مقدمة الهامش: نهاية الاستعمار القديم، وبداية الجديد

بدأ الحكم الاستعماري البلجيكي للكونغو عام 1880 في خضم تسابق القوى الاستعمارية الأوروبية على استعمار واستغلال أفريقيا ومواردها في النصف الثاني لذاك القرن. شرعت المملكة البلجيكية في رحلة استكشافية وجيزة بنفس ذريعة أشقّائها المستعمرين الأوروبيين: «إدخال الحضارة إلى أفريقيا». شاءت الصدف أن تجد الملكية البلجيكية حوضَ الكونغو المليء بالمعادن المكانَ الأنسب لإدخال الحضارة، كما وجدت في إقامة الشركات الاستعمارية لاستغلال هذه المعادن الطريقةَ الأنجع لفعل ذلك. وبذا، تأسس الحكم البلجيكي على الحوض لا بصفته مُستعمَرةً رسمية، بل كمُلكيةٍ شخصية للملك ليوبولد الثاني.

مع فرض سيطرة ليوبولد الثاني على البلاد وسكّانها كملكية له، لجأ الاستعمار البلجيكي لأبشع طرق الحكم الاستعماري. فعلى سبيل المثال، كان قطع الأيدي إحدى العقوبات الشائعة على تهمة حيازة «موارد الملك». لم تحد بلجيكا بذلك عن النموذج الاستعماري العام، حتى وإن كانت طبّقته ببشاعةٍ فاقت نظراءها الأوروبيين.

كانت سنين حكم الاستعمار الثمانين بمثابة إبادةٍ جماعية متواصلة قُتل فيها عشرة ملايين كونغولي—أي ما يعادل نصف سكّان البلاد—إما مباشرةً أو بواسطة العمل الاستعبادي حتى الموت. وقد كان هذا الأسلوب مزجًا مما فعله الاستعمار الفرنسي في جزيرة سان دومينغو (هاييتي بعد الثورة) في القرن الثامن عشر وما فعله لاحقًا لقتل الثورة التحرير الجزائرية.

كلما كبرت هذه الأرقام كلما أعمتنا عن حجم المأساة وشراسة الوحشية الاستعمارية لما تخفيه من الواقع اليومي المرّ الذي مرَّ به كلّ واحدٍ وَواحدةٍ من هؤلاء الملايين العشرة تحت نير الاستعمار، وتعمينا عن حقيقةِ أنّ كلّ واحدٍ وواحدةٍ منم لها حياتها وطموحها وآمالها وإحباطاتها الخاصة، لها محبّوها وكارِهوها، لها مجتمعٌ كرهته يومًا وأحبته يومًا آخر. سحقت وحشية الاستعمار وإباداته حياةَ ومستقبل وفرص أجيالٍ ولدت وأجيال لن تولد. 

وفي وجه هذه الوحشية وهذه الإبادة، ومثل هاييتي والجزائر وفيتنام وسائر البلدان المستعمَرة، لم يرضخ شعب الكونغو دون مقاومة. شهدت الكونغو عدّة انتفاضاتٍ وتمرّداتٍ عسكرية ضد المستعمر البلجيكي. تَوّجت هذه الحراكات الحركةُ القومية الكونغولية في خمسينات القرن العشرين، وقد كان باتريس لومومبا أحد قياداتها المؤسسين.

وُلِدَ باتريس لومومبا عام 1925 لأسرةٍ تنتمي لشعب تيليلا الذي خاض عدة انتفاضات في العقود السابقة، وكان من القلة القليلة التي حظيت بالتعليم في ظل الحكم البلجيكي. بعد إنهائه التعليم الأولي، اشتغل في قطاع المناجم والتحق بعد فترة بمعهد متخصص في البريد والبرق والهاتف في ليوبولدفيل (كينشاسا بعد الاستقلال).

مواكبًا لروح العصر، أنشأ لومومبا مع عددٍ من رفاقه الحركة القومية الكونغولية عام 1958، وسرعان ما ازدادت عضويتها بعشرات الآلاف لعملها وتعبئتها لأجل الاستقلال. كسب لومومبا أثناء ذلك شعبية كبيرة. في العام الذي يليه، قاد لومومبا المظاهرات والمواجهات ضد الاستعمار البلجيكي أثناء ما سمي بانتفاضة ليوبولدفيل، مما أدى لاعتقاله من قِبل سلطة الاستعمار. استمر احتجازه ستّة أشهر قوبِلت باحتجاجاتٍ واسعة اختلطَ فيها مطلبُ الاستقلال بمطلب الإفراج عنه، ولم تنته الاحتجاجاتُ حتى قبلت بلجيكا الدخول في حوارٍ حول الاستقلال والإفراج عن لومومبا الذي سافرَ طيرانًا مباشرةً من السجن إلى بروكسل للدخول في المفاوضات، وذلك بعد ضغطٍ دولي من الاتحاد السوفييتي وبلدان العالم الثالث التي تحررت من الاستعمار.

بعد انتهاء مؤتمر الحوار البلجيكي-الكونغولي يوم 20 فبراير 1960، أعلن لومومبا انتصارَ الحركة القومية وقبول بلجيكا بكل مطالب الحركة: استقلالٌ مباشر دون فترة انتقالية والتخلي عن كل أشكال السيطرة على البلاد. لكن الاستعمار البلجيكي ما لبث حتى بين زيف وعودِه، وظلَّ يضع عقبةً تتلوها عقبة أمام الاستقلال الحقيقي للكونغو.

حُوِّلَت ملكية الشركات الاستعمارية إلى ملكيةٍ بلجيكية خالصة، وهذا ما مكن بلجيكا من السيطرة على مفاصل اقتصاد البلاد. وحين فاز حزب لومومبا في الانتخابات البرلمانية التي أجريت لتحديد من سيتسلّمُ قيادةَ البلاد بعد الاستقلال، حاولت السلطة الاستعمارية إخفاء النتائج، وهذا ما دفع الناس للخروج مرةً أخرى في احتجاجاتٍ واسعة. اضطر الاستعمار إثر ذلك للإعلان عن النتائج، وعقد آماله على ألا يتمكن لومومبا من تشكيل حكومة، ولكن العكس حصل.


جاءَ 30 يونيو 1960 يوم حفل إعلان الاستقلال الذي أقيم في قصر الحاكم العام البلجيكي. يرحّب بالحضور تمثالُ مُستعمِر البلاد والمسؤول الأول عن قتل نصف سكانه ليوبولد الثاني على ظهرِ جواد، وقد حمل التمثال رمزية واضحة تُجلّي رغبةُ الاستعمار باستمرار الأوضاع دون تغيير.

نصّ الجدول على البدء بخطبةٍ من الملك البلجيكي بودوان، تتلوها خطبةٌ من الرئيس الكونغولي ذو المنصب الشرفي جوزيف كازافوبو. بدأ الملك خطبته وعدد فيها فضائل الاستعمار على شعب الكونغو وعبقريّة جدّه «مُحرِّر أفريقيا» التي وجّهت البلاد نحو استقلاله، وحذّرهم من إجراء أي إصلاحاتٍ أو تغييرات «إن لم تكونوا واثقين أنها أفضل مما أسسناه».

تلاه الرئيس كازافوبو بخطبةٍ جوفاء لا يذكر أحدٌ محتواها. أثناء الخطبتين، كان لومومبا جالسًا على كرسيّه يمينَ المنبر يجري تعديلاتٍ على ورقةٍ نصّ يحملها. انتهى الرئيس من خطبته وجلَس، وفوجئ البلجيكيون بفقرة ثالثة: خطبةٌ لرئيس الوزراء الشاب باتريس لومومبا.

وقف لومومبا وشرع يخاطب الشعب الكونغولي مباشرةً: «يا رجال ونساء الكونغو، وكل من حارب وظفر بهذا الاستقلال». تبين لاحقًا أنه شطَبَ عبارة «سيّدي الملك، سعادة الحضور، آنساتي سادتي» من نص خطبته التي عُرِفت باسم خطبة «الدموع والنار والدم»، وبدلًا من ملاطفةِ الملك، تحدث عن العبودية والقمع الإهانة التي تعرض لها الشعب تحت نير الاستعمار، وعن ضرورةِ الاستقلال الاقتصادي كأساسٍ ضروري للاستقلال السياسي، وعن الوحدة والتضامن مع كل الشعوب المستعمَرة. ولم يقاطِع خطابه سوى تصفيقُ الحضور الكونغوليين والجماهير المستمعة في خارج.

أرادَ الملك بودوان مغادرةَ البلاد مباشرةً غضبًا من هذه «الإهانة»، لكن رئيس وزرائه البلجيكي أقنعه بالبقاء. في الحفل المغلق، حاول لومومبا إلقاء خطبةٍ تصالُحية، لكن من الجلي أنه لم يعد هنالك مجالٌ للمصالحة.

في اليوم التالي، كتب القائد البلجيكي للجيش الكونغولي إميل يانسون على يافطة في مخيم عسكري في العاصمة: «قبل الاستقلال = بعد الاستقلال»، معتقدًا أنه بذلك سيذكر الجنود بأن شيئًا لم يتغير وأنه لن يسمح بتطبيق وعود لومومبا بترقية ضبّاط الجيش الكونغوليين، لكن ذلك أشعل تمرّدًا في المخيم تلاهُ قيام لومومبا بفصلِ يانسون مباشرةً، مبيّنًا أنه ملتزمٌ بتطبيق وعوده


على إثر ذلك، بدأ البلجيكيون بحيك الدسائس للإطاحة بحكومة لومومبا، ولم يكن ذلك فقط خوفًا من تبعات قيام حكومةٍ مستقلّة حقيقية في البلاد بالقضاء على المصالح البلجيكية داخل الكونغو، بل من تبعات ذلك على سائر البلدان المستعمَرة أيضًا. شجّع البلجيكيون بدعمٍ أمريكي على قيام حركةٍ انفصالية في مقاطعة كاتانغا الجنوبية الغنية بالمعادن، وَرَفض عسكرُهُم الخروج من ثكناته بذريعة حماية المستوطنين البلجيكيين. وَصلت الدسائس السياسية أشدّها عندما أرسلت بروكسل تعليمات للرئيس كازافوبو بإعلان عزل رئيس الوزراء لومومبا، لكن البرلمان الكونغولي ساند رئيس الوزراء الذي أعلنَ هو بدوره إقالة كازافوبو.

طلبت الحكومة الكونغولية المساعدة من الأمم المتحدة، وكان لذلك أثرٌ عكسي. أقرَّت مؤسسات الأمم المتحدة بالبعثة الدبلوماسية للرئيس كازافوبو بدلًا من بعثة رئيس الوزراء ورفضت مطلب لومومبا بنزع سلاح الميليشيات الانفصالية في كاتانغا الجنوبية، مؤيِّدةً بذلك ضمنيًا طرفَ المستعمِر.

أما دول مجلس الأمن، فقد طالبت بخروج القوات البلجيكية من البلاد علنًا، وعملت اثنتان منهما—الولايات المتحدة وبريطانيا—سرًا على دعم بلجيكا. تشاركت الولايات المتحدة مع بلجيكا مصالح المعادن واليورانيوم المتوفرة في حوض الكونغو، وأي سيادةٍ فعلية لدى شعب البلاد على مواردها ستشكل، حسب وصف مدير قاعدة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي أيه) في ليوبولدفيل، «تهديدًا على مكانة الولايات المتحدة في أفريقيا».

طلبَ كازافوبو من رئيس أركان الجيش جوزيف ديزيريه موبوتو (موبوتو سيسي سيكو لاحقًا) اعتقال لومومبا، فوجّه لومومبا له طلبًا باعتقال كازافوبو، فاختار موبوتو الذي تلقى أجوره حتى تلك اللحظة من البلجيكيين اعتقالَ رئيس الوزراء الذي استعدى أولياء نعمته بدلًا من الرئيس الذي حاباهم، وَوُضِع لومومبا تحت الإقامة الجبرية تحت حراسة قوات حفظ السلام للأمم المتحدة.

لم يكن وضعه تحت الإقامة الجبرية مُرضيًا لا لبروكسل أو لواشنطن، فتصفيته السياسية لن تتحقق إلا بتصفيته الجسدية. تسابقت بروكسل تدعمها بريطانيا مع الاستخبارات الأمريكية على اغتيال رئيس الوزراء المعزول، إذ أتى أمرٌ من الرئيس الأمريكي آيزنهاور باغتياله من خلال وضعُ السّم في معجون أسنانه.

بعد تكرر الطلبات إلى الأمين العام للأمم المتحدة بمساعدته دون جدوى، أدركَ لومومبا أن الأمم المتحدة لن تتدخل لمساعدته، فَهَرب من إقامته الجبرية بِنِيّة الاتجاه إلى ستانليفيل، معقل مؤيّديه، لِيَنضم للاحتجاجات المطالِبة بعودة حكومته المُنتَخبة. سبقَ عملاء بروكسل عملاءَ أمريكا إليه، وأثناء هربه، اختطفه عساكر موبوتو وأخذوه إلى منطقة كاتانغا الواقعة تحت سيطرة الميليشيات الانفصالية المدعومة بلجيكيًّا.

هناك قامت العناصر الانفصالية بإشرافٍ بلجيكي بإعدامه بالرصاص مع اثنين من رفاقه، جوزيف أوكيتو وموريس مبولو، ومن ثمّ قطّعوا جثامينهم وحاولوا إذابتها بالأسيد. ولأن ما لديهم من أسيدٍ لم يكن كافيًا، قامت العناصر الانفصالية بإحراق بقايا الجثامين. أخذ أحد الضبّاط البلجيكيين الحاضرين ضرسًا من فَمِ لومومبا كتذكارٍ على ما فعله.

بعد اغتيالِ لومومبا بِبضعة أشهر، شنّت قوّات حفظ السلام للأمم المتحدة بتعاونٍ مع موبوتو هجمة على الجنوب الانفصالي وارتكبت المجازر بحق المدنيين وسلّمت البلاد بذلك لرئيس أركان الجيش الانقلابي.

دخلت الكونغو بعد ذلك في سلسلة من الانتفاضات الشعبية والحروب الداخلية أودت بحياة عشرات الألوف، واستمرت انتصارات موبوتو بتدريبٍ وتخطيطٍ من مستشاري الكيان الصهيوني، وبمساعدة من مرتزقة ألمانيين من الفرق الوقائية (شوتزشتافل) النازية التي وفرتهم له الـ سي آي أيه مع غيرهم من المرتزقة. استمر موبوتو في سدة الحكم حتى سقط بعد 32 عامًا من المجازر وعمليات التطهير العرقي التي كان هدفها حفظ المصالح البلجيكية والأمريكية في البلاد، وهرب إلى الرباط وتوفي هناك عام 1997.

وفي عام 2002، بعد أن ضمنت الطبقة الحاكمة البلجيكية سيطرتها على الموارد الكونغولية، وبعد أن أضافت مئة ألف جثة أخرى على جبلٍ من عشرة ملايين جثة ودمَّرت حياة ملايين آخرين من شعب الكونغو، قدَّمت الطبقة الحاكمة البلجيكية ربع اعتذار على اغتيالها واحدًا منهم، اعترفت فيه بمسؤوليتها الأخلاقية لـ “فشلها” فيمنع اغتياله، وأنشأت الحكومة البلجيكية مؤسسةً لـ “منع الصراعات” تيمنًا به.


يُقارَن موبوتو أحيانًا بالقائد العسكري الفاشي التشيلي أوغستو بينوشيه الذي انقلبَ يوم 11 سبتمبر 1973 بمخططٍ أمريكي على الرئيس الاشتراكي المُنتَخب سالفادور أييندي، وارتكب مجازرًا راح ضحيتها عشرات الألوف أثناء قمعه المقاومة. تلقى موبوتو مثل بينوشيه دعمًا من جيش الاحتلال الصهيوني حتى أصبح أول قادة أفريقيا (بعد السادات) تطبيعًا للعلاقات مع الكيان المحتل.

لكن هاكوبو آربينز الغواتيمالي قد يكون المثال الأقرب لنموذج لومومبا في أمريكا اللاتينية. فمثل لومومبا، لم يكن آربينز شيوعيًا. بل أنه كان يجد في الرئيس الأمريكي فرانكلن روسفلت قدوةً له لدرجة أنه أراد تكرارَ صفقته الجديدة في غواتيمالا، سوى أن محاولته لتأميم القطاع الزراعي المملوك أمريكيًا والالتزام بعدم الانحياز وعدم مخالفة الدستور الغواتيمالي بمنع الأحزاب التي لا ترضى بها الولايات المتحدة دفعت هذه الأخيرة لهندسة انقلابٍ عليه، أدى لإباداتٍ جماعية في الريف الغواتيمالي، وأودى بحياة مئات الألوف (أيضًا بتسليحٍ من الكيان الصهيوني) وحروبٍ داخلية بين المقاومة وأدوات المستعمِر آثارها مستمرة حتى يومنا هذا.

يعدّ هذا التدخّل الأمريكي ودعم للإبادات الجماعية والانقضاض على دول ما بعد الاستقلال وهدمها من «خصوصيات» الحرب الباردة. هذه الفترة التي طالت قرابة نصف القرن وشهدت رصف أسس النظام العالمي الذي نعيش فيه اليوم تُعدّ في الأيديولوجيا السائدة فترةً استثنائية لا ارتباط لها بالواقع الذي أسسته.

وفق هذا التصور، لا يجب أن ننظر للإبادات الجماعية والحروب التي شنّتها الولايات المتحدة بتحالفٍ مع مختلف الدول الأوروبية لإسقاط أنظمة الحكم المستقلة عنها أو الرافضة لسيطرتها بعد الحرب الباردة كما لو أنها استمرار للإبادات الجماعية والحروب التي شنّتها الولايات المتحدة بتحالفٍ مع مختلف الدول الأوروبية لإسقاط أنظمة الحكم المستقلة عنها أو الرافضة لسيطرتها أثناء الحرب الباردة، وذلك بالتأكيد ليس استمرارًا لإباداتها الجماعية وحروبها على من يرفض سيطرتها قبل الحرب الباردة.

لربما يكون سبب الإصرار على أنَّ رؤية هذا الاستمرار على حقيقته رؤيةٌ خاطئة هو مخالفتها للأيديولوجيا السائدة، أيديولوجيا الهزيمة والاستسلام للمنظومة المهيمِنة، استسلامٌ سيطر حتى على محاولاتنا الثورية وأحبطها، وعلى كامل مجال العمل السياسي، حتى أنَّ تغيّر الحكم بالثورة والثورة المضادة لا يغيّر توجّه سياسات الدولة. فأينما تُوَلّوا فَثَمّ وَجهُ أمريكا.


يذكّرُنا باتريس لومومبا بِزمنٍ تجاوزت فيه الطموح الشعبية السعي وراء إقرار المنظومة المهيمنة بحقِّنا في الحياة وإنسانيّتنا، زمنٌ سمته الأساسية الاستعداد الشعبي لمواجهة المنظومة المهيمِنة والتجرّؤ على محاولة شقّ طريقٍ مستقلة بدل الاكتفاء بمحاولة اللحاق بأوروبا.

هذه الطموح الشعبية هي ما أفرز شخصيّاتٍ مثل لومومبا كرَّست حياتها لهذا الهدف، فكما وصفه الثوري البوركينابي توماس سانكارا الذي اغتيلَ هو الآخر:

واجه لومومبا وضعًا صعبًا جدًا. ولد في ظروف لم يكن للأفارقة فيها أي حقوقٍ أبدًا، وعلّم نفسه وأصبح من القلة التي تعلمت القراءة وأدركت وضع شعبها ووضع أفريقيا. إن تقرأه رسالة لومومبا الأخيرة إلى زوجته، ستتساءل، كيف لهذا الرجل أن يصل لفهمٍ لهذا الواقع على هذا النحو إلا بالإحساس به في عمق كيانه وفؤاده؟

هذا الإحساس والفهم والالتزام هو ما جعل من لومومبا أحد أكبر رموز مشروع التحرر الوطني والوحدة الأفريقية وتضامُن شعوب العالم الثالث أو ما يسمّى بشعوب «القارّات الثلاث» (أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا)، منضمًا بذلك إلى مصافي رموزِ التحرر الوطني مثل كوامي نكروما وجمال عبد الناصر وتوماس سانكارا وهو تشي منه وتشي جيفارا وفيديل كاسترو.

وهذا الإحساس والفهم والالتزام هو نفسه ما يهزأ به الغارقون في أيديولوجيا الهزيمة المختبئة وراء قناع «الواقعية السياسية»، ويهزؤون بالاستلهام من تلك التجارب التي آلت بالفشل بصفتها محاولة محاكاة بائسة لماضٍ ولّى عليه الزمن.

«واقعيتهم» هذه لا تعني محاولة فهم المأزق الذي نعيشه وخطَّ طريقٍ واقعية للخروج منه، بل تحديدًا رفض محاولة فهم هذا الواقع، وعرقلة إمكانية تفسيره بإرجاعه إلى غيبيات مثل «تخلُّف العالم الثالث». «الواقعية السياسية» هنا تعني القبول بالمأزق والعمل داخل حدوده، أساسُه هو الوَهْم أن من أدخلنا فيه قد يعطف علينا يومًا إن توسّلناه بما فيه الكفاية بالوسائل والأدوات التي حدّدها هو لنا.

لكنْ في كلام هؤلاء صحّة لربما هم أنفسهم لا يفهموها، نجدُ دلالتها في أنَّ باتريس لومومبا خلافًا لغيره من روّاد التحرر الوطني يحمل هالة من القداسة غير الناقِدة، سمة لا يشاركه فيها إلا رموز الهزيمة الثورية: قُتِلَ لومومبا وَأُحبِط المشروع الذي قاده قبلَ الخوض في إشكالات ما بعد الانتصار الثوري ومحاولة بناء مشروع تحرّري مستدام.

إنْ أردنا التقدّم، لا يمكننا الاكتفاء بالاستلهام بانتقاء تلك الرموز «المَنسيّة» التي تمثّل حُلمًا نقيًا لم يتحقق، أملًا في إفراز قياداتٍ نقية مماثلة. يجب أن ندرك أننا ومشاريعنا بالضرورة امتدادٌ للهزيمة النقية والانتصار المعيب الدامي، أي: لا يمكننا أن نتقدم دون الاستلهام من هذه المشاريع بفهمٍ ناقدٍ لأسباب فشلها الذاتية والخارجية، دون إدراك أن الفشل الثوري النقي والانتصار الثوري الدامي أجزاء لا تتجزّأ من تاريخنا وحاضرنا مستقبلنا.


يندرج هذا المنشور ضمن: باتريس لومومبا واغتيال الوحدة الأفريقية.

Skip to content