الإضراب العام النسوي في تشيلي

لا شكّ أن الصور التي انتشرت من مسيرة 8 آذار/مارس في تشيلي صورٌ معبرة وعظيمة، ولا شكّ أن المسيرة أكبر وأهم تعبئة جرت في فترة ما بعد الدكتاتورية في بلادنا 1دكتاتورية بينوشيه (1973-1990): حكم الدكتاتور العسكري الفاشي أوغستو بينوشيه تشيلي بعد انقلابٍ مُهندَس ومدعوم أمريكيًا ضد الرئيس المنتخب سالفادور أييندي لمحاولة الأخير هذا الشروع بإصلاحات اقتصادية واجتماعية تحسّن من الأوضاع المعيشية للسكان، أسماها بـ «الطريق السلمي للاشتراكية». قُتِل أييندي، وارتكبَ بينوشيه المجازر وقتل عشرات الآلاف من التشيليين لقمع معارضته وَفَرْض سياسات تقشّف وخصخصة هي التجربة الأولى فيما عُرِف بالانعطاف النيوليبرالي. للاستزادة: «لِمَ وجب قتل أييندي»لغابرييل غارسيا ماركيز. وهذه الصور هي توثيقٌ لواقع قدرة الحركة النسوية اليوم على جذب الجماهير المتزايدة من النساء، من خلفياتٍ وسياقات متنوعة جدًا. وقد نتجه للاعتقاد بأن هذه المظاهرة الحاشدة في الشوارع، وسابقاتها من المظاهرات، تعبر عن شكلٍ من أشكال العفوية، أو أنها مجرد حقيقة نَستند إليها، من الخارج، لننظر في القضايا السياسية المهمة وعلاقتها بما تسميه البعض بالنقلة إلى لحظة التنازع على السلطة. أرغب في هذا النص بتقديم بعض العناوين لعرض تفسيرٍ مختلف لهذه الصور، نقدّمه لمن رأينها من بعيد. كيف لنا أن نفهم هذه العملية، ونتجنب تصويرها كتسلسلٍ للحظاتٍ منعزلة من الاندلاع الاحتجاجي في الشوارع لكتلة غير عضوية، ونراها على حقيقتها كعملية تنظيمٍ متصاعدة تملك قوتها الخاصة؟ وكيف لنا، حينها، أن نفهم أنّه في إطار هذه العملية تحديدًا، وبكل الصعوبات التي تُثْقِلها، هنالك نقاشٌ سياسي ينمو حول تأسيس القدرة على إنتاج وتحريك تحويلٍ اجتماعي فعّال؟ لنحقق مرادنا هذا، سأقدّم هنا ما هو عبارة عن رسم موجز للطريق الذي سلكناه، وذلك ولعدم وجود أي تحليلٍ يمكن له، لوحده، أن يتحدث بطلاقةٍ أكثر من التاريخ الذي ما زلنا نكتبه.

تشرين الأول/أكتوبر 2016م: وصلتنا من الأرجنتين صدى صرخة رعبٍ في وجه العنف الصلب المستمر، وارتفع إدراكنا بأن هذا العنف يشكل الوضع العادي لحياتنا اليومية. هذه المرة، لم يقتصر الجواب على هذه الصرخة على التجمعات والتنظيمات فقط، بل استجابت آلاف النساء بالنزول إلى الشوارع في أولى مظاهرة لأجل فرض الحدود وفرض القوة، قوّةُ قول: لا، وقول: كفى.

2017م: بدأت النسوية تصبح مصطلحًا شائعًا. أصبحت حياتنا اليومية مركزَ المناظرات العامة: بدأنا نتعرّف على بعضنا البعض، وهذا التعرف بدأ يتحول إلى استنكارٍ ومطلبٍ موجه لكل التنظيمات التي انتمينا إليها. انهارت التنظيمات التي لم تستجب لهذه المناداة. بدأت الطنجرة تغلي، مليئةً بالنشاط المفعم بالحيوية، فقد نفذَ صبرنا وَزادت حِدّتنا. من ذلك، نبعَت قوّةٌ لا تنضب.

قُربَ نهاية 2017م، بدأ التنظيم ليوم 8 آذار/مارس للعام التالي. أذاع الطلّاب الدعوة الأولية، واستجاب لها بضع عشراتٍ من الرفاق. قلنا: لقد طال طرحنا موضوع العنف على طاولة النقاش، وقد بيّنّا أن هذا العنف عنصرٌ مركزي في حياتنا. حان الأوان الآن لنخطو خطوةً أخرى ونُسائل دور الضحية الذي وُضِعنا فيه، الذي يريح النظام الذي يستند تحديدًا على هذا العنف. قلنا: من الضروري أن نتحدث عن حياتنا، بكل تعقيداتها، عن السوء اللامتناهي لهذه الحياة على من تستند على عملهنّ منّا. وبالتالي صغنا الشعار الذي يعمل كبوصلة لنضالنا: النساء العاملات في الشوارع، ضدَّ زعزعة2الزعزعة أو الإخلال (precarization): هو مصطلح يشير إلى تحويل الناس إلى طبقة كادحة تعيش في حالٍ من عدم الاستقرار (بريكاريا)، تتصف حياتها بِقلّة فرص العمل وقصر مدة عقود العمل المتوفرة، وانخفاض الدخول، وصعوبة عقد العلاقات الاجتماعية ، وانخفاض الضمان الاجتماعي ، والافتقار للأمن الوظيفي ، وانعدام الصوت السياسي. فضّلنا ترجمتها إلى «زعزعة» لسهولة القراءة. الحياة.

سمعنا الدعوة لإضراب النساء الأممي في تلك اللحظة، وفي تجمّعٍ للمناضلات والمناضلين وقادة النقابات والنشطاء النسويات/ين والنساء في منظّمات الأحياء، قررنا أنَّ ظروفنا ليست ملائمة لشيءٍ كهذا بعد، وأن الأمر يستلزم شيئًا لا نملكه بعد: قوّتنا الخاصة. أطلقنا دعوةً داخلية، على كل حال، لعقد يوم 8 آذار/مارس مختلف: سنرفض الورود والهدايا، نادينا بدلًا من ذلك ليومٍ وطني للتظاهر. هكذا رحبنا بالعام الجديد: بعد ثلاثة أيام من تدشين الولاية الثانية لِسباستيان بينييرا، جمّعنا قوانا وشرعنا بالهجوم. استهدفنا حكومة بينييرا وكل من يساهم في زعزعةِ حياتنا. وتناقشنا عن العنصرية العرقية، وعن الأرض، عن المعارضة الجنسانية وعن الحقوق الجنسية والإنجابية، وعن العمل وعن معاشاتِ التقاعد.

بعد 8 آذار/مارس 2018م، استجابت 28 مدينة تشيلية لدعوتنا، وتجمعنا نحن وألف امرأةٍ في شارع آلاميدا، شارعُ سانتياغو الرئيس. تجمّعت عشرات الرفيقات النسويات، القادمات من مختلف الفضاءات: نساءٌ يقاتلن لأجل الحبوب الزراعية، وأخرياتٌ لأجل الإسكان، وغيرهن لأجل الأرض، والتعليم، والصحة، والعمل، ومعاشات التقاعد، ونساءٌ يقاتلن ضد العنف، وأخرياتٌ لأجل الإجهاض. أردنا لهذا الحيز المشترك أن يستمر، وبالتالي ألّا يكونَ مجرد مكان نبيّن فيه نيتنا الحسنة تجاه بعضنا البعض. قررنا أنه من المعقول، من بعد هذه الدعوة، أن نستجيب لدعوة إضرابِ يوم 8 آذار/مارس. قررنا أن نعطي أنفسنا سنةً لنعمل عليها، وفي تلك الأثناء رسمنا لأنفسنا ثلاثة أهداف: العمل على العبور الكوني لنسوية في الحراك الاجتماعي – أي: توسيع المنظور النسوي ليدخل في نشاط المنظمات الاجتماعية، وبالتالي يوسّع معنى الحركة النسوية نفسه – والحث على الحوار بين المنظمات، وتأسيس أجندة عمل مشترك للتحشيد ضد زعزعة الحياة. عزمنا أيضًا على صياغة برنامج، لكيلا يتأمّر علينا أحد بما يجب وما لا يجب علينا فعله، وقررنا صياغته في الاجتماع المتعدد القوميات لنساء النضال.

ما بين 8 آذار/مارس لـ 2018 و2019م، إذن، رصفنا الطريق إلى الأمام متمركزين حول قدرتنا على الإفصاح، ابتداءً من النسوية وقوّة ندائها، عن قدرة النسوية على إظهار حياتنا اليومية الفعلية إلى العلن. في أيار/مايو، وعبر التنسيقية النسوية لـ 8 آذار/مارس (Coordinadora Feminista 8M) نظّمنا اجتماع حول النساء ومعاشات التقاعد: استنادًا إلى إطار النضالات العمالية الأخيرة لإنهاء نظام الرأسملة الفردية وتأسيس نظام معاشاتِ تقاعد ذو توزيعٍ تضامني وثلاثي، طالبنا بالإقرار بالعمل المعيد للإنتاج 3الأعمال المعيدة للإنتاج/الأعمال الإنجابية (reproductive work): يقصد بها الأعمال الرعائية والمعيدة لإنتاج المجتمع ككل، من إنجاب، والأشغال المنزلية، والعناية بالأطفال، والطبخ، والتربية والتعليم، والتطبيب، سواءً كان ذلك عملًا مأجورًا أم غير مأجور.، والإقرار بمن يمارسنه ويمارسوه كعمّال. وجادلنا أن عمل الرعاية عملٌ ماهر وأن الأمومة عملٌ شاق. ولأول مرة، صغنا فكرة النضال لأجل نظام رعاية واحد كجزءٍ من النضال لأجل الضمان الاجتماعي. وشهد الشهر نفسه بداية عملية ستحدد مجال عملنا: النضال ضد العنف واستنكار العنف دخل في الأحياز التعليمية، التي عجزت عن التصدي لهذا الشكل الجديد للنزاع السياسي على بناها وشبكات قوتها، والسياسات الجنسية المخفاة وراء نصوصها المبهمة. في فالديفيا، جنوب البلاد، احتلَّ الطلاب الحرم الجامعي، مطالِبات/ـين السلطات بالكف عن إهمالهن/ـم والمعالجة الفورية لشكواهن/ـم. أرسل هذا العمل طوفانًا سرعانَ ما غمر أرجاء المنطقة. احتلَّ الطلّاب جامعاتهن ودخلن في إضراب، بشعاراتٍ ويافطات مثل: نريدُ أحيازًا بلا اعتداءٍ أو إساءة، نريد إلغاء الخصخصة والتسليع والعنصرية ضد المرأة في التعليم. دَعا الطلّاب بقية الناس للمشاركة في المظاهرات في الشوارع لمحاربة كراهية المرأة في النظام التعليمي، واستجابت عشراتُ الآلاف من النساء لتلك الدعوة.

في مواجهة هذا المشهد، بدأ الإعلام واليمين في هجمته، وبدأ بتغطية المظاهرات، إنما بغرض عزلها، وبتصوير النسوية على أنها ظاهرةٌ لدى طلاب الجامعات ذوات الامتيازات، ومطالِبها كَمَطالب أولئك اللاتي لا مشاكل لديهن، وكنزوة من نزوات النخب، وكشيءٍ لا علاقة للنساء «الكادحات» به. قدّمَ بينييرا أجندة للمرأة، وهي سلسلةٌ من الإجراءات الخيالية لم تكن سوى حبرٍ على ورق، لا يستفيدُ منها إلا أكثر النساء غِنىً وامتيازًا.

قبل أسبوعين من خطاب الحساب العام للحكومة، وهو الخطاب السنوي للرئيس حول حال الأمة، عقدنا اجتماعًا في كلية القانون في جامعة تشيليالخاضعة لاحتلال الطلاب. عزمت مئات النساء هناك على تنظيم يوم للتظاهر يتزامن مع خطاب الرئيس، لكي نُظهِر ونثبت شيئين: أن النسوية ليست حركةَ نخب، وأن للنساء أجندة نحن النساء صغناها – وهي ستكون حسابنا العام، حساب شعبيٌّ ونسوي.

في الأول من حزيران/يونيو ذاك، بدأنا بإغلاق الشوارع بأفواج المظاهرات في كل أرجاء البلاد. ومع نهايته، كانت هنالك تجمُّعاتٌ في كل منطقة. فلم نكتفي نحن النسويات بالخروج في مكانٍ واحد، بل خرجنا في عدّة. من يوم العمل هذا، نشأت أحيازٌ تنظيمية جديدة: شبكات للنساء والنقابيّات والنقابيين، وتجمُّعات إقليمية جديدة، وبذور التنظيم لمحاولة الإضراب الأولى القادمة.

كانت الأشهر التالية مليئة بالنشاط والحيوية. ففي حزيران/يونيو، تضاعفت أعدادنا في الشوارع في المسيرة الخامسة لأجل توفير إجهاضٍ آمن، وعلني، ومجاني، وقانوني. خرجنا بمناديلنا الخضراء تيمنًا بالنضال الأرجنتيني لأجل الإجهاض، الذي شاهدناه بحماسٍ شديد، وطبعنا عليها صورًا تشهد على التاريخ الطويل للنضال النسوي في البلاد. في وجه قمعِ الشرطة، صاحبنا أخواتنا الأرجنتينيات في وقفتهن يوم 8 آب/أغسطس. ولأول مرة منذ وقتٍ طويل، بدأت شوفينية واقعنا كمنطقةٍ عالقة بين الجبال والمحيط بالتراجع، على الأقل بعض الشيء.

عملنا على استعادة ذاكرة تاريخ النضال الذي نحمل، وأخرجنا أنفسنا من تلك الذاكرة التي لا تحتوي إلا الألم والموت، وأسسنا ذاكرةً جديدة استخدمناها كمورد، وأسميناها «ذاكرة المستقبل» – ذاكرةُ الانتفاضات والمقاومة، ذاكرةُ النضال ضد الدكتاتورية وإرثها.

في أكتوبر أعلنا الاجتماع المتعدد القوميات لنساءِ النضال، وحضّرنا له بأكثر من خمسين اجتماعٍ سابق عُقِدَت باستقلال في مختلف أرجاء البلاد. في يومي الاجتماع، وبحضورٍ تجاوز الـ 1300 امرأة من كل نواحي البلاد، تمكَّنا من تعريف برنامجنا على عشرة محاور، كلُّ واحدةٍ منها بثلاثة مطالب واتجاهاتٍ ضد زعزعة الحياة، وبالتالي تمكّنا من تعريفِ إضرابنا: سيكون إضرابنا إضراب عام نسوي، عرّفنا به 100 طريقةٍ للمشاركة.

أنشأنا مختلف اللجان للإضراب: لجان مناطقية وإقليمية، لجان نقابية، ولجان للمؤسسات التعليمية، ولجان تستند إلى الحالة الاجتماعية والميول الجنسي. أنشأنا ألويةً للفن والدعاية لنشر برنامجنا، وساهمت مئات الرفيقات المنظَّمات بمداخلاتٍ في الفضاء العام أصبحت محفورةً، لا تُنسى، في ذاكرتنا الجمعية.

جهزت اثنان وسبعون مدينةٍ وقرية في أرجاء البلاد نفسها لليوم المترقَّب. وحملت السفن دعايتنا للإضراب في الجزر الصغيرة في الطرف الجنوبي الأقصى للبلاد. نزلت الفقراء، ومن تعرّضت وتعرَض للحرمان والإهانة، إلى الشوارع أفواجًا، جاعلاتٍ هذه النسوية نسويتهن ونسويتهم جميعًا لأول مرة.

نقترح اليوم خلقَ فرصٍ أكثر وأكثر لتطبيق برنامجنا، ولإدخاله في كل الأحياز الممكنة، حتى يمكن تعميقه وتضخيمه وبالتالي تحويله إلى أداةٍ نضالية نافعة. وبذلك نقوّي الصيغات التي شكَّلناها، لنتصدى لبيروقراطياتِ النقابات المتعامية عن قوة هذه الحركة، ونتجاوزها مُجتمعِات ومجتمعين، لنسمح لأنفسنا بفرض قوتنا. قررنا إعادة تنظيم أنفسنا داخليًا وألا نزهد جهدًا في تشكيل الروابط الأممية، منادياتٍ باجتماعٍ أممي يتصادف مع اجتماع آبيك (مؤتمر التعاون الآسيوي-الهادي) الذي سيُعقَد في بلادنا. سوف نرسم شكلًا للنشاط السياسي الأممي يتجاوز الإنجازات السابقة ويوحّد عمليات البناء التي أتاحت تلك الإنجازات، وسنتيح لأنفسنا خوضَ معركةٍ مشتركة تنمّي قوّتنا التأثيرية للقتال لحياةٍ مختلفةٍ جذريًا. سنبني قوّتنا للنقاش والدخول في المناظرات السياسية التي تستديم خطواتنا الماضية والمستقبلية. في مواجهتنا وزن ظروفنا، نواجه تحديًا عسيرًا: ألا نضل الطريق الذي اخترناه.

لقد حملنا هذا البناء إلى الأمام، في عملية تهدف لتجاوز التشظية الجارية للطبقة العاملة التي نحن جزءٌ منها، بتجاهٍ يختاره حدسنا الجمعي. لكننا نواجه، بالضرورة، نفس التحديات التي واجهتها الأجيال السابقة التي نظَّمت لتحويل الحياة بجوهرها. ذلك يضعنا محل مسؤوليةً كبيرة، أُجبِرنا على حملها، بضرورة محاولتنا إيجاد أجوبتنا الخاصة، وتحقيقها، وتجاوز الحدود التي فرضها علينا التقسيم الجنسي للعمل. لا يمكننا القيام بذلك وحدنا. نحن بحاجة إلى كل الناس، في كلٍّ زاوية من زوايا هذا العالم الذي تغلي فيه هذه القوة النسوية، كي نتقدم ونشقّ طرقًا لم تحط عليها قدمٌ من قبل، حتى هذه اللحظة التاريخية الجديدة، حيث تنبثق إمكانيةُ نظامٍ مختلف جذريًا.

الآن نحن مجتمعات، الآن هم يروننا.


يندرج هذا المنشور ضمن: نحو الأممية النسوية.

Skip to content