وباء اجتماعي: الحرب الطبقية الميكروبيولوجية في الصين

الفرن

تسمى ووهان عرفًا بأحد «الأفران الأربعة» (四大火炉) في الصين، لصيفها شديد الحرارة والرطوبة، وهو مسمًّا تتشاركه مع تشونغكينغ، نانجينغ، والخانة الرابعة تتبادلها نانتشانغ وتشانغشا، وكلّها مدنٌ مكتظة بتاريخٍ طويل تقع إما على سهل نهر يانغزي أو قربه. ومن بين المدن الأربعة، تملؤ ووهان أفرانٌ حقيقية: مجمّع حضريٌ مهول يعمل كالنواة الصينية لإنتاج الصلب والخرسانة وغيرها من الصناعات المتعلقة بالبناء، وأفق المدينة تتخلله الأفران العالية التي تبرد ببطء ما تبقى من مسابك الحديد والصلب المملوكة من الدولة، التي ينتشر فيها اليوم فيضُ الإنتاج، وتُخضَع لجولاتٍ متوالية من تقليص العمالة، والخصخصة، وإعادة الهيكلة العامة – وذلك بدورِه أنتجَ إضراباتٍ ومظاهراتٍ ضخمة عديدة شهدتها الأعوام الخمس الماضية. هذه المدينة هي فعليًا عاصمة البناء في الصين، مما يعني أنها أدّت دورًا في غاية الأهمية في فترة ما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008م، فقد حوفظ على نمو الصين في هذه الأعوام بضخّ صناديق الاستثمار إلى مشاريع البنية التحتية والمشاريع العقارية. ولم تغذي ووهان هذه الفقاعة بتوفيرها فائضًا من مواد البناء والمهندسين المدنيين فحسب، بل، وبفعلها هذا، أصبحت موطنَ طفرةٍ عقارية هي نفسها. فوفق حساباتنا، في 2018-2019م، عادلَ حجم المساحة المخصصة لمواقع البناء في ووهان مساحة جزيرة هونغ كونغ بأكملها.

لكن هذا الفرن الذي حرَّك الاقتصاد الصيني بعد الأزمة ها هو الآن يبرد، مع برود مسابك الحديد والصلب. ومع أن هذا البرود كان حاصلًا لا محالة، فالتعبير المجازي لم يعد اقتصاديًا فقط، فمع إغلاق هذه المدينة الصاخبة لأكثر من شهر، أخليت شوارعها بأمرٍ من الحكومة: «أفضل مساهمة يمكنك تقديمها: لا تتجمع، لا تحدث الفوضى»، كما نص العنوان الرئيس ليومية غوانمينغ، التي يديرها قسم الإعلان للحزب الشيوعي الصيني. واليوم، ها هي كافة جاداتِ ووهان الواسعة الجديدة، ومبانيها الزجاجية التي تتوّجها، نراها الآن باردة وخاوية، مع انتهاء الشتاء وبداية السنة القمرية الجديدة، وها هي المدينة تركد بقيود الحجر الصحي الواسع. يبدو عزلُ الواحد نفسه نصيحةً سليمة لأي شخصٍ في الصين، حيث اندلع فيروس الكورونا الجديد (غُيِّرَ مسمّاه إلى «سارس-كوف-2» ومَرَضُه إلى «كوفيد-19») وقتل أكثر من ألفي شخص – أكثرُ من سلفه، وباء سارس لعام 2003م، وكامل البلاد اليوم واقعة تحت إغلاقٍ تام، كما كانت مع تفشي سارس: المدارس مغلقة، والناس عاكفون في منازلهم في كل أرجاء البلاد، وقد توقفت كافة الأنشطة الاقتصادية تقريبًا مع عطلة السنة القمرية الجديدة يوم 25 كانون الثاني/يناير، لكن هذا التوقف مُدِّد شهرًا كاملًا للحد من انتشار الوباء. ويبدو أن نار أفران الصين أخمدت، أو على الأقل انخفضت لتصير فحمًا خفيف الاشتعال. لكن المدينة أصبحت، على نحوٍ ما، فرنًا من نوع آخر، مع إحراق الفيروس سكّانها كحمّى لا تستثني أحدًا.

ألقي اللوم على كل شيء، من تسريب سلالة الفيروس من معهد ووهان لعلم الفيروسات كمؤامرةٍ و/أو عن طريق الخطأ – وهو زعمٌ لا أساس له من الصحة انتشر في شبكات التواصل الاجتماعي، خصّيصًا من منشورات الفيسبوك من هونغ كونغ وتايوان، ونشرته وسائل الإعلام المحافِظة والمصالح العسكرية في الغرب – وحتى ميل الصينيين لاستهلاك أنواع الطعام «القذرة» أو «الغريبة»، إذ أن الاندلاع مرتبط إما بالخفافيش أو الثعابين التي تباع في «الأسواق الرطبة» شبه الممنوعة، المتخصصة في تقديم الحيوانات البرية أو غيرها من الحيوانات النادرة (رغم أن هذا ليس المصدر النهائي). يبين هذان التصويران ما يشيع في التقارير الإخبارية عن الصين من تعطش للحرب ومن استشراق، وأشارت عدد من المقالات إلى هذه الحقيقة البسيطة. ولكن حتى هذه الردود تكتفي عادةً بالتركيز على كيفية تصور الفيروس في الحيز الثقافي، دون البحث في الديناميات الوحشية وراء جنون وسائل الإعلام.

ومن مختلف تيارات التغطية الإعلامية، هنالك نوعٌ أكثر تعقيدًا بعض الشيء، فهو يفهم على الأقل العقبات الاقتصادية، وفي الوقت نفسه يبالغ في التداعيات السياسية المحتملة، لما يحمله ذلك من وقعٍ على مسامع الجمهور. وهنا نجد المشتبهيْن المعتادين، من روّاد الحرب المعادين للصين وإلى النخب الغنية الليبرالية الهلعة: صرّحت الأجهزة الإعلامية، من الناشونال رفيو وحتى النيو يورك تايمز، بأن هذا الوباء قد يسبب «أزمة شرعية» للحزب الشيوعي الصيني، على الرغم من عدم وجود أي دلالة قريبة أو بعيدة على ذلك. لكن جوهر الحقيقة لهذه التوقعات هي إدراكها للأبعاد السياسية للحجر الصحي – الأمر الذي لن يغيب عن الصحفيين ذوي محفظات أسهم أغلظ من عقولهم. وذلك لأن الحقيقة، وعلى الرغم من دعوة الحكومة للانعزال الذاتي، قد يضطر الناس لـ «التجمع» لتلبية حاجات الإنتاج. فوفق آخر التقديرات الأولية، سيسبب الوباء انخفاضًا في الناتج المحلي الإجمالي الصيني ليصل إلى 5 بالمئة هذا العام، رقمٌ أقل من نسبة العام الماضي المنخفضة أصلًا إلى 6 بالمئة، وهو الرقم الأشد انخفاضًا منذ ثلاثة عقود. وقد ذهب بعض المحللين للقول إنّ الربع الأول قد ينخفض إلى 4 بالمئة أو أقل، وإن ذلك قد يسبب اندلاع كسادٍ عالمي على نحو ما. فاليوم يطرح السؤال المستحيل سابقًا: ماذا يحصل للاقتصاد العالمي حينما يبرد الفرن الصيني؟

في داخل الصين، يصعب توقع الاتجاه النهائي لهكذا حدث، لكن هذه اللحظة أتت بعملية جماعية نادرة من المساءلة والتعلم حول المجتمع. فقد أصابَ الوباء مباشرةً 80 ألف شخصٍ تقريبًا (وفق أكثر التقديرات تحفّظًا) لكنّه أوقع صدمةً أكبر في الحياة اليومية تحت الرأسمالية لمليار وأربع مئة مليون نسمة، وهم عالقون اليوم في لحظة تأمل متقلقل. ودفع ذلك الناس في هذه اللحظة، رغم ما يملأها من خوف، لأن تسأل أسئلةً عميقة: ماذا سيحصل لي؟ ولأولادي ولأسرتي وأصدقائي؟ هل سنحصل على ما يكفينا من طعام؟ هل سأحصل أجري؟ هل سأتمكن من دفع أجاري؟ من المسؤول عن هذا؟ بطريقةٍ غريبة، تشابه هذه التجربةُ الذاتية الإضرابَ الجماهيري – إنما بطبيعةٍ غير عفوية، ومن فوق إلى الأسفل، خصوصًا في التشظية القسرية الفائقة، مما يبرز المعضلة الأساسية لحاضرنا السياسي المخنوق، مثلما أبرزت الإضرابات الجماهيرية الحقيقية للقرن الماضي تناقضات ذلك العصر. يشبه الحجر الصحي، إذن، الإضراب المُفرَغ من سماته الاجتماعية، والمحافِظ، على الرغم من ذلك، على قدرته على إيقاع صدمة بالغة على نفسيات الناس وعلى الاقتصاد. وهذه الحقيقة، لوحدها، تجعل الحدث مستحقًا للتأمل.

بالطبع، التكهنات حول السقوط المحدق للحزب الشيوعي هي محض هراءٍ مبتذل، وأحدُ الهوايات المفضلة لمجلّتي النيو يوركر والإيكونوميست. وفي تلك الأثناء، بروتوكولات القمع الإعلامي العادية جارية، حيث مقالات الرأي الصريحة بعنصريتها تنشر في وسائل الإعلام الكبرى، ويقابلها حشدٌ من النصوص التحليلية على الإنترنت تهجو الاستشراق وغيره من أوجه الأيديولوجيا. ولكن الجزء الأكبر من هذا النقاش يظل على مستوى التصوير – أو في أفضل الحالات، عن سياسات الاحتواء والآثار الاقتصادية للوباء – دونَ الخوض في مسائل كيف تنتج أمراضٌ كهذه في بادئ الأمر، ناهيك عن مناقشةِ مسألة انتشارها. ولكن حتى هذا المستوى من التحليل ليس كافيًا. فالآن ليس الوقت الملائم لحلقة «سكوبي دو» ماركسية ينزع فيها القناع عن الشرير في آخرها ليكشف أن، الرأسمالية، فعلًا، وكما توقّعنا، هي المجرم! فذلك لا يختلف في فظاظته عن المعلّقين الأجانب المتحمّسين لتغيير النظام. فالرأسمالية متورطة بالطبع، لكن المسألة هي: كيف يتفاعل الحيز الاجتماعي-الاقتصادي تحديدًا مع الحيز البيولوجي، وما هي الدروس الأعمق الممكن استخلاصها من كامل التجربة؟

بهذا المعنى، يقدم لنا هذا الاندلاع فرصتين للتأمل: أولًا، إنه مدخلٌ إرشادي لمراجعة الأسئلة الجوهرية حول ارتباط الإنتاج الرأسمالي بالعالم غير الإنساني على مستوى أساسي، أو باختصار: هي مسألة استحالة فهم «العالم الطبيعي»، بما في ذلك الطبقة التحتية الميكروبيولوجية، دون الرجوع إلى كيفية تنظيم المجتمع للإنتاج (لأن الاثنين ليسا، واقعًا، منفصلين). وفي الوقت نفسه، يذكرنا ذلك بأن أي شيوعية أهلٌ لحمل هذا الاسم هي بالضرورة شيوعيةٌ تحمل نزعة طبيعانية مسيّسة تمامًا. وثانيًا، يمكننا استخدام لحظة الانعزال هذه أيضًا للشروع بتأملنا الخاص في حال المجتمع الصيني. توجد أشياءٌ لا تتضح إلّا عندما يقف كلّ شيءٍ فجأة، وتباطؤٌ من هذا النوع يصعب ألّا يكشف التوترات المعتم عليها سابقًا. وأدناه، سنستكشف كلا هاتين المسألتين، ولن نكتفي ببرهنة كيفية إنتاج المراكمة الرأسمالية أوبئة كهذه، بل ستنطرق لكيف أن لحظة الجائحة هذه هي لحظةٌ تناقضية للأزمة السياسية، تظهر للناس الإمكانيات والاتكاليات المخفية للعالم المحيط بهم، في حين تقدم عذرًا آخر لتوسعة أنظمة التحكم لتطول جوانب أخرى من الحياة اليومية.

إنتاج الأوبئة

حُبِل الفيروس المسبب للوباء الحالي (سارس-كوف-2)، مثل سابقه الذي انتشر عام 2003م، سارس-كوف، ومعه إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير، في نقطة ارتباط علم الاقتصاد وعلم الأوبئة. وأخذُ هذه الفيروسات أسماء حيواناتٍ ليس مجرد صدفة: نَتَج انتشار الأمراض الجديدة لدى المجتمعات الإنسانية غالبًا عبر ما يسمى بالانتقال حيواني المنشأ، وهي الصيغة العلمية للقول إن هذه العدوى تنتقل من الحيوانات إلى البشر. ومن شروط هذه النقلة من نوعٍ إلى الآخر القُرب والاحتكاك المنتظم، وكلاهما يبنيان بيئة يجبر فيها المرض على التطور. وحين يتغير وسيط التعامل بين البشر والحيوانات، يُغيِّر معه الشروط التي تتطور فيها أمراض كهذه. فَتَحْتَ الأفران الأربعة، إذن، يقبعُ فرنٌ آخر أكثرُ أساسيةً يدعم المراكز الإنتاجية للعالم: طنجرة الضغط التطوّرية للزراعة والتمدين الرأسمالييْن. وهذا الوسيط المثالي يوفر البيئة الملائمة لتوليد أوبئة متزايدة التدمير، ولتحوّلها، ومن ثم لتفشيها عبر قفزاتٍ حيوانية المنشأ في أوساط البشر. ويضاف إلى ذلك عملية متماثلة الشدة تجري على أطراف الاقتصاد، حيث السلالات «البريّة» تلتقي بأناس دُفِعوا إلى التوغّل الزراعي-الاقتصادي المتوسّع في الأنظمة البيئية المحلية. يمثل فيروس الكورونا الأخير، في أصوله «البرية» وانتشاره المفاجئ في النواة الصناعية والحضرية للاقتصاد العالمي، كِلا بُعْدَي عصرنا الجديد للأوبئة الاقتصادية-السياسية.

طوَّر الفكرة الأساسية المطروحة هنا على أكمل وجه علماء أحياء يساريون مثل روبيرت جي والاس. ويجادل كتابه المنشور عام 2016م بعنوان المزارع الكبرى تصنع الإنفلونزا الكبرى1Rob Wallace, Big Farms Make Big Flu: Dispatches on Influenza, Agribusiness, and the Nature of Science. ليبرهن الصلة بين الأعمال الزراعية الرأسمالية وأسباب نشأة الأوبئة الحديثة من السارس وحتى الإيبولا.[1] يمكن فرز هذه الأوبئة عمومًا إلى صنفين: الأول يعود أصله إلى لبّ الإنتاج الزراعي الاقتصادي، والثاني يعود إلى أطرافه. وفي تتبع تفشي إنفلونزا الطيور من نوع (H5N1)، يخلص والاس إلى عدة عوامل جغرافية مفتاح تتصف بها الأوبئة التي يعود أصلها إلى نواة الإنتاج:

راحت الأراضي الريفية للعديد من أفقر البلدان ضحيةً للأعمال الزراعية غير المنضبطة التي تجتاح العشوائيات في أطراف المناطق الحضرية. ويزيد الانتقالُ غير المنضبط، في هذه المناطق غير المحصنة، التنوعَ الجيني الممكن لـ H5N1 أن يطوّر فيه سماتٍ محددة للبشر. وبانتشاره عبر ثلاث قارات، يحتك H5N1 سريع التطور بمحيطاتٍ اجتماعية-بيئية متزايدة التنوع، بما فيها من تركيبات محددة جغرافيًا لأنواع المضيف، وأنماط رعاية الدواجن، والإجراءات الصحية الحيوانية.[2]

يحرّكُ هذا الانتشارَ، بالطبع، دورةُ السلع العالمية والهجرات العمالية المتواصلة التي تتسم بها الجغرافيا الاقتصادية الرأسمالية. والنتيجة هي «نوعٌ من الانتقاء الدِّيْمي التصاعدي»2يقصد هنا الانتشار والانتقاء الطبيعي بين مصفوفة متنامية من المجموعات السكّانية منعزلة نسبيًا، وتعريف الدِيم: مجموعة سُكانيَّة من المُتَعضِّيات مُنعزلة عمومًا عن المجموعات الأُخرى فتَتوالد فيما بينها دون مُدخَلاتٍ جِينيَّة (وراثية) من المجموعات الأُخرى. يواجه فيه الفيروس عددًا أكبر من المسارات التطورية في زمنٍ أقصر، مما يمكّن لأصلح السلالات أن تتنافس وتتغلب على الأخرى.

لكن هذه النقطة سهلة الإثبات، بل وهي شائعة أصلًا في الإعلام المهيمن: حقيقةُ أنَّ «العولمة» تمكّن تسريع انتشار مثل هذه الأمراض، إنما ما يدرج هنا يحتوي إضافةً مهمة، وهي الإشارة إلى أن عملية التدوير هذه نفسها تحفّز الفيروس على التحول على نحوٍ أسرع. ولكن المسألة الحقيقية تكمن فيما يسبق ذلك، فقبل أن يزيد التدوير من مرونةِ هذه الأمراض، يساعد المنطق الأساسي لرأس المال على أخذ سلالاتٍ فيروسية معزولة أو غير ضارة سابقًا ووضعها في بيئة محتدمة التنافس تفضّل السمات المحددة التي تسبب الأوبئة، مثل: دورة الحياة الفيروسية السريعة، والقدرة على القفز الحيواني المنشأ ما بين الأنواع الحاملة، والقدرة على تطوير مُتَّجهات انتقالٍ جديدة. وتميل هذه السلالات للبروز بسبب ضراوتها تحديدًا. بالقيمة المطلقة، يبدو أن تطوّر سلالاتٍ ذات ضراوة أعلى يحمل أثرًا عكسيًا، فقتل المضيف مبكرًا يحرم الفيروس من الوقت اللازم للانتشار. ونزلاتُ البرد مثالٌ جيد على هذا المبدأ، فالفيروس يحافظ عمومًا على مستويات ضراوة منخفضة تسهّل انتشاره الواسع في الجَمْهَرات. ولكن في بيئات محددة، المنطق المعاكس هو الأنسب: حينما يمتلك الفيروس العديد من المضيفين من النوع نفسه بقربٍ منه، وخصوصًا حينما تكون دورةُ حياة هؤلاء المضيفين مقصورة أصلًا، تغدو الضراوة العالية نقطة قوة تطورية.

ومرةً أخرى، إنفلونزا الطيور مثالٌ واضح على ذلك. يشير والاس إلى أن الدراسات بينت أنه «لا توجد سلالات شديدة الضراوة [من الإنفلونزا] في الطيور البرية، وهي المستودع المصدر النهائي لكل الأنواع الفرعية للإنفلونزا تقريبًا»[3] فبدلًا من ذلك، يظهر في الطيور المدجّنة المخزّنة في المزارع الصناعية علاقةٌ واضحة مع اندلاع هذه الأمراض، ولذلك أسبابٌ بديهية. يقول والاس:

تنزعُ التربية أحادية النوع للحيوانات المدجّنة أيَّ موانع للانتشار قد تتوفر لإبطاء الانتقال. وتمكّن الضخامة السكانية المتكثّفة لهذه الحيوانات تعاظُمَ معدل انتقال العدوى، وتُضعِف ظروف الازدحام الاستجابةَ المناعية. وتوفر الإنتاجية العالية – وهي جزءٌ من أي عملية إنتاج صناعي – إمداداتٍ مستمرة التجدد للكائنات الأكثر حساسية للمرض، وذلك هو غذاء تطور الضراوة.[4]

وبالطبع، كلٌّ من هذه السمات تنمو من منطق التنافس الصناعي. وتحديدًا، تتضمن الدرجة المتسارعة لـ «الإنتاجية» في مثل هذه السياقات بعدًا بيولوجيًا فاقعًا: «تُقتل الحيوانات التجارية حالما تصل إلى المقدار المطلوب. وعلى عدوى الإنفلونزا المستوطنة أن تصل إلى عتبة النقل بسرعة في أي حيوان مصاب، [. . .] وكلما تعاظمت سرعة إنتاج الفيروسات، تعاظم معها الضرر على الحيوان».[5] ومن المفارقة أن محاولة قمع حالات اندلاع المرض هذه عبر الإعدام الجماعي للحيوانات – مثل الحالة الأخيرة من حمى الخنازير الأفريقية التي أدت إلى خسارة قرابة ربع إمدادات العالم من لحم الخنازير – يمكن أن تحمل الأثر غير المقصود لزيادة هذا الضغط الانتقائي أكثر فأكثر، مما ينتج عنه تطور سلالات فيروسية فائقة الضراوة. وعلى الرغم من أنَّ حالات الاندلاع حصلت تاريخيًا في الأنواع المدجّنة، عادةً بعد فترات الحروب أو الكوارث الطبيعية التي تسبب ضغطًا متصاعدًا على تعداد المواشي، فلا شك في أن زيادة حدة وضراوة مثل هذه الأمراض تبعت انتشار الإنتاج الرأسمالي.

التاريخ وأصول الأمراض

يمكن النظر للأوبئة كالظل الذي يلازم انتشار الصناعة الرأسمالية، وهي – أي الأوبئة – في الوقت نفسه نذيرٌ باقتراب الصناعة. والحالات الأوضح مثل جدري الماء، وغيرها من الجائحات التي أدخلت في أمريكا الشمالية، مثالٌ أبسط من أن يستخدم للدلالة على ذلك، فقد زاد من حدّتها الانفصالُ طويل الأمد لسكان القارة عبر الجغرافيا الطبيعية،3الأوبئة واستعمار الأمريكيتين: عند قدوم المستعمرين الأوروبيين إلى الأمريكيتين، جلبوا معهم بطبيعة الحال أمراض وفيروسات ما يسمى بالعالم القديم، وهي فيروسات لم تطور الشعوب القاطنة في الأمريكيتين مناعةً تجاهها لعدم وجود هذه الفيروسات أو انتشارها في القارتين، مما تسبب بموت أعداد كبيرة من السكان الأصليين نتيجة انتشار هذه الفيروسات. لكن هذا الانتشار لم يكن كلّه نتيجة الصدفة التاريخية، فقد تعمّد المستعمرون أيضًا استخدامه كسلاح بيولوجي، حيث منحوا مجموعات من السكان الأصليين أثاثًا وأدوات مستخدمة في عيادة لعلاج جدري الماء كـ «هدية» مستقصدين إبادة هذه المجموعات. وهذه الأمراض، على أي حال، كسبت ضراوتها أصلًا من الشبكات المِركَنْتيليَّة ما قبل الرأسمالية، ومن التمدين المبكر في آسيا وأوروبا. ولو نظرنًا بدلًا من ذلك إلى إنجلترا، حيث نشأت الرأسمالية بادئًا في الريف عبر الإجلاء الواسع للفلّاحين من الأرض، لتستبدلهم تربية المواشي الأحادية، سنرى فيها أبكر الأمثلة على الأوبئة الرأسمالية تحديدًا. فقد اندلعت ثلاث جائحات في القرن الثامن عشر في إنجلترا، واحدةٌ في 1709-1720م، وأخرى في 1742-1760م، والثالثة في 1768-1786م. وتعود أصول الأوبئة الثلاث إلى المواشي المستوردة من أوروبا، المصابة بالجائحات العادية ما-قبل-الرأسمالية التي تبعت فترات الحروب. إنما في إنجلترا، حيث بدأ حشدُ المواشي بطرقٍ جديدة، سبّب إدخالُ المواشي المصابة تفشي الوباء بسرعةٍ أكبر بكثير مما كان يجري في أوروبا. وليس من باب المصادفة إذن أن حالات الاندلاع تمركزت في كبار مزارع الألبان في لندن، التي وفرت البيئة المثالية لاشتداد الفيروس.

في النهاية، احتويت حالات الاندلاع بمزيجٍ من القتل الانتقائي على نطاقٍ أصغر، وتطبيق الممارسات الطبية والعلمية الحديثة – وهي جوهريًا نفس طريقة قمع هذه الجائحات اليوم. تمثل هذه الحالة الحالةَ الأولى لما سيغدو نسقًا واضحًا، يشابه نسق الأزمة الاقتصادية: توالي انهياراتٍ متزايدة في الحدة تبدو وكأنها تضع النظام كله على حافة الهاوية، لكنها في النهاية تُتَجاوز، عبر مزيجٍ من التضحية الجماعية التي تجلي السوق/الجمهرة، وتكثيف التقدمات التكنولوجية – وفي هذا الحالة، بالممارسات الطبية واللقاحات الجديدة، التي تأتي متأخرة عادة، لكنها تنظف المشهد في أعقاب الدمار.

لكن هذا المثال من موطن الرأسمالية بحاجةٍ لأن يُزاوَجَ بتفسيرٍ لآثار الممارسات الزراعية الرأسمالية على طرفها. وبينما احتويت جائحات المواشي لإنجلترا الرأسمالية المبكرة، فالنتائج كانت أشدّ دمارًا في مناطق أخرى. والمثال الذي يحمل الوقع التاريخي الأكبر هو، على الأرجح، تفشي الطاعون البقري في أفريقيا في تسعينات القرن التاسع عشر. وهذا التوقيت لم يكن مصادفة: تفشى الطاعون البقري في أوروبا بِحدّة قاربت نمو الزراعة الكبرى، ولم يكبحه إلا تقدم العلم الحديث. ولكن القرن التاسع عشر شهد ذروة الإمبريالية الأوروبية، متجسّدةً في استعمار أفريقيا. وقد جُلِب الطاعون البقري من أوروبا إلى أفريقيا الشرقية مع قدوم الإيطاليين، في سعيٍ منهم للحاق بالقوى الإمبريالية الأخرى عبر استعمار القرن الأفريقي بسلسلة من الحملات العسكرية. وإن كانت أغلب هذه الحملات انتهت بالفشل، فالمرض انتشر بعدها في المواشي المحلية وَوَجدَ طريقه في النهاية إلى جنوب أفريقيا، حيث دمّر الاقتصاد الزراعي الرأسمالي المبكر للمستعمرة، قاتلًا حتى قطيع سيء الذكر الفوقيّ الأبيض سيسل رودس. والأثر التاريخي الأوسع لا يمكن إنكاره: قتل 80-90% من مجمل المواشي، مما أنتج مجاعةً لا سابق لها في معظم المجتمعات الرعوية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وهذا الإخلاء من السكان تبعه اجتياحٌ استعماري للسافانا من قِبل الشجيرات الشوكية، التي خلقت موطنًا طبيعيًا لبعوضة تسيتسي التي تحمل مرض النوم وتعيق رعاية المواشي، فأمّنَ بذلك الحدّ من عودةِ السكان بعد المجاعة، وأتاح الانتشار الأوسع للقوى الاستعمارية الأوروبية في أرجاء القارة.

إلى جانب إشعال هذه الأوبئة الدوري لأزماتٍ زراعية وإنتاجها ظروفًا جحيمية ساعدت الرأسمالية على تجاوز حدودها المبكرة، فقد لاحقت أيضًا الطبقة الكادحة في النواة الصناعية. وقبل العودة إلى الأمثلة الحديثة، يجب التذكير بأنه لا توجد خصوصية صينية في اندلاع فيروس الكورونا. التفسير الحقيقي لكثرة اندلاع الأوبئة من الصين ليست ثقافية، بل متعلقة بالجغرافيا الاقتصادية. يتضح الأمر وضوح شمس الظهيرة إن قارنا الصين بالولايات المتحدة أو أوروبا حينما كانت هاتان الأخيرتان مراكز الإنتاج العالمي والتوظيف الصناعي الواسع.[6] النتيجة متطابقة جوهريًا، ولا اختلاف في سماتها: موتُ المواشي في الريف، تقابله الممارسات الصحية السيئة وانتشار التلوث في المدينة. أصبحَ هذا الموضوع هدفًا للجهود الليبرالية التقدمية المبكرة لإصلاح مناطق سكن الطبقة العاملة، تجسّدها رواية آبتون سنكلير الأدغال (The Jungle)، المكتوبة أصلًا لتوثيق معاناة العمّال المهاجرين في قطاع تعليب اللحوم، واستحوذ عليها الليبراليون الأغنياء القلقين حول مخالفات المعايير الصحية والظروف المتسخة التي يجهَّز فيها طعامهم.

ما زال الغضب الليبرالي على «عدم النظافة»، بكل مضامينه العنصرية، يعرّف ما قد نراه كالأيديولوجيا التلقائية لأغلب الناس عند ملاقاتِهم الأبعاد الاقتصادية لشيء مثل أوبئة الكورونا أو السارس. ولكن العمال لا يتحكمون بالظروف التي يعملون فيها، والأهم من ذلك هو أنَّ الظروف غير الصحية، مع أنها تتسرب إلى خارج المصنع عبر تلوث إمدادات العام، فهي ليست إلا غيض من فيض، فمثل هذه الظروف تشكّل القاعدة والمحيط لمن يعملون فيها أو يعيشون في المستوطنات البروليتارية القريبة، وهي تسبب انخفاضًا في الصحة على المستوى الكلّي للسكان، مما يوفر ظروفًا أفضل لانتشار أوبئة الرأسمالية العديدة. فلنأخذ كمثال حالة الإنفلونزا الإسبانية، أحد أكثر الأوبئة فتكًا في التاريخ، فلقد كانت تلك الحالة أحد أبكر حالات اندلاع إنفلونزا H1N1 (وهي مرتبطة بحالات الاندلاع الحديثة لإنفلونزا الخنازير وإنفلونزا الطيور)، وقد استمر افتراض أنّ تلك الحالة القديمة مختلفًا نوعيًا – على نحو ما – من سلالات الإنفلونزا الأخرى، نظرًا لعدد ضحاياها الضخم. وبينما هذا الأمر صحيحٌ جزئيًا (نظرًا لقدرة هذه السلالة على إحداث رد فعل مبالغ من الجهاز المناعي)، فقد وجدت المراجعات المتأخرة لأدبيات وأبحاث الوبائيات التاريخية أن ضراوتها لم تكن على الأرجح أشدّ بكثير من السلالات الأخرى. والمرجّح أن عدد القتلى الكبير قد يعود أساسًا إلى سوء التغذية، والاكتظاظ الحضري، والظروف المعيشية غير الصحية عمومًا للمناطق المتأثرة، وقد حفّز ذلك انتشار الإنفلونزا نفسه، وانتشار عدوى بكتيرية علاوةً على العدوى الفيروسية الأساس.[7]

بعبارة أخرى، كانت الظروف الاجتماعية حافزًا ضخمًا للارتفاع الضخم أيضًا لعدد قتلى الإنفلونزا الإسبانية، بما يخالف تصويرها كحالة شاذة لا يمكن توقعها. وما أتاح الانتشارَ السريع للإنفلونزا هو التجارةُ الدولية والحرب العالمية، المتمركزة وقتها حول القوى الإمبريالية المتسارعة التغير التي نجت من الحرب العالمية الأولى. وهنا نجد مرة أخرى القصة التي صارت مألوفة حول كيف تنتَج سلالة مميتة للإنفلونزا كهذه من الأساس: رغم أن أصلها ليس معروفًا بالتحديد، يعتقد اليوم أنها نشأت في الدواجن أو الخنازير المدجّنة، ويرجح أنها نشأت في كانساس الأمريكية. يستحق وقت ومكان النشأة وقفة وجيزة، فالسنوات التالية للحرب كانت نقطة انعطافٍ للزراعة الأمريكية، فقد شهدت انتشار استخدام أساليب الإنتاج الممكننة الشبيهة بالمصانع، واحتدّ هذا المنعطف في العشرينات، وأفضى الإدخالُ الواسع لتكنولوجيا الحَصّّادَة إلى الاحتكار التدريجي ودمار النظم البيئية، وهي تركيبةٌ نتج عنها أزمة الثلاثينات القذرة وما تلاها من هجرة جماعية. وفي تلك الفترة، لم ينشأ بعد الاكتظاظ الشديد للمواشي الذي اتسمت به المزارع الصناعية اللاحقة، لكن الأشكال المبكرة للاكتظاظ وتسريع الإنتاج القادرة بحد ذاتها على خلق أوبئة المواشي في أرجاء أوروبا غدت وقتها ظاهرة اعتيادية. وإن كانت أوبئة المواشي الإنجليزية للقرن الثامن عشر هي أولى حالات أوبئة المواشي الرأسمالية، والطاعون البقري في أفريقيا في تسعينات القرن التالي هو أكبرُ المِحرَقات الوبائية الإمبريالية، فيمكن فهم الإنفلونزا الإسبانية بصفتها أولى أوبئة الرأسمالية على البروليتاريا.

العصر المذهّب

لا تخفى أوجه الشبه مع الحالة الصينية الجارية. ولا يمكن فهم كودفيد-19 دون احتساب الطرق التي شكَّلَت بها العقود القليلة الماضية، داخل النظام الرأسمالي العالمي ومن خلاله، نظامَ الرعاية الصحية للبلاد وحالة الصحة العامة عمومًا. فهذا الوباء مهما كان جديدًا، فهو مشابهٌ لأزمات الصحة العامة الأخرى السابقة، وإنتاجها يكاد يقترن بحركة الأزمات الاقتصادية، والصحافة العامة تصوّره بالصور نفسها: وكأنها حوادث عشوائية، «بجعة سوداء»، جديدةٌ تمامًا ولا يمكن توقّعها أبدًا. لكن الواقع هو أن أزمات الصحة هذه تتبع أنساق التكرار الفوضوية الدورية الخاصة بها، وتزيد من احتمال وقوعها سلسلةٌ من التناقضات البنيوية المغمورة في طبيعة الإنتاج والحياة البروليتارية تحت الرأسمالية. ومثل حالة الإنفلونزا الإسباني، سَبَبُ تمكّن فيروس الكورونا أصلًا من الاستحكام والانتشار السريع هو التفسخ العام للرعاية الصحية الأساسية لعموم السكان. إنما هذا الانحلال حصل وسط نمو اقتصادي بديع، وأخفاه لمعان المدن الزجاجية والمصانع العملاقة. فالواقع هو أن الإنفاق على المنافع العامة، مثل الرعاية الصحية والتعليم، ما يزال شديد الانخفاض، في حين خُصِّصَ الجزء الأكبر من الإنفاق العام للبنية التحتية الطوبية والإسمنتية، مثل الجسور والشوارع والكهرباء الرخيصة للإنتاج.

يضاف إلى ذلك الرداءة الخطيرة التي يتصف بها كمٌّ كبير من منتجات السوق المحلية، فالاقتصاد الصيني أنتج، ولعدة عقود، صادراتٍ عالية الجودة وعالية القيمة، وفق أعلى المعايير العالمية للسوق الدولية، مثل الآيفونات وشرائح الحاسوب، لكن البضائع المخصصة لاستهلاك السوق المحلية تصنع وفق معايير متدنية، حتى تكررت فضائحها وانعدمت ثقة الناس بها. ونجد في العديد من هذه الحالات أوجه شبهٍ لا تخطئها العين مع أدغال سنكلير وغيرها من قصص أمريكا العصر المذهّب. أبرز الحالات الصينية في الذاكرة القريبة هي فضيحة حليب الميلامين لعام 2008م، التي أدت لمقتل اثني عشر رضيعًا وإسعاف عشرات الألوف (بل وتأثر منها مئات الألوف في البلاد)، وتوالت الفضائح منذئذ: في 2011م، فضيحةُ استخدام العديد من المطاعم ما سمي بـ «زيت المجاري»، زيتٌ مكرّر من مصفيات الشحوم، وفي 2018م، حين أدت تطعيماتٌ معيبة إلى موت عدد من الأطفال، وبعد ذلك بسنة أسعف الكثيرون بعد تلقّيهم تطعيماتٍ زائفة لفيروس الورم الحليمي البشري. وإلى جانب هذه الفضائح الكبرى، تتفشى فضائح صغيرة أصبحت جزءًا من الحياة اليومية في الصين: مزيجُ مسحوق الشوربة الفورية يخلط بالصابون لتخفيض التكاليف، ورجال الأعمال الذين يبيعون لحم خنازير ماتت لأسباب غامضة إلى القرى المجاورة، وثرثرة مفصلة حول أيٍّ من المطاعم في هذا الشارع أو ذك من المرجح أن تمرضك.

وقبل التحاق البلد التجزيئي بالنظام الرأسمالي العالمي، كانت الخدمات كالرعاية الصحية توفّر (غالبًا في المدن) تحت نظام دانوي للفوائد المستندة إلى المؤسسة، أو من قِبل عيادات صحية محلية بطاقم كبير من «الأطباء الحفاة»، الذين عَمِلوا غالبًا، إن لم يكن حصرًا، في الريف – وكل هذه الخدمات كانت تُقدَّم مجانًا. كانت نجاحات الرعاية الصحية في العصر الاشتراكي، مثل النجاحات في حقل التعليم الأساسي ومحو الأمية، كبيرة بما فيه الكفاية حتى أنَّ أشرس نقاد البلاد اضطَّروا للإقرار بها. فقد قضي على حمى الحلزون، التي شابت البلاد لقرون، في الجزء الأكبر من معقلها التاريخي، ولم تعد بقوة حتى أجري تفكيك نظام الرعاية الصحية الاشتراكي، وانخفض موت الرضع انخفاضًا حادًا، وذلك على الرغم من المجاعة التي صاحبت القفزة العظيمة للأمام، وقفز متوسط العمر المتوقع من 45 إلى 68 عامًا ما بين 1950 وبواكر الثمانينات، وانتشر التطعيم ضد الأمراض والممارسات الصحية العامة، ومعها المعارف الأساسية حول التغذية والصحة العامة، إلى جانب توفّر الأدوية البدائية، وكلّها متاحةٌ مجانًا لكل الناس. ويضاف على كل ذلك المساعدة التي قدّمها نظام الأطباء الحفاة بتوفيره المعرفة الطبية الأساسية – وإن كانت محدودة – لنسبة كبيرة من السكان، مما ساعد على بناء نظامٍ صحي قوي من الأسفل إلى الأعلى في ظروف فقرٍ مادي مدقع. يجدر بنا الذكر هنا أنّ كل ذلك حصل حينما كانت الصين أفقر، للفرد، من عموم البلدان الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى اليوم.

لكن منذئذ، أحدث مزيجُ الإهمال والخصخصة تفسخًا معتبرًا لهذا النظام، في الوقت الذي أدى فيه التمدين المتسارع والإنتاج الصناعي غير المنضبط للبضائع المنزلية والغذائية إلى خلق حاجة للرعاية الصحية العامة، وضرورة إرساء اللوائح التنظيمية للسلامة الغذائية والدوائية. واليوم، يقف الإنفاق العام على الصحة في الصين عند 323 دولار أمريكي للفرد، وذلك وفق أرقام منظمة الصحة العالمية، وهو رقمٌ منخفض حتى بين البلدان ذات «الأجر فوق المتوسط»، ويعادل نصف ما تصرفه البرازيل، وبيلاروس، وبلغاريا. وأما اللوائح التنظيمية فتقف ما بين الشح والعدم، مما أنتج فضائح عديدة كما أسلفنا الذكر. وفي المقابل، المتأثر الأكبر من هذه الحال هم مئات الملايين من العمال المهاجرين داخليًا، الذين تتبخر حقوقهم في الحصول على الرعاية الصحية الأساسية تمامًا حالما يغادرون أراضي الموطن (فتحت نظام الهوكو، هم مقيمون دائمون هنالك مهما كان موقعهم الفعلي، مما يعني أنهم محرومون من الحصول على الموارد العامة في الأماكن الأخرى).

كان من المفترض أن تُستَبدل الرعاية الصحية العامة في أواخر التسعينات بنظامٍ أكثر خصخصة (وإن كان يجري عبر إدارة الدولة)، يُوَفِّرُ وفقه مزيجٌ من مساهماتِ أرباب العمل والموظَّفين تكاليفَ الرعاية الصحية، وأجور التقاعد، والتأمين الإسكاني. ولكن نظام التأمين الاجتماعي هذا عانى من شحٍّ ممنهج للمدفوعات، فالمساهمات «الإلزامية» نظريًا من جهة أرباب العمل ببساطة تُتجاهَل عادة، مما يجبر الغالبية العظمى من العمال على دفع التكاليف من مَحافِظهم الخاصة. وَوفق آخر التقديرات الوطنية المتوفرة، لا يملكُ إلا 22 بالمئة من العمّال المهاجرين تأمينًا صحيًا أساسيًا. ولكن قلة المساهمات في نظام التأمين الاجتماعي لا تعود لدناءةٍ أو انحطاطٍ ما من أرباب عمل فاسدين، فسببها الأهم هو أن هوامش الربح الهزيلة لا تترك مجالًا للمنافع الاجتماعية. فحساباتنا وجدت أنه لو سُدِّدَت هذه المساهمات غير المدفوعة للتأمين الاجتماعي، في نواة صناعية مثل دونغوان، لَتقلَّصَت الأرباح الصناعية إلى النصف، وكان مصير العديد من المؤسسات هو الإفلاس. ولملء هذه الفجوات المهولة، لجأت الصين إلى إرساء نظام صحي تكميلي هزيل يغطي المتقاعدين والموظَّفين ذاتيًا، وهذا النظام لا يدفع إلا ما معدّله بضع مئات يوان للفرد سنويًا.

ينتج النظام الصحي المحاصَر هو بنفسه توتّراته الاجتماعية المخيفة، حيث يقتل سنويًا عدد من الطواقم الطبية ويجرح عشراتٌ آخرون في هجمات من المرضى الغاضبين، أو – في حالاتٍ أكثر – أفراد أسرة المرضى المتوفين تحت رعايتهم الطبية. وقد جرت أحدث الهجمات عشية عيد الميلاد، حيثُ طُعِنَ طبيبٌ حتى الموت في بكين مِن قِبل ابنِ مريضة مقتنع أن أمّه ماتت بسبب العناية المتردّية في المستشفى. وذلك في سياقٍ أعم وجدَ مسحٌ للأطباء فيه أن 85 بالمئة منهم شهدوا عنفًا في مكان العمل، ووجد مسحٌ آخر أجري عام 2015م أن 13 بالمئة من الأطباء تعرضوا للهجوم الجسدي السنة السابقة. والأطباء الصينيون يعاينون أربعة أضعاف عدد المرضى سنويًا الذي يعاينه الأطباء الأمريكيون، في حين يتلقون 15,000 دولار أمريكي سنويًا، وللمقارنة، هذا الرقم أقلُّ من نصيب الفرد من الدخل في الصين (16,760 دولار أمريكي)، في حين متوسط أجر الأطباء في الولايات المتحدة (حوالي 300,000 دولار أمريكي) يعادل حوالي خمسة أضعاف نصيب الفرد من الدخل (60,200 دولار أمريكي). سجّل مشروع مدوّنة تتبُّع الاضطرابات على الأقل بضع إضراباتٍ ومظاهرات من عمّال الصحة شهريًا، وذلك قبل واعتقال مؤسِّسيها لو يويو وَلي تينغيو عام 2016م،[8] وفي 2015م، آخر عامٍ جمعوا فيه بياناتهم الدقيقة، جرى 43 حدثٍ كهذا، وسجّلوا فيه عشرات «حوادث [الاحتجاج على] المعاملة الطبية» كل شهر، تتصدرها أسر المرضى، بـ 368 حالة مسجلة في 2015م.

في ظل ظروف التقليص المهول للاستثمارات العامة في نظام الرعاية الصحية، ليس من المفاجئ أن كودفيد-19 استحكم بهذه السهولة، والظروف تبدو ملائمةً جدًا لأوبئة كهذه في بلدٍ تنشأ فيه الأمراض المعدية الجديدة بمعدل مرضٍ جديد كل سنتين. والحال هنا لا تختلف عن حالة الإنفلونزا الإسباني، فقد ساعد على نشأة الفيروس، ومن ثم تفشّيه المتسارع، الظروفُ المتردية عمومًا للصحة العامة في أوساط التجمعات السكانية البروليتارية. ولكن المسألة، نكرر، ليست مجرد مسألة التوزيع. علينا أن نفهم كيف الفيروس نفسه قد أنتج.

لا يوجد شيء اسمه البريّة

في حالة اندلاع الفيروس الأخيرة، لم تكن سيرةُ الفيروس مباشرةً وواضحةً كسيرتَيْ إنفلونزا الخنازير والطيور، فالأخيران مرتبطان بوضوح بنواة النظام الزراعي الصناعي. ونحن من جهة لا نعرف الأصول المحددة لكوفيد-19، فمن الممكن أن يعود أصله إلى لحم الخنازير، وهو واحدٌ من الحيوانات المدّجنة والبرّية العديدة التي تُباع على نحوٍ غير قانوني في الأسواق الرطبة في ووهان، التي يبدو أنها مركز انطلاق الاندلاع، وإن صحَّ ذلك فهذه الحالة قد تكون أقرب مما يبدو إلى الحالتيْن سابقتي الذكر، ولكن الاحتمال الأكبر يشير إلى نشأة الفيروس في الخفافيش أو الأفاعي، التي تستخرج عادةً من البرّية، ولكن حتى لو كان الحال على ذلك، يوجد ارتباط بسابقاتها، فقد أدى انخفاض وفرة وسلامة لحم الخنازير، بسبب اندلاع حمّى الخنازير الأفريقية، إلى تلبية هذه الأسواق الرطبة ازديادَ الطلب على اللحوم عبر بيع لحوم الطرائد «البرّية». وإن لم يدخل في هذه الحالة رابطٌ مباشر بالزراعة الصناعية، هل يمكن القول بتورّط العمليات الاقتصادية نفسها في هذا الوباء المحدد؟

الجواب هو نعم، وإن بطريقة مختلفة. مرةً أخرى، يشير والاس إلى طريقين رئيسين تساعد الرأسمالية عبرهما على تنميةِ وإطلاق أوبئة متزايدة الفتك: يتمثل الأول، المشروح أعلاه، في حالة صناعية مباشرة، حيث تُنمَّى الفيروسات في بيئات صناعية غُمِرَت تمامًا في المنطق الرأسمالي، والثاني يتمثل في حالةٍ غير مباشرة، تجري عبر التوسّع والاستخراج الرأسمالي في المناطق النائية للرأسمالية، وجوهرها هو حصد فيروسات مجهولة سابقًا من الكائنات البرّية ونشرها وتوزيعها في دوائر رأس المال العالمية. وانفصالُ الحالتين ليس تامًا بالطبع، لكن الحالة الثانية تبدو هي الأنسب لوصف نشأة الوباء الحالي.[9] ففي هذه الحالة، يجري بناء سلاسل سلعية عالمية جديدة من البضائع البريّة نتيجة الطلب المتزايد على أجسام الطرائد والحيوانات البرّية للاستهلاك، والاستخدام الطبي أو (في حالة الجمال وفيروس ميرس) لتشكيلةٍ من الوظائف ذات الأهمية الثقافية. وفي حالاتٍ أخرى، ما يجري ببساطة هو أن سلاسل القيمة الزراعية-البيئية الموجودة تتسع وتجتاح أحيازًا كانت «برّية» سابقًا، مغيّرةً المنظومات البيئية المحلّية ومحوِّلةً التفاعل بين المجاليْن البشري واللا-بشري.

والاس نفسه واضحٌ في شرحه للديناميات العديدة التي تخلق أمراضًا متزايدة السوء على الرغم من توافر الفيروسات نفسها أصلًا في البيئات «الطبيعية»، فتضخّمُ الإنتاج الصناعي نفسه «قد يدفع بالأطعمة البرّية المتزايدة الرَسمَلة إلى عمق آخر الأراضي البدائية، مستخرجًا طيفًا أوسع من المُمْرِضات المحتمل تحوّلها لجائحاتٍ عالمية». أو بعبارة أخرى، مع غمرِ أراضٍ جديدة في عملية مراكمة رأس المال، سيُدفَع بالحيوانات إلى أماكن أضيق فأضيق تحتكُّ فيها بسلالاتِ أمراض معزولة سابقًا، في حين تصبح هذه الحيوانات نفسها هدفًا للتسليع مع ربطِ «حتى أكثر الأنواع الغذائية برّيةً بالسلاسل الزراعية للقيمة». وبالمثل، يدفع هذا التوسّع بالبشر أقرب فأقرب إلى هذه الحيوانات وهذه البيئات، مما «قد يزيد من التفاعل (والطفوح) بين الجمهرات البرية غير الإنسانية والأرياف المُمَدَّنة حديثًا». ويتيح هذا الوضع للفيروس الفرص والموارد ليتحوَّلَ بطرق تسمح له بإصابة البشر، مما يعلّي احتمالية الطفوح البيولوجي. ولا يوجد شيء اسمه انفصالٌ نظيفٌ لجغرافيا الصناعة بين الحاضرة والريف على كل حال، فالزراعة الصناعية الاحتكارية، مثلًا، توظّف المزارع الكبرى والصغرى، وكما يوضح والاس: «في [المزرعة الصناعية] للمتعهّد الصغير على حدود الغابة، قد يصيبُ حيوانًا غذائيًا مُمْرِضٌ ما ومن ثم يُشحَن إلى معمل المعالجة في أطراف المدن الكبرى».

الواقع هو أن الفضاء «الطبيعي» مغمورٌ فعلًا وتمامًا في المنظومة الرأسمالية العالمية، التي نجحت في تغيير قاعدة الشروط المناخية، ودمَّرت العديد من المنظومات البيئية السابقة للرأسمالية[10] حتى أنَّ ما تبقّى منها لم يعد يعمل كما كان في السابق. وهنا يقع عاملٌ سببي آخر، مفاده أنّ كل عمليات الدمار الإيكولوجي هذه، وفق والاس، تنقِص «التعقيد البيئي ذو النوع الذي تخل فيه الغابات بسلاسل انتقال العدوى». ففي الواقع، إذن، لا تصحّ رؤية هذه المناطق كـ «الطرف» الطبيعي للمنظومة الرأسمالية. فقد تحققت عالمية الرأسمالية وكُلِّيتها فعلًا، ولم يعد لها طرفٌ أو حدود يقف وراءه حيّزٌ طبيعي غير رأسمالي، وعليه، لا توجد سلسلة عظيمة للتنمية تتبع فيها البلدان «المتخلفة» بلدانًا متقدّمةً عليها في سلسلة القيمة، ولا أي برّيةٍ حقيقية يمكن الحفاظ عليها في شرطٍ صافٍ دون مساس. فالواقع هو أنّ رأس المال أخضعَ المناطق النائية، وهذه بدورها مغمورة تمامًا في السلاسل العالمية للقيمة، والمنظوماتُ الاجتماعية الناتجة عن ذلك – التي تشمل كلَّ شيء، من «القَبَلِيّة» المزعومة وحتى تجديد الأديان الأصولية المعادية للحداثة – كلّها منتجاتٌ معاصرة حصرًا، وهي تكاد تكون دائمًا موصّلة بالأسواق العالمية، صِلةً مباشرة في كثير من الأحيان. والأمر نفسه يصحّ على الأنظمة البيولوجية-الإيكولوجية الناتجة، لأن المناطق «البرّية» هي فعلًا ملازمةٌ لهذا الاقتصاد العالمي، وهي ملازمةٌ له بمعنيين: بالمعنى التجريدي الذي يتمثل في الاتكال على المناخ والأنظمة البيئية المرتبطة، وبالمعنى المباشر، الذي يتمثل في الارتباط بالسلاسل العالمية للقيمة المذكورة آنفًا.

تنتج هذه الحقيقة الشروطَ اللازمة لتحويل السلالات الفيروسية «البرّية» إلى جائحاتٍ عالمية. ولكن كوفيد-19 لا يتقرب حتى لأسوئها. سنجد تصويرًا أمثل للمبدأ الأساسي – والخطر العالمي – في الإيبولا، فهذا الفيروس[11] يمثل حالةً واضحة لمستودع فيروسي موجود يطفح ليصلَ إلى الجمهرات السكّانية البشرية. وتشير الأبحاث الحالية إلى أن المضيف الأصل هو العديد من أنواع الخفافيش موطنها غرب أفريقيا ووسطها، وهي حاملة للفيروس وغير متأثرة به. وهذا لا ينطبق على غيرها من الثديّات البرية، مثل الرئيسات والدَّيْكَرات، التي تصاب بالفيروس دوريًا وتعاني من حالات تفشّي سريعة وبنسب موتٍ عالية، ففيروس الإيبولا له دورة حياة عدوانية للغاية خارج الأنواع المستودَع. ومع الاحتكاك بأي من هذه الأنواع البرّية المضيفة، يصاب البشر بالعدوى، ونتائج هذا الاحتكاك كارثية، فقد اندلعت العديد من الأوبئة الكبرى، ونسبة الوفاة للأغلبية كانت في غاية الارتفاع، فتكاد تتجاوز الـ 50 بالمئة على الدوام، وأكبر تفشّي مسجّل لها استمر لفترات متباعدة ما بين 2013 و2016 في عدة بلدان في غرب أفريقيا، وأدى إلى 11 ألف حالة وفاة، ونسبة الموت للمرضى المُسعَفين إلى المستشفيات بسبب هذا التفشي وقفت ما بين 57 و59 بالمئة، وكانت أعلى بكثير بين من لا تتوفر لديهم المستشفيات. وعلى الرغم من تطوير العديد من اللقاحات في السنوات الأخيرة من قِبل الشركات الخاصة، فآليات الاعتماد البطيئة وحقوق الملكية الفكرية المقيّدة تضافرت مع شحّ البنى التحتية الصحية لتنتج وضعًا لا أثر فيه يذكر للّقاحات على إيقاف الوباء الأحدث المتركّز في جمهورية الكونغو الديموقراطية، وهو أطول تفشٍّ مستمر حتى الآن.

يكثر تقديم المرض كما لو كان مجرد كارثة طبيعية – عشوائيةٌ في أفضل الأحوال، وفي أسوئها يلقى اللوم على الممارسات الثقافية «القذرة» للفقراء قاطني الغابات. ولكن توقيت حالتي التفشّي الكبريين ليس محض مصادفة، أولاهما في 2013-2016م في غرب أفريقيا، والثانية منذ 2018م وحتى وقتنا الحاضر في جمهورية الكونغو الديموقراطية، فالفترتان تتزامنان تحديدًا مع اتّساع الصناعات الأولية وما نتج عنه من النزوح القسري لقاطني الغابات، مما أخلّ بالأنظمة البيئية المحلّية، بل ويبدو أنّ صحة هذا التحليل لا تقتصر على الحالتيْن الأخيرتين فقط، فكما يشرح والاس: «كل تفشّي للإيبولا يبدو متّصلًا بتحوّلاتٍ في استخدام الأرض مدفوعة برأس المال، بما في ذلك التفشّي الأول في نزارا السودانية في عام 1976م، حيث نُسِج القطن المحلي في مصنع مُمَوَّل بريطانيًا». وبالمثل، حصل تفشّي 2013م في غينيا مباشرةً بعد بدءِ الحكومة الجديدة فتح البلاد للأسواق العالمية وبيع القطع الزراعية الضخمة للشركات الزراعية الدولية الكبرى، ويبدو أن صناعة زيت النخيل، ذات الصيت السيء لدورها في التصحّر والدمار الإيكولوجي العالمي، متورّطةٌ جدًا في هذه الحالة، لأن الزراعة الأحادية التي تفرضها تدمّر التكرار الوظيفي الإيكولوجي القوي الذي يساعد على قطع سلاسل الانتقال، وفي الوقت نفسه يجذب – حرفيًا – أنواع الخفافيش التي تعمل كالمستودع الطبيعي للفيروس.[12]

وفي غضون ذلك، يقتضي بيعُ المساحاتِ الضخمة لشركات الحراجة الزراعية التجارية مصادرةَ أراضي السكّان المحليّين قاطني الغابات والإخلال بضروب الإنتاج والحصاد المحلّية المتّكلة على هذه المنظومة البيئية، فيترك ذلك فقراء الأرياف بلا خيارٍ سوى التوغل المتزايد العُمق في الغابات، في الوقت الذي أُخِلَّت فيه علاقتهم التقليدية بهذه المنظومة البيئية، والنتيجة هي أن بقاءهم على قيد الحياة يعتمد أكثر فأكثر على صيد الطرائد البرّية أو حصاد النباتات والأخشاب المحلية لبيعها في الأسواق العالمية. وهذه الجمهرات تصبح محلّ ازدراء وسخط المنظّمات البيئية العالمية، التي تشجبهم وتصف أفعالهم بـ «الصيد غير القانوني» و«الاحتطاب الجائر» وتحمّلهم مسؤولية التصحّر والدمار البيئي الذي دفعهم إلى هذه التجارة من الأساس، بل والعملية تتخذ منحى ذو إرهاب أشد، كما في غواتيمالا، حيث تُحوَّل القوّات شبه العسكرية، التي عملت في محاربة الشيوعية أيام الحرب الأهلية، إلى قوى أمنية «خضراء» مهمّتها «حماية» الغابة من الاحتطاب الجائر والصيد وتجارة المخدرات، أي: النشاطات الوحيدة المتوفرة للسكان الأصليين، الذين دُفِعوا إليها تحديدًا بسبب القمع الوحشي الذي أحلَّته عليهم هذه القوّات شبه العسكرية نفسها أثناء الحرب الأهلية.[13] واستنسخَ هذا النموذج في كل أرجاء العالم، وتحييه منشورات شبكات التواصل الاجتماعي في البلدان الغنية المحتفلة بإعدام «الصّيادين غير القانونيين» مِنْ قِبَل من يسمّون بالقوى الأمنية «الخضراء» – وفي بعض الأحيان، كان الاحتفال احتفالٌ حرفيٌّ بحالات إعدام مصوّرة بالكاميرا.[14]

الاحتواء كتدريبٍ في إدارة الدولة

استحوذ كوفيد-19 على اهتمام العالم بقوّة لا سابقة لها، وإن كان للإيبولا وإنفلونزا الطيور والسارس فرقعتهم الإعلامية بالطبع، فهذا الوباء الجديد ولَّدَ وقعًا مستدامًا يختلف عن أسلافه، وجزءٌ من ذلك بالتأكيد يعود إلى الاستجابة المذهلة للحكومة الصينية، وما نتج عنها من صورٌ مذهلة لمدن كبرى خالية بتباينها الصارخ مع الصور الإعلامية الشائعة للصين ذات الشوارع المكتظة والأجواء الملوثة. وكانت هذه الاستجابة موردًا مثمرًا للتكّهنات المبتذلة القائلة بالانهيار السياسي أو الاقتصادي الوشيك للبلاد، التي زاد نفخها التوتّراتُ المستمرة لبواكر الحرب الاقتصادية مع الولايات المتحدة، وتمتزج تلك العوامل مع الانتشار السريع للفيروس، الذي أعطاه سمةَ التهديد العالمي المباشر، رغم نسبة الوفيّات المنخفضة.[15]

لكن إن نظرنا في مستوى أعمق، الأمرُ الأكثرُ إذهالًا في استجابة الدولة هي الطريقة التي أُدِّيَت بها، إعلاميًا، كبروفة درامية للتعبئة الكاملة لمكافحة تمردٍ محلي، مما يمنحنا تبصُّرًا حقيقيًا في القدرات القمعية للدولة الصينية، وإن كان يُظهِر أيضًا العجز الأعمق للدولة، تكشفها حاجتها للاعتماد الكبير على مزيجٍ من الإجراءات الدعائية الكلّية، المفَّعلة عبر كل الأجهزة الإعلامية، وتعبئة سكّان الحواضر الذين امتثلوا طواعيةً دون أي إلزام مادي لذلك. وكلٌّ من أجهزة الدعاية الإعلامية الصينية والغربيّة ركّزت على القدرات القمعية الحقيقية للحجر، حيثُ حكت سردية الأولى عن حالة تدخّلٍ حكومي فعّال في حالة طوارئ، والثانية عن حالةٍ جديدة من التغوّل الشمولي للدولة الصينية الديستوبية. ولكن الحقيقة الصامتة هي أنَّ عدوانية الحملة القمعية تدل – واقعًا – على العجز الأعمق لدى الدولة الصينية، التي ما تزال واقعًا في طور البناء.

يفتح لنا هذا الوضع نافذة إلى طبيعة الدولة الصينية، نطلّ من خلالها على مسلك تطويرها التكنيكات الجديدة والابتكارية للضبط الاجتماعي والاستجابة للأزمات، الممكن تفعيلها حتى في شروطٍ حيث الآليات الأساسية للدولة مبعثرة أو غائبة. وبينما مثل هذه الشروط تقدم لنا صورةً أكثر إثارة للاهتمام – وإن كانت أكثر تكهّنًا – لكيف من الممكن أن تستجيب الطبقة الحاكمة، في أي بلد، حينما تسبب أزمة واسعة أو تمرّدٌ فاعل انهيارًا مماثلًا، حتى لأكثر الدول قوّة وتماسكًا. فما ساعدَ التفشّي، من كل النواحي والجوانب، هو ضعفُ الاتصالات بين مختلف مستويات الحكومة، والأمثلة القليلة التالية تبيّن لنا جوانبَ من ذلك: قمعُ الأطباء الذين «فضحوا» الوباء بواسطة المسؤولين المحلّيين بما يخالف مصالح الحكومة المركزية، وآليات التسجيل غير الفعالة في المستشفيات والرداءة البالغة لما يتوفر من العناية الصحية الأساسية. ويضاف إلى ذلك أنّ الحكومات المحلية الأخرى حينما عادت للوضع العادي، عادت بوتيرات متباينة، على نحوٍ يكاد يخرج تمامًا عن تحكّم الدولة المركزية (إلّا في خوبَي، بؤرة الأزمة) فأثناء كتابة هذا النص، تبدو مسألة متى سيعود أيّ الموانئ إلى العمل، وأيّ المناطق ستعيد بدأ الإنتاج، أقرب للعشوائية التامة. ولكن هذا الحجر الارتجالي يعني أن الشبكات اللوجستية ما بين المدن ما تزال معطّلة، فيبدو أنّ كل حكومة محلية تمنع القطارات والشاحنات من عبور حدودها، وهذا العجز على المستوى الأولي للحكومة الصينية أجبرها على التعامل مع الفيروس كما لو كان تمرُّدًا، فتمثُّل بذلك دور الحرب الأهلية ضد عدوٍّ خفي.

بدأت آليات الدولة الوطنية بالعمل حقًّا في 22 كانون الثاني/يناير، حين رفعت السلطات مستوى إجراءات حالة الطوارئ في كامل مقاطعة خوبَي، وأعلمت العموم أنها تحمل التخويل القانوني لإقامة مرافق الحجر الصحي، و«جمع» أي طواقم، ومركبات، ومنشآت ضرورية لاحتواء المرض، وإقامة الحواجز وضبط المرور (وبالتالي ترسيم ظاهرة علمت أنها ستجري في كل الأحوال). وبعبارة أخرى، بدأ النشر الكامل لموارد الدولة فعلًا مع النداء للجهود التطوعية بالنيابة عن السكان المحليين. فمن جهة، ستنهِكُ كارثةٌ ضخمة كهذه قوى أي دولة (انظر، مثلًا، الاستجابة للأعاصير في الولايات المتحدة)، وفي المقابل، تكرر هذه الحادثة نسقًا شائعًا في إدارة الدولة الصينية، حيث على الدولة المركزية الاتّكال على مزيجٍ من النداء المعلن على نطاق واسع لتعبئة المسؤولين والمواطنين المحلّيين وسلسلة من العقوبات اللاحقة المنزلة على أسوء المستجيبين (داخل إطار مكافحة الفساد)، وذلك لافتقارها لهياكل القيادة الرسمية والقابلة للإنفاذ على نحوٍ يمتد من المركز وحتى المستوى المحلّي.. ولا نجد الاستجابة الفعّالة حقًا إلا في مناطق محددة حيث الدولة المركزية تصبُّ معظم قواها واهتمامها، وفي هذه الحالة، جهودها منصبّة عمومًا في خوبَي، وتحديدًا في ووهان. وبحلول صباح 24 كانون الثاني/يناير، كانت المدينة في حجرٍ صحّي كامل فعليًا، لا يدخلها أو يغادرها أي قطار، وذلك بعد قرابة شهر من اكتشاف السلالة الجديدة لفيروس الكورونا. وقد أعلن مسؤولو الصحة الوطنية أن السلطات الصحية مخوّلة لفحص وحجر أي شخص حسب تقديرها. وبالإضافة إلى مدن خوبَي الكبرى، أقامت عشرات المدن الصينية، ومنها بكين وقوانغتشو ونانجينغ وشنغهاي، إغلاقها الخاص على تدفق الناس والبضائع من وإليها وبدرجات متباينة من الحدة.

صورة لأحد نقاط فرض الحجر المحلية تداولتها شبكات التواصل الاجتماعي الصينية

واستجابةً لدعوة الدولة المركزية للتعبئة، قامت بعض السلطات المحلية باتخاذ مبادراتٍ غريبة وحادة، وأكثرها إخافةً طُبِّقت في أربع مدن في مقاطعة تشجيانغ، حيث أُصدِرت جوازاتٌ محلّية لأكثر من ثلاثين مليون نسمة، لا تسمح إلا لفردٍ واحد فقط من كل أسرة بالخروج من المنزل مرّةً واحدة كل يومين. وفي مدن مثل شنتشن وتشنغدو، أمرت السلطات بإغلاق كل حي على نفسه، وسمحت بحجر كل بناية شققية لأسبوعين كاملين إن وجدت فيها حالةُ مؤكدة واحدة من الفيروس. وفي غضون ذلك، اعتقل المئات أو غُرِّموا لـ «نشر الإشاعات» عن المرض، واعتقل بعض من هربوا من الحجر وأنزلت عليهم أحكام طويلة في السجن – والسجون نفسها تعاني الآن من تفشّي مستفحل للمرض، بسبب عجز المسؤولين عن عزل المرضى في بيئةٍ مصممّة لتسهيل العزل. إذن، فهذه الإجراءات اليائسة العدوانية تناظر الحالات المتطرفة لمكافحة التمرد، بما يذكّر على نحوٍ أوضح بممارسات الاحتلال العسكري الاستعماري في أماكن مثل الجزائر، أو حديثًا، في فلسطين. ولم يسبق أن أجريت ممارسات كهذه على هذا النطاق، ولا في مدنٍ كبرى تسكنها نسبةٌ كبيرة من سكان العالم، وممارسات قمع الفيروس هذه تقدّم، إذن، درسًا غريب النوع لمن يسعون للثورة العالمية، فهي، جوهريًا، عملية تجريبية للثورة المضادة بقيادة الدولة.

العجز

يستفيد هذا القمع المحدد من اتّصافه بالإغاثة الإنسانية ظاهريًا، حيث تتمكن الدولة الصينية من تعبئة أعداد مهولة من السكّان المحليين لمساعدتها فيما هو، في جوهره، قضية نبيلة هي خنق انتشار الفيروس. ولكن، وكما هو متوقع، تحمل الحملات القمعية كهذه دائمًا نتائجَ عكسية، فمكافحة التمرّد، على كل حال، هي حربٌ من النوع المستميت، وتُشنَّ فقط حين تنفد الضروب الأقوى للتغلب والإرضاء والإلحاق الاقتصادي، فهيَ نشاطٌ مُكْلِفٌ، وضعيف الفعالية، ومتأخر، ويفضح العجز الأعمق لأي قوّة عليها توظيفه – سواءً كانت المصالح الاستعمارية الفرنسية، أو الهيمنة الإمبريالية الأمريكية المتقهقرة، أو غيرها. وتكاد نتيجةُ الحملة القمعية تكون واحدةً لا تحيد، تمرّدٌ ثانٍ، ملطخٌ بدماء قمع التمرّد الأول، وقمع هذا الثاني لا يكون إلا أشد يأسًا. وفي هذه الحالة، بالكاد يماثلُ الحجر واقعَ الحرب الأهلية ومكافحة التمرد. ولكن حتى في هذه الحالة، كان للقمع نتائجه العكسية الخاصة، بتركيز جهد الدولة الجهيد على التحكم بسير المعلومات وتوظيف الدعاية المتواصلة عبر كل جهاز إعلامي متاح، عبّر الاضطراب عن نفسه في نفس المنصّات.

نزل خبر موت الطبيب لِيْ وينليناغ، أحد أوائل من كشفوا عن خطر الفيروس، يوم 7 شباط/فبراير، كالصاعقة على المواطنينَ والمواطِنات المحصورين في منازلهم في أرجاء البلاد، فقد كان لِيْ أحد ثمانية أطبّاء اعتقلتهم الشرطة بذريعة نشر «المعلومات الخاطئة» في بداية كانون الثاني/يناير، وذلك قبل أن يصاب هو بالفيروس. وأثار موته غضب المواطنين والمواطِنات على الإنترنت، ودفع حكومة ووهان للتصريح عن ندمها عما جرى. فقد بدأ الناس يرون الدولة مكوَّنةً من مسؤولين وبيروقراطيين متخبّطين، ليست لديهم أدنى فكرة عن حسن التصرّف، سوى التظاهر بالقوة،[16] وهذه الحقيقة كُشِفت مع اضطرار تشو شيان وانغ، وهو عمدة ووهان، على الاعتراف في تلفاز الدولة أن حكومته أخَّرَت إصدار معلومات حيوية حول الفيروس بعد انتشاره. والتوتر الذي سببه الوباء، إضافةً إلى التوتر الذي سببته التعبئة الكاملة للدولة، بدأ بإظهار الفجوات العميقة الكامنة وراءَ القناع الهش الذي تضعه الحكومة. بعبارة أخرى، فضحت هذه الظروف أوجه العجز الأساسية للدولة الصينية لعدد متنامي من الناس الذين سلَّموا سابقًا بدعاية الحكومة.

https://twitter.com/WBYeats1865/status/1227488058288697344

إن كان هنالك رمزٌ واحد يعبر عن السمة الأساسية لاستجابة الدولة، فسيكون على شاكلة الفيديو أعلاه الذي صوّره أحد سكّان ووهان وانتشر على الإنترنت الغربي عبر تويتر في هونغ كونغ.[17] ما يظهر فيه، جوهريًا، هو عدد من الناس بمظهر الأطباء، أو المسعفِين، يرتدون عدّة وقائية كاملة، ويلتقطون صورة مع العلم الصيني. أثناء التصوير، يشرح ملتقط الفيديو أنهم يخرجون أمام المبنى كلّ يوم ليتلقطوا صورًا كهذه، وبعد التصوير مع العلم، خلع الرجال عدّتهم الوقائية، ووقفوا يتسكّعون ويدردشون ويدخّنون، بل واستخدم أحدهم البدلة الوقائية لتنظيف سيارتهم. وقبل الرحيل من المكان، يرمي أحدهم بدلته الوقائية في سلّة قمامة قريبة وكأن شيئًا لم يكن، ولا يحاول حتى دفعها لأسفل القمامة كيلا تُرى. انتشرت فيديوهات كهذه بسرعة قبل أن تحجبها الرقابة، وهي كالشقوق الصغيرة في القشرة الركيكة للمظاهر التي تروجها الدولة.

وعلى مستوى أكثر أساسيّةً، بدأ الحجر يأتي بالموجة الأولى من التبعات الاقتصادية على حياة الناس الشخصية. فما ينتشر من تقاريرٍ اليوم يتحدث عن الجوانب الاقتصادية الكبرى، وعن الانخفاضٍ المهول في النمو الصيني مما يحتمل كسادًا عالميًا جديدًا، خصوصًا مع اقترانه بالركود الاقتصادي المتواصل في أوروبا والانخفاض الأخير في أحد المؤشرات المهمة للصحة الاقتصادية في الولايات المتحدة، الذي أظهر انخفاضًا حادًا في النشاط التجاري، وما يجري في أرجاء العالم، من مراجعة الشركات الصينية وأولئك المتّكلين أساسيًا على شبكات الإنتاج الصينية شروطَ «القوّة القاهرة»، التي تسمح بالتأخير أو إلغاء المسؤوليات اللازمة على كلا أطراف العقد التجاري حين يصبح العقد «مستحيل» التنفيذ، وَرغم عدم رجوح ذلك في هذه اللحظة، فحتى إمكانية ذلك دفَّقت شلّالًا من استعادة طلبات الإنتاج في أرجاء البلاد، والنشاط الاقتصادي لم ينعش إلا على نحو مرقَّع، فكلُّ شيءٍ يعمل بسلاسة في بعض المناطق، في حين أنه معلّقٌ إلى أجل غير مسمى في مناطق أخرى، وأعلن 1 آذار/مارس كالتاريخ المبدئي الذي نادت فيه السلطاتُ المركزية المناطقَ الخارجة عن بؤرة الوباء للعودة إلى العمل.

لكن توجد آثارٌ أخرى لم تبرز، وإن كنّا نجادل أنها أهم، وتمتثل إحداها في أن العديد من العمال المهاجرين – بمن فيهم من بقي في مدينة عمله لاحتفالات الربيع أو تمكّن من العودة قبل فرض الإغلاق – عالقون الآن في برزخٍ خطير، ففي شنتشن، حيث الأغلبية الساحقة من السكان من المهاجرين، يشير السكّان المحلّيون إلى تصاعدٍ في عدد المشرّدين، لكن المشرّدين الجدد في الشوارع لا يبدون كمشرّدين سكنوا الشوارع لفترة طويلة، بل مظهرهم يدل على أنهم رُموا في الشوارع للتو بلا مأوى، إذ يرتدون ملابس لطيفة نسبيًا، ولا يعرفون أنسب الأماكن للنوم في الخلاء، أو من أين يحصلون على الطعام. وشهدت عدة مبانٍ في المدينة زيادة في السرقات الصغيرة، مثل سرقة الطعام من عتبة باب شخصٍ في حجرٍ ذاتي طلب طعامًا للتوصيل. وبمستوى أعم، يخسر العمّال أجورهم مع توقّف وتعطيل الإنتاج. وأفضلُ السيناريوهات أثناء توقّف العمل هو الحجر في سكن العمّال، مثل ما هو مفروض في معمل فوكسكون في شنتشن، حيث يحجر العائدون الجدد في مسكنهم لأسبوع أو اثنين، ويدفع لهم حوالي ثلث أجرهم العادي، ومن ثم يسمح لهم بالعودة إلى خط الإنتاج. ولكن هذا الخيار ليس متاحًا للشركات الأفقر، ومحاولة الحكومة تقديم إمداداتٍ جديدة من القروض الرخيصة للشركات الأصغر ليس مرجحًا أنها ستغيّر الوضع كثيرًا على المدى الطويل. وفي بعض الحالات، يبدو أن الفيروس سيسرّع ببساطة الميول المتواجدة في تغيير موقع المصانع، مع توسيع شركات مثل فوكسكون التصنيع في بلدان مثل فيتنام والهند والمكسيك للتعويض عن التباطؤ.

الحرب السريالية

في تلك الأثناء، تشير الاستجابة المبكرة المتخبِّطة لانتشار الفيروس، واعتماد الدولة على إجراءاتٍ عقابية وقمعية صارمة لضبطه، وعجز الحكومة المركزية عن التنسيق الفعّال المتزامن بين الحواضر لإدارة الإنتاج والحجر، إلى عجزٍ عميق ما يزال قائمًا في قلب ماكِنة الدولة. فإن كان تركيز إدارة شي، كما يجادل صديقنا لاو شي، يصبّ في «بناء الدولة»، يبدو أن هذا الهدف ما زال بعيد المنال. وفي الوقت نفسه، إن كان من الممكن قراءة الحملة ضد كوفيد-19 كعملية تجريبية لمكافحة التمرّد، سيلاحظ أن الحكومة المركزية لا تملك قدرة تنسيقية فعّالة إلّا في بؤرة خوبَي، وأن استجابتها في المقاطعات الأخرى – حتى المناطق الثرية والمبجلة مثل هانغتشو – ما تزال غير منسَّقة ومستميتة غالبًا. إذن، يمكننا استنباط أمرين من هذا الحدث: أولًا، أن نأخذه كدرسٍ حول الضعف الكامن وراء الحَدِّ الصلب لقوة الدولة، وثانيًا كتحذيرٍ عن الخطر القائم المتمثل في الاستجابات المفتقرة للتنسيق والعقلانية حين تُنهَك آليات الدولة المركزية.

هذه الدروس دروسٌ مهمة في عصر اتّساع الدمار المتأتي من المراكمة الرأسمالية اللامتناهية، علويًا على المنظومة المناخية العالمية وسفليًا على طبقة الحياة الميكروبيولوجية على الأرض. ومثل هذه الأزمات لن تزداد إلّا شيوعًا، فمع اتّخاذ الأزمة المزمنة للرأسمالية سمةً غير اقتصادية المظهر، ستُستَخدم الأوبئة، والمجاعات، والفيضانات، وغيرها من الكوارث «الطبيعية» كتبريرٍ لتوسيع تحكم الدولة، وستعمل الاستجابة لهذه الأزمات باطّرادٍ كفرصٍ لاختبارِ أدوات جديدة وغير مجرّبة لمكافحة التمرد. وأي سياساتٍ شيوعية متماسكة يجب أن تقبض بيدها على هاتين الحقيقتين معًا. فعلى المستوى النظري، يعني ذلك فهم أن نقد الرأسمالية لن يكون إلّا نقدًا بائسًا إنْ يُقطع عن العلوم الطبيعية، وعلى المستوى العملي، يعني ذلك أنَّ المشروع السياسي الوحيد الممكن اليوم هو مشروعٌ قادرٌ على شقّ طريقٍ في طوبوغرافيا تتسم بالكوارث الإيكولوجية والميكروبيولوجية، وعلى العمل في هذه الحالة الدائمة للأزمات والتشظية.

في الصين تحت الحجر، بدأنا نرى ملامح منظرٍ كهذا، على الأقل في خطوطه الأولية: شوارع آخر الشتاء المهجورة، تغطيها طبقةٌ ركيكة من الثلج لم تخطو عليها قدم؛ وجوهٌ مضاءَة بنور الجوالات عند كلّ نافذة؛ حواجزٌ ارتجالية يشغلها إمّا المتفرّغون من الطواقم الطبية، أو الشرطة، أو المتطوّعين، أو – ببساطة – ممثّلون مأجورون وظيفتهم حمل الأعلام وأمرُك بارتداء القناع والعودة إلى المنزل. هذا الوباء اجتماعي. وعليه، ليست مفاجأة حقيقية أن الطريقة الوحيدة لمحاربته في مرحلةٍ متأخرة كهذه هي شنُّ حربٍ من نوع سريالي على المجتمع كلّه. التجمّع ممنوع، إحداث الفوضى ممنوع. ولكن الفوضى يمكن أن تنمو في العزل أيضًا. ومع برود كلّ الأفران في المصانع ومع تحوّل جمرها المفرقع بهدوء لرمادٍ باردٍ برود الثلج، لا يمكن للعيش في حالة اليأس إلّا أن يتراكم في هذا الحجر تدريجيًا ويتسرّب، وقد يصبح يومًا ما، مثل هذا الوباء الاجتماعي، متعذّر الاحتواء.

المصدر: تشوانغ


ملاحظات:

[1] جزءُ كبير مما سنشرحه في هذا القسم هو – ببساطة – تلخيصٌ لحجج والاس، إنما موّجه نحو جمهورٍ غير مختص، وبالتالي لا نحاول «إقامة الحجة» عند علماء الأحياء الآخرين عبر الإسهاب في جدلٍ مفصّل وأدلّة مستفيضة. للرّاغبين والرّاغبات بالنظر في الأدلة الأساسية أو تحدّيها، نحيلكم/ن إلى أدبيّات والاس وزملائه.

[2] روبرت جي والاس، المزارع الكبرى تصنع الإنفلونزا الكبرى: رسائل حول الأمراض المعدية، الزراعة التجارية، وطبيعة العلم، (منثلي رفيو بريس). 2016. ص 52.

العنوان بالإنجليزية:

Robert G Wallace, Big Farms Make Big Flu: Dispatches on Infectious Disease, Agribusiness, and the Nature of Science, Monthly Review Press, 2016. p.52.

[3] المرجع السابق، ص 56.

[4] المرجع السابق، ص 56-57.

[5] المرجع السابق، ص 57.

[6] لسنا نقول هنا إن المقارنة بين الولايات المتحدة والصين اليوم ليست مفيدة، فلأنّ الولايات المتحدة لديها قطاعها الزراعي التجاري الضخم، فهي مساهمٌ ضخم في إنتاج فيروسات جديدة خطيرة، ناهيك عن الالتهابات البكتيرية المقاوِمة للمضادات الحيوية.

[7] انظر: برونداج جَي إف، شانكس جي دي، ما الذي حصل حقًا أثناء الجائحة العالمي لإنفلونزا 1918؟ أهمّية العدوى الثانوية البكتيرية. مجلة الأمراض المعدية. المجلد 196، العدد 11، كانون الأول/ديسمبر 2007م. ص 1717-1718، وردّ المؤلفين، 1718-1719. وأيضًا: مورينز دي إم، فاوتشي إيه إس، جائحة الإنفلونزا العالمية لعام 1918م: تبصّرات للقرن الواحد والعشرين. مجلّة الأمراض المعدية. المجلد 195، العدد 7، نيسان/أبريل 2007م. ص 1018-1028.

العناوين بالإنجليزية:

Brundage JF, Shanks GD, “What really happened during the 1918 influenza pandemic? The importance of bacterial secondary infections”. The Journal of Infectious Diseases. Volume 196, Number 11, December 2007.

Morens DM, Fauci AS, “The 1918 influenza pandemic: Insights for the 21st century”. The Journal of Infectious Diseases. Volume 195, Number 7, April 2007. pp 1018–1028.

[8] انظر: «افتعال المشاكل» (Picking Quarrels) من العدد الثاني من مجلّتنا.

[9] بطرقهما الخاصة، يناظر هذان الطريقان لإنتاج الجائحة العالمية ما يسميه ماركس الغمر «الحقيقي» و«الشكلي» في حقل الإنتاج الفعلي. وفي الغمر الحقيقي، تُعدَّل عملية الإنتاج الفعلية نفسها عبر إدخال تكنولوجيا جديدة قادرة على تكثيف وتيرة ومقدار المنتوج – مثلما البيئة الصناعية غيرت الشروط الأساسية للتطور الفيروسي حتى غدى إنتاج طفرات جديدة أسرع وتيرة وأشد فتكًا. وفي الغمر الشكلي، الذي يسبق الغمر الحقيقي، هذه التكنولوجيا الجديدة لم تطبّق بعد. فبدلًا من ذلك، يؤتى بضروب الإنتاج سابقة الوجود إلى مناطق جديدة محتكّة بالسوق العالمية، مثل إدخال عمّال النوال اليدوي في الورش التي تبيع منتجاتهم لأجل الربح – ويشابه ذلك طريقة الإتيان بالفيروسات المنتجة في بيئات «طبيعية» من الأنواع البرّية وإدخالها في الأنواع المدجّنة عبر السوق العالمية.

[10] من الخطأ مساواة هذه الأنظمة البيئية بـ «ما قبل البشرية». والصين مثالٌ كامل على ذلك، حيث أن العديد من أراضيها الطبيعية «البدائية» المنظر هي، حقيقةً، نتاجُ فتراتٍ بالغة القدم للتوسع البشري، مسحت فيها أنواعٌ حيوانية شاعت سابقًا في شرق آسيا القارّية، مثل الفيلة.

[11] تقنيًا، هذا المصطلح مصطلح يشمل عدّة فيروسات مختلفة، أكثرها فتكًا يسمّى عادةً فيروس الإيبولا، وفيروس زائير سابقًا.

[12] للقراءة في حالة غرب أفريقيا تحديدًا، انظر: آر جي والاس، آر كوك، إل بيرغمان، إم غلبرت، إل هوغرويرف، ماتيولي آر، آر والاس، هل المشروع النيوليبرالي في غابات غرب أفريقيا أنتج حيزًا جديدًا للإيبولا؟، في المجلة الدولية للخدمات الصحية، المجلد 46، العدد 1، 2016م؛ ولنظرة أوسع للرابط بين الشروط الاقتصادية والإيبولا بحد ذاتها، انظر: روبرت جي والاس وَروديريك والاس (تحرير)، الإيبولا النيوليبرالية: نمذجة ظهور المرض من القطاع المالي إلى الغابة والمزرعة، سبريغر، 2016م؛ وللطلاع على البيان الأكثر مباشرةً للحجة، وإن كان أقل أكاديميةً، انظر مقال والاس: إيولا النيوليبرالية: الأصول الاقتصادية الزراعية لتفشي الإيبولا، كاونتربنش، 29 تموز/يوليو 2015م.

العناوين بالإنجليزية:

Wallace, R Kock, L Bergmann, M Gilbert, L Hogerwerf, C Pittiglio, Mattioli R and R Wallace, “Did Neoliberalizing West African Forests PRoduce a New Niche for Ebola,” International Journal of Health Services, Volume 46, Number 1, 2016.

Robert G Wallace and Rodrick Wallace (Eds), Neoliberal Ebola: Modelling Disease Emergence from Finance to Forest and Farm, Springer, 2016.

[13] انظر ميغان يبارّا، الحروب الخضراء: المحافظة على البيئة وإنهاء الاستعمار في غابة المايا، مطبعة جامعة كاليفورنيا، 2017م.

العنوان بالإنغليزية:

See Megan Ybarra, Green Wars: Conservation and Decolonization in the Maya Forest, University of California Press, 2017.

[14] من الخطأ بالتأكيد القول إن الصيد غير القانوني لايشرع به إلا الفقراء الريفيون المحليّون، أو أن كل القوى الأمنية الريفية في مختلف الغابات لمختلف البلدان تعمل على طريقة القوى شبه العسكرية المناهضة للشيوعية ماضيًا، لكن يبدو أن أعنف المواجهات وأشدّ حالات عسكرة الأراضي البرّية عدوانية تتبع جوهريًا هذا النسق. ولنظرة واسعة حول هذه الظاهرة، أنظر العدد الخاص لعام 2016م من جيوفوروم (69) المكرّس لهذا الموضوع. يمكن قراءة التوطئة هنا: آليس بي كيلي وميغان يبارا، مقدّمة للموضوع المعني: «الأمن البيئي في المناطق المحمية»، جيوفوروم، المجلد 69، 2016م. ص 171-175.

العنوان بالإنغليزية:

Alice B. Kelly and Megan Ybarra, “Introduction to themed issue: ‘Green security in protected areas’”.

[15] وهو أقلّ الأمراض المذكورة هنا فتكًا، فعدد الوفيّات العالي سببه الأساس هو الانتشار السريع بين عدد كبير من المضيفين البشر، مما سبب تعداد وفيّات مطلق عالي رغم نسبة الموت شديدة الانخفاض.

[16] في مقابلة أجريت على بودكاست، تقول أَو لونغ يو، مستشهدةً بأصدقاء في الصين القارّية، إن حكومة ووهان مشلولة فعليًا بسبب الوباء. وهي تقول إن الأزمة ليست تمزّق نسيج المجتمع فحسب، بل حتى الآلة البيروقراطية للحزب الشيوعي الصيني، والتمزّق سيشتد مع انتشار الفيروس وغدوّه أزمة محتدمة للحكومات المحلية المختلفة في البلاد. المقابلة مع دانييل دينفر في ذا دِغ، منشورة 7 شباط/فبراير.

[17] الفيديو نفسه حقيقي، لكن من الجدير بالذكر أنَّ هونغ كونغ غدت بؤرةً للقناعات والآراء العنصرية ونظريات المؤامرة الموجهة ضد الصينيين القارّيين والحزب الشيوعي الصيني، والجزء الأكبر مما يُشَارك على شبكات التواصل بواسطة الهونغ كونغيين حول الفيروس يجب التحقق من صحّته بعناية.

Skip to content