مقدمة التحرير: موجة نسوية لتغيير كل شيء

نأملُ أن الإضراب النسوي العابر للبلدان لـ 8 مارس/آذار 2019 بدد أي شكوك حول كوننا في وسط موجة نسوية تاريخية جديدة. بمشاركة ستة ملايين مضربة ومضرب في إسبانيا، ودعوات للإضراب العام وإيقاف العمل من جهة المنظمات العمالية في إيطاليا والأرجنتين وتشيلي، ومظاهرات جماهيرية حاشدة في عدد من البلدان منها تركيا والمكسيك، ونمو معتبر للحملات التعبوية في المملكة المتحدة، والبلجيك، وألمانيا، بيَّنَ 8 مارس/آذار هذا الدينامية المتّسعة للحركة النسوية الجديدة. هذا التوسّع يجب أن يفهم على نحوين. النحو الأول هو ما سمّته الحركات النسوية في الأرجنتين وغيرها من الحركات النسوية في أمريكا اللاتينية بـ «العبور الكوني»، أي قدرة الحركة على الانتشار في كافة أرجاء المجتمع، متخللة المنظمات الموجودة والنضالات القائمة، وعاملةً كمحفّزٍ لتوحيدها تحت علمٍ نسوي مناهض للعنصرية العرقية، ومناهض للرأسمالية، مناهض للإمبريالية. يمكن فهمُ العبور الكوني أيضًا كعملية تكوين الحركة النسوية، لتصبح حركة كونية، ابتداءً من موقفٍ محدد (موقف الاضطهاد الجنوسي والجنسي ومن الهويّات التي تولّدها ذلك) تعبّر وتتفرع لتصبح ممارسة وعقيدة سياسية لتحرير الجميع، أو – باقتباسِ شعارٍ من الإضراب النسوي في إسبانيا – ممارسة وعقيدة سياسية تهدف إلى «تغيير كل شيء». النحو الثاني هو انتشار الحركة العابر للبلدان، الذي شهدَ اليوم دعوات لقيام إضرابٍ نسوي في بلدان جديدة مثل ألمانيا والبلجيك، وانتشر إلى ما هو أبعد من ذلك في آسيا والشرق الأوسط.

في هذا الملف، طلبنا من نشطاء من بلدان عديدة كتابة شرح مفصل للعمليات والديناميات التنظيمية والسياسية التي أدت إلى الإضراب النسوي في بلدانهن المعنية. تحديدًا، طلبنا منهن مناقشة الأشكال التنظيمية المستخدمة، علاقةُ حركتهن بالحركة العمالية في عملية الدعوة لإضراب عن العمل أو إيقافه، وأهمية البعد العابر للبلدان في الحركة لتنظيمهن وللتحديات القادمة. هذا الملف ليس شاملًا بالتأكيد، لكنه يوفر لنا عينة مهمة للاستراتيجيات النسوية، ويهدف إلى الانضمام إلى وتوفير منتدى للحوار العابر للقوميات بين النشطاء النسويات المنخرطات في الموجة النسوية الجديدة. ولهذا السبب، سنواصل تحديث الملف بمساهماتٍ إضافية قادمة من مختلف البلدان.

المساهمات المجمعة هنا تعرض عددًا من التشابهات والاختلافات في مختلف الحملات التعبوية. وتعكس أيضًا عدم تكافؤ الحركة في مختلف البلدان. الولايات المتحدة أحد البلدان حيث الموجة النسوية لم تصل إلى بعدٍ جماهيري معتبر. لكن ضخامة مسيرات النساء في كانون الثاني/يناير 2017م، والنجاح المتواضع لإضراب النساء الأممي الأول في العام نفسه، والصدى الإعلامي لـ #أنا_أيضًا (#metoo) و#انتهى_الوقت (#timesup) تشير إلى أن احتمالات نمو حركة نسوية جماهيرية في هذا البلاد كانت (ولربما ما تزال) موجودة. كما قالت تثي بتاتشاريا، موجة الإضرابات المنتشرة في قطاعات التعليم والضيافة والرعاية الصحية تشمل قطاعات إعادة الإنتاج الاجتماعي التي كان وقع الأزمة عليها كبيرًا، مما يوحي بوجود عاملين مفتاحيين تتسم بهما الموجة النسوية الجديدة ومعها العديد من النضالات الاجتماعية القائمة حول العالم: أزمة لإعادة الإنتاج الاجتماعي من جهة واتخاذ النساء دورًا قياديًا في القتال لأجل حياتنا من جهة أخرى. لكن هذه العوامل فشلت في تلتحم لتشكل حركة نسوية واسعة هنا.

تصعب معرفة الأسباب المحددة وراء انعدام هذا الأثر في الولايات المتحدة، لكن يمكننا الإشارة لبعض العوامل المتفاحية التي أدت دورًا هنا. بعد كانون الثاني/يناير 2017م، أصبحت مسيرة النساء (Women’s March) النقطة المرجعية البديهية لـ «المقاومة» النسوية لإدارة ترمب، بعد مشاركة مئات الألوف في مسيرات متعددة في مختلف المدن، وهي ليست فقط غير متوقعة وغير مسبوقة، بل المسيرات الـ 650 التي عقدت بتقدير كلّي تعداده أربعة ملايين، هي أكبر مظاهرة شارعية في تاريخ الولايات المتحدة. ولكن، بدلًا من الترويج للتنظيم الذاتي والمساهمة من الأسفل، كما اتسمت به التجارب المشروحة في هذا الملف، شكَّلت مسيرة النساء نفسها كمنظمة غير ربحية. بكلمات كيانغا-ياماهتا تيلور، «المنظمات غير الربحية . . . تعتمد على التمويل لدفع تكاليف طاقمها ومنظِّماتِها ومنظِّميها، وبالتالي تصبح مساهمتهن/م في النشاط الداخلات/ين فيه مهنتهن/م». النموذج غير الربحي هذا «يعطي الأولوية في آخر المطاف إل خبرة وخبرات طاقمه المهني، المدير التنفيذي، والمجلس الإشرافي، على عوام الناس، الذي يرى فيهن/م أشخاصًا ينادون لحضور فعالياته ونشاطاته». هذا التركيز من الأعلى إلى الأسفل للعديد من منظمات القطاع الثالث له آثارٌ ضارة متلفة على الانخراط الشعبي المستدام. تواصل تيلور:

ما هو ليس واضحًا هو كيف وأين يمكن للناس الحاضِرات/ين هذه النشاطات تأدية دور فاعل في تشكيل الممارسة والعقيدة السياسية واستراتيجيات وتكتيكات حركة دعين ودعوا لحضورها دون إدارتها. هذه المنهجية تتصور عموم الناس كجمعٍ ساكن، ينتظر أوامر التعبئة، ويترك دينامية بناء الحركة لشريحة مهنية من الطواقم والمنظِّمات/ين.

يضاف عل ذلك أن مسيرة النساء المحدودة في 2018م اتخذت القرار المصيري لنقل مركز اهتمامها من التعبئة الجماهيرية والمظاهرات الاجتماعية (على الشوارع، في الأحياء والقرى والمدن، وفي أماكن العمل) إلى الحلبة الانتخابية. الشعار الرئيس لـ مسيرة المرأة لعام 2018م كان «القوّة في التصويت!»: فكرةُ أن الوقت قد حان لمقاومة ترمب للانتقال من الشوارع إلى صناديق الاقتراع، خطوةٌ شجّعت عليها بالمساهمة في حملات نساء تقدّميات مرشّحات في الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية الأخيرة. النية الصريحة لمنظِّمات ومنظّمي مسيرة المرأة المحدودة كانت تحويل زخم المسيرات إلى «قوة سياسية»: بالأحرى، قدرتها على تشكيل أجندة مجموعة مفتاحية من النساء التقدّميات في مجلس الشيوخ. النتيجة كانت أن أغلب الطاقات التي حشدت في مسيرة المرأة غيّر مسارها إلى الحملات الانتخابية. لنقولها بصراحة، ساهمت العقيدة الانتخابية هذه إلى تقييد إمكانيات نشوء حركة جماهيرية. وما زاد الأمر سوءً هو أن مؤسسة الحزب الديموقراطي كافأت النشاط الانتخابي لمسيرة المرأة بشنّ حملة إعلامية لتشويه سمعة المنظِّمات باتهامهن بمعاداة السامية، ومن ثم سحب دعم اللجنة الوطنية للحزب الديموقراطي. نجحت الحملة بتنفير العديد من المجموعات المحلية ودفعها لفك ارتباطها بـ مسيرة المرأة المحدودة، ومن ثم انهيار التعبئة، مما أدى إلى إلغاء مسيرات عديدة خطط عقدها في كانون الثاني/يناير 2019م ولمشاركة متواضعة جدًا مقارنةً بما عقد سابقًا.

في سياقٍ يسيطر عليه المظهر العلني لمسيرة المرأة وغيرها من المنظمات النسوية للتيار السائد، حاولت إضراب المرأة الأممي – الولايات المتحدة وغيرها من المنظمات والشبكات الاشتراكية والشعبية والنسوية المساهمة في إعادة تسييس 8 آذار/مارس عبر تنظيم المسيرات والمظاهرات، والعمل على إرساء الشروط اللازمة لإيقاف العمل، وإشاعة التحليلات والتجارب العملية للحركة النسوية في أرجاء العالم. تنظيم 8 آذار/مارس تحت مظلة الإضراب النسوي استلزم مواجهة صعوباتٍ أخرى، أولاها انهيار العمل النقابي والإضرابات، التي سببتها قوانين العمل التحريمية والنزعة الشركاتية لأغلب النقابات الموجودة – انهيارٌ قاطعه انفجار موجة إضرابات في ربيع 2018م. بينما في بلدان مثل إيطاليا وإسبانيا، قبلت بعض المنظمات العمالية بالدعوة لإضراب عام أو إيقاف عمل قانونييْن وتمكّنت من تنفيذها، في الولايات المتحدة مُنعت هذه الإمكانية من البداية.

ومع ذلك، وفي سياقٍ عابر للبلدان يتسم بأزمة إعادة الإنتاج وازديدا الروح النضالية لدى النساء والكويريّات/ين، وسياقٍ وطني يتسم بموجة إضرابات أغلب أعضائها النساء العامِلات وتعمّق الجذرية السياسية لشريحة جديدة من النشطاء، فأفق موجهةٍ نسوية جماهيرية ما تزال مفتوحة. تحقيق هذه الإمكانيات سيستلزم تعميق النقاش حول الاستراتيجية بين النشطاء النسويات/ين، بل وسيستلزم استعدادًا للتعلم من العمليات التنظيمية والسياسية الجارية في البلدان الأخرى.


يندرج هذا المنشور ضمن: نحو الأممية النسوية.

Skip to content