غياب الذاكرة: قصّة عيد العمال العالمي

«في مرمى نيران المدافع الكبرى، يستعد عمّال كل البلدان، واعينَ بطبقتهم، لانتزاع ما كان أصلًا حقًّا لهم» – هيلين كيلر

تحتفل آلاف التنظيمات العمالية اليوم في مختلف بقاع المعمورة بالأول من أيار/مايو عيد العمال العالمي، بمسيراتٍ جماهيرية حاشدة وإضراباتٍ عن العمل، فتنتعش حيوية الحركات العمالية وتجدد طاقاتها ويذكر بإرثها وتحرَّك مطالبها المعاصرة للعمّال وكافة القطاعات الاجتماعية.

عند رؤية صور هذه المسيرات، أو المشاركة فيها، بأعلامها الحمراء واحتفاءها بالكادحين، قد يعتقد الواحد أنَّ هذا أصلَ عيد الأول من أيار/مايو يعود إلى مرسومٍ ما في الاتحاد السوفياتي، أو حدثٍ ما في أحد تلك البلدان الشهيرة بإرثها النضالي العمّالي، لكنه واقعًا يعود إلى أحداثٍ جرت في بلدٍ هو اليوم معقل الرأسمالية المستفحلة بلا قيدٍ أو لاجم، بلدٌ لا يعترف فيه رسميً بهذا اليوم حتى: الولايات المتحدة الأمريكية.

تعود القصة إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الفترة التي احتدمت فيها الصراعات الطبقية والثورية في أوروبا وأمريكا، وتوَّجها قيام كومونة باريس الثورية وانهيارها الدامي، وجرت حبكتها تحديدًا في عام 1886م في مدينة شيكاغو، في خضم النضال العمّالي ضدَّ ظروف العمل المنهِكة والقاتلة.


منذ بزوغ الرأسمالية وتغلغلها لم يُجذَب العمّال إلى مصانعها بِوعودِ حياةٍ أفضل أو مسيرةٍ مهنية مشرقة، بل بِدمارِ مقصود استهدف منظومة حياتهم السابقة، «حَرَّرَهم» من قيود العمل الفلّاحي الإقطاعي، وتَرَكهم دون خيارٍ سوى الهجرة إلى عشوائيات المدن للعمل في مصانعها التي لا تتوقف، بساعات عملٍ لا حدود لها، مجرَّديْن حتى من الأعراف التي حمتهم من بطش الإقطاعيين في الريف.

وبحلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم تتغير تلك الأوضاع كثيرًا رغم عقودٍ طويلة من النضال ضدها، فكانت ظروف العمل في المصانع الرأسمالية الحديثة، حتى إن متوسط عمر المتوقع للعاملين في بعض القطاعات لم يكن يتجاوز العشرينيات، وكان الآلاف يموتون سنويًا بسبب الأمراض المتعلقة بظروف العمل المزرية التي لم يعفى منها حتى الأطفال. وفي أوضاعٍ كهذه، ازدهرت التنظيمات العمّالية ذات الصبغة اليسارية – الشيوعية منها واللاسلطوية (الأناركية) – بمطالبَ أصغرُها الحد من ساعات العمل وَأكبرُها إسقاط المنظومة الرأسمالية جملةً وتفصيلًا وترك زمام الاقتصاد كله ومنظومته السياسية في يد مُشَغِّليْه من العمّال.

بعد سنين طويلة من التنظيم النقابي، وضم مئات الألوف من العمّال إلى الحركة بمختلف أطيافها، أعلنَت فيدرالية النقابات العمالية والحرفية المنظمة في مؤتمرها الوطني في شيكاغو عام 1884م أن «الثماني ساعات ستصبح يوم العامل القانوني منذ الأول من أيار/مايو 1886 فصاعدًا»، ومن يومها جرى التنظيم على المستوى الوطني لهذا اليوم الموعود.

اعتنقَت الآلاف المؤلَّفة من العمّال هذا المطلب، رغم ما أتاه من انتقادات حتى من اليسار لمحدوديته، فقد صرَّحت جريدة الإنذار (The Alarm) ذات التوجه اللاسلطوي: «سواءً أكان الرجل يعمل ثماني ساعات يوميًا أم عشرةً، تظل عبوديته عبوديةً»، لكن قوّة التنظيم العمّالي دفعت حتى المعترضيْن للرضوخ والمشاركة في التنظيم.

كانت التنظيمات العمّالية – والعمّال عمومًا – مستعدّةً للأسوأ، ففي إضراب عمّال السكك الحديدية قبل ذلك بقرابة عقدٍ من الزمن، كان ردُّ السلطات الأمريكية هو فرض الأحكام العرفية ومن ثم إرسال الميليشيات الرسمية وغير الرسمية مدجّجةً بالسلاح – بما في ذلك المدافع الرشّاشة (بندقية غاتلينغ) في إحدى الولايات – مرتبكةً عدّة مجازر، بما يذكّر بما جرى قبلها ببضع أعوام حينما قتلت الحكومة الفرنسية أكثر من عشرة آلاف شخصٍ لقمع كومونة باريس.

وعندما أتى اليوم الموعود، الأول من أيار/مايو 1886، ترك أكثرُ من ثلاث مئة ألف عاملٍ أدواتهم وخرجوا من مصانعهم ومقرّات عملهم مضربين عن العمل في كافة أرجاء الولايات المتحدة. وصلت الأعداد إلى قرابة المئة ألف في شيكاغو وحدها، فتجمّع العمّال في الساحات العامة، وألقت القيادات العمّالية خطبها النارية عن حقوق العمّال بل وحتى عن ضرورات العمل الثوري – وكان أشهرهم شخصيات لاسلطوية مثل ألبيرت بارسونز، وَجوهان موست، وَأوغست سبايز، ولويس لينغ.

انتهى ذلك اليوم دون مشاكل تذكر، فالأحداث التي رسّخت هذا اليوم في تاريخ التنظيم العمّالي وذاكرتها النضالية جرت بعد ذلك بيومين في الثالث من أيار/مايو، باندلاع اشتباكاتٍ بين العمّال المُضرِبين لشركة «مَكروميك ريبير ووركس» والشرطة. فلشهورٍ عدّة قبل ذلك، لم تكف الشرطة والمرتزقة عن مضايقاتها عمّال مَكورميك المُضرِبين المنتمين إلى نقابة عمّال الصلب التي تغلب عليها الطبعة اللاسلطوية.

أثناء تجمّع للعمّال المضربين في ذلك اليوم قرب المصنع، وَمعهم قرابة مئتي متضامن، دخلت فيهم الشرطة بالعصي لكسر الإضراب وفكّ التجمع، فردَّ بعض المضربين برمي الحجار، وتلى ذلك تصعيدٌ من الشرطة بإطلاق الرصاص الحي وقتل اثنين من المُضْرِبين، مما أثار غضب التنظيمات العمّالية في المدينة، فنادت إلى عقد تجمّع في اليوم التالي في ميدان هايماركيت (سوق القش) لمناقشة وحشية الشرطة.

بسبب سوء الأحوال الجوية وقصر الوقت لم يحضر إلّا ثلاثة آلاف شخص، ومع نهاية الخطب، ذهب اثنان من المرتزقة إلى الشرطة وأبلغوهم كذبًا أن القيادات تستخدم لغةً تحريضية وتدعو إلى العنف، فاتجهت الشرطة إلى مكان التجمع لفك المظاهرة التي كانت أساسًا في نهايتها، فَرُميت قنبلة تجاه الشرطة من مصدرٍ ما يزال مجهولًا، البعض يشتبه أنها دسيسةٌ وآخرون يقولون إن المصدر أحد اللاسلطويين، فاستجابتِ الشرطة مرةً أخرى بإطلاق الرصاص الحي بعشوائية وفوضوية، مما أدّى لمصرع حوالي ثمانية متظاهرين وجرح أربعين آخرين، بل وقتل سبعة من الشرطة نفسها.

اعتُقِل ثمانية من القيادات العمّالية اللاسلطوية، بارسونز وسبايز ولينغ بالإضافة إلى ستة آخرين، واتُّهِموا جميعًا بالقتل المتعمد رغم أن أغلبهم لم يكونوا حاضرين حتى في تلك المظاهرة، وكانت هيئة المحلَّفين الموكَّلة بتقرير براءتهم من عدمها مُشَكَّلةً من رجال الأعمال وملّاك المصانع – بما يتماشى مع سير المحاكمات السياسية اللاحقة في الولايات المتحدة، مثل محاكمة أعضاء حزب الفهود السود والحركة الأمريكية الهندية – فأعلنت إدانتهم جميعًا، وأُعدِمَ أربعة منهم شنقًا، وانتحر خامس، وبعد ست سنوات أعفى حاكم الولاية عن الثلاثة الباقين وَوَجّه نقدًا لاذعًا لتلك المحاكمة الهزَلية.

وبعد قمع المتظاهرين، وإعدام عددٍ من القيادات العمالية، انطلقت حملة إعلامية في الجرائد والصحف تشوّه سمعة الحراكيين العمّاليين، بتصويرهم كأجانب قادمين من أوروبا الشرقية بهدف تخريب البلد، فكان هؤلاء أحد أوائل أكباش فداء القمع العمّالي في أمريكا – بعد السود المُستعبَدين والسكان الأصليين.

اعتمدت الأممية الثانية، تنظيمٌ جمعَ مختلف الأحزاب الاشتراكية والعمالية في مختلف البلدان، يوم الأول من أيار/مايو كعيدٍ عالمي للعمّال، تذكيرًا بمجزرة هايماركيت ونضالها وشهدائها، وطلبت من أعضائها من أحزاب شيوعية واشتراكية اعتمادهُ أيضًا كيوم إضرابٍ سنوي، حتى أصبح لاحقًا عيدًا رسميًا في 66 بلدٍ في مختلف بقاع العالم، أمريكا لم تكن واحدةً منها.

كانت السلطات الأمريكية خائفة من أن ترسيم الأول من أيار/مايو كعيدٍ رسمي للعمال سيعزّز الحركة العمّالية واليسارية، لما يحمله هذا اليوم من ذاكرة نضالية يتعسر محوها، فاعتمدت يومًا آخر، أولُ إثنين من أيلول/سبتمبر، لعدم حمله أي مضامين نضالية، ولأن جَوّهُ عادةً مناسبٌ للنزهات الأُسرية.

يذكر الروائي الأوروغوياني إدواردو غاليانو غياب ذاكرة هذا الحدث في الولايات المتحدة:

شيكاغو مكتظة بالمصانع، في مركز المدينة، وحوالي أطوال مبنى في العالم؛ شيكاغو مكتظة بالمصانع، شيكاغو مكتظة بالعمّال.

حينما أذهب إلى منطقة الأحياء، أطلب من أصدقائي أن يدلّوني على مكان ما شُنِقَ، في 1886، أولئك العمّال الذين يحيّيهم العالم أجمع كلّ أوّلٍ من مايو.

«لا بد أنّه هناك»، يقولون لي، لكن لا أحد يعلم حقًّا.

لم يشيّد تمثالٌ لذكرى شهداء شيكاغو في مدينة شيكاغو.

لا تمثال، لا حجرٌ تذكاري، لا لوحٌ برونزي، لا شيء.

الأول من مايو هو اليوم الكوني الوحيد حقًّا لكل الإنسانية، اليوم الوحيد حيث كلّ القصص وكل الجغرافيات، وكل لغات العالم وأديانه وثقافاته تتلاقى، لكنّه في الولايات المتحدة مجرد يومٍ عاديٍّ آخر.


إنَّ الواقع الذي نعيشه اليوم امتدادٌ لهذا التاريخ الطويل من النضالات العمّالية والتحرّرية؛ ففي السعودية مثلًا، ليست منظومة الرفاهية الاجتماعية والمستوى المعيشي العالي التي تمتّعنا بها لعدة عقود طويلة إلّا نتيجةً لنضال الحركة العمّالية والوطنية في الخمسينيات والستينيات، وبعد أن قُمِعَت تلك التنظيمات وغُيِّبَ تاريخ الحركة العمّالية وإرثها، ها هي تلك المنظومة اليوم تُفكّك دون مقاومةٍ تُذكَر.

لكنَّ هذه المنظومة لا تستحقُّ الدفاع عنها إن لم تُغيَّر الأسس التي صارت مبنيةً عليها: كدحُ طبقةٍ عاملة، أغلبها من المقيمين، محرومةٌ من منافعها وتعملُ بلا حدود فعلية لساعات العمل ولا حقوق عمّالية أو اقتصادية أو سياسية.

يكافِح زملاؤنا اليوم، مثلما نكافح، لأجورهم وحياتهم وكرامتهم يومًا بعد يوم، وَهُم أنفسهم غدو كبشَ فداء تفكيك هذه المنظومة، كبش فداء حرماننا من منجزاتِ نضال أسلافنا، فالإعلام يلومهم على كلّ الآفات الاجتماعية ويُحمّلهم مسؤولية ضياع ثرواتٍ لم يحصلوا منها إلّا على النزر القليل، وذلك بهدف تعميق الشرخ بينهم وبين المواطن والمواطنِة الكادحَيْن، وهو شرخٌ لا يستفيد منه إلّا كبار المنتفعين.

يودُّ هذا الإعلام أن يهيئ لنا أنَّ كرامتنا المسلوبة لا تُكتسَب إلّا بسحق كرامة هذا الآخر «المقيم»، الذي شاركناه وشارَكَنا خلق الثروة الوطنية، وتشارَكْنا بؤسًا واحدًا وحرمانًا واحدًا، وإن اختلفت الأشكال والدرجات.

إنْ أردنا البناء لمستقبلٍ أفضل، فلا بد لنا من تعلّم الدروس من هذا التاريخ الطويل ونضالاته، والعمل على رأب هذا الصدع المفتعَل بين مختلف أطياف مجتمعاتنا ومد جسور التضامن بينها، ومواجهة كافة أشكال الظلم والتمييز والاضطهاد، ومدّ يد العون إلى بقية الشعوب المُستغلَّة والمظلومة في كافة بلداننا العربية وما وراءها. فأمامنا مفترق طرق، فإمّا أن ننتصر باتّحادنا، أو نهلك بِفِرقتنا وانقسامنا.

Skip to content