أمريكا اللاتينية: موسم الانتفاضة والانقلاب

مقدمة الهامش:

نُشِرَ النص الأصلي لمقال عالم الاقتصاد الأرجنتيني كلاوديو كاتز في 19 نوفمبر 2019. ولتسارع الأحداث في أمريكا اللاتينية، فمن المحال نشر شيء إلا وحدثت تطوراتٌ جديدة تغير المشهد العام. أهم ما جرى حتى حتى الآن هو الإضراب الأكبر في تاريخ كولومبيا ضد نظام الرئيس المحافِظ إيفان دوكي الذي جرى بعد يومين من نشر المقال في 21 نوفبمر، مما أجبره على إغلاق حدود البلاد وفرض منع تجوال. وفي المقابل، أعلنت الرئيسة الانتقالية للانقلاب في بوليفيا أن لا مزيد من الصفقات بين بوليفيا والصين، وأعلنت سعيها لبدأ محادثات مع الولايات المتحدة للاسغلال موارد الليثيوم الموجودة في البلاد.

ملاحظة حول الترجمة: نستخدم في هذا المقال مصطلح «وِلاياتي» كترجمة لمصطح (estadounidenses) للإشارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بدلًا من «أمريكي» وهو مصطلح لا يستخدم في أمريكا اللاتينية لما فيه من محو للقارتين واختزالهن في بلدٍ واحد.

  النص الأصلي

تمر أمريكا اللاتينية برياح تغيير مفاجئة، في حدم المواجهات لكبرى بين المحرومين والنخب. صراعٌ بين انتفاضاتٍ شعبية من جهة، وهجماتٍ رجعية من جهة المضطهِدين. على قطبٍ منها، نجد الأمل الجماعي، وعلى القطب الآخر، فرضُ تقاليد المحافِظة للنُخَب.

تُحسَم المعارك في الشوارع وفي الانتخابات، فأصحاب القوة لا يلجؤون فقط للقمع. إنهم يتلاعبون بالمعلومات، ويشوهون سمعة المناضلين ويحاولون إشعال سخط الطبقة الوسطى المُفقَرة. في كل أرجاء المنطقة، تصطدم الرغبة بالمساواة مع الفاشية، دون نتيجةٍ حاسمة في أي بلد. في عملية مدوِّخة، تجاوِر الانتصارات المهمة نكساتٌ مُقلِقة.

انتفاضات أكتوبر

الانتفاضة في تشيلي هي الحدث الأهم في طوفان أمريكا اللاتينية، فهي أكبر تمرد في تاريخ البلد. كل يوم، يخرج آلافُ الشباب من المدارس الجامعات والأحياء لمواجهة قوات الأمن.

شعارهم بسيطة: «تشيلي تعِبَت، فنهضت». نهضَ شعبُ أنهكته الإهانات ضد النموذج النيوليبرالي. سبعون بالمئة من مدخول الأسر تأكله ديونٌ مأخوذة لتسديد تكاليف تعليمٍ ورعاية صحية ومعاشات تقاعد مخصخصة. تتشارك تشيلي المنصة مع الأمم الثمانية الأكثر تفاوتًا للدخل في العالم.

تواجه جماهير الشعب حكومةً منعزلة، وصلت إلى الحكم في انتخاباتٍ سمتها الأساسية امتناع الناس عن التصويت. ردَّ عليهم الرئيس المحافِظ سبستيان بنييرا باللجوء لمستوياتٍ وحشية من القمع، أدت حتى الآن لمقتل عشرين شخصًا، واعتقال الآلاف، وإصابات لا تعد. وتوجد تقارير لا لبس فيها عن تعرض النساء المحتجزات للاعتداء الجنسي.

يمارس الجيش هذا التخريب للحفاظ على امتيازاته التي أورثها إياه بينوشيه، فهو يتلقى نسبةً ثابتة من صادرات النحاس، وأعضاؤه معفيون من مصير الفقر ما بعد التقاعد، الذي يعاني منه بقية المتقاعدين. لكن بعضَ الجنود رفضوا المشاركة في القمع، والضباط يطالبون بضمان الحصانة القانونية حتى يستمروا في قمعهم، فالمجتمع يطالب بمحاكمتهم.

بنييرا غارق. فرضَ منع تجوال، من ثم اضطر للتراجع عنه. طالبَ بالحوار، ومن ثم استمر بسفك الدم. كل يوم يعلن عن تنازلٍ اجتماعي جديد، دون نتيجة تذكر. يظهر الذعر السائد في زمرته الخاصة في اعترافاتٍ مضحكة («سنضطر نتخلى عن بعضٍ من امتيازاتنا») أو في وصف المتظاهرين بـ «الغُرَباء».1الإشارة هنا إلى تسريب لتسجيل في أكتوبر لِسيسيليا موريل، زوجة الرئيس بنييرا.

تستمر القوى الشعبية في التعبئة حتى لا تتكرر تجربة إحباط المظاهرات الجماهيرية لعامي 2006 و2011، التي لم تؤدي إلا لتغييرات شكلية. بدأت الموجة الحالية عفويًا ودون قيادة، لكن التنظيم بدأ يبرزُ من الأسفل. ونرى مجالسَ مفتوحة تناقِش كيفية توجيه المظاهرات والاقتراحات.

امتد النشاط الطلابي إلى النقابات وغيرهم من التنظيمات الاجتماعية، التي تطالب بإنهاء حكم بنييرا وتشكيل مجلس تأسيسي. الضغط قويٌ جدًا حتى أن الحكومة نفسها تواجه صعوبة في تحريف هذه المطالب.

في تلك الأثناء، يحاول سياسيّو يسار الوسط للتحالف2تحالف الأحزاب من أجل الديموقراطية: تحالف يشمل الحزب الديموقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي وبعض الأحزاب الصغيرة. أُسِّسَ التحالف لأجل استفتاء عُقِد في 1988 حول استمرار الحاكم العسكري بينوشيه الذي وصل للحكم في انقلاب عسكري مدعوم من الولايات المتحدة، وذلك وفق ما نصه دستور ما بعد الانقلاب. رغم أن أحزابًا مثل الحزب الديموقراطي المسيحي باركت للانقلاب بادئًا، فقد رفضت في عام 1988 استمرار حكم بينوشيه. لتمييع مطالب الانتفاضة. هذه القوى دعمت النظام لثلاثين عامًا، بل وبررت بادئًا عسكرة الشهر الماضي. ها هم الآن يروجون دعوةً لاستفتاء عام سيضمن استمرار إدارة بنييرا ويمنع سيادة صنع القرار لأي جمعية تأسيسية مستقبلية لإعادة صياغة الدستور.

الإكوادور هي المركز الثاني للانتفاضة. قاومت مجتمعات الشعوب الأصلية زيادةً في أسعار الوقود على المستوى المحلي، وبعدها انضموا إلى غيرهم من القطاعات الشعبية في مسيرة هائلة في كيتو.

هرب لينين مورينو إلى غواياكيل (معقلٌ للمحافظين) واختار طريق القمع الدموي، مما أدى لقتل سبعة وجرح الآلاف. ولكن حتى بعد أيام عديدة من القتال الحاد، استسلم. ألغى رفع أسعار الغاز وخضع للانتصار الذي حققه صمود الاتحاد الكونفدرالي للقوميات الأصلية في الإكوادور (كوناي). حين سارت الشعوب الأصلية تجاه البرلمان، تذكر الرئيس الهارب كيف أسقَطت هذه القوى ثلاثة من سابقيه (1997، 2000، و2005).

نجحت المظاهرة في إبطال القانون الذي صاغه صندوق النقد الدولي لبلدٍ مختنق بالدين الخارجي. فُعِّلت حزمة إصلاحات نيوليبرالية لقانون العمل وفُتح الاستيراد في اقتصادٍ غارق بالدَوْلَرة،3الدَولْرَة: استخدام الدولار كبديل للعملة المحلية. فخٌ يمنع معالجة آثار التعديلات بمسكِّنات السياسات المالية.

احتل المتظاهرون مكاتب صندوق النقد الدولي، محذرين المصرفيين بما يجب أن يتوقعوه من جولة المقاومة الجديدة. بعد انتصارهم على جبهة المتاريس، شكَّلت الحركات الشعبية برلمان الشعوب، مطالبةً بزيادة الحد الأدنى للأجور، وفرض ضرائب تقدمية، وآليات للخروج من الدَولَرة ، ومعها ضمان الأراضي الزراعية للفلاحين وإعادة هيكلة ديونهم. وهذه علامةٌ على بدء الانتفاضة في صياغة مشاريع بديلة.

الخطر الفاشي

قدم الانقلاب في بوليفيا نقطةً معاكسة للانتفاضات في تشيلي والإكوادور. الجدل حول تعريف هذه الهجمة سخيفٌ جدًا. هذا الانقلاب هو الأكثر صراحةً ووقاحةً ووضوحًا في العقود الماضية. لم يكن هنالك حتى غطاءٌ مؤسسي، ولم يضعوا عليه قناعًا ناعمًا حتى.

انتزع اليمين المبادرة وقبض على السلطة، بفعلٍ حاسم وبقيادةٍ مباشرة من الجيش. استقال الرئيس إيفو موراليس تحت تهديد السلاح حين رفضَت الجنرالات إطاعته. لم تكن استقالته بسبب الضغط الناتج عن الأزمة العامة (مثلما استقال الرئيس الأرجنتيني دي لاروا في 2001). أٌسقِط من كرسي الرئاسة بواسطة قيادات الجيش العليا.

لكن السمة الأبرز لهذه العملية كانت صبغتها الفاشية. أسست قوات الأمن «مناطق محررة»، تحتلها بلطجية أطلقت حملةَ إرهاب. اختطفوا القادة الاجتماعيين، اجتاحوا المؤسسات العامة، وأهانوا مخالفيهم. ما فعله قائد الانقلاب، الأصولي المسيحي لويس فيرناندو كماتشو، هو تطبيقٌ لتصريحات الرئيس البرازيلي اليميني المتطرف جايير بولسونارو. طاف مؤيدوه الشوارع، حاملين الأناجيل ومحملين بالدعاء، وأحرقوا المنازل، اختطفوا النساء، وقَيَّدوا الصحفيين بالسلاسل.

يستمر كماتشو بتحريضاته العنصرية ضد الـ «تشولو»، بينما يسخر أتباعه من الـ «كويا»4التشولو والكويا: مصطلحات تشير للسكان الأصليين، تستخدمها النخب العنصرية كشتائم عرقية، وأحرقوا علم ويبالا، علم الشعوب الأصلية، وأبرحوا المارّة في الشوارع من الشعوب الأصلية ضربًا. وشجاعة «ماتشو كماتشو»5ماتشو (macho): من ماتشيزمو (Machismo)، وتعني الرجولة. مصطلح يعني المبالغة في الفخر بالرجولة، يستخدم في البلدان المتحدثة للإسبانية والبرتغالية. أمَّنَتها قوات الشرطة المتعاونة معه.

تذكرنا كراهية كماتشو للهنود بتحريضات هتلر الأولية ضد اليهود. فهو لا يحاول حتى إخفاء لا عقلانية كلامه الخَرِف ضد الشعوب الأصلية، فهو يعتبر نساء هؤلاء الأمم مشعوذاتٍ شيطانيات والرجال لا يصلحون إلا للعبودية. كما حصل في ألمانيا في الثلاثينات، أسس كماتشو فيالق من الطبقات الوسطى الساخطة لإهانة الشعوب الأصلية.

نرى الطبقة الحاكمة فرحةً في انتقامها. لم تقبل هذه الطبقة أيضًا بحقيقة أن هنديًّا، إيفو، انتصر بالرئاسة، وها هم ينظرون اليوم بعين الرضى لجحافل كماتشو. تأمل النخب الاقتصادية والعسكرية البوليفية بأن يستقر الانقلاب—بعد فترة تأخذ فيها عصاباتُ كماتشو القيادة—ومن ثم يعينون رجالهم الموثوقين في مناصب إدارة الدولة. لكن أولويتهم الفورية هي توطيد إسقاط إيفو.

ولهذا السبب يعكسون الصورة ويلومون قيادة الحركة نحو الاشتراكية على تزويرٍ لتبرير إسقاطها من الحكومة. يلومون الضحية ويصوِّرون معارضي الانقلاب كمعارضين لأفكار موراليس. يُقدَّم الرئيس المنتخب كدكتاتور وتُمدَح قيادة الانقلاب كمنقذي الديموقراطية. النسخة الألطف لهذا القول الشائن هي التصريح بأن «اللوم يقع على الطرفين».

لكن الكَذَبة لم يقدموا أي دليلٍ على تزويرهم المزعوم. ولم يطعنوا في انتصار إيفو. فقط جادلوا حول ما إذا كان قد حصل على فارق 10 بالمئة اللازم لتجنب جولة انتخابية ثانية. وشرعنت المعارضة الانتخابات بمشاركتها، ولهذا السبب في البداية لم تتحدث إلا عن وجود اختلافات في الحسب. لكن حينما رأت المعارضة إمكانية الشروع في الانقلاب استرجلت وألّفت قصة التزوير.

تتأكد أهمية الولايات المتحدة في الانقلاب بمديح ترمب لتدخل الجيش. وقدمت الشركات الدولية دعمها السخي لقيادات الانقلاب، ونجحت هذه القيادات في الحصول على مباركة الاتحاد الأوروبي.

ستحاول مدَّعية الرئاسة الانتقالية جيان آنييز الحفاظ على الرئاسة بما فيه الكفاية لتزوير انتخاباتٍ جديدة. يتأرجح نظام الانقلاب بين ممارسة العلاقات العامة الضرورية للحفاظ على مهزلته والممارسة المباشرة للدكتاتورية. وكردِّ فعلٍ للانقلاب، عادت بوليفيا إلى تقاليد عدم الانصياع.

تتنامى المقاومة الشعبية البطولية تحت قمعٍ وحشي. في الأيام الخمسة الأولى للانقلاب، قُتِلَ 24 شخصًا. ولكن رغم القمع، امتدت التعبئة الشعبية من معقل إل آلتو6إل آلتو: مدينةُ ذات أغلبية من الشعوب الأصلية، تعدادها مليون نسمة، تجاور العاصمة لا باز وطالت مدنًا عديدة في أرجاء البلاد. نجد في قلب النضال مئاتًا من رابطات الأحياء الشعبية، وهي منظماتٌ تعرف كيف تنظم معارك الشوارع.

وفي خضم هذه النشاطات، يجب تقييم الموقف الذي تبناه إيفو. المشكلة الأساسية في استراتيجيته لم تكن أنه أمِلَ البقاء في الرئاسة باستمرار (بالاستفتاء وإعادة الانتخاب)، بل قصر نظره الشديد الذي أعماه عن الانقلاب. يدرك المناضلون الذين ينظمون المقاومة هذا العيب فيه إدراكًا تامًا. شغلَ نفسه بتوسُّط منظمة الدول الأمريكية7منظمة الدول الأمريكية: أُسِّسَت عام 1948 كتحالفٍ بين الولايات المتحدة ودولها الحليفة في أمريكا الجنوبية والوسطى، بهدف التصدي لانتشار الشيوعية وحماية مصالح الولايات المتحدة في القارتين. على سبيل المثال، بعد فشل الغزو الولايات المتحدة لكوبا (غزو خليج الخنازير) 1961 بغرض إسقاط الحكومة الثورية، التي أسقطت الدكتاتور المتحالف مع الولايات المتحدة فولغينسيو باتيستا، أوقِفَت عضوية كوبا بحكم «عدم توافقها» مع «القيم الديموقراطية» للمنظمة. وفاجأهُ عدم انصياع الجيش، الذي عزّزه موراليس بالمعدات والموارد. لم يكن لدى الحزب الحاكم المفتقر للتعبئة أيُّ ردٍ على هجمة اليمين الحازمة. يعرف المناضلون هذا التوازن ونراهم يضعون المقاومة كأولويةٍ لهم.

انتصارٌ مدوّي

نجد للتباين الذي يسيطر على السياق الأمريكي اللاتيني تمظهرًا آخر في تحرير لولا. أشعل الإفراج عنه حماسًا وفرحًا عارمًا عند المنظمين ضد اعتقاله. كانت مسيرات التضامن الدولية والاعتصامات وغيرها من الأنشطة هي ما أتاح لهذا الانتصار أن يتحقق.

أنزل هذا الانتصار ضربةً قوية ضد مهزلة مكافَحة الفساد، «لافا جاتو» (عملية مغسلة السيارات)،8عملية مغسلة السيارات (Operação Lava Jato): تحقيق جنائي مستمر في قضايا فساد اتُّهِمَ فيها العشرات، من حزب العمال البرازيلي، بعدة تهم منها غسيل الأموال واختلاس وغير ذلك. واجهت التحقيقات منذ البداية اتهامًا بأنها محفزة سياسيًا، تهدف إلى منع فوز حزب العمال في الانتخابات. بعد إنكارٍ استمر لسنوات من فريق الادعاء، بينت تسريبات أن الادعاء تعمد تسريب معلوماتٍ من التحقيقات إلى الصحافة لكي يضر بالفرص الانتخابية لحزب العمال. وأظهرت التسريبات من محادثاتهم على تطبيق تيليغرام نيتهم وراء ثني المحكمة العليا عن إجراء مقابلة علنية مع لولا، لأن ذلك قد يحسن الفرص الانتخابية لمرشح حزب العمال فيرناندو حدّاد في الانتخابات الرئاسية لعام 2012. التي شنها قاضي الادعاء مورو (الذي أصبح الآن وزير العدل عند بولسونارو) وشركاه في أو غلوبو9أو غلوبو (O Globo): أكبر صحيفة يومية في البرازيل. وحملتهم لمنع لولا ذو الشعبية العنيدة من الدخول في السباق الرئاسي مرةً أخرى. الآن، على اليمين التعامل مع مظاهراتٍ ضخمة تطالب بمنح لولا كامل حقوقه السياسية قبل انتخابات الرئاسة لـ 2022.

ستحمل المظاهرات ضد الرئيس فاقد الشرعية صدىً في أرجاء القارة. وسيكون لها أثرٌ أقوى لأن بولسونارو لا يقدر أبدًا على تمالك النفس لكي يمارس دوره التنفيذي في قيادة الدولة البرازيلية. ما زال بدلًا من ذلك مستمرًا في سلوكياته التهريجية.

وسلوكه الجلف في الرئاسة يفاقم الأزماتِ الداخلية لدى الحكومة، فقد تبين في هذه الفترة القصيرة أن عددًا من أقاربه ارتكبوا جرائم غسيل أموال، وأدلي بشهادة مؤخرًا تربطه مباشرةً بجريمة قتل عضوة مجلس مدينة ريو دي جنيرو، مارييل فرانكو، المنتمية لحزب الاشتراكية والحرية.

يعتمد بولسونارو على تأييد الجنيرالات التسعة الذين يملكون السلطة الحقيقية له. بقاؤه في الحكم سببه الخدمات الكبيرة التي يقدمها للطبقات الحاكمة، عبر هجماتٍ متتالية على العمال.

ابتدأها النقيب السابق بتخفيض الحد الأدنى للأجور، واتجه بعد ذلك لإصلاحات رجعية لقانون العمل ونظام المعاشات التقاعدية، وأضاف عليها خصخصة القطاعات الاستراتيجية، مثل الطاقة والقطاع المالي والنقل، إذ اقترح خصخصة مئة شركة مملوكة من الدولة قبل 2022. واقتطاعهُ لميزانية التعليم لم يماثله وحشيةً إلا مهاجمته على المسؤولين الذين يقترحون أفكارًا تقدمية. تشجع خطاباتُه الخَرِفة ضد الشيوعية على انتهاكات حقوق الإنسان، بينما تزداد وحشية بلطجيته ضد سكان العشوائيات (الفافيلا).

رغم كل الأضرار التي سببها، لم يتمكن بولسونارو من ترجمة خطابه الرجعي إلى برنامج أو دولة فاشية فعلية. دخل العمّال في إضراب ضخم ضد الإصلاحات النيوليبرالية لمعاشات التقاعد، وخرجت مسيراتٌ مليونية ضد رهاب المثلية (هوموفوبيا)، وهي عنصرٌ مركزي لهوية بولسونارو السياسية والشخصية. وأضف على ذلك أنَّ مظاهرات الطلاب ضد تخفيضات الميزانية وصلت لمستوى جماهيري غير مسبوق، يحرّكها شعار «نعم للكتب، لا للأسلحة».

يخطط بولسونارو المعتوه لهجمة مضادة، بما في ذلك تحشيد قاعدته الاجتماعية اليمينية للمطالبة بإرجاع لولا إلى السجن. ما سيحصل في البرازيل الآن سينبع من هذه المواجهة.

الرد النموذجي

يكمّلُ الانتصار الديموقراطي في البرازيل على انتصارٍ أهم في فنزويلا. لأن ترمب لم يتمكن من نسخ غزو ريغان أو بوش لغرينادا (1983) وباناما (1989)، اضطر للاكتفاء بالاستيلاء على الشركة التابعة لـ شركة النفط الوطنية الفنزويلية في الولايات المتحدة. حاول أذنابُ ترمب الفنزويليين كل خطة في جعبتهم، لكن قوضهم الادعاء الفاشل مِنْ خوان غويدو برئاسة فنزويلا. فشلت مهزلة المساعدات الإنسانية أيضًا ولم يتمكنوا من الشروع في تمردٍ عسكري. لم تنجح الحرب الانتخابية وهجمةُ ليوبولدو لوبيز الارتجالية فشلت ولم تُكسبه لا تعاطفًا ولا مجد.

التهديدات العسكرية ما زالت قائمة على الحدود مع كولومبيا. ولهذا السبب أفشلت وزارة الخارجية الأمريكية المفاوضات مع المعارضة. لكن الحكومة الفنزويلية تمكنت من هزيمة المؤامرات واحدةً تلو الأخرى.

في مواجهة سيناريو صعب جدًا (فاقمته أخطاءُ ضخمة في السياسة الاقتصادية من جهة الحكومة)، تمكن داوود من إيقاف جالوت. حتى هذا اليوم، يحافظ المعسكر البوليفاري10البوليفارية: حركة اشتراكية مناهِضة للإمبريالية في أمريكا اللاتينية، سُمّيت تيمننًا بِسيمون بوليفار، المُحرِّر، الذي قاد نضال الاستقلال في أمريكا اللاتينية في القرن التاسع عشر. على مستوىً ضخم من التعبئة في الشوارع، ويقاتل للسيطرة على الفضاء العام كل مرةً تبرز فيه المعارضة. أضف على ذلك الحفاظ على التماسك العسكري والولاء للحكومة11فشلَ غويدو مثلًا في كسب القيادات العليا للجيش وذلك بسبب التدخل السياسي المستمر في الجيش بضغطٍ من الميلشيات الشعبية.

تبين هذه النشاطات كيفية مواجهة تهديدات اليمين. تؤكد الحاجة إلى ردودٍ تعادل حجم النشاطات الانقلابية دون إيحاء واحد بالانهزام. تبين فنزويلا صواب استعراض القوة إلى جانب النشاط الدبلوماسي، محافظةً على الهدوء ورافعةً أعلام السيادة والسلام. لتغلب الفاشيين، عليك التصرف بلا تردد.

معارك النفس الطويل

التوترات في فنزويلا زادت من حدة غيرها من معارك الشوارع. أجبرت المظاهرات في بورتو ريكو الحاكم على الاستقالة بعد سخريته من ضحايا الإعصار وتعليقاته الهوموفوبية.

دعم الشعب مطالب بالتعبئة، في جزيرةً غارقة في تعديلات صندوق النقد الدولي. يولّد القانون الفيدرالي، المفروض مِنْ قِبَل القطاع المالي لمواجهة الإفلاس الحكومي، معاناةً مريعة للعمال. لكن ولأول مرة في تاريخ تلك الأمة، أسقط حاكمٍ بالضغط الشعبي. الأزمة مستمرة وليس هنالك صيغٌ للحلول في مستعمرةٍ تفتقر الآليات السياسية لمعالجة التوترات التي تمر بها الدول.

شهدت هاييتي، في الجوار، مظاهراتٍ مهولة في الشهور الماضية. وُضعِت المتاريس كل يوم في المدن احتجاجًا على حكومةٍ فاقمت إفقارًا مريعًا للشعب. يَمنع التضخم المتزايد نصف الهاييتيين من إتمام حاجتهم اليومية من الطعام، والقمع الذي يواجهون اختطف حياة 51 شخصًا. المطالب الرئيسة تعنى بالرؤساء الثلاثة، الذين اختلسوا الأموال التي قدمتها التشافيزمو12التشافيزمو (Chavismo): أيديولوجيا سياسية يسارية تستند إلى الفكر والنشاط السياسي للرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز، وهي اشتراكية، بيئية، أممية، ونَسَوية، وبوليفارية. عبر بيتروكاريبي13بيتروكاريبي (Petrocaribe): شركة نفطية كاريبية مشتركة أطلقت بمبادرةٍ من هوغو تشافيز كمشروعٍ تضامني تحو تكامل اقتصادي إقليمي، حيث توفر فنزويلا النفط بسعر زهيد للبلدان المشاركة.. زاد هؤلاء الرؤساء ثرواتهم الشخصية بالموارد التي قدمت لتخفيض أسعار الوقود.

يطالب المحتجون باستقالة دمية واشنطن الحالية، الذي سيكافئه ترمب على خيانته فنزويلا وانحيازه مع اليمين المتطرف. لكن مدّ المظاهرات لم ينثني والمطالب بمحاكمة اللصوص، يضاف إليها المطالب بتشكيل مجلسٍ تأسيسي، لإجراءِ تغييراتٍ جذرية في النظام الانتخابي المُخجِل.

ما تزال هندوراس تنتفض في مقاومةٍ صلبة ضد نظامٍ دموي استحوذ على السلطة بالتزوير الانتخابي (2017)، التي عززت التزوير الانتخابي السابق (2013). لم يكتفي المجرمون الذين يديرون الدولة باغتيال الناشِطة البيئية بيرتا كاسيريس،14بيرتا إزابيل كاسيريس فلوريس: ناشطة هندوراسية بيئية ومؤسسة مجلس المنظمات الشعبية والإنديجينية الهندوراسية. اغتيلت كاسيريس في 2016 بعد تهديدات مستمرة، بواسطة وحدة عسكرية مُدرَّبة أمريكيًا في مدرسة الأمريكيتين، الشهيرة بتدريبها عددًا من جنود أمريكا اللاتينية المتورطين في جرائم حرب وجرائم قمعية. بل وصلوا لقتل 200 مناضلٍ ومناضلة من الطبقات الشعبية تجرأوا على تحدي مافيات القوى الأمنية. حُوِّلَت البلاد إلى دولة مخدرات، يديرها رئيسٌ أقرباؤه أدانتهم الولايات المتحدة بتهريب الكوكايين.

إن شعلة الانتفاضة تميل للانتشار في المنطقة وقد أثرت حتى على باناما المزدهرة. في هذا البرزخ، حدثت مسيرة جامعية ضخمة، أدانت حزمة إصلاحات رجعية كانت تُناقَش في المجلس التشريعي.

مواجهةٌ انتخابية

يمتد النضال في أمريكا اللاتينية ليشمل الحقل الانتخابي أيضًا. انتصر أندريس مانويل لوبيز أوبرادور انتصارًا قويًا في المكسيك العام الماضي، منهيًا الدورة الخانقة لحكومات الحزب الثوري المؤسسي وحزب العمل الوطني. بهذا النجاح الانتخابي، أعيقَت محاولات التزوير، التي جهزها الخاسرون لتأبيد حكمهم الدولة. عُبَّرَ عن الآمال التي شكلها ذلك في المظاهرات الضخمة التي توجت توليه الرئاسة.

تتركز الآمال على إنهاء العنف الناتج عما يسمى بالحرب على المخدرات، التي حولت البلاد إلى مقبرة جماعية: 300 ألف قتيل معروف، و26 ألف جثة غير معروفة الهوية. ارتُكبِت مجازر ضد قادة اجتماعيين لا يمكن إحصاؤهم، في حربٍ لم تقتصر على تصفية الحسابات بين الرابطات الإجرامية المنظمة.

يأمل الناخبون من لوبيز أوبرادور وضعَ حدٍّ للنزوح الإجباري والتحقيق ومحاكمة مرتكبي المجازر، مثل مجزرة أيوتزينابا. لكن التوق والسلام والعدالة لم يُشبَع، فتفكيك العصابات وإيضاح تورط الجيش في هذه المجازر لم يتم بعد.

سيتصادم تحقيق هذه الأهداف مع التفعيل الأخير لمعايير أمنية داخلية جديدة، تخول القوى العسكرية بالانخراط في الحرب ضد المخدرات، ولن يزيد خضوع لوبيز أوبرادور لابتزاز ترمب ومطالبته بإيقاف المهاجرين من أمريكا الوسطى في حدود المكسيك الجنوبية عبر تعبئة الحرس الوطني الوضع إلا خطرًا.

تلقى لوبيز أوبرادور أيضًا فوجًا من الأصوات لأجل الحد من الخصخصة، إعادة الاكتفاء الذاتي الغذائي وخفض الدين الخارجي المثقِل. لكن حتى في هذا المجال لا تظهر الإجراءات الموعودة لتطبيق «تحوّل رابع»15التحوُّلات السابقة هي حرب الاستقلال (1821)، فترة إصلاحات علمنة الدولة (الـ1860ـات)، والثورة الاجتماعية الضخمة ضد حكم بورفيريو دياز (1910). تأسيسي للمكسيك.

يشكل انتصارُ الرئيس المنتخب ألبيرتو فيرنانديز في الأرجنتين ردًا انتخابيًا مهمًا آخر على اليمين في أمريكا اللاتينية، مع عودة الكتلة البيرونية16البيرونية (Peronism): حركة سياسية شعبوية قوية في الأرجنتين تقوم على فكر الرئيس السابق خوان دومينغو بيرون. إلى السلطة، بما فيها كريستينا فيرنانديز دي كريشنر كنائبة رئيس. تحتاج حركة الأرجنتين للتصدي للأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي خلفها الرئيس المحافِظ ماوريسيو ماكري. يلقي اليمينُ اللوم لهذا الانهيار على مجتمع، وثقافة، وتاريخ الأرجنتين. الواقع هو أنَّ الانهيار أسبابُه دُنيوية: النموذج النيوليبرالي، سياسات الاستدانة والتعديلات المفروضة بواسطة صندوق النقد الدولي. قد يؤدي هذا السيناريو المحتدم إلى استمرار التعبئة، في بلدٍ يحمل أعلى مستويات التنظيم النقابي والاجتماعي في المنطقة ككل. دون نهضةٍ نضالية أخرى، فَدَخْلُ السكان المتهالك لن يتعافى.

يبالغ اليمينيون في أدائهم لكي يضغطوا على الحكومة الجديدة. في صحفهم، يصدرون تحذيراتٍ ضد أي إجراءٍ تقدمي. بينما يدعون إلى «معالجة الانقسام»، يجهزون الطناجر لفرض أجنداتهم.

يخفي الإعلام المهيمن هذه النتيجة بقراءة معكوسة لما جرى. يقدم الخاسرين كما لو أنهم كانوا في طليعة الانتخابات، وذلك باختزال معادلة الانتصار في فارق الأصوات. لكن جائزة الترضية هذه لا تغير الرأي الواضح للسكان ضد التعديلات.

في كولومبيا، نشهد الصعود البطيء لقوى يسار الوسط، التي نراها ولأول مرة تنافِسُ في الانتخابات البلدية والإقليمية ضد الأوليغارشية والميليشيات اليمينية.

في المقابل، شهدت الجبة الواسعة، يسار الوسط، في أوروغواي انخفاضًا لأصواتها في انتخابات 2019 بعد 15 عامًا في الحكم. وقبل بضعة أشهر في السلفادور، أمسك تحالفٌ يميني ارتجالي بالرئاسة، مما أنهى عقدًا من الإدارة المهتزة لحكومة جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني.

تشكل الانتخابات أرضًا مهمة جدًا للمواجهة القائمة. يصيغ اليمين استراتيجياته في مجموعة ليما17مجموعة ليما: مجموعة كوِّنَت بذريعة إيجاد مخرج سلمي للأزمة في فنزويلا، وهي مكونة من الدول التي تقودها حكومات يمينية في أمريكا اللاتينية، بمشاركة كندية، ومباركة من ولاياتية. دعمت المجموعة محاولة الانقلاب العسكري في فنزويلا. أعضاء المجموعة هم: الأرجنتين، البرازيل، كندا، تشيلي، كولومبيا، كوستا ريكا، غواتيمالا، هندوراس، المكسيك، باناما، بيرو، غيانا وسانت لوسيا. وتعرف التقدمية صورتها في لبّ بويبلا. البدائل الجديدة تُبنَى حاليًا بانفصالٍ عن التنظيمات القديمة المناهضة للإمبريالية، التحالف البوليفاري لشعوب أمريكتنا18التحالف البوليفاري لشعوب أمريكتنا (ألبا): منظمة حكومية دولية تقوم على فكرة التكامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لبلدان أمريكا اللاتينية و‌الكاريبي. تأسست في البداية من قبل كوبا وفنزويلا في عام 2004، وهي مرتبطة بالحكومات الاشتراكية والديمقراطية الاشتراكية الراغبة في تعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي على أساس رؤية الرعاية الاجتماعية. ومنتدى ساو باولو19منتدى ساو باولو: منتدى للأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية اليسارية في أمريكا اللاتينية والكاريبي، أسسه حزب العمال البرازيل في 1990. سُمِّيَ بادئًا بتجمع الأحزاب والتنظيمات اليسارية والمناهِضة للإمبريالية في أمريكا اللاتينية، ومن ثم غُيِّرَ اسمه تيمنًا موقع أول اجتماع له. تحديدًا.

تثبت الأمثلة الأخيرة ضرورة الحفاظ على التعبئة الشعبية وضرورة عدم حصر اليسار نشاطاته في الصندوق الانتخابي. على اليسار إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع التكوينات الناشئة عضويًا من النضالات الاجتماعية. يمكننا رؤية لمحةٍ لكيفية عمل ذلك في مجالس الأحياء (الكابيلدو) في تشيلي، وبرلمان الشعوب في الإكوادور، وملتقى الحركات في بوليفيا، ومنظمات التنسيق في هاييتي.

الذريعة والتلاعب

من الجلي أنَّ الانقلاب عاد كأداةٍ في يد الطبقات الحاكمة. يتوج الانقلابُ في بوليفيا سلسلةً افتتحت في هندوراس (2009)، بتدريبٍ في برغاوي (2012)، وامتدادٍ إلى البرازيل (2016).

يتصرف الانقلابيون بدعمٍ مباشر من الدرك، ويضمنون بقاءهم بحليفٍ مدني. في باراغواي، أزاحوا لوغو، أحلوا كارتيس محله، ورسخوا حكمهم بِعبده، في انتخاباتٍ اتسمت بامتناعٍ واسع للتصويت وافتقار القيادات للشرعية.

في كل حالة، عادَ الجيش إلى مقدمة السياسة، كضامنٍ لأشكال السلطوية الجديدة يبقي عليها حكم الطوارئ. يجسد دوكي الكولومبي الشكل الأكمل لهذه الآليات. بقتله المناضلين الشعبيين، وشرعنته نشاطات التنظيمات شبه العسكرية، ودفن اتفاقية السلام للقضاء على من المحارِبين السابقين.

ويبرر غيره من القيادات الانقلابية استخدام العنف بإعادة إحياء الأشباح القديمة للحرب الأهلية، فيتهمون المظاهرات الاجتماعية في أي زاوية من القارة بأنها خطة تخريبية تديرها فنزويلا وكوبا.

ينشرون الأكاذيب بلا خجل، بينما تستمر عملياتهم التشريعية لتجريم القادة التقدميين. ودون وجود قضاة إلى جانبهم، فالأسباب التي يختلقونها لا تمر عند أي محكمة. لكن لديهم وسائل الإعلام التي تنشر هذه الأحكام على عامة الناس.

يتلاعب الإعلام بالمعلومة، يقدم الفساد كمرضٍ خاصٍ بالحكومات التي تبتعد عن المعايير المحافِظة، ويعفون اليمين من ممارسة هذه الشرور ولا يغطونها، فلا حديث عن قضية أوديبريشت أو التهرب الضريبي والملاذات الضريبية. لم يستنفذ أي حبر، مثلًا، لوصف التخطيطات المافيوية للرؤساء البيروفيين، الذين أخفوا عمليات التزوير بعهود حصانة. يروج الإعلام للقصص الزائفة التي توفرها وكالات المخابرات بطلبٍ من المجموعات اليمينية.

يعبر الخطاب المزدوج للصحف والإذاعات كل الحدود. يوميًا يذيعون الشكاوى عن فنزويلا—تماثل التقارير التي تعدها وزارة الخارجية الأمريكية ضد كوبا—بينما يصمتون عن قتل 648 قيادة اجتماعية في كولومبيا.

وفي تلك الأثناء يوطد اليمين أكاذيبه بأدواتٍ عديدة للتشويش على الوعي الشعبي، بما في ذلك تعزيز التطرف الديني المستند إلى الكنائس الإنجيلية التي تساهم بملايين الدولارات لإثارة الخوف وتدمير التضامن.

الضغوطات والهدم

لا توقف واشنطن مضايقاتها لفنزويلا. أولوية واشنطن الرئيسة هي استعادة أكبر حقل نفط في القارتين. وقد زادت من حدة الحصار على كوبا وتآمرت للدخول في الاحتياطات الضخمة للّيثيوم في ألتيبلانو البوليفية، مما يتعارض مع دخول إيفو في محادثات موسعة لاستغلال هذا المصدر الاستراتيجي مع شركاتٍ صينية.

يحاول ترمب استعادة التحكم الولاياتي بالثروات الطبيعية لأمريكا اللاتينية، وتعزيز انقياد أتباعه التقليديين، ويستكشف شراكةً جديدةً في بولسونارو. لكن من الضروري أن ننظر فيما إذا كانت الطبقة الحاكمة البرازيلية ستظل في هذا المحور الجيوسياسي على حساب أعمالها المزدهرة مع الصين.

في قمة بريكس الأخيرة (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا) بمدينة برازيليا، عبرت الصين بواضح الكلمة عن رغبتها بالتجارة الحرة مع المنطقة. بدأ بولسونارو نفسه النظر في اتفاقية تجارة حرة مع الصين، بما في ذلك محفظة بناء شبكة إنترنت الجيل الخامس الجديدة برعاية هواوي. وذلك إلى جانب عرضٍ أوروبي مغرٍ لعقد اتفاقية تجارة حرة، مما سيؤدي لطفرة في السوق المشتركة الجنوبية (ميركوسور).

في وجه هذه المنافسة الحادة، زاد ترمب الحضور الإقليمي للبنتاغون، مُشكلًا علاقاتٍ قريبة مع جيوش أمريكا اللاتينية كوسيلة لفرض المصالح الاقتصادية للشركات الولاياتية.

يحاول التدخل هذا تعزيز النيوليبرالية، التي تواجه تحديًا من الانتفاضة التشيلية. هدمت الانتفاضة الخرافات النيوليبرالية المحببة لدى رأسماليي المنطقة. تلقت الانتفاضة الأنديزية صدى دوليًا لأنها فضحت خرافةَ كون عالم الأنديز جنةَ نمو، وبينت حقيقته كجحيمٍ للّا مساواة. ولهذا السبب، أصبح السخط على رفع رسوم المواصلات لـ 30 بيزو إلى انتفاضةٍ ضد 30 عامًا من النيوليبرالية.

لهذه الانتفاضة الأنديزية صدىً دولي لأنها وضعت حدًا للأطفال المدللين للأرثودوكسية الاقتصادية. شعارُ «في تشيلي، هنالك تعذيب، قتل، واغتصاب» ذاع في كبرى المحافل. كل وسائل إعلام العالم نشرت ذلك.

من المبكر توقع مدى تفسخ قواعد النيوليبرالية. لكن الهشاشة المهولة لهذا النموذج أصبحت ظاهرةً للعلن، فهو يواجه ركود أسعار للمواد الخام، زيادةً في المديونية وانخفاضًا للنمو.

بيّنَ المظاهراتُ أنَّ النيوليبرالية دفعت أمريكا اللاتينية إلى التفسخ الاجتماعي، منتجةً هجرات ضخمة حين تُفتَح الاقتصادات المحلية على التنافس الدولي وحين يُسحَق المزارعون الصغار. يغذي الحرمان القوافل المهاجرة إلى الشمال، التي لن يحتويها أي جدارٍ أو قوى أمنية.

يبجِّل الليبراليون المنافقون تدفق رأس المال والبضائع بلا قيود، لكنهم يطالبون بالتقييد الشديد للحركة الدولية للمهاجرين. إنهم يروجون لملاحقة ومهاجمة من يعبرون الحدود لإرسال الحوالات المالية لأسرهم الفقيرة.

أحلَّت علينا النيوليبرالية لعنة ازدياد الجريمة ومستويات مريعة من العنف. في أكثر 50 مدينةٍ خطرًا في الكوكب، 43 منها تقع في أمريكا اللاتينية. تهيمن عصاباتُ المارا20عصابات المارا (Mara): عصابات تكونت في الولايات المتحدة. في السبعينات والثمانينات، خاضت بلدان أمريكا الوسطى حروبًا ناتجة عن مواجهات بين قوى ثورية أو استقلالية مع دولها المدعومة من الولايات المتحدة. شنت هذه الدول، برعاية ودعم وتدريب من الولايات المتحدة، حروبًا ارتكبت فيها إباداتٌ جماعية، وذلك للتصدي لقوى شعبية عنيدة. أرسلت فرق الموت إلى الأرياف وقتلوا مئات الألوف خلال عقدين من الإبادة. نتج عن ذلك هجراتٌ جماعية إلى أمريكا الشمالية، والولايات المتحدة تحديدًا. رفضت المحاكم تصنيف هؤلاء المهاجرين كلاجئين، وبالتالي أصبحوا «مهاجرين غير شرعيين». لوجودهم في هذا الوضع الحرج، وإقفال الأبواب أمامهم للدخول في العمل المشرَّع قانونيًا، أصبحوا عرضةً للاستغلال. تكونت بعد ذلك روابط أحياء مثل مارا سالفاتروتشا-13 (MS-13) الشهيرة وغيرها من الروابط، للحماية الذاتية من العصابات الموجودة في المدن، تحولت بعد ذلك إلى العمل الإجرامي المنظم. أدى وجودهم «غير الشرعي» إلى ترحيل عدد كبير منهم إلى بلدان الأصل، مما أدى إلى نقل هذه المنظمات الإجرامية، لتؤسس فروعًا لها هناك. على العديد من مدن أمريكا الوسطى، التي انحلت نتيجةً للهندسة الاجتماعية الرجعية التي جربها عليها علماء اقتصاد مدرسة شيكاغو.21فِتية شيكاغو: مجموعة من علماء الاقتصاد الذين درسوا في جامعة شيكاغو تحت عالم الاقتصاد ميلتون فريدمن، أحد مؤسِّسي المدرسة النيوليبرالية، وعادوا إلى تشيلي وتحالفوا مع انقلاب بينوشيه برعاية أمريكية، وفرضوا ما يمكن اعتباره أول تجربة نيوليبرالية بالقوة العسكرية، من خصخصة القطاع العام وكسر شوكة النقابات المهنية، وإلغاء الضوابط التتنظيمية لسوق العمل. ما عدى الإخفاء القسري والاغتيالات والقمع واسع النطاق الذي تعرض له المعترضون على هذه السياسات، أدى ذلك لجعل تشيلي من البلدان الأكثر تفاوتًا للدخل، ومن أعلاها في ساعات العمل الأسبوعي.

هذا النموذج مسؤولٌ أيضًا عن الدمار البيئي والحرائق الأخيرة في الأمازون. يُرتكَب الإحراق المتعمد لغاباتٍ كبيرة لزراعة فول الصويا وتأسيس مراعٍ للمواشي، وِفق قانون تعظيم الربح.

تفسيرات ومواقف

لا يكتفي اليمين بتجاهل الأزمات التي سببتها إدارته، بل يدعي أن نموذجه أسّس طبقةً وسطى مزدهرة، تسعى الآن إلى مساهمة أكبر في الحياة العامة. يَزعمون أن تمرد هذه الفئة الاجتماعية موجهٌ فقط ضد سياسيين لا يهتمون إلا لمصلحتهم الذاتية، دون الاستماع إلى مطالب ناخِبيهم. في هذا التفسير المحيّر، لا يُنظَر في النتائج المرعبة للنموذج النيوليبرالي. ليس هنالك إلا عيبٌ في النظام السياسي لنظام اقتصاديٍ مزدهر.

هذه النظرة توضح مقدار حياة الرفاهية التي يعيشونها في فقاعة ميامي وأحيائها المُسوَّرة. فهم يتجاهلون أن المظاهرات لم تكتفي بتحدي سلوكيات السياسيين، بل تحدت اللا مساواة، والخصخصة، والمديونية، وتعديلات صندوق النقد الدولي. وصندوق النقد الدولي هذا، ومعه المصرفيون والشركات الدولية، أسماؤهم حاضرة في لائحة المتَّهَمين. هذه المظاهرات لا تلاحق كل الأحزاب أو المشرِّعين دون تمييز. حينما تعبر المظاهرات عن المصالح الشعبية، نراها تعترض على خدم النظام الرأسمالي.

والطبقة الوسطى الحقيقية لا تتوافق مع صورتها عند اليمين. واقعًا، القدرة على صعود السلم الاجتماعي محدودةٌ جدًا في السياق الإقليمي القاسي، وبالتالي تعيش الطبقة الوسطى هذه مع انعدام الاستقرار ومع العطالة المتزايدة. لهذا السبب نرى الانتفاضات—بقيادة العمال والفلاحين والطلبة—تتضمن أحيانًا التجار وأصحاب الأعمال الصغيرة. الكل يحاول الحد من انهيار المعايير المعيشية.

لكن هذه «الطبقة الوسطى» ليست إلا علامةً يستخدمها اليمين ليسترجل بتبريراته. يخلطون الحابل بالنابل ليقحموا تفسيرات التغير الاجتماعي في قالبٍ يتوافق مع كراهياتهم. ولهذا السبب يضعون في النسق نفسه أي نشاطٍ من أي جمهور ساخط، مغفلين المعنى المختلف لكل تعبئة مختلفة.

في الوقت نفسه، الجدل حول السيناريو الحالي ليس محصورًا باليمين، بل هو يشمل بعض المفكّرين الجهلة الذين يعتبرون أنفسهم من اليسار. يخفق هؤلاء المحللون في التفرقة بين الانتفاضات الشعبية والجعجعة الرجعية.

يجب أن نقوم بهذا التمييز تمييزًا حاسمًا. إنَّ متراسًا مناهضًا للحكومة في فنزويلا هو في الجانب المعاكس لمظاهرات الشعوب الأصلية في الإكوادور. أتباعُ كماتشو في بوليفيا أعداؤنا، ومن يدافعون عن إيفو حلفاؤنا.

من المهم تذكر هذه الحقائق البديهية في وجه المواقف الحيادية، التي تهدف لإغفال الفجوة الضخمة الفاصلة بين المعسكرين المتضادين. هذه الآراء الحيادية انتقدت مادورو وغويدو في فنزويلا بحدةٍ متساوية، والآن نراهم يطبقون هذه المساواة في بوليفيا. إنهم يعارضون المحاولات الانتخابية للحزب نحو الاشتراكية بنفس قدر معارضتهم للوحشية العنصرية للّجان المدنية. ويرددون كالببغاء تصوير الإعلام للأنشطة اليمينية كمجرد مظاهراتٍ شرعية من المواطنين.

هنالك عواقب وخيمة جدًا لعمى الألوان السياسي هذا الذي يتجاهل التهديد الفاشي الجلي. إنَّ التشخيص الملائم للمواجهة في بوليفيا ليست ممارسة أكاديمية. إنه شرطٌ مسبق للتنظيم ضد مُهندِسي الانقلاب ولتنظيم الأنشطة والمسيرات التضامنية. من المستحيل تنظيم التضامن ما دام الواحد لا يعلم من يجب عليه أن يقاتله ومن يجب عليه أن يدافع عنه.

دروسٌ مما حصل حتى الآن

لكي نهزِم الانقلاب والإمبريالية والنيوليبرالية، يجب علينا مضاعفة التعبئة وتكثيف النشاط السياسي. وعلينا أيضًا أن نتعلم من الأخطاء المرتكبة من جانبنا التي سمحت لليمين بالعودة.

من الصعب جدًا هزيمةُ أعدائنا الداخليين. إنَّ بروزهم المتكرر ظل مشكلة دائمة شابَت جانبنا طوال العقد الماضي. وليس الرجعي المتطرف لينين مورينو إلا حالةً الحالة القصوى. عيّنَه التحالف التقدمي نفسه رئيسًا لمواجهة مرشح المحافظين، ولم يكتفي بإلغاء إصلاحات الحكومات السابقة، بل بدأ بتطبيق أجندة الطبقة الحاكمة، ووضعَ البلاد في محورٍ من تصميم منظمة الدول الأمريكية لتفكيك مقر الأوناسور22اتحاد أمم أمريكا الجنوبية (أوناسور): اتحاد دولي حكومي يهدف للتكامل الاقتصادي للقارة. كان لديه 18 عضوًا، لكن أغلبهم انسحبوا في الفترة الماضية، بهدف تفكيك مشاريع المد الزهري، وهنالك محاولات لإنشاء بدائل، منتدى تقدم أمريكا الجنوبية (بروسور)، خارج إطار المد الزهري. في كيتو.

ولا يجب أن ننسى أن أحد المهندسين الرئيسين للانقلاب البرلماني على الرئيسة ديلما روسيف، من حزب العمال البرازيلي كان نائب الرئيس الذي عينته. قادت سياسة «توسعة الجبهة» لشمل عناصر مؤيدة للرأسمالية حتى لوبيز أوبرادور لتشكيل تحالف حكم مع الإنجيليين، والمحافظين، والرأسماليين على حساب قاعدته الجماهيرية الراديكالية.

أعادت النيوليبرالية تشكيل نفسها أيضًا حين حوفظ على قواعدها بنماذج بديلة طبقها التيار الهيترودوكسي.23يُقصَد بذلك التيارات التي ليس تقليديًا مرتبطة بالنيوليبرالية، مثل أحزاب يسار الوسط، لكنها استمرت في تطبيق المشروع النيوليبرالي. وَعَد التيار الهيترودوكسي بإبطال الخطط الرجعية، وانتهى به الأمر بتسهيل إعادة ترسيخها. هذا ما جرى في البرازيل وفي الأرجنتين في العقد الماضي، بالحفاظ على امتيازات القطاعيْن المالي والزراعي على التوالي. وهو ما يحدث اليوم في المكسيك مع تجديد اتفاق التجارة الحرة في أمريكا الشمالية (نافتا)، والقبول بمتطلبات التعاريف وبراءات الاختراع والاستثمارات التي فرضها ترمب.

تمكن اليمين من استعادة الساحة عندما اعتقدت الحكومات التقدمية بسذاجة أن انتصاراتها الانتخابية تعني تأييدًا سياسيًا دائمًا. لقد نسوا أن الانتخابات لا تشكل إلا لحظةً في الصراع على السلطة والقوة. لكن عندما يظل التحكم الفعلي بالاقتصاد والقضاء والجيش والإعلام كله في يد الفئات المسيطرة، فعودةُ اليمين ليست إلا مسألة وقت لا أكثر.

وهذه العودة تزامنت عادةً مع إنهاك واستنزاف الجهود التقدمية، بما في ذلك التحسينات في المعايير المعيشية للطبقة العاملة. هذه المفارقة أُكِّدَت في الأرجنتين والبرازيل والسلفادور، وقد تتكرر في أوروغواي. في كل الحالات، وفرت حكومات يسار الوسط إنعاشًا وإصلاحًا للسكان، مما زاد من جمهور الناخبين المحافِظين.

هذا التناقض هو أساسُ الأزمة في بوليفيا أيضًا. في السنوات الأخيرة، عانى حزب الحركة نحو الاشتراكية من نكساتٍ انتخابية كبيرة، رغم نجاحه الذي لا مثيل له في إدارة الاقتصاد. لقد حقق نسب نمو عالية، وخفضًا معتبرًا للفقر، وتدفق قوي للاستثمار من الاستخدام المثمر لدخل الغاز الطبيعي.

التفسير الأكثر شيوعًا لهذا الانفصال بين التحسّن الاجتماعي الاقتصادي والانتكاس الانتخابي هو إلغاء تسيُّس الحركات الشعبية. يجادل البعض أنَّ الناخبين يصبحون أكثرَ فردانية مع توسع الاستهلاك. لكن الواقع هو أنَّ إلغاء التسيُّس هذا نتيجةٌ لاستمرارية نظامٍ يعيد إنتاج الامتيازات للرأسماليين. الأيديولوجيا في مجتمعٍ ما لا تطفو في الفراغ. إنْ حافظت الطبقات الحاكمة على قوتها وسلطتها، فتفوُّقها يميل للتوسع وإلى إيجاد تعبيرٍ انتخابي. يستعيُد أصحابُ القوة تحكمهم بالحكومة لأنهم لم يخسروا قوتهم بادئًا.

عودةُ اليمين ليست حتمية، وليست مجردَ وظيفةٍ طبيعية لبَنْدُول الحياة السياسية المزعوم. إنها تنبع من افتقار التيارات التقدمية للراديكالية. بدلًا من العمل على التحويل الجوهري عندما تحين لها الفرصة، يتأقلم التيار التقدمي مع الوضع الراهن. مع عزوفه عن النظر في انتزاع السلطة من أيدي الرأسماليين الكبار، ينتهي بتعزيز السيطرة الرأسمالية. تؤكد تجربة حكومات يسار الوسط أن كبح الراديكالية يفتح أبواب انتقامِ اليمين على مصراعيها.

مركزية اليسار

مواجِهًا موجةَ تعبئة شعبية مهولة، يجهز اليمين ردًا بنفس الحجم. ولهذا السبب أمامنا مواجهاتٌ أكبر، نتائجها ليست محسومة.

يتضمن السياق الحالي تشابهاتٍ معينة مع الصورة العامة لما جرى في بداية القرن حين ولّدَ تسلسلُ انتفاضاتٍ في فنزويلا، والإكوادور، وبوليفيا، والأرجنتين الشروط لولادة الدورة التقدمية24الدورة التقدمية أو المد الزهري: موجة بدأت في تسعينات القرن الماضي وبدايات القرن الواحد والعشرين في أمريكا اللاتينية ضد النيوليبرالية، وصل معها عددٌ من أحزاب اليسار ويسار الوسط إلى السلطة في البلدان المذكورة أعلاه، وغيرها. وُصِفَت بـ «الزهري» لكونها يسارية غير شيوعية. اختُتِمَت تلك الفترة بالرجوع المُحافِظ، الذي يواجه الآن، بدوره، تحدياتِ جيلٍ جديد من الحركات والقيادات.

يمكن رؤية التشابهات بين اليوم وما جرى في 1989-2005 في تشابه الانتفاضة الإكوادورية لهذا الخريف مع الكاراكازو (انتفاضة قرع الطناجر) الأرجنتينية لعام 2001. اندلعت كالا هاتين الانتفاضتين كردة فعل ضدَّ زيادة في أسعار الوقود فرضها صندوق النقد الدولي. وهنالك أيضًا تشابهات بين 2001 وانتفاضة تشيلي. يتركَّزُ الغضب الشعبي ضد النظام السياسي (بشعار «فليرحلوا جميعًا!») على شخصِ بنييرا وشكل الحكومة الذي خلَّفهُ بينوشيه.

لكن ما يلفت الأنظار في الدورة الحالية هو الحجم الضخم للمشاركة الشعبية. كسرت أعدادُ المتظاهرين في الشوارع كلَّ الأرقام القياسية السابقة التي حُقِّقَت في العقدين الماضيين. في الإكوادور، نرى مسيراتٍ أكبر بأضعاف من الأرقام القياسية السابقة. في هاييتي، خرج ما يقدر بخمسة ملايين شخص يتظاهرون في الشوارع. في تشيلي، شارك مليونان في المظاهرات ومليونٌ أخرى نراها تتحشد في بورتو ريكو.

لدينا فرصةٌ ضخمة في تحقيق مكاسب وتغييرات حقيقية في علاقات القوة. إعادة فتح الدورة التقدمية ليس الشيء الوحيد على المحك. قد تقودنا معارك اليوم إلى سيناريوهات جديدة وغير متوقعة.

الشيء الأهم هو فهم محتوى المواجهات وأنْ نكون واضحين في أنَّ مصالح أقلية من الرأسماليين ستتصارع دائمًا مع آمال الأغلبية الشعبية. إنَّ الانحياز اليميني لأصحاب القوة سيتصارعُ دائمًا مع المقترحات التحررية لليسار. إن انتصار شعوبنا يستلزم أن نبني ونقوي ونُجدِّد ذلك اليسار.

خلاصة

تنتشر الانتفاضات الشعبية اليوم، في مواجهةِ رجعية المضطهِدين. في تشيلي، أسقطت  الانتفاضة القناع عن النموذج النيوليبرالي وفي الإكوادور كسرت تعديلات صندوق النقد. لكن في بوليفيا، حدثت صدمةٌ مصبغة بلون الفاشية الفاقع. يبين تحرير لولا حدة المقاومة التي ستواجهها الرجعية في البرازيل. تثبت لنا فنزويلا كيف نواجه الرجعية، في سيناريو مظاهراتٍ متزايدة في أمريكا الوسطى والكاريبي. المواجهاتُ الانتخابية في المكسيك والأرجنتين تتخذ معنىً آخر.

يَفرضُ اليمين انقلابهُ بدعمٍ عسكري وقضائي وإعلامي. تهاجم الإمبريالية لتسترجع التفوق الاقتصادي وتظهر معها الكوارث التي سببتها النيوليبرالية إلى السطح.

لا تعبر الانتفاضاتُ عن سخطٍ لا متمايز من الطبقة الوسطى. لدينا عداوةٌ مع المسيرات اليمينية، عداوةٌ لا يراها ذوو المواقف الحيادية. أصحابُ القوة يسترجعون الحكم بسبب قصور التقدمية، وفي هذا السيناريو المتأرجح، سيكون لدور اليسار أهمية حاسمة.

المصدر: مجلة إنترسيكسيونيس

Skip to content