لينا بن مهني، سردية الحضور والغياب

الكل يذهب، وحده الموت يأتي.

قرأت هذه العبارة ضمن أحد الأدبيات الواقعية المظلمة التي يحتفي بها الأدب العربي، كلمات باردة، ضمن ورقات باردة تختفي في طيات كتب باردة، وتجعلنا نقرأها ببرود أكثر.

لماذا..؟

لم نستطع بعد، وأتحدث هنا بصيغة الجمع، نحن، أصدقاء/ صديقات، رفاق/ رفيقات، لينا بن مهني، أن ندرك معنى وفاتها. حين بلغني نبأ وفاة لينا اليوم صباحًا، ضحكت، قلت هي مزحة وقحة أخرى تنشرها منصات بائسة لزيادة عدد المشاهدات، لم أصدق الخبر حتى حين رأيت صفحة الصادق بن مهني تنفجر حزنًا وأسى، كذبت كل ذلك، وكتبت لها بطفولية: صباح الخير لينا، كنت قد تواصلت معك منذ أسبوع تقريبًا لنلتقي وأتحدّث معك حول دراسة سأنشرها مع المنتدى التونسي للدراسات الاجتماعية والاقتصادية، تتمحور بالأساس حول سوسيولوجيا الاحتجاج، وأريد أن أتناول تجربتك ضمن هذا المؤلف. في انتظار ردّك صديقتي.


دقائق قليلة حتى أدركت أن ردّها لن يأتي. لينا بالفعل ماتت، ماتت قبل الفرح، قبل بروز الأمل من فجاج الصحراء والألم، ماتت وأنا أعدها دومًا بتعريب فصل من كتابها، قبل أن تصْدُر لائحة شهداء وجرحى الثورة، قبل تحقيق أهداف الثورة. ببساطة، ماتت لينا بن مهني وأولاد الكلب ما زالوا في الحكم يترنحون مثل السكارى.


رسالة أخرى أرسلها للينا، صباح الخير لينا مرة أخرى، أعتذر عن الإزعاج المتكرر، قبلت برحابة صدر اعتذارك عن حضور حفل زواج أختي، ولن أقبل أي اعتذار للقائك هذه المرة، متى يمكننا الالتقاء صديقتي، مقهى المسرح بشارع الحبيب بورقيبة مثل السابق، مكان ممتاز، أليس كذلك؟ في هذه المساءات يكون الطقس مناسبًا، ما رأيك..؟


الموت مؤلم، ينطلق كالسهم وهو يشرخ الزمن، يصبح التقويم البيولوجي منفلتا من عقال الزمن، ويصبح الزمن الحاضر ماضيًا، والمستقبل زوالا، يزول الأمل والفرحة والابتسامة، ولا تبقى سوى ذكريات نسترقها من الزمن، في كل هذه الذكريات نحاول استحضار ذكرى طيبة، ذكرى جيدة، ومن شاشة الذاكرة تلوح صورة فتاة جميلة، تتحدث وتصيح، وتساند، تترنم النفس الهاجعة على كثبان الذكريات، وتحاول استحضار الزمن الآني، لماذا يحدث هذا الشرخ، لماذا تموت لينا بن مهني، مازالت الأدوية منقطعة، ما زالت الشرطة تمارس قبحها وفجورها علينا، مازالت الدولة – كعادتها – تحاول اغتصابنا. إحساس باليتم يا صديقتي بعد غيابك.


كنت دائمًا أرى أن مية الجريبي ولينا بن مهني عصيّتين على الموت، يستحيل أن يكون هنالك إله طيب، مهما بلغت درجة سطوته وسلطته البيطرياركية أن يسمح بموتهم، سبب آخر يضاف إلى تاريخ المواجع والبكاء والنواح. لماذا يموت من يستحق الحياة، ويحيا من يستحق الموت، بؤس أخر يضاف إلى التهميش الإلهي.

في محاولاتي المتعددة، لصياغة مانيفستو الحزن، كنت ألاحظ وجود علاقة مرضية بين بعض الأشياء، أسميها الآن لاهوت الحزن؛ البرد والوحدة والألم. لاهوت الحزن ينفلت من الزمن العاري، زمن العصور الأولى الساحق، زمن ينقلب فيه كل شيء رأس على عقب، زمن الجراح والألم والدموع والصراخ. كنت دائمًا أرى الحزن الطافي الذي يطوقنا من كل صوب وحدب، زمن المواجع، تموت لينا بن مهني، لم أستطع أن أستوعب هذا الجرح، هذا الخبر، هذا الألم، فكرت في طريقي إلى منزل عائلتها في الهرب، في الركض إلى الغياب، كيف سأواجه عائلتها، كيف سأعزي عائلتها… أي قاموس ديني سأستعير منه المفردات وأركبها وأقولها..


الآن، منتصف النهار، أصل إلى الزهراء، أشق الطريق نحو المنزل، كل خطوة أخطوها أدرك بلوغ معقل الألم، الوجوه هناك حزينة للغاية، توفيق كركر، سندس زروقي، عز الدين الحزقي، بعض قدماء برسبكتيف، وبعض الوجوه المألوفة في كل ذكرى ثورية. صمتت برهة من الزمن، من تلقاء نفسها قالت لي سندس: الصادق منهار للغاية، هو في المستشفى الآن. تألمت لألمه، الصادق بن مهني صديق ورفيق ومعلم، وكان خير سند لي في مدينة الزجاج والأزقّة المظلمة المسماة بتونس العاصمة. كان الصادق شيخًا سبعيينا في جسد شاب، ما زال يبتسم في كل مرة أقابله فيها، مازال يروي لي طرفًا ونكت عن شبابه في برسبكتيف، مازال يسأل بشغف عن مدنين، عن جربة، عن الجنوب المنسي، وعن تعب السنين.


منذ 28 يوما تقريبًا، اتصل بي الصادق بن مهني، قال لي: أنت مستدعى الى منزلي، مرحبًا بك أنت وصديقتك، لتناول العشاء عندنا، لينا بخير الآن وهي تتعافى، في انتظارك. رحبت بدعوته بكثير من الفرح، وأكدت له أنني سألبي دعوته بكل سرور.. حين وصلت لتونس، غرقت في الالتزامات، نصوص يجب ترجمتها، امتحانات يجب إجراءاتها، وليل أقضيه في تصفية حسابي مع الأيام. ولم ألبِّ دعوة الصادق، لكنني أتيت له بكثير من الحزن الآن، أحاول صياغة اعتذار مقنع لعدمي تلبية دعوته… تخونني الكلمات.


الساعة الحادية عشرة بتوقيت الألم:

اتصل بي جمال قصودة، رجاءً اكتب تعزية وتأبينا للفقيدة، أنا الآن في جربة، سأستقل أول سيارة وأكون في تونس ليلًا..

أحاول كتابة نص، لا أعلم طبيعته أو ماهيته، ربمّا هو بيان في الأحزان، ترتعش يدي الآن، في هذا الصمت الرهيب الذي لا يشقه سوى نواح امرأة تبكي بحرقة ولوعة عليها، لا أعرف ماذا أكتب ولماذا أكتب.. أعلم أنني حزين الآن، حزين للغاية، ومؤلم للغاية.

متعبة هذه الشمس فوق مدينتي، كئيب هذا اليوم وحزين، نهر من المجاز والاستعارات والأحزان والأشجان، طيف من التعبيرات والصياغات اللغوية المتعددة، نار من الفقدان والحرمان، وسيرة أخرى من تاريخ المواجع.

ربّ قد مسني الضرّ وأنت أرحم الراحمين.

أعيد كتابة رسالة أخرى للفقيدة:

يبدو أنّ غيابك سيطول، لا أعلم ماذا سأقول أو سأكتب لك، غيابك مؤلم يا شقيقة الورد، مؤلم كصمت الحاضرين هنا، كحزنهم العميق..

مؤلم غيابك يا لينا، هذا العفن الشكسبيري، هذه الخديعة الراكدة في ذواتنا، هذا الزمن الموحش، الموغل في الألم، ينخرنا من الداخل، نحاول استيعاب لحظة غيابك ولا أستطيع، كيف تموتين، لم أتفهم بعدُ خبر موتك، حتى الآن أجد تعقيدًا في صياغة جملة عليك، يقول لي بعض الحاضرين: كانت فتاة شجاعة، أغيّر صياغة الجملة وأقول: هي فتاة شجاعة، أحاول التلاعب بالزمن، لا ماضي معك، أنت الحاضر، أنت الحاضرة، ولن تغيبي أبدًا.

أحاول نشر النص الآن، رفعت صورة للفقيدة (أكذب، لن تكون فقيدة، هي حاضرة دومًا) أحاول تصنيف النصّ، لا يوجد تصنيف يستوعب كم الألم الكامن في قلوبنا، الى اللقاء أيتها النقية.. إلى اللقاء

Skip to content