الشعوب الهندية، فاستقبلها في ساحة الدستور قرابة 100 ألف مؤيد ومؤيدة، ولكن رغم هذه الانتصارات والدعم الواسع ما زال عناصر الجيش يلتزمون الأقنعة، فلأنهم فقراء ومهمّشون، كما قالت إحدى الزاباتيّات، «ما زلنا لا نثق بالسلطة».

Skip to content