القمع، القتل، العنصرية: مدخل لأصول الشرطة الحديثة

مقدّمة المترجم

نقدم هذا النص الذي يتقفى أثر نشأة أجهزة الشرطة الحديثة في إنجلترا ومن ثم في الولايات المتحدة الأمريكية ليفسّر دورها الوظيفي في الدول-الأمم الرأسمالية الحديثة. ولسنا نقدمه «للفائدة» و«الاطلاع» فقط بل لغرضٍ أهم، وهو: إرجاعُ هذه الأجهزة الموجودة في كل بلداننا إلى سياقاتها التاريخية، لأجل تبديد الضبابية التي تحيط بوظائفها وأسسها ونفي التصوّرات الخاطئة التي مفادها أنَّ الشرطة جهازٌ طبيعي عابر للتاريخ والمجتمعات.

في تحسّس طريقنا إلى خارج هذا الضباب، علينا تجنّب حفرتين شاع الوقوع فيهما:

الحفرة الأولى: تعميم السياق الأمريكي

يمكننا الإفادة من هذا التاريخ لنستقرئ واقعنا المعاصر وتاريخنا، لكن لا يصح إسقاط سمات جهاز الشرطة الحديث الأمريكي المتكوّن ضمن صراعات سياسية محددة على سياقاتٍ تاريخية أخرى، حتى وإن قامت كلّها على نفس الأسس وللتعامل مع مشاكل متشابهة. نشأ جهاز الشرطة الأمريكية في وضعٍ استعماري استيطاني في القرن التاسع عشر الميلادي، وكان ذلك استجابةً لتحدِّياتٍ معينة واجهتها النخب الحاكمة، وتحديدًا تمرُّد عموم العمّال في الشمال الأمريكي، وتمرُّد العمّال السّود المستعبَدين في الجنوب.

أكسبتها الحالة الاستعمارية الاستيطانية سماتٍ خاصّة بها (مثلًا: كونها مدججة بالسلاح) تختلف بها – مثلًا – عن سياق نشأة شرطة إنجلترا بعد مجزرة بيترلو – التي دفَعت نحو ما سُمّي بـ «مبادئ بيل» التي جرَّدت الشرطة من السلاح، من بين أمور أخرى. وهذه الكيانات لم تنشأ ومن ثم تثبت على ما هي عليه على مر التاريخ، بل ظلَّت تتحوَّل وتتغيّر رهينةً للصراعات السياسية مستمرة داخل البلاد وخارجها، إنما دونَ أنْ تتغيَّرَ وظيفتها الجوهرية: الحفاظُ على النظام الحاكم وضبطُ الطبقات العاملة والجماعات المهمَّشَة.

ولا يمكن إسقاط سياقيّ بلدٍ استعماري وبلدٍ استعماري استيطاني على البلدان العربية، فبعضٌ من هذه الأخيرة عاشت لفترات طويلة تحت نير الاستعمار، وأخريات كانت «محميّة» تابعة للقوى الاستعمارية، وبعض أراضينا ما يزال مستعمرًا حتّى يومنا هذا. كلٌّ من هذه البلدان يَحْتَلّ مواقع مختلفة في علاقتها ببعضها البعض وفي الاقتصاد العالمي عمومًا، وتحتوي كلٌّ منها تشكيلاتٍ متنوّعة ومتغيّرة للطبقات الحاكمة والطبقات العاملة وللجماعاتِ المُهيمِنة والجماعاتِ التابِعة والمُهمَّشة.

وهذه التشكيلات وتنوّعاتها وتغيّراتها والصراعات السياسية التي أنتجتها والتي نتجت منها تفضي إلى تنوُّعٍ في الأسس التي تستند عليها أجهزة الدولة وطرائقها ومهامّها لتحقيق هدف ضبط الجماهير، وفي تحديد الفئات المستهدفة في هذا الضبط البوليسي والرقابة، وهذه العوامل الداخلية مرهونةٌ أيضًا بتذبذبات السوق الرأسمالية العالمية ورِهاناتِ الدول الرأسمالية الكبرى والصغرى، أي أنَّ تشكيلات الشرطة وعمليّات الضبط والقمع يجب النظر إليها في تطوّرات سياقها المحلّي وتغيّراته، وعدم تجاهل العوامل الخارجية، سواءً كانت عسكرية أو سياسية أو أيديولوجية أو اقتصادية أو مزيجًا منها.

ولتبيان الاختلاف سننظر بإيجازٍ إلى بعض السياقات العربية، وأعتذر هنا عن الاختزال والتبسيط.

في بعض البلدان العربية تستقدمُ الدولة أعضاء الشرطة من بلدانٍ أخرى (من الوطن العربي ومن خارجه) لفرض الرقابة والقمع على المواطنين (والمقيمين)، وفي بلدانٍ أخرى تناطُ بعض مهام رقابة الشرطة على العمالة إلى المواطن المدني (الكفيل)، ولا تتدخل الشرطة إلّا في حال خرج الأمر عن سيطرته. وفي المقابل، لدينا مجموعة من العلاقات الاجتماعية التي يبدو وكأنها تعامل بصفتها خارجَ صلاحيات الشرطة: العلاقات الأبوية في المنزل. سأتطرّق أولًا للكفالة ومن ثم أعرج على العلاقات الأبوية سريعًا، فالأخيرة تبيّن حدود تطبيق القانون مما يبيّن مجال اختصاصه.

يجري الضبط البوليسي للعمالة المقيمَة لدوافع يمكن القول إنّها (غالبًا) اقتصادية، وتدخل شرطة الدولة عادةً عندما تخرج الأمور عن القدرة الرقابية للكفيل المواطن، وأحد المهم الرئيسة للشرطة هي رصد «العمالة السائبة» وملاحقتها وإعادتها إلى إشراف الكفيل، ومن هذه الوظيفة وهذه العلاقة بين الشرطي النظامي والعامِل المقيم – وليس من «التخلف» أو «الجهل» – ينبع الفارق الشاسع بين معاملة الشرطة للمواطِن والمقيم.

إنَّ الشرطي هو الموظف التنفيذي الأول المسؤول عن اعتقال وسجن المقيم وترحيله إلى بلدٍ آخر وقطع مصدر رزقه ورزق كل أسرته، أحيانًا لمجرد أنّه لم يحمل الجواب المطلوب على سؤال «أين إقامتك؟»، فهذه «الوحشية» هي نتيجةُ هذه العلاقة وليست سببها. وتظهر الوظيفة الطبقية للشرطة وتبرُز أكثر في اختلاف المعاملة بين المقيم الأوروبي والمقيم الآسيوي والأفريقي (وتختلف كذلك بين العرب من هؤلاء وغير العرب، وبين مختلف الجنسيات العربية).

في المقابل، تبدو الدولة تارةً وكأنها لا تقف عند حدود الأسرة، فتتجاهل الجرائم بحق النساء (والأطفال) في الأسرة، فعلى سبيل المثال، نحن (أي مواليد الثمانينيات فما بعد) أول جيل في التاريخ الحديث يعيش في فترة حيث العدد الأكبر من الدول تصنِّف الاغتصاب الزوجي كجريمة (والتصنيف لا يعني، بالضرورة، التطبيق). وتارةً أخرى تتدخل لـ «حماية» الأسرة من «الانهيار» و«الانحلال»، عادةً بالضبطِ البوليسي لسلوكيات النساء (وبشكلٍ أقل، اليافعين).

من الواضح جدًا أنَّ لا تناقضَ في الممارستين، فالدولة دائمًا – وفي كل مكان – في حالة تدخل مستمر لتحديد الأشكال المقبولة والمرفوضة للأسرة وتحديد ممارساتها، ولضمان عدم «انهيارها»، وذلك للتأكد من سير الأسرة داخل الحدود والقيود الأيديولوجية للدولة، فهي إذن «تتجاهل» ما تعتبره مقبول (أو على الأقل معقول)، وتتدخل لـ «تصحيح» أي انحراف.

لا يعود من المستغرب إذن أنَّ بدايةَ توجّه الدولة الممنهج إلى سجن النساء السياسيات كان باستهداف من طالبنَ بإلغاء حالة التبعية في فترة نضوج الحركات النسوية، أي فترة كسر النساء الفعلي لإطار ضبط الأسرة ومحاولة تغيير بنى الدولة، مما يضعف (مؤقتًا) القواعد الأيديولوجية التي تقوم عليها.

نقطتان لتجنّب اللبس:

1) حينما نقول إنَّ دوافع ممارسةٍ ما غالبًا اقتصادية أو الأيديولوجية، فلا يعني ذلك أنها محصورةٌ بأيٍّ منهما، بل هي تؤثر على بعضها بعضًا:

  • فقد يُعامِل الشرطة المقيمَ الأوروبي من أصول آسيوية الذي يرأس منشأة ما بنفس معاملةِ الآسيوي العامل في مزرعة ما، لأنَّ الشرطة لا تنتظر لتعرف المكانة الطبقية للفرد، فالاستهداف يعتمد على الرؤية والمظهر (وهنا يأتي الاستهداف العرقي).
  • والشكل المقبول للأسرة قد يتغيّر مع تغيّر الضرورات الاقتصادية والأيديولوجية، فتارةً تسعى لتحفيز زيادة عدد محدد من الأطفال (ونوع محدد أيضًا، فترفُض الأطفال من آباء أجانب مثلًا)، وتارةً أخرى تُجرِّم ولادة أكثر من طفل (أو تُجرِّم ولادة أطفال من أنواع معيّنة: مثل الأطفال «مختلطي العرق» في جنوب أفريقيا زمن الفصل العنصري)، وقد ترخي القيود على عمل النساء وقد تزيده حسب الحاجة الاقتصادية.

2) العملية كلها مرهونة بالصراعات السياسية، لا برغبات الدولة وحُكَّامِها فقط، فمثلما الدولة تسنُّ سياساتٍ معيّنة وتسعى لفرضها، تنهض الإضرابات العمّالية وحركات المقاومة النسوية لتحدّي تلك السياسات، ليتشكّل واقعٌ ناتجٌ عن هذا الصراع، لا عن رغبات طرفٍ من الأطراف وحدها، ويستمر التشكّل مع استمرار الصراع (والصراع السياسي لا يتوقف وإن ضمر).

وبالطبع، لا نغفل هنا القمع السياسي المباشر الذي تواجهه الحركات السياسية، لكن ذلك القمع واضحٌ ولا يسعنا هنا الدخول فيه.

الحفرة الثانية: النقد الأخلاقي وتطبيع العنصرية

النقد الأخلاقي يجري على محورين متصارعين، الأول هو توظيف حوادث القمع الأمريكي العنصري الحديث وتاريخه لتسجيل النقاط ضد الخصوم المعتقدين بمثاليّة النموذج الأمريكي أو المدافعين عن أسسه، والثاني هو مطالبةُ الناس بالنظر في الداخل بدلَ مدّ يد التضامن إلى الخارج الأمريكي، وأحيانًا تجاور هذه الدعوة الثانية مقولاتٌ مثل: «العرب جرب» و«الشرق الأوسخ عنصري أكثر من الرجل الأبيض»، و«الشرقيون العنصرية مغروسة في أذهانهم».

تعتري هذا الصراع الأبدي مشكلة أساسية، وهي أنّه يغفلنا عن المهمّة الأساس ويشغلنا عنها، وهي مهمة التحليل التاريخي لأسس العنصرية العرقية في بلداننا وتفاصيلها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتطوّراتها وتغيّراتها.

أودُّ هنا معالجَة الخطاب الثاني لأنه يبرز إلى السطح حالة العنصرية العرقية في الأقطار العربية.

في معرض تصدّيه للعنصرية العرقية في المجتمعات العربية يستخدم هذا الخطاب – عمدًا أحيانًا – لغةً صريحة في تأكيدها على الدونيّة المتأصلة للعرب، بحيث يصبِحُ المتحدّث طرفًا ثالثًا في المعادلة بريءٌ مما يرمي به مجتمعه.

يتضمّن هذا الرَّفضُ للعنصرية العرقية تأكيدًا للفوقية العرقية البيضاء (علينا جميعًا، عربًا، وآسيويين، وأفارقة) وقبولًا بها بمختلف الذرائع، محورها الأساس فكرة أنَّ «الأوروبيين يتعلَّمون من أخطائهم»، أي بعبارة أخرى: الأوروبيون كائناتٌ تاريخية (أي: بشر)، في حين نقع نحن خارج مجرى التاريخ، وبالتالي لا نفع في تحليل واقعنا بأدوات التحليل التاريخي الاجتماعي، والأنفع استخدام أدوات عالم الحيوان، مما يفضي إلى الحديث عن «الذّكر الشرقي» و«الذكر العربي».

وإلى جانب كون هذا الخطاب يرسِّخُ ما يسعى إلى رفضه، فهو يغلق أبواب التغيير وطرق البحث في إمكاناته، لأنَّ المشكلة لا تعودُ مشكلةً اجتماعية، بل مشكلة بيولوجية فطرية، ولا لازم للتحليل ولا لازم للبحث عن حل، اللهم ما عدى تأييد القمع البوليسي من الدولة التي يقودها القائد (الرجل الأبوي) المتنوِّر.

ختامًا، أعتقد أن الحديث عن «الذكر الشرقي» استعيرَ مباشرةً من الخطاب الإسلاموي عن الأسر العربية – حيث يكثر الحديث عن اختلافات «طبيعة» «الرجل الشرقي» و«المرأة الشرقية» عن «الرجل الغربي» و«المرأة الغربية»، وما إلى ذلك – وهو خطابٌ غرق مستخدموه في الاستشراق حتى تطوَّرت لديهم خياشيمٌ ولم يعودوا قادرين على الحياة خارجه.

استُعيرَ هذا الخطاب لمناكفة الخطاب الإسلاموي المحافِظ، لكنّ المشكلة هي أن مقاصد الخطاب الاستشراقي الإسلاموي هي التأسيس لضرورة الضبط البوليسي الفكري للمجتمع للتأكّد من توافق سلوكياته وتلك «الطبيعة» (مما يبيّن سخف الادعاء أن هذه الطبيعة طبيعةٌ أساسًا).

ولإيضاح المشكلة هنا، نستعيرُ من أودري لورد: لا يمكننا تفكيك منزل السيّد الإسلاموي الأبوي باستخدام أدواتِه.

علينا إيجادُ أدواتٍ جديدة، أدواتٍ مستندة إلى حبّنا (الصحّي) لأنفسنا وعدم ازدرائها. نعم، مجتمعاتنا تحمل عنصريّاتٍ فاقعة، وهذه العنصريات ناتجةٌ عن توفيقٍ بين العنصريّات الاستعمارية الإمبريالية وتاريخٍ محلّي من العنصريات، وهي دائمًا تتضمّن احتقارنا لأنفسنا إلى جانب احتقارنا لـ «الآخر»، سواءً كان ذاك الآخر هو من يُعتبَر «آسيوي» أو «أفريقي» (وكُلُّنا، واقعًا، آسيويّون/ـات و/أو أفارقة)، وهاتان الكراهيتان متلازمتان اليوم، فلا يتنصّل من انتمائه العربي و/أو الأفريقي و/أو الآسيوي اليوم إلّا من يحمل شعورًا بالدونية تجاه المستعمِر الأوروبي/الأبيض ويحاول – بشكلٍ من الأشكال – الانضمام إلى مصافي محتكري الإنسانية، وهذا السعي ليس جديدًا أو ناتجًا عن ثقافة «نتفليكسية»، بل نرى آثاره حتى على حركات الاستقلال في القرن الماضي.

أعرفُ أن حبّنا لأنفسنا صعب، وأنا شخصيًّا أصاب باليأس أحيانًا، لكنّ مهامَّنا السياسية تستلزم ذلك. يجب ألّا يُلزَم أحدٌ بالطبع بِحُبِّ مُضطِّهدِيه بالطبع، لكن كثيرًا منّا تعبّر ويعبر عن تضامننا الداخلي مع حواضن المقاومَة – سواءً كانت حواضنَ المقاوَمة النسوية، أو مقاومَة العنصرية، أو الاستغلال، أو الاستعمار – وإن أردنا بناء أسس الاحترام المتبادَل وَرفع الظلم والاضطهاد والتمييز عن أنفسنا وعن مجتمعاتنا، فلا سبيل أمامنا سوى مقاربة مجتمعاتِنا بِحبِّ المقاوَمَةِ فيها وكراهيةِ الظلم والاستغلال. يعني ذلك استخلاص بذرة التضامن الداخلي من تربة الفِرقة والخراب التي أرستها أنظمة الاستغلال والأبوية والعنصرية والاستعمار.

وأخيرًا، أودّ القول إنَّ المخاطرة في محاولتنا رفع الظلم عن مجتمعاتنا تعني الخوض في المجهول، فحتى إنْ كان بإمكاننا الاستلهام من تجارب الشعوب – وتجاربنا نحن التاريخية – فلا يمكننا استنساخُ أي تجربة، ولا توجد مسالك جاهزة لكي نسلكها، بل علينا شقُّ طريقنا بأنفسنا، وإنْ أردنا فعل ذلك فعلينا أن نعي أولًا ونفهم كيف وصلنا إلى اللحظة التاريخية التي نعيش، ونحاول التفكير بمجتمعاتنا بأنفسنا وتحليل ما يحكمها من بنى أبوية وعنصرية ورأسمالية وإمبريالية، وفهم تداخلاتِ هذه البنى وتحديدها المتبادل لبعضها البعض، وما تخلقه من واقعٍ من الفوضى والقمع والدمار من جهة، والمقاومة والتضامن والعناية من جهة أخرى.

أترككم مع النص.

  بداية النص  

استُحدِثَ جهاز الشرطة في إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية بفارقٍ زمني لا يزيد على بضعة عقود، ما بين عامي 1825 1855م تقريبًا.

لم تُستحدَث هذه المؤسسة الجديدة استجابةً لارتفاع نسبة الجريمة، ولم تَسْتَحدِث هذه المؤسسة أي طرقٍ جديدة للتعامل مع الجريمة. فقد كانت أكثر الطرق التي استخدمتها السلطات لحلّ الجرائم شيوعًا هي أن يُبلِغَ شخصٌ ما السلطاتِ بهوية مرتكِب الجريمة، ولم يغير استحداثُ هذه المؤسسة ذلك. ويضاف على ذلك أنَّ «الجريمة» تدل على أفعال فردية، في حين أنَّ النخب الحاكمة استحدثت الشرطة الحديثة استجابةً لتحدّيات شكلّها النشاط الجماعي السياسي، وبإيجاز، يمكن القول إنّ السلطات أنشأت الشرطة الحديثة سعيًا لقمع تحرّكات جماهيرية واسعة شرسة، وتهمُّنا هنا ثلاث حركات:

  • إضرابات العمّال في إنجلترا؛
  • أعمال الشغب في شمال الولايات المتحدة؛
  • الخوف احتمالية تمرّد العبيد في جنوبها.
  • إذن، فجهاز الشرطة استحدثَ كردّ فعلٍ على هذه الجماهير، لا على الجريمة.
  •  
  • سأركّز في هذا المقال كثيرًا على هويّة هذه الجماهير وكيف غدت تحديًا للحكّام على هذا النحو، وسنرى أنّ أحد المصاعب التي واجهها الحكّام – علاوةً على نمو الاستقطاب الاجتماعي في المدن – كان انهيار الطرق القديمة للمراقبة الشخصية للجماهير العاملة، وبذلك تدخَّلَت الدولة في تلك السنوات لتسد هذا الفراغ الاجتماعي.

سنرى أنّ استحداث الشرطة في شمال الولايات المتحدة كان أحد تفرّعات جهود الدولة في إدارة القوّة العاملة وقولبتِها على أساسٍ يوميّ، ومن تفرُّعاتها الأخرى توسيعُ الحكوماتِ أنظمةَ الإعانة الاجتماعيّة للفقراء بغرض تنظيم سوق العمل، وإنشاءُ نظام التعليم العام بغرض إدارة عقول العمّال وضبطها. سوف أربطُ هذه النقاط مع الشرطة لاحقًا، لكنّي سأركّز غالبًا على كيفية نشأة جهاز الشرطة وتطوّره في لندن وَنيويورك وَشارلستون (كارولينا الجنوبيّة)، وسأتحدث أخيرًا عن فيلاديلفيا.

ما قبل تاريخ الشرطة

إن أردنا استيعاب خصوصية جهاز الشرطة الحديث فسيساعدنا على ذلك الحديث عن كيف كانت الأوضاع أثناء نشأة الرأسماليّة. دعنا نتحدّث بالخصوص عن «مدن الأسواق» (market towns) في نهايات القرون الوسطى، أي قبل 1000 سنة.

لم تكن الطبقة المهيمنة في تلك الفترة موجودة في المدن، فَالمُلّاك الإقطاعيّون قَطَنوا في الريف، ولم يكن لديهم شرطة، فكان بإمكانهم التعاون لتشكيل قوّات مسلّحة تُرهِب الأقنان – وهؤلاء كانوا في حالةٍ شبه استعبادية – وبإمكان هذه القوى المسلَّحة أن تحارب النبلاء الآخرين، ولكن هذه القوّات لم تكن محترفة أو متفرِّغَة.

أمّا سكان المدن فقد كان أغلبهم أقنانًا اشتروا حرّيتهم أو – ببساطة – هربوا من أسيادهم. عُرِف هؤلاء في ذلك الوقت بالبورجوازية، أي «سكّان المدن»، وهؤلاء البورجوازيّون غدوا رُوّاد علاقاتٍ اقتصادية عُرِفت لاحقًا بمسمّى الرأسمالية.

وللاختصار، فنقل أنّ الرأسمالي هو شخصٌ يستخدم المال لكي يحصل على المزيد من المال. في البداية، كان الرأسماليّون المسيطرون تجّارًا: يأخذ التاجر المال لكي يشتري بضائعًا بِغرض بيعها بسعرٍ أعلى، ويوجد رأسماليّون لا يتعاملون إلّا مع المال – ألا وهم أصحاب البنوك – وهم يُقرِضون مقدارًا معيّنًا من الأموال لأجل الحصول على مبلغٍ أكبر عند سدادِه.

بإمكان الرأسماليّ أيضًا أن يكون حِرفيًا يشتري موادًّا ليصنع بِها بضائع معيّنًا – كالأحذية – ويبيعها بسعرٍ أعلى من سِعر المواد. وفي نظام النقابات (guilds)، كان رئيس العمّال الحرفيين يُشرف على صُنّاعٍ مَهَرَة (journeymen) وتلامذة ويعمل معهم.

كان الرؤساء يتربّحون مِن عمل مَن يُشرِفون عليهم، مما يدلُّ على وجود استغلالٍ في هذه العلاقة، ولكنَّ الصنّاع المَهرة والتلامذة حملوا آمالًا واقعيةً بأنهم، يومًا ما، سيغدون رؤساء، فالعلاقات الطبقية في المدن كانت تمتاز بالسيولة، خصوصًا حين نقارنها مع العلاقة بين السادة والأقنان. بل وأضف على ذلك أنَّ النقابات كانت تشتغل بطرقٍ تضع بعض القيود والحدود على الاستغلال. وعليه يمكن القول إنَّ التجّار كانوا هم واقعًا من يراكمون رؤوس الأموال في ذلك الوقت.

وفي فرنسا، في القرنين الحادي والثاني عشر، عُرِفت هذه المدن بـ «الكومونات» (مفردها كومونة).1الكومونة (المَشَاعَة): في مفهومها المعاصر، المَشَاعَة جماعة من النّاس يعيشون معًا ويَشْتَرِكون في مُمْتَلِكاتهم. تشكّلت هذه الكومونات في ظروفٍ مختلفة، بعضها تشكّل بموافقة السادَة الإقطاعيين، ولكنها غالبًا ما كان يُنظر لها ككيانات ذات حكم ذاتي، أو حتّى كمدن-دول. ولكن لم يكن في هذه الكومونات شرطة.

كان لدى هذه المجتمعات محاكمها الخاصة، وكانت لديها قوّات مسلّحة صغير مكوّنه من سكّان المدينة أنفسهم، ولم تكن هذه القوّات عمومًا معنيّةً باعتقالِ الناس على خلفيةِ تهمٍ معينة، فإن سطا عليك أحد أو اعتدى عليك، أو خُدِعت في صفقةٍ تجارية، كان عليك أنت – المواطن – أن توجّه التُهم.

إحدى طُرق هذا النوع من عدالة الخدمة الذاتية – وهي طريقة كانت قيد الاستخدام لقرون عدّة – كانت تُعرف بـ «الصريخ والاستنجاد» وهي تُنفّذ كالتالي: إن كُنت في السوق ورأيت شخصًا ما يسرق، فعليك أن تصرخ قائلًا: «قِف أيها اللّص!» وتقوم بملاحقة اللّص. وبقيّة القصة هي أن أيّ شخص يراك تقوم بذلك من المفترض أن يستنجدَ هو الآخر بنفس المقولة ويلاحق اللّص معك.

لم تكن المدن بحاجة للشرطة، ويعزّى ذلك لوجود مستوىً عالي من المساواة الاجتماعيّة مما أعطى الجميعإحساسًا بالالتزام المتبادل. اشتدّت الصراعات الطبقية في المدن مع مرور السنين، ولكنّ المدن ظلت متماسكة، وذلك بسبب عداوةٍ مشتركة لسلطة النبلاء وبسبب الروابط المستمرّة للالتزامات المتبادلة.

ظلَّت فرنسا لمئات السنين تحمل ذكرى مثالية عن مدن الكومونات هذه – كمجتمعاتٍ مكونّه من أقرانٍ متساوين يحكمون أنفسهن/م، ولذلك لم يكن من المفاجئ أبدًا أنّه في عام 1871م حين استولى العمّال على باريس، سمّوها «كومونة باريس»، وسأؤجل الحديث عنها كيف لا نقفز في التاريخ.

الإرهاصات الأولية

مرّت الرأسماليّة بتغيّرات كبيرة أثناء نموّها داخل المجتمع الإقطاعي، وكان التغيّر الأهم هو ازدياد حجم أرصدة رؤوس الأموال. فلنتذكّر أنَّ هدف الرأسمالية والرأسمالي هو تحويلُ أكوامٍ أصغر من الأموال إلى أكوامٍ أكبر من الأموال. وحجم أرصدة رؤوس الأموال هذا بدأ بالنمو بأرقامٍ فلكيّة أثناء غزو الأمريكيّتين، مع سرقة الذهب والفضة من العالم الجديد واختطافِ الأفارقة للعمل في المزارع الاستعبادية.

وبذلك زاد عدد الأشياء المُنتجَة بِغرض بيعها في السوق، والخاسرون في تنافس السوق بدأوا بخسارة استقلالهم كمُنتِجين ووجب عليهم البحث عن وظائف مأجورة. ولكن في أماكن كإنجلترا، كانت أكبر قوّة دفعت الناس إلى البحث عن وظائف مأجورة، وهي حركةٌ أيّدتها الدولة، حركة طرد الفلّاحين من أراضيهم الزراعية.

ازداد حجم المدن مع لجوء الفلّاحين إليها من الريف، وانخفضت المساواة المعيشية في داخل المدن، وأصبحت البورجوازيّة الرأسماليّة شريحةً اجتماعيّة أكثر تميّزًا من العمال عمّا كانت عليه سابقًا، وكان للسوق تأثيرٌ مُفسِد للتضّامن داخل النقابات الحرفيّة (وسأُسهِب في ذلك في حديثي عن نيويورك). ازداد حجم ورشات العمل أكثر فأكثر مع غدوِّ الرئيس الإنجليزي الواحد قادرًا على الإشراف على بضع عشرات العمّال. أتحدّث هنا عن منتصف القرن الثامن عشر، عن الفترة التي تسبق البداية الحقيقية لتحويلِ معامل الإنتاج إلى مصانع.

ظلَّ الوضعُ دونَ شرطة، ولكنّ الطبقات الأغنى بدأت باللجوء إلى العنف أكثر فأكثر بغرض قمع الشرائح الفقيرة، وكان يُؤمر الجيش أحيانًا بإطلاق النار على الحشود المتمرّدة، وقد اعتقلَ الضبّاطُ أحيانًا قيادات التمرّد وشنقوهم. كانت تلك إذن بدايات احتدام الصراع الطبقي، ولكنَّ الأوضاع بدأت بالتغيُّر حقيقةً حين أقلعت الثورة الصناعيّة في إنجلترا.

في المقابل، مرّ الفرنسيون في الفترة ذاتها بثورةٍ سياسيّة واجتماعيّة، بدأت عام 1789م. فزعت الطبقة الحاكمة البريطانيّة من احتماليّة اتبّاع العمّال الإنجليزيّين خُطى أقرانهم الفرنسيين، ولذلك حظروا النقابات المِهَنية وأيّ تجمعٍ لأكثر من 50 شخصًا.

على الرغم من ذلك، خرج العمّال الإنجليز في مظاهراتٍ وإضراباتٍ أكبر فأكبر في الفترة بينَ 1792 و1820م، فاستجابت الطبقة الحاكمة بإرسال الجيش للتصدي لهذه المظاهرات، وكان الجيش مخيّرًا بين سيئين، إمّا رفض إطلاق النار على المتظاهرين، مما يتيح لهؤلاء المتظاهرين الإفلات بفعلتهم، أو إطلاقَ النار على الحشود وصنع شهداء للطبقة العاملة.

وهذا بالتحديد ما حصل في مانشستر عام 1819م، فقد أُرسِل الجنود للتصدي لحشدٍ تعداده ثمانون ألفًا، وأصابوا المئات وقتلوا منهم إحدى عشر شخصًا. لم تؤدي مجزرةُ بيترلو، كما سُمِّيَت، إلى إخضاع هذه الحشود، بل إلى تأجيج موجة أوسع من الإضرابات والمظاهرات.

وحتى تكتيك شنق قادة الحركة العتيق بدأ يأتي بنتائج عكسيّة. فقد يخيف إعدامُ القادة جمعًا قدرهُ مئة شخص، لكنَّ الحشود غدت تبلغُ الخمسين ألفًا من مؤيدّي الرّجل المنكوب، وإعدامه لم يزد روحهم القِتالية إلّا شراسه. إنَّ نمو المدن البريطانية ونموّ الاستقطاب الاجتماعي في أوساطها، كلُّها تغيُّراتٌ كمّية بدأت بإنتاج حالاتِ جديدة نوعيًّا من اندلاع النضال.

احتاجَت الطبقة الحاكمة لتشكيل مؤسساتٍ جديدة للسيطرة على الوضع، أحدها كانت شرطة لندن، فقد أُسِّت عام 1829م، أي بعد عشر أعوام فقط من مجزرة بيترلو. وقد صُمِّمت قوّات الشرطة خصيصًا بهدف إلحاقِ عنفٍ غير مُميت بالحشود، وذلك بتفرقِةِ الجماهير مع الحرص على تجنّب صنع الشهداء. وبالطبع، فأيُّ قوات مُنظَّمَة لممارسة العنف الروتيني ستقتل بعض الناس بالتأكيد، ولكن مقابِل كلّ شخصٍ تقتله الشرطة، نجد مئات أو آلاف الممارسات العنفيّة غير المميتة التي تمارسها، وهي محسوبة وموزونة بحيث تروّع الجموع دون تأجيج ردّ فعل جماعي غاضب.

وحين لا ينصبُّ تركيز شرطة لندن في فِرق للسيطرة على الحشود، يُوزَّعَون على أرجاء المدينة لمراقبة حياةِ الطبقة العاملة والفقراء اليوميّة وَضبطِها. وفي ذلك تتلخص الوظيفة الثنائيّة المتميّزة لجهاز الشرطة الحديث: أن تظهر على شكلٍ موزَّعٍ متفرِّق يراقب الناس ويروِّعُهم باسم محاربة الجريمة، أو على شكل مُرَكّز في أعمال التصدّي للإضرابات وأعمال الشغب والمظاهرات الضخمة.

وهذا سبب استحداثِهم، للتصدي للحشود، لكن ما نراه في الغالب هو الشرطة في دوريّاتهم، وقبل التطرق لتطور الشرطة في نيويورك، أودُّ فحص الصلة بين نمطي عمل الشرطة هاذين.

الوظيفة الثنائية

سأبدأ هنا بموضوعٍ عام وهو موضوع الصراع الطبقي على استخدام الفضاءات العامة، وهي مسألة يترتب عليها الكثير بالنسبة إلى العمّال والفقراء. الفضاءات العامة مهمّة للعمال لأجل:

  • العمل.
  • الترفيه في أوقات الفراغ والاستمتاع.
  • بصفتها مسكنًا، إن لم يكن لديك منزل.

. . . ومهمّة أيضًا لأجل السياسة.

 أولًا، العمل: بينما يتمكّن التجار الناجحون من التحكم بالفضاءات المُغلَقة، فقد اضطر ذوو الموارد المحدودة أن يصبحوا باعة متجوّلين. ولِنظر التجّار الناجحين لهؤلاء كمنافسين، طلبوا من الشرطة إزاحَتَهم من الشوارع.

كان الباعة المتجوّلون موزِّعًا ناجحًا للبضائع المسروقة أيضًا، وذلك لأنهم جوّالون ومجهولون. ولم يكن النشّالون ولصوص المنازل فقط من استفادوا مِن الباعة المتجوّلين، فقد كان الخدم وَرَقيق الطبقات المتوسطة يسرقون من أسيادهم ويبيعون هذه البضائع على الباعة المحلّيين (وبالمناسبة، ظلّت العبوديّة في مدينة نيويورك قائمةً حتى عام 1827م). وَ«تسرُّب» الثروة هذا كان من المنازل المريحة في المدن كان أحد الأسباب التي دفعت الطبقة المتوسطة إلى المطالبة بإجراءاتٍ ضدّ الباعة المتجوّلين.

وكانت الشوارع أيضًا – ببساطة – المكان الذي يقضي فيه العمّال أوقات فراغهم، وذلك لأن منازلهم غير مريحة. فقد كانت الشوارع هي المكان الذي يقيمون فيه الصداقات ويحصلون على تسليةٍ مجانيّة، وفي بعض الأزمان والبلدان كانت الشوارع مكانًا ينخرطون فيه في أديانٍ معارِضة أو عقيدةٍ سياسية معارضة. يلخّص المؤرّخ الماركسي البريطاني إدوارد بالمر تومبسون كلّ ذلك في فقرة واحدة عن شرطة إنجلترا في القرن التاسع عشر:

كانوا غيرَ متحيّزين أبدًا في سعيهم لتنظيف الشوارع مِن باعة الشوارع والمتسوّلين والبغايا وفنّاني الشوارع والمتظاهرين والأطفال الذين يلعبون كرة القدم والمفكّرين الأحرار والمتحدّثين الاشتراكيّين كلّهم على حدٍّ سواء. وكلُّ ذلك جرى غالبًا بذريعة صدور شكوى من مالِك متجر.

أغلب الاعتقالات على كلا سَاحليّ الأطلسي كانت متعلّقة بجرائم لا ضحايا لها، أو جرائم على النظام العام. أشار مؤرّخ ماركسي آخر، ألا وهو سيدني هارينغ إلى أنَّ «تعريف علماء الجريمة لـ «الجرائم على النظام العام» يشابه بشكلٍ خطير وصفِ المؤرّخين لـ «نشاطات وقت فراغ الطبقة العاملة»».

كانت النشاطات التي تجري في الهواء الطلق – وما تزال – ذات أهمّية خاصّة للممارسة السياسية للطبقة العاملة، فبإمكان السياسيّين ذوي السلطة وَرؤساء الشركات أن يجتمعوا داخل مبانيهم ويتّخذوا قراراتٍ لها عواقب كبيرة، وذلك لأنهم يرأسون الأجهزة البيروقراطية والقوّة العاملة. ولكن حين يلتقي العمّال ويتّخذون قراراتٍ حول كيفية تغيير الأوضاع، فلن يحقق اجتماعهم شيئًا إن لم يجمعوا عددًا كافيًا من المؤيّدين في الشوارع، سواءً أكان ذلك على شكل إضرابٍ أو مظاهرة، فالشارع هو ميدان الاختبار لجزءٍ كبير من الممارسة السياسية الطبقة العاملة، والطبقة الحاكمة تدرك ذلك تمامًا. ولذلك تضع الشرطة في الشوارع كقوّة مضادّة متى ما أظهرت الطبقة العاملة قوّتها.

وهكذا بإمكاننا أن نرى الروابط ما بين الشكليْن الرئيسيّين لعمل الشرطة: الدوريّات الروتينيّة والسيطرة على الحشود. تعوِّدُ الدورياتُ اليومية الشرطةَ على استخدام العنف والتهديد به، مما يزيد من استعدادهم للقيام بممارساتِ القمع الضروريّة للتصّدي للانتفاضات الجماهيرية الواسعة للعمّال والناس المُضطَهدَة. والمسألة لا تقتصر على التعويد على استخدام الأسلحة والتكتيكات المعنية، فهذه الدوريّات الروتينيّة ضروريّة لخلق عقليّة معينة لدى الشرطة، وهي فكرة أنّ عملهم غرضُه تحقيق المصلحة العامة.

وهذا العمل اليومي هذا يتيح لقيادات الشرطة رؤية مَنْ مِنْ رجالهم لا يتوارون عن إلحاق الضرر بالناس، وبذلك يعيّنونَهم في الصفوف الأماميّة حين يأتي الوقت للشروع بحملة قمعية. وفي الوقت ذاته، يوفّر «الشرطي الجيد»، الممكن أن نلاقيه مرةً أو أخرى، غطاءَ علاقات عامّة ضروريٍّ جدًا للعمل الوحشي الذي يجب على «الشرطة السيّئين» ممارسته. ومن الممكن للعمل الروتيني هذا أن يكون مفيدًا في أوقات الاضطرابات السياسية، فالشرطة قضت وقتًا كافيًا في الأحياء السكنيّة مُحَاولةً معرفة قادة المجتمع والشخصيات الراديكالية.

حالةُ نيويورك

بإمكاننا الآن نعود للرواية التاريخيّة متحدّثين عن مدينة نيويورك.

سأبدأ بالحديث عن نقطتين عن تقاليد الجماهير قبل ثورة الاستقلال. أثناء الفترة الاستعمارية، كانت الحشود تثير الصخب في بعض الأحيان، ولكن غالبًا ما تجسّد ذلك الصخب بأساليبٍ تَوَافقت عليها النُخب الاستعماريّة أو تسامحت معها على الأقل. وقد عُقِدَت العديد من الاحتفالات الممكن وصفها بأنها «فوضى» (misrule)، حيث قُلِبت المناصب الاجتماعية وَتظاهرت الطبقات الدنيا بأنها العليا. وكانت هذه إحدى طرق الطبقات التابِعة للتنفيس عن نفسها بالسخرية من الأسياد، وهذه الفعاليات تقبل ضمنيًّا بحقِّ النخبة بقيادة الناس في باقي أيّام السنة. انتشرت هذه «الفوضى»، بصفتها تقليدًا رمزيًا، خصوصًا في أيام عيد الميلاد وأيام رأس السنة، وحتّى العبيد سُمِح لهم بالمشاركة.

وكان هنالك احتفالٌ سنوي بـ «يوم البابا»، حيث يسير المنتمون للأغلبية البروتستانتية حاملين دُمىً – أَحَدُها دُمية على شكلِ البابا – وينتهي الأمر إلى إحراق كلّ الدمى. هذا الاستفزاز الطائفي – «بغرض التسلية» – كان مقبولًا من آباء المدينة، ففي ذلك الوقت، لم يؤدّي «يوم البابا» عادةً إلى أعمالِ عنفٍ ضدّ الكاثوليكيّين، وذلك لأن أعدادهم لم تتجاوز إلّا مئاتٍ قليلة ولم يكن في نيويورك أي كنيسة كاثوليكية قبل الثورة.

وإن كانت تقاليد الجماهير هذه صاخبة بل وشغبية، فهي مالت لتعزيز الرابطة بين الطبقات السفلى والنخب ولم تكسرها.

كانت الطبقات الدُنيا مرتبطةً بالنخبة عن طريق الإشراف الشخصي على مدار الساعة، وذلك ينطبق بالطبع على العبيد والخدم المنزليّين، وينطبق أيضًا على الحِرفيين المهرة والتلامذة، فقد عاشوا في نفس المنزل مع رئيسهم، فَلَمْ يكن الكثير من هؤلاء المرؤوسين إذن يجولون الشوارع في كلّ الأوقات.[2]

هذا الوضع جعل من البحّارة وعمّال اليوميّة عناصَرًا غير خاضعة الإشراف وزاد من احتمال إخلالها للوضع العام، لكنّ البحّارة قضوا أغلب أوقاتهم قُرب الواجهة البحريّة ولم يكن عدد العمّال كبيرًا في ذلك الوقت. وحتى في 1648م، كما يشير المؤرخ سيلدين بيكون، رأت نبخة نيو أمستردام (المستعمرة الهولندية التي أصبحت لاحقًا نيويورك) الحاجة لاستباق الاضطراب الممكن أن يأتي من الواجهة البحرية:

أول مراسيم ابتدائية ذات طبيعة بوليسية كانت معنية بالسفن على الميناء، إذ قيَّدت زيارة السكان، وحرمت بقاء البحّارة على المرافئ ليلًا، وأمَرَت ربابين السفن بفرض هذه القواعد. وكان غرض هذه المراسيم الضمان ضد التهريب، وضد بقاء البحارة المشاكسين في الشوارع ليلًا. أُمِرَ العمّال بالذهاب إلى عملهم والعودة منه في ساعاتٍ محددة وأُمِرَ المشرفون بفرض هذه المراسيم.

هذا، بالطبع، مثالٌ على عملية ضبطٍ بوليسي دون جهاز شرطة، فقد كانت نخب نيو أمستردام تأمر أرباب العمل بالإشراف على عمّال الواجهة البحرية خارج وقت العمل، مثلما يشرف السيّد على عبيده وَخَدَمه وتلامذته، فالسلطات الاستعمارية رأت بوضوحٍ أنَّ العمّال المأجورين الأحرار غير المرتبطين بأسياد – وإن بأعداد صغيرة – يمكن أن يخلُّوا بأعراف المجتمع الذي يحكمه النبلاء، فاستجابت بالتقليل من حريّة العمّال عبر «ربطهم» بأرباب العمل.

في ظروف كهذه حيث أغلبُ الناس في المستعمرة واقعون أصلًا تحت الإشراف النهارية، لم تنتُج الحاجة لقوة شرطة نظامية. وُجِدَ العسس وكانت وظيفتهم الانتباه للحرائق، ومنع تخريب الممتلكات، واعتقال أيّ شخص أسود لا يستطيع إثبات كونه حرًّا. لكن عمل العسس لم يشكل مهنة، فقد كان لكلٍ مِنهم أعمالٌ نهاريّة وكانوا يتناوبون على الحراسة، ولم يقوموا بدوريّات في مناطِق منتظمة (وكلّهم كانوا يكرهون هذه الأعمال). وللتنصل من ذلك، كان الأغنياء يجدون أشخاصًا يدفعون لهم لينوبوا عنهم.

وفي النهار يعمل عددٌ صغير من الضبّاط لكنّهم لا يقومون بدوريّات، بل كانوا عملاء للمحكمة ينفّذون أوامرَ قضائيّة كالاستدعاء وتسليم مذكّرات الاعتقال، ولم تكن التحقيقات ضِمن نطاق صلاحياتهم. ففي القرن السابع عشر وفي بدايات القرن الثامن عشر، اعتمد النظام بشكلٍ كامل تقريبًا على مخبِرين مدنيّين يُوعَدون بحصّة معيّنة من أي غرامة قد يدفعها المذنبون.

التعبئة في زمن الثورة

غيّرت الفترة الثوريّة بعض الأمور المتعلقة بدور الجماهير والعلاقة ما بين الطبقات. ففي ستينيات القرن السابع عشر وابتداءً من الغضب حول قانون الطوابع، أيّدت نخبة التجّار والمُلَّاك التَمظهرات الجديدة للحراك الشعبي: المظاهرات الصاخبة الجديدة وأعمال الشغب التي استعارت من التقاليد الموجودة. ومن الأشياء التي استعارتها هو استخدام الدمى، وعوضًا عن حرق دمية البابا، حُرِقَت إمّا دمى على هيئة الحاكم أو الملك جورج.

ليس لديّ الوقت الكاف للبت في تفاصيل ما فَعَلوه لكن من المهمّ أن نلاحظ التشكيلة الطبقية لهذه الحشود. قد يحضُر تلك الفعاليّات أفرادٌ من النخب، ولكن أغلبهم كانوا من العمّال المهرة، المعروفين بمجموعهم بمسمّى «الميكانيكيون». أي أنَّ السيّد يخرج للانضمام إلى لحشد المكون من حِرفيِّيه المهرة وتلامذته، وكان أبناء الطبقات العليا ينظرون لرؤساء الحرفيّين كمساعديهم في تعبئة بقيّة الميكانيكيّين.

ومع اشتداد الصراع مع البريطانيّين، غدى الميكانيكيّون أكثر راديكاليّةً وبدأوا بتنظيم أنفسهم بمعزلٍ عن النخبة الاستعماريّة. ولكن على الرغم من وجود بعض الخلافات بين الميكانيكيّين والنخبة، لم يحصل انقطاعٌ تام للعلاقة فيما بين الطرفين.

وبطبيعة الحال، فحين هُزِم البريطانيّون وأسّست النخبة حكومتها الخاصة، ضاقت الأخيرة ذرعًا بالتعبئة في الشوارع. استمّرت الانتفاضات وأعمال الشغب في الولايات المتحدة المستقلّة حديثًا، ولكن هذه الأحداث بدأت تأخذ شكلًا جديدًا – وكان ذلك جزئيًا بسبب التغيّرات الاقتصادية التي كسرت وحدة الميكانيكيّين أنفسهم.

ما بعد الثورة

سأتّجه الآن إلى التطورات التي تبِعت الثورة، وهي تغيّراتٌ أنتجت طبقةً عاملة جديدة مِن خليطِ عناصر اجتماعية متصارعة.

فَلنبدأ بالعمّال المهرة. احتدَّ الانقسام ما بين الرؤساء والحرفيين المهرة حتّى قبل الثورة، ولكي نفهم ذلك، يجب أن ننظر عن قرب للأثر الجاثِم لنظام النقابات، فعلى الرغم من عدم وجود نقابات بشكلٍ رسمي في الولايات المتحدة وقتها ظلَّ العمّال المهرة يحملون بعض التقاليد النقابيّة.

والنقابات السابقة كانت في جوهرها «كارتيلات»، فهي اتّحاد عمّالٍ يحتكرون حِرفة معيّنة تسمح لهم بالسيطرة على السوق، وبإمكانهم تحديد أسعارٍ عرفيّة لِسلعهم بل وبإمكانهم تحديد حجم السوق مُسبقًا.

أتاحَ السوق المُسيّر تحقيق استقرارٍ عرفيٍّ في علاقات عمّال ذوي الحِرفة الواحدة: يأخذ السيّد التلامذة من أهلهم كخدمٍ ملزمين بعقودٍ طويلة الأمد، واعدًا الأهل بتعليمهم حِرفةً ما وتوفير المسكن والمأكل لهم لمدّة سبع سنوات. ويتخرّج التلامذة كعمّالٍ مَهَرَة لاحقًا، ولكنهم غالبًا يواصلون العمل تحت السيد نفسه طالما لا تتوفر الفرصة لكي يصبحوا هم أنفسهم أسيادًا. وهؤلاء العمال المَهَرَة تلقَّوا أجورًا عرفية بعقودٍ طويلة الأمد، أي أنّهم تلقّوها مهما كان التفاوت الفصليّ في كميّة العمل، فحتى بدون الهيكل الرسمي للنقابات، ظلّت مجموعة العلاقات العرفية هذه قائمة في فترة ما قبل الثورة.

ولكن منذ 1750 وحتى 1850م، كان هذا الهيكل التعاوني للحِرف الماهرة في طور الانهيار، وذلك لأنَّ العلاقات الخارجية – أي تحكّم الحِرفيين بالسوق – بدأت بالانهيار. فمنتوجات الحِرف التي أتت من مدنٍ أخرى أو من وراء البحار قوّضت قُدرة الأسياد على تحديد الأسعار، وبذلك أُدخِلت ورشات العمل في تنافسٍ بين بعضها البعض (وهذا هو الوضع الذي نعيشه اليوم).

دفعت المنافسة رؤساء العمّال الحرفيين للتصرّف كروّاد الأعمال، حيث سعوا للوصول إلى ابتكارات تقلّل من توظيف اليد العامِلة، وبدأوا بالتعامل مع عمّالهم أكثر فأكثر كعمّالٍ مأجورين يمكن الاستغناء عنهم. باتت المشاريع أكبر ولم يعد الرؤساء يستثمرون فيها جهودهم الشخصيّة كالسّابق – أي أنها أصبحت كالمصانع، تحتوي عشرات الموظّفين.

وفي العقد الأول من القرن التاسع عشر لم تقف خسارات الموظفين عند عقودهم طويلة الأمد فقط، بل اشتملت عل مكان عيشهم في منزل الرئيس. وجد التلامذة في هذه التجربة تجربةً تَحرُّرية، حيث لم يعد هؤلاء الشباب تحت سلطة أبويهم أو رؤسائهم، فالآن أضحوا يتجوّلون كما يحلوا لهم ويقابلون الفتيات ويبنون حياتهم الاجتماعية الخاصة مع أقرانهم. وكانت النساء العاملات تُوظَّفن في الخدمات المنزلية المتنوّعة إلّا إن كُنَّ مومِسات.

تغيّرت الحياة خارج المنازل، إذ تخالط هؤلاء الشباب مع فئاتٍ أخرى من المجتمع الذي شكّل الطبقة العاملة الناشئة.

وهذا التخالط لم يكن دائمًا سلميًا. ازدادت هجرة الإيرلنديين الكاثوليكيين بعد سنة 1800، وبحلول 1829م أصبح في المدينة حوالي 25 ألف كاثوليكي – أي أنّ نسبتهم كانت واحد لكل 8 أشخاص، أو 12.5 بالمئة من عدد السكان. عاش الإيرلنديّون في أحياءٍ منفصلة عن باقي السكّان، وكثيرًا ما كانوا يعيشون بجانب السود – الذين شكّلوا في ذلك الوقت 5 بالمئة من السكان. وفي 1799م أحرق البروتسـتانـتـيّون دميةً على هيئة القدّيس باتريك، وأدّى ذلك لمواجهةٍ مع الإيرلنديين. واندلعت اشتباكات في الأعوام اللاحقة، وكان من الواضح للإيرلنديين أن الضبّاط والحرَس يصطفّون ضدّهم.

فحتّى قبل وجود قوّات الشرطة الحديثة إذن، كان «رجال القانون» يمارسونَ التنميط العنصري. وقد لاحظَت نخبة المدينة قِلة احترام الإيرلنديين للحرَس – لروحهم القتالية الصريحة – فاستجابت (أي: النخب) بتوسعة جهاز الحراسة وتوجيه دوريّاته لاستهدافِ مناطِق محددة. جاورَ ذلك تركيز الشرطة المتزايد على الأفارقة، الذين قَطَنوا نفس المناطق مع الإيرلنديين وموقفهم من السلطات لم يختلف كثيرًا.

كانت الأسباب الضمنية لهذه الخلافات العرقيّة والطائفية هي المنافسة الاقتصادية، إذ كان العمّال الإيرلنديّون أقلّ مهارةً وبالتالي تلقَّوا أجورًا أقل من العمّال الحِرفيين، وفي الآن نفسه كان رؤساء الحرفيين يسعون للتقليل من المهارات المتَطلبة للوظائف في ورشات العمل. وبهذه الطريقة، أصبح التلامذة الإنجليز جزءًا من سوق عملٍ حقيقية مع خسارتهم عقودهم طويلة الأمد. وعندما حدث هذا الأمر، وجد التلامذة أنفسهم أعلى بدرجةٍ واحدة فقط على سلّم الأجور من المهاجرين الإيرلنديين، وأمّا العمّال السود الذين عمِلوا كخدمٍ منزليّين أو اشتغلوا في وظائف الأساسية2الوظائف الأساسية (general labour): يقصد بها أعمال النظافة والحمل والنقل وما إلى ذلك. فقد كانوا أدنى بدرجةٍ أو درجتين من العمّال الإيرلنديين.

في ذاتِ الوقت، كان الجزء القديم غير الماهر من الطبقة العاملة المأجورة – عمّال الموانئ وعمّال البناء أساسًا – في توسّع مع توسّع هذين القطاعين بعد الثورة.

ازداد عدد السكان عمومًا باطّراد، فتعداد سكّان نيويورك كان 60 ألفًا عام 1800م، ووصل إلى الضعف خلال عشرين عامًا. وفي عام 1830، تعدّى تعداد سكّان نيويورك 200 ألف نسمة، وبلغ 312 ألف نسمة بحلول عام 1840م.

التأسيس

كانت تلك لمحة مُختصرة تقريبية للطبقة العاملة الجديدة في نيويورك.

في هذه العقود، اتّجه كلّ جزءٍ من الطبقة إلى النشاط الجماعي لمصلحتِه الخاصة. إنّها قصّة شديدة التعقيد، وذلك بسبب عدد النشاطات وتشظّي الطبقة، ولكن بإمكاننا هنا البدء من تعميمٍ مفادُه أنَّ أكثر النشاطات النضاليّة شيوعًا كان أكثرها ابتدائيّةً، ألا وهو: أعمال الشغب.

فلندخل في التفاصيل. ما بين 1801 و1831م، اندلعت أعمال شغب من طرف السود النيويوركيّين أربعَ مرّات بهدف إيقاف محاولات إرجاع العبيد السابقين إلى أسيادهم القاطنين خارج المدينة. فشلت هذه الجهود عمومًا حيث كانت استجابةُ الحرس عنيفةً وحُكِم على المشاركين في الأعمال بأحكامٍ قاسية استثنائية، وحتّى الإلغائيّون البِيْض3البِيْض (whites): في تلك الفترة، كان المقصود من «البِيْض» عمومًا هم المنحدرون من أصول غرب أوروبية، باستثناء الإيرلنديين واليهود وبعض الفئات الأخرى. تغيّر المعنى لاحقًا ليشمل الإيرلنديين والأوروبيين اليهود (وإن كانت إضافةُ الأخيرين هؤلاء إضافةً مشروطة). شاركوا في إدانة أعمال الشغب هذه. تمثّل أعمال الشغب هذه إذن أنشطة ذاتية شعبيّة لا تأبه باستهجان النُخب – بل وتبيّن التفاوت العرقي في تطبيق القانون أيضًا.

شهدت تلك الفترة مضايقاتٍ من طرف البِيْض للكنائس والمسارِح الخاصة بالسود، وهذه المضايقات كانت تصل أحيانًا إلى مستوى أعمال الشغب. ولم ينأى المهاجرون الفقراء بأنفسهم عن المشاركة في هذه الأعمال التي شارك فيها – أحيانًا – أغنياءُ البِيْض والضبّاط أيضًا. واندلعت إحدى حالات أعمال الشغب المعادية للسود عام 1826م واستمرت ثلاثةَ أيام، واستهدفت منازل السود وكنائسهم – ومنازل القسيس البِيض الإلغائيين وكنائسهم أيضًا.

ولكن علاقة العمّال السود والبِيْض لم تكن محصورة بالصراع، ففي 1802م، أضرب بَحَّارون بِيْضٌ وَسُود مطالِبين برفع الأجور. ومثل أغلب الإضرابات في تِلك الفترة، كانت الطريقة المستخدمة هي ما سمّاه المؤرّخ إريك هوبسباوم: «التفاوض الجماعي عن طريق أعمال الشغب». وفي هذه الحالة، عطّل العمّال المُضرِبون السُفن التي توظّف بالأجور المنخفضة، واتّحد عمّال أحواضِ السُفن عبر الحدود العرقيّة والطائفيّة لإقامة إضراباتٍ اتّصفت بروحٍ نضالية عالية في عاميّ 1825 و1828م.

لم تتطلب الأنشِطة المتعلقة بالعمل للعمّال الماهرين (مثلهم مثل الحِرفيين المهرة) اللجوء إلى مثل هذا الشراسة الجسدية، وذلك لاحتكارِهم المهارات المتطلّبة لِعَملِهم، ولكنّ على الرغمِ من ذلك، ازدادَت الروحُ النضالية للحرفيّين المهرة في تِلك السنوات، وحدثت الإضرابات في المِهن الماهِرة على ثلاث موجات، بادئةً في 1809م وتبِعتها موجتان في 1822 و1829م. وكانت شراسةُ كلِّ موجهة وروحُها النضالية أعلى من سابِقتها – ومثالٌ على ذلك هو استهدافُ هذه الموجات العمّالَ المهرة الآخرين الكاسرين للتّضامن. في 1829م، قاد الحِرفيّون المهرة حركةً للحدّ من ساعات العمل اليوميّة إلى 10 ساعات وأنشأوا حزب الرجال العُمّال. انهار الحزب في العام ذاته، لكنّه قاد لتأسيس الاتحاد العام للحِرف في عام 1833م.

بينما نمى وعيُ العمّال بأنفسهم كـطبقة، بدأوا أيضًا بالمشاركة أكثر فأكثر في أعمالِ شغبٍ اعتياديّة أينما تجمّعت حشود، في الحانات أو المسارح أو الشوارع. لربما لم يكن لأعمالِ الشغب هذه أيّة أهدافٍ سياسيّة أو اقتصاديّة واضحة، لكنّها كانت لحظاتِ تأكيد الذاتِ الجمعية من قِبل الطَبَقة العامِلة – أو مِن قِبل قِسمٍ عرقيّ أو إثنيّ من هذه الطبقة. وفي العقود الأولى من القرن الثامن عشر، جرت أعمالُ شغبٍ بمعدّل أربع مرّاتٍ في كلّ عام، وفي النصف الثاني من العشرينيات، أشعل النيويوركيّون أعمال شغبٍ بمعدّل مرّة في كلّ شهر.

إحدى حالات اندلاع أعمال الشغب أقلقت النُخبة، وقد عرفت هذه الأحداث بـ «شغب الكريسماس» (Christmas Riots) لعام 1828م، ولكنّها جرت واقعًا أثناء رأس السنة. أتى حشدٌ صاخِب تعداده أربعة آلاف عامِلٍ إنكليزيٍ شاب بطبولهم وأدواتهم الضوضائية إلى شارع برودواي، حيث يسكن الأغنياء. «أتوا بعربة بنسيلفانية [مسقوفة] ضخمة» جارّين إياها «بحبلٍ طوله عدة قصبات [القصبة تعادل حوالي أمتار]»، وفق تقريرٍ مجهول المصدر صدر في جريدة إيفنينغ بوست. وفي طريقهم إليها حطّموا كنيسة أفريقيّة وضربوا أعضاء الكنيسة، واعتقل العسس عددًا من المشاركين، ولكنّ الحشد أنقذهم وطاردَ العسس.

انضمّت أعدادٌ إلى الحشد أثناء عبوره المنطقة التجاريّة حيث حطّموا واجهات المتاجر، وفي مُنتزه «باتيري» كسروا نوافِذ بعض أغنى البيوت في المدينة، ومن ثَمّ عادوا متّجهين إلى برودواي لِعلمِهم بأنّ الأغنياء هم أيضًا كانوا يقيمون احتفالهم الخاص في فندق «سيتي»:

وبلمح البصر، ملأ الشارع جمعٌ منيع لا يخترق، ومنع الجمع العربات الفاخرة التي تحمل السيدات والسادة الراغبين بالعودة إلى منازلهم من المغادرة. وصل الإزعاج إلى درجةٍ دفعت بجلب جمعٍ قوّيٍ من العسس بغرض اعتقال القادة وتفرقة البقية.

نادت قياداتُ الحشد بهدنة لمدّة خمس دقائق، وفي هذه الدقائق المعدودة فكّر الحرّاس مليًا بما سيواجهون، وفي تلك الخمس دقائق، «أعدّ الحشد عدّته وسلَّح المقدّمة بحبالٍ مقطوعة من حبل الجر»، ومع انتهائها، تنحّى العسس جانبًا «وعبرت الجموع بصخب واحتفال بنصرها».

منظر تمرّد الطبقة العاملة هذا حصل بمرأى الأسر التي أدارات مدينة نيويورك. طالبت الصُحف مباشرةً بتوسعة كبيرة لجهاز العسس، وبذلك سرّعت أعمال شغب الكريسماس – إلى جانب أعمال الشغب الضخمة لعام 1834م – إدخالَ إصلاحاتٍ تدريجيّة قادت في النهاية لصنع قسم شرطة مدينة نيويورك عام 1845م.

ضخّمت إصلاحات 1845 جهاز الشرطة، وأهَّلتهم مِهنيًّا ومركزتْهم، وأصبحت تدار وفق سلّمٍ قياديّ ذا طابعٍ أكثر عسكريّةً من السابق. وتوسّع عمل الحرّاس ليشمل كل ساعاتِ الليل والنهار، ومُنِع رجال الشرطة من العمل في وظائف أخرى، ورُفِعَت الأجور ولم يعد الشرطة يستلمون حصّةً من الغرامات المُستخرجة من المُدانِين.

بات عساكر الشرطة لا يتجهون إلى الدوريّات باحثين عن وسيلةٍ لكسبِ رزقِهم، وهي عمليّة قد تقود إلى اختياراتٍ غريبة في إجراءاتِهم الوظيفيّة. فبإلغاءِ هذا النظام أصبح للقادةِ حريّةٌ أكبر في سنِّ السياسات والأولويّات – وبذلك أضحى قِسم الشرطة أكثر تجاوبًا للاحتياجات المتغيّرة للنُخبة الاقتصاديّة.

هكذا بدأت شرطة نيويورك.

الجنوب الأمريكي والعبودية

تختلف قصة الشرطة في الجنوب قليلًا كما هو متوقّع.

نشأت إحدى أولى أجهزة الشرطة الحديثة في مدينة شارلستون في ولاية كارولينا الجنوبية، وكان ذلك سابقًا لتحوّل قوّات الشرطة النيويوركيّة إلى قوّاتٍ نظامية مهنية. وأصل شرطة شارلستون لا يعود إلى مجموعةٍ مِن العسس المدينيّين كما هو الحال في نيويورك، بل إلى دوريّاتٍ عمِلت في الريف لمراقبة وضبط العبيد، وسُميّت هذه الدوريّات بـ «دوريّات العبيد» (slave patrols)، وحسب تعبير أحد المؤرّخين: «في كلّ أرجاء الولايات [الجنوبيّة، قبل الحرب الأهلية] جابت دوريّات شرطة مسلّحة جوّالة الريف ليل نهار، وتروّع العبيد وترهبهم وتعاملهم بوحشية لضمان خضوعهم وخنوعهم».

كانت هذه القوّات غالبًا مكوّنةً من متطوعّين (كثيرٌ منهم متردِّدون) من المواطنين البِيض يعملون بأسلحتهم الخاصة، وأُدمِجَ هذا النظام مع مرورِ الوقت في الحياة الحضَرَية. لم يزدد عدد سكّان شارلستون باطّراد مثل مدينة نيويورك، ففي عام 1820م سكنَ المدينة الكارولينيّة هذه أقل من 25 ألف نسمة، ونِصفهم كانوا من السّود.

كانت شارلستون مركزًا تجاريًا، فقد أنشئت في الفترة الاستعمارية كمركز لتصدير النَّيْلَج والأرز في كارولينا الجنوبية، وكانت المدينة أحد كبار المرافئ لوصول الأفارِقة المستعبدِين وبيعهم – إمّا مباشرةً من أفريقيا أو من المستعمرات الاستعبادية في الكاريبي.

بعد حظر مجلس الشيوخ استيراد العبيد في 1808م، غدت شارلستون مركز شحنٍ وبيعٍ وسيط للعبيد المقتادين إلى فيرجينيا وكارولينا الجنوبية والشمالية وحتى ألاباما ومسيسبي ولويزيانا، فقد احتاجت ولايات «عمق الجنوب» (Deep South) تدفقًا مستمرًا للعمال المستعبدين لتلبية الطلب على القطن في القرن التاسع عشر. فقد كانت معامل النسيج في بريطانيا ونيو إنجلاند وقتها تقود الثورة الصناعية، والعمالة الاستعبادية في عمق الجنوب كانت جزءًا لا يتجزًّأ من تلك الطفرة.

وإنْ لم تقع شارلستون على المحور الأساسي لهذه الطفرة، الذي قادته مدنٌ كانت في طور الازدهار مثل نيو أورلينز وبيرمينغهام في إنجلترا، فقد ارتبطت حياتها المدينية – الاقتصادية والاجتماعية على حدٍّ سواء – بتطور العلاقات الاقتصادية الرأسمالية في المدن الساحلية الأخرى على كلا ضفّتي الأطلسي.

أقامت العديد من كبريات المزارع الاستعبادية في كارولينا الجنوبية مقرًّا لها في شارلستون، فسيطر كبار ملّاك العبيد على الساحة السياسية في المدينة الكبرى في الولاية. ومثلهم مثل الطبقات الحاكمة في المدن التجارية الأطلسية الأخرى احتاجت نخبة شارلستون يدًا عاملة ق قابلة للتوسع والتقلص والتكيف وفق تذبذبات السوق. وكانت العبودية طريقة جامدة لتنظيم العمّال، مذ أن العبيد يجب إطعامهم وإلباسهم سواءً وجد عمل ليقوموا به أم لا؛ في أوقاتِ الركود، شكل العبيد تكلفةً على الأسياد.

ولهذا السبب بدأ الأسياد في شارلستون وغيرها من المدن الاستعبادية – وحتى في الزمن الاستعماري – بتوجيه العبيد إلى الوظائف المأجورة، وبعضُ العبيد كان يملكهم مباشرةً ملّاك المعامل، خصوصًا في المدينة الجنوبية التي شهدت أكبر طفرة، ريتشموند، ولاية فيرجينيا. لكنَّ أغلب عبيد شارلستون ملكهم حَضَرٌ بِيْض استخدموهم للخدمات الشخصية و«أجَّروا» البقية لأرباب عملٍ في وظائف مأجورة. وإن كانت بعض مطاحن الأرز في شارلستون تملك العبيد الموظَّفين، فقد أجرّت عبيدها في الأوقات التي لا تكون المطاحن تستخدم طقاتها الاستيعابية الكاملة.

في البداية، كان الأسياد يبحثون عن وظائفَ لعبيدهم ومن ثمّ يستحوذون على أجورِهم بالكامل. ولكنهم سرعان ما اكتشفوا أنّ من الأيسر لهم أن يتركوا لعبيدهم مسؤوليّة البحث عن الوظائف بينما يأخذُ الأسياد رسومًا ثابِتة من العبيد على الوقتِ المقضي بعيدًا عن السيد. ويمكن للسيد من عملية التأجير هذه الحصول سنويًا على 10 إلى 15 بالمئة من سعر شراء العبد.

في هذه الترتيبات تغيَّرت أسس العلاقة بين العبيد وأسيادِهم، ناهيك عن التغيّر في العلاقات بين العبيد أنفسهم. فـلِفتراتٍ طويلة من الوقت لم يعد العبيد تحت إشراف أسيادِهم المباشر، وتمكّن العبيد من الحصول على أموالٍ لأنفسهم تفوق الرّسوم التي دفعوها للأسياد وتتجاوزها. بدأ العديد من الشالرستونيين السود بتسمية هذه الرسوم بـ «رسوم الحرية».

أصبح بإمكان العديد من الأمريكيين الأفريقيين تحمّل نفقات العيش خارج منازِل أسيادهم، وأضحى بإمكانهم الزواج والسكن مع أزواجهم باستقلالٍ عنهم، بل وبعض الحِرفيين المستعبدين بدأوا بتوظيف عمّالٍ مأجورين يعملون تحتهم، وتضمن ذلك بعض النساء اللاتي عملن كخيّاطاتٍ وهيمنَّ على تجارة الملابس. لكنَّ أغلب العبيد العامِلين في الوظائف المأجورة كانوا من الرجال الذين يعملون في عدد من الحرف الماهرة، والأعمال غير الماهرة، ونقل البضائع. أما النساء اللاتي شكّلن غالبية الشارلستونيين السود فقد عملن غالبًا كعبيد منزليّات.

وبحلولِ العقد الأول من القرن التاسع عشر، غدى في شارلستون ضاحيةٌ للسّود أغلب قاطنيها من العبيد إلى جانب بعض الأحرار الملوّنِين، وسُمِّيَت بِـ «عُنُق شالرستون» (Charleston’s Neck). بنيت شارلستون على الطرف المؤشِّر إلى الجنوب من شبهِ جزيرةٍ على ضفّتي نهريْن، وسمّى السكّان الجزء الشمالي غير المدمج في المدينة بـ «العُنُق». في عام 1850م كان أكثر من ربع السّود في شارلستون يعيشون دون إشراف البيض، بل ومن الأكيد أن هذا الوضع سابقٌ لذاك العام، وكانوا إمّا أحرارًا أو عبيدًا «يعيشون خارج المنزل». وخارجَ السلطة القضائية للمدينة، تجاهلَ مُلَّاك الحانات في العُنُق القوانين القائمة وخدموا عملاء متعددي الأعراق.

لكن في شارلستون، كما تكرر على ألسن البِيْض بانزعاجٍ أو قلق، أسَّس السود حياةً جمعية خاصة بهم. ففي 1818م، انفصل أربعة آلاف من السود العبيد والأحرار من الكنائس الميثودية المختلطة عرقيًّا في المدينة وأسسوا فرعًا لكنيسة جديدة هي الكنيسة الأسقفية الميثودية الأفريقية الجديدة في عنق شارلستون.

تأسيس الشرطة في الجنوب

لأن الظروف في الجنوب الحضري كانت أكثر حريّةً بكثير من على المزارع، فقد كان على الدولة التدخل للقيام بوظيفة القمع التي تكفّل بها الأسياد عادةً.

نشأ جهاز حرّاس وخفَر تشارلستون عن طريق التعلّم بالتجربة والخطأ ليُصبحَ بحلولِ عشرينات القرن التاسع عشر جهازَ شرطةٍ حديث تُديرُه المدينة، وكانت قوّات الحراسة هذه تقوم بوظيفتين: أولهما المضايقة اليوميّة للسكّان السّود، وثانيهما هي أن يكونوا على تأهُّبٍ دائم للتعبئة السريعة للسيطرة على الحشود. إن أُمْسِكَ أسود، وإن كان حرًّا، يتجول في ساعات حظر التجوال الليلية دون أن يقدّم عذرًا مقبولًا فسيحتجز ليلًا من قبل الحرس ويجلد إلى ما يصل إلى 39 جلدة بعد أن ينظر القاضي في القضية صباحًا. تعود هذه الممارسة إلى الفترة الاستعمارية وماثلت أساليب دوريّات ضبط العبيد في الريف. الفارق الأساس الأول هو أن الحرس – حتى في بداياته – كان مشكَّلًا من قوة مأجورة بدلًا من مجموعة من المواطنين المجنَّدين إلزاميًّا.

قام حرس المدينة أيضًا بدوريّات نهارية في العطل وأيام الأحد، حيث راقبوا الأسواق الأسبوعية، وأكثر من اشتغل فيها النساء السود المستعبدات. وتجمّعات السود كانت صاخبة جدًا في أيام السوق، فكما يشير المؤرخ برينارد باورز: كتب أحد المواطنين البِيْض في أربعينيات القرن التاسع عشر أنه «دائمًا منزعج، خصوصًا كل أحد، من الغوغاء الفوضوية والسوقية، التي تكسر كل القوانين، وإن فُرِّقَت من مكانٍ ما، سرعان ما تتجمع بأعدادٍ أكبر في مكانٍ آخر».

رأت سلطات المدينة في الكنيسة الأسقفية الميثودية الأفريقية تعبيرًا مُقلِقًا عن استقلالية السود، ففي عامها الأول، 1818م، اجتاح حرس المدينة الكنيسة الأفريقية واعتقلوا 140 عضوًا من أعضائها، على خلفية مخالفة قانون يندر استخدامه ينص على منع تجمّع سبعة رجالٍ سود أو أكثر دون حضور البِيْض، وفي كل من الولايات الاستعبادية والحرّة سرعان ما أصبحت هذه الكنيسة مركزًا مهمًّا لنقاش السود حول إلغاء العبودية، وإن لم تكن المجموعات الكنسية متّفقةً أبدًا حول الخطوات الواجب اتخاذها في سبيل الحرية.

ديفيد ووكر (David Walker)، وقد كان عضوًا في فرع الكنيسة الأفريقية في بوسطن وألَّف كتابًا تظهر فيه روح نضالية: مناشدة إلى مواطني العالم الملوَّنين (Appeal to the Colored Citizens of the World) صدر عام 1829م، كان على الأرجح عضوًا لفرع الكنيسة في شارلستون في أوائل العشرينيات. وتتوافق العديد من آراءِ ووكر، بما فيها ما يعتمده من نصوص دينية لتأكيد حق العبيد في الانتفاضة وانتزاع الحرية، وآراءٍ تُنسب إلى دينمارك فيسي (Denmark Vesey)، وهو نجّار أسود حر شارلستوني اتُّهِمَ بالتخطيط لتمرّدٍ ضخم في 1822م.

بعث تهديد الانتفاضة بالذعر في أوساط بِيْض شارلستون، ونخبةُ المدينة بقيادة الأمين (أي: المحافِظ) أمرت بتعذيب المشتبه بهم، وانتزعت منهم اعترافات بتواطؤ عددٍ آخرين، وفي أسابيع قليلة، انتزعت اعترافاتٌ بالتعذيب من هذه الدُّفعة الثانية حول تورّط آخرين. يختلف المؤرخون حول ما إذا كانت هذه المؤامرة حقيقيّة أم لا، لكن الثابت هو شنقُ فيسي وأربعة وثلاثين رجلٍ أسود آخرين ونفي سبعة وعشرين آخرين لا نعلم ما إذا كان أيٌّ منهم مذنبًا أم لا.

 كانَ فيسي وغيره من المتهمين من قيادات الفصول في الكنيسة، وبعدَ إعدامهم، أضرمت جماعة من المواطنين البِيْض النار في مبنى الكنيسة وأحرقته. لكنَّ أعضاءَ الكنيسة ظلّوا يتجمّعون في الخفاء حتى نهاية الحرب الأهلية، وبعد التحرير، في 1865م، صمَّمَ ابن دينمارك فيسي، وهو أيضًا نجّار، المبنى الجديد الأول للكنيسة.

في وسط ذعر 1822م، اتّهم المواطنون البِيْض حرس المدينة بالتراخي وطالبوا بالتأهيل المهني للشرطة وتوسعتها، فأصبحت دوريات الحرس على مدار الساعة ومركزت تحت القيادة المباشرة للأمين. ومع خمود الذعر ألغى المشرِّعون هذين الإجراءين خلال بضعة أشهر، رغم أنّهم وافقوا على توسعة القوات.

واستجابةً لهذه الأوضاع قررت ولاية كارولينا الجنوبية بناءَ حاميةٍ وترسانة في شارلستون عند حدودها مع عُنُق شارلستون، وهذا البناء المكرّس لقمع السّود أصبح يعرف باسم «القلعة» (The Citadel) وبحلول عام 1842م أسست فه أكاديمية عسكريّة بالاسم نفسه. كان جنودُ القلعة على جهوزية دائمة للعمل في شارلستون، وعملوا إلى جانب ميليشيا رسمية مسماة بـ «حرُّاس العنق» (Neck Rangers) على حفظ النظام في العُنُق.

وفي منتصف العشرينيات، نشبت عدّة نيران وأوقع اللوم على السّود، واستجاب المجلس بتأسيس قوّة حراسة نهارية صغيرة، ووفّرت أيضًا ستّة أحصنة لتسريع الاتصالات والتعبئة، ويمكن القول إنَّ شارلستون إذن أسست دوريّات شرطة على مدار الساعة قبل ثلاث سنوات من تأسيس شرطة لندن في 1829م.

وبحلول منتصف الثلاثينيات أعاد المشَرِّعون الإجراء الذي مرَّروه في ذعر 1822م – مركزة حكومة المدينة (والحرس) تحت محافظٍ متفرّغ. وبعد إصلاحات 1836م، أصبح لدى المدينة قوّة حرسٍ تعدادها 118، من ضمنهم 94 عسكري وأربعة موسيقيين. كانت نسبةُ العسس واحدًا لكل 263 نسمة، أي ما يتجاوز تغطية بوسطن (ضابط لكل 815 نسمة) ونيويورك (واحد لكل 771).

حققت النخبة المزيد من المركزة عبر ضمِّ عنق شارلستون عام 1849م مما وضعها ضمن نطاق سلطة حرس المدينة، فقبلَ ذلك عملَ حُرّاس العُنق وجنود القلعة على شاكلةِ مزيجٍ من دوريات ضبط العبيد والشرطة الحديثة، ورصفَ ضمُّ العنق لسلطة الحرس الطريقَ للاستبدال الكامل لآخر ميليشيا مواطنين بدوريّات نظامية مأجورة وتابعة للمدينة.

وحتى قبل عشرينيات القرن التاسع عشر، كانت القوى الجنوبية أشدّ عسكرةً من الشرطة في الشمال، فالحرسُ نشطوا تحت سلّمٍ عسكري بعدة رتب، وخلافًا للشرطة الشمالية الأولى، كانوا يحملون البنادق – المزوّدة بالحِراب. ففي العقود الأولى للقرن نفسه، لم يكن عسسُ نيويورك يقومون بدوريّاتٍ مستمرة منتظمة، على العكس من عسس شارلستون الذين قاموا بها عادةً بفرقٍ من خمسة أو أكثر. وفي أعوام ما قبل الحرب الأهلية كان زوّار المدين كانوا يقصّون عن الحضور المُرهِب جدًا لهؤلاء الحرس.

إنّ التاريخ المحدد لقوى الشرطة يختلف من مدينةٍ أمريكية لأخرى، ولكنّها جميعًا مالت نحو الالتقاء على حلول مؤسسية متشابهة، فطبيعة الشرطة تأتي من طبيعة «المشكلة»: جماعاتُ عمّالٍ حَضَر نمّوَا درجةً من الاستقلال الاقتصادي بصفتهم/ن عمّالًا مأجورين/ات وحرفيّين/ات، وعلى ذلك تمكّنوا من باء حياةٍ جماعية خاصة بهم تؤكِّدُ ذاتهم الجمعية. وتعزِّزُ التجربة الجنوبية نقطةً كانت واضحة أصلًا في الشمال: أنَّ العنصرية العرقية المعادية للسود عمادٌ أساسي لعملِ الشرطة الأمريكية منذ يومها الأول.

الخلاصة

سأتحدّث في النهاية عن فيلاديلفيا بعض الشيّء، ولكن قبلَ ذلك سأستخلصُ بعض المواضيع التي تنطبق على كلّ هذه الحالات.

أولًا، يجب أن نضع النشاطات البوليسيّة ضمن سياق مشروع الطبقة الحاكمة لإدارةِ الطبقة العامِلة وتشكيلها. قُلتُ في البداية إنّ اندلاعَ انتفاضاتِ العمّال تزامن مع انهيار الأساليب القديمة للمراقبة الفرديّة الدائمة على القوّة العاملة، وعليه تدخّلت الدولة للإشراف عليهم. كانت الشُرطة جزءًا من هذه الجهود، ولكن في الشمال وسّعت الدولة برامج إعانة الفقراء والتعليم العام أيضًا.

وأدمِجَ عمل الشرطة في نظام إعانة الفقراء، حيث عمِل المجنّدون على تسجيل الفقراء وإدراجهم في «منازِل العمَل الجبري» وكان ذلك حتى قبل التأهيل المهني الشرطة، حيث فرز المجنّدون «الفقراءَ المستحقّين» مِن «الفقراء غير المستحقيّن»، فإن كان هؤلاء الفقراء عاطلين وغير قادرين على العمل، سيُرسِلهم المجنّدون لمؤسساتٍ خيريّة تابعة إمّا للكنائس أو لحكومة المدينة ذاتها، ولكن إن كانوا قادرين على العمل، سيُحكم عليهم بأنّهم «متكاسِلون» وسيُرسلون ليعيشوا فظائع منازل العمل.

قدّم نظام إعانة الفقراء مساهمةً مهمّة لخلق السوق للعملِ المأجور، فقد كانت وظيفته الرئيسة هي جعلُ البطالة أمرًا مؤلِمًا ومُهينًا للدرجة التي تجعل الناس على استعدادٍ لأخذ وظائف عاديّة بأجورٍ شديدة الانخفاض ليتجنّبوا البطالة. وبمعاقبِة أفقرِ الناس، تخلق الرأسماليّة حدًا أدنى مُنخفض لسلّم الأجور وتجرّ السلّم بأكمله إلى لأسفل.

لم يعد الشرطة اليوم يؤدون دورًا مباشرًا في انتقاء من يحتاجون الإعانة كما كان الحال عليه في السابق، ولكنّهم ما يزالون يُنزِلون على الناس كمًّا كبيرًا من العذاب، وكما نعلم، فالكثير من عملِ الشرطة يدور حول جعلِ الحياة مزعجةً جدًّا للناس العاطلين الذين يقضون وقتهم في الشوارع.

تزامنت نشأة الشرطة الحديثة مع نشأة التعليم العام أيضًا. والمدارِس تُعوِّدُ الأطفال على الالتزامات التي تتضمنها أماكن العمل الرأسمالية، منها الخضوع لقوانين صارمة تحدّد الأوقات الملائمة للقيام بكل شيء. هدفت حركة إصلاح التعليم في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر أيضًا إلى قولبة السمات الأخلاقية للطلّاب، وكان التأثير المبتغى لذلك هو أنّ يميل الطلّاب بمحض إرادتهم إلى الانصياع لذوي السلطة، وإلى الاستعداد للعمل القاسي، وإلى الانضباط، وتأجيل إشباع الرغبات.

واقعًا، كانت مفاهيم المواطنَة الصالِحة التي نشأت مِن حركة إصلاح التعليم متوازية تمامًا مع مفاهيم علم الجريمة، التي كانت قيد الاختراع، الهادفة إلى تصنيف الناس في الشوارع. فكان على الشرطة ألَّا يُركّزوا على الجريمة، بل على صِفات مُرتكبي الجريمة – وهي طريقة تشخيص مدعومة بما يُزعم أنّها أسس علميّة. فمفهوم «الشباب المنحرف» (delinquent juveniles) على سبيل المثال مفهومٌ شائع في مجاليّ التدريس ونشاط الشرطة، وقد وساعد هذا المفهوم على ربط هاذين المجالين من ناحية الممارسة.

أريد لأيديولوجية المواطَنة الصالِحة أن يكون لها الأثر الكبير على عقولِ الطلّاب، حيث تشجّعهم على الاعتقاد بأن مشاكِل المجتمع سببها أفعالُ «الأشرار». وحسب الإصلاحي التعليمي هوراس مان، يجب أن يكون أحد الأهداف الرئيسة للتعليم هو زرع نوعٍ معيّن من الوعي في الطلّاب، لكي يضبطون هم أنفسهم تصرّفاتهم ويُضحون شُرطةً على أنفسهم. وعلى حدّ قولِ مان، كان الهدف هو أن تنشغل همومُ الأطفال «بِالواجبِ (duty) عِوضًا عن رجل الشرطة».

ومن نافلةِ القول أنّ المخطّط التحليليّ لتقسيم المجتمع بين أخيارٍ وأشرار هو مخطّط مناسبٌ جدًّا لانتقاء أكباشِ الفداء، بالخصوص العرقيّة منها. وهذا المخطّط ذو النزعة الأخلاقيّة كان (ولا يزال) منافسًا مباشِرًا لرؤية العالم من وجهة نظر واعية طبقيًا، وهي وجهة نظر تعرّف خصومات المجتمع كصراعٍ بين مُستغِلّين ومُستغَلّين. لا تقتصرُ نشاطاتُ الشرطة على القمع فقط إذن، ففيها يتلاحَم «تدريس» إيديولوجية المواطَنة الصالِحة والمواطنة الطالِحة مع دروس الفصول الدراسية ومنازل العمل.

ما أودُّ قوله هنا هو أن استحداثَ الشرطة كان جزءًا من التوسّع الشامِل لنشاطات الدولة بهدف السيطرة على السلوكيّات اليوميّة للطبقة العاملة، فالتعليم وإعانة الفقراء والشرطة عملت جميعًا على قولبة العمّال ليصبحوا نافِعين للطبقة الرأسماليّة، ومُوالِينَ لها.

الشرطة والقانون

النقطة العامة التالية تتعلق بأمرٍ كلّنا نعرِفه، وهي التالي:

لدينا القانون من جهة . . . ولدينا أمرٌ منفصِل عنه، ألا وهو ممارسات الشرطة.

سأتحدّث قليلًا في البداية عن القانون: على الرغم ممّا قد تعلّمتموه في فصول التربية المدنيّة، فالقانون ليس الإطار الذي يسير المجتمع داخِله، بل هو ناتِجٌ عن طريقة سيرِ المجتمع، ولكنّه لا يعكس كيفيّة سيرِ الأمور على حقيقتها. وليس القانون إطارًا لما ينبغي للمجتمع أن يسير عليه، مع أنّ بعض الناس يعقدون آمالهم على ذلك.

إنّ القانون واقعًا مجرّد أداة من ضمنِ أدواتٍ أخرى في يد أصحابِ القوة المُمَكَّنِينَ من استخدامِه، بغرضِ التأثير على مجريات الأحداث. فالشركاتُ مُمكَّنةٌ من استخدام هذه الأداة لقُدرِتها على توكيل محامين ذوي التكلفة الباهظة، والسياسيين وأعضاء النيابة العامة والشرطة أيضًا مُمَكَّنونَ من توظيف القانون.

وفيما يتعلّق بالشرطة والقانون تحديدًا، ففي القانون بنودٌ أكثر بكثير مما يستخدمه الشرطة واقِعًا، ولذلك تطبيقهُم له دائمًا انتقائي. معنى ذلك أنَّ الشرطة تقوم دائمًا بتحديد أي قطاعٍ من السكان عليها استهدافه وأيُّ نوعٍ من السلوكيات تريد تغييرها. ويعني ذلك أنَّ فرصَ فسادِ الشرطة كثيرة ومتاحة دائمًا، فإن كانت لديهم حرية التصرّف في تحديد من يُعتقَل، فبإمكانهم طلبُ مكافأة لعدم الاعتقال.

أحد الطرق التي تبيّن لنا الفجوة ما بين القانون وأفعال الشرطة هي عن طريق اختبار الفكرة الشائعة عن كون العقاب يبدأ بعد أن يدان الشخص في المحكمة، لكنَّ الواقع هو أنَّ أيَّ شخص سبق وتعامل مع الشرطة سيخبرك إنّ العقاب يبدأ حالما يضعون يدهم عليك، فبإمكانهم اعتقالك ووضعك في السجن، دون أيّ تُهَم، وهذا واقعًا عِقاب، وهم يعلمون بذلك – ناهيك عن احتمال اعتدائهم الجسدي عليك، والطُرق المتاحة لديهم لمضايقتك حتى لو لم يعتقلوك.

فإن كانت الشرطة تتأمّر على الناس كلّ يومٍ بدون أمرٍ قضائي، وهي كذلك، وتعاقب الناس كلّ يومٍ بدون حكمٍ قضائي، والحال كذلك، فمن الواضح أن بعضًا من وظائف الشرطة الرئيسة ليست مكتوبة في القانون، فهذه الوظائف جزءٌ من ثقافة الشرطة التي يتعلمّونها من بعضهم البعض بتشجيعٍ من قادتهم وتوجيهٍ منهم.

يؤدي بنا هذا الأمر إلى موضوعٍ بدأت بِه في البداية. يتعامل القانون مع الجريمة، ويُتّهم الأفراد بارتكابِ الجريمة، لكنّ الشرطة استحدثت واقعًا للتعامل مع ما يصيره العمّال والفقراء في تعبيرهم الجمعي: يتعامل الشرطة مع الحشود والأحياء، ويستهدفون قطاعاتٍ محددة من السكّان – وهذه كُلّها كياناتٌ جماعية.

قد يستخدمون القانون في تعاملهم هذا، ولكنّ تعليماتهم العامّة تأتي من سياساتٍ صاغها قادتهم أو من غريزتهم المكتسبة من خبرتهم كشرطة. وكثيرًا ما يكون لتوجيهات السياسة العامة طبيعةٌ جمعيّة، فعلى سبيل المثال: أن تصدر توجيهات لفرض السيطرة على حيٍّ مُنفلت. يأتي القرار أولًا، ومن ثمّ يستنتجَ أيُّ قوانينٍ يمكن توظيفها.

هذا هو معنى سياسات «عدم التسامح» وسياسات «النوافذ المُحطّمة» – ولو كانت السلطات صريحة لسمّتها بسياسات «الز*جي المغرور». كان الهدف هو ترويع جمعٍ من الناس وفرض السيطرة عليهم من طريق اتّخاذ إجراءاتٍ ضدّ قلّة مِنهم. وهذه التكتيكات أُدْمِجَت في عملِ الشرطة منذ البداية. فالقانون إذن هو أداة تُستَخدم على الأفراد، ولكن الهدف الحقيقيّ هو السيطرة على سلوكيّات الجموعِ الأكبر.

البدائل

سأنهي هذا المقال بالحديث عن بعض البدائل الممكنة.

أحد هذه البدائل هو نظام عدالة وُجد في الولايات المتّحدة قبل نشأة الشرطة، وهو موضوعٌ موثّق بشكلٍ جيّد في فيلاديلفيا، ولهذا فهي المكان الذي سأتحدّث عنه. طوّرت فيلاديلفيا في فترة الاستعمار نظامًا سُمّي بـ «المحاكم الصغيرة» حيث جرت أغلب المحاكمات الجنائيّة. عَمِل المحافِظ وأعضاء المجلس المحلّي كقُضاة – أي قُضاة الجرائم البسيطة. كان الفقراء يوفّرون بعضًا من الأموال ليتمكّنوا من دفع رسومٍ للقاضي ليسمع قضيّتهم.

كانت أغلب الجرائم في ذلك الوقت – كما هو الوضع الآن – تُرتَكب من قِبل الفقراء ضدّ الفقراء، وفي هذه المحاكم، يكون ضحيّة الاعتداء أو السرقة أو القذف هو المدّعي. وقد يقوم أحد المجنّدين بإحضار المُتّهم إلى لمحكمة، ولكن ذلك لم يماثل اعتقالاتِ الشرطة، فالعمليّة بأكملها تحرّكها رغبة الضحيّة، لا أهداف الدولة، وبإمكان المتّهم أن يرفع دعوى مضادّة.

لا يوظِّفُ أيٌّ الطرفين محامين، والتكلفة الوحيدة كانت الرسوم التي تُدفع للقاضي. لم يكن هذا النظام مثاليًا، فمن الممكن أن يكون القاضي فاسدًا، وحياة الفقراء لم تُصبِح أقلّ بؤسًا إذا ما ربحوا قضيّة ما، لكنّ النظام هذا كان له شعبيّة وظلّ قائمًا لفترة من الزمن حتى بعد نشوء وتطوّر نظام الشرطة الحديثة ونظام الادعاء العام التابع للدولة بشكلٍ موازٍ.

كان استحداث جهاز الشرطة – التي تزامنت مع نشأة الادعاء العام – أشبه بقرار الدولة الضغط بإبهامها على إحدى كفَّتي ميزان العدالة. ففي المحكمة، قد يكون لك أملٌ بأن تعامَل كبريء حتى تثبت إدانتك، ولكنْ حتى قبل وصولك إلى لمحكمة، عليك أن تمرّ بين أيدي الشرطة والادعاء العام الذين لا يعاملونك – أبدًا – كشخصٍ بريء، ولدى هؤلاء الفرصة للضغط عليك عليك أو تعذيبك لانتزاع الاعترافات، وفي أيامنا هذه ينتزعون الاعترافات على شكلِ تفاوضٍ لأجل تخفيف العقوبة، وكلُّ ذلك يجري قبل وصولك للمحكمة حتى.

مهما كان ظلمُ النظام الذي سيطر عليه الشرطة والادعاء العام، فنظام المحاكم الصغار بيّن للفيلاديلفيين بديلًا ممكنًا أقربَ إلى حل النزاع ما بين الأقران.

هذا هو المفتاح: يمكننا إتاحة البدائل هذه مرةً أخرى إن أبطلنا العلاقات الاجتماعيّة غير المتكافئة التي استحدثت الشرطة للدفاع عنها. فحين سيطر عمّال باريس على المدينة لشهرين في عام 1871م، أسّسوا حكومةً تحت اسم «الكومونة». أضعفت بدايات المساواة الاجتماعية في باريس من الحاجة للقمع وسمحت للكومونيين بتجريب إلغاء الشرطة كقوّات دولة، منفصلة عن المواطنين. انتخب الناس ضبّاطهم الخاصّين للأمن العام، واقعين تحت محاسبة الناخبين ذاتهم ويتاح لهؤلاء عزلهم المباشر إن أرادوا.

لم يصبح هذا العمل أبدًا عملًا روتينًا مستقرًا لأن المدينة كانت تحت الحصار منذ يومِها الأول، لكنّ الكومونيين حملوا الفكرة الصائبة. فلأجل التغلّب على نظام قمعِ الشرطة، كان العمل الرئيس هو الرقي إلى مستوىً يناسب مسمّى «الكومونة» – أي: بناء مجتمعِ أقرانٍ محكومٍ ذاتيًّا. وما زلنا اليوم بحاجة لذلك.

المصدر: ووركس إن ثيوري

حول القانون وفرض النظام في أوروبا في القرون الوسطى:

Tigar, Michael. Law and the Rise of Capitalism. New York: Monthly Review Press, 2000.

حول الطبقة العاملة والشرطة في إنجلترا:

Thompson, E. P. The Making of the English Working Class. Vintage, 1966.

Farrell, Audrey. Crime, Class and Corruption. Bookmarks, 1995.

حول تاريخ الشرطة في أمريكا ووظائفها:

Williams, Kristian. Our Enemies in Blue: Police and Power in America. Revised Edition. South End Press, 2007.

Silberman, Charles E. Criminal Violence, Criminal Justice. First Edition. New York: Vintage, 1980.

المصدر الرئيس حول تطور الشرطة في المدن الأمريكية الكبرى:

Bacon, Selden Daskam. The Early Development of American Municipal Police: A Study of the Evolution of Formal Controls in a Changing Society. Two volumes. University Microfilms, 1939.

مصادر مختصة بفيلاديلفيا ونيويورك:

“New Year’s Amusements,” New York Evening Post, January 2, 1828.

Gilje, Paul A. The Road to Mobocracy: Popular Disorder in New York City, 1763-1834. The University of North Carolina Press, 1987.

Steinberg, Allen. The Transformation of Criminal Justice: Philadelphia, 1800-1880. 1st edition. Chapel Hill: The University of North Carolina Press, 1989.

مصادر مختصة بالجنوب الأمريكي:

Chapman, Anne W. “Inadequacies of the 1848 Charleston Census,” The South Carolina Historical Magazine, vol. 81, No. 1 (January 1980), 24-34.

Hinks, Peter P. To Awaken My Afflicted Brethren: David Walker and the Problem of Antebellum Slave Resistance. Pennsylvania State University Press, 1996.

Powers, Bernard E. Black Charlestonians: A Social History, 1822-1885. University of Arkansas Press, 1994.

Schweninger, Loren. “Slave independence and enterprise in South Carolina, 1780–1865,” The South Carolina Historical Magazine, vol. 93, No. 2 (April 1992), 101–125.

Wade, Richard C. Slavery in the Cities: The South 1820–1860. Oxford University Press, 1964.

حول السنوات المبكرة للتعليم العام في الولايات المتحدة:

Bowles, Samuel, and Herbert Gintis. Schooling In Capitalist America: Educational Reform and the Contradictions of Economic Life. Reprint. Haymarket Books, 2011.

 

Skip to content