عن الديمقراطية والعلمانيّة والاشتراكية: تدقيقاتٌ وصِلات

1. الديمقراطية حديثة وَبِنت الشعوب

بخلاف الرائج، ليست الديمقراطية القائمة في العالم الآن، حتى بمعناها الضيّق المقتصر على حقّ الاقتراع، بنت البرجوازية التي لم تتوقّف يوماً عن محاولات تحجيمها وتقييدها، بل بنت الطبقات الشعبية والشعوب المستعمَرة والنساء والملوَّنين والإثنيات الخاضعة. وبخلاف الرائج أيضاً، فإنَّ هذه الديمقراطية ليست قديمة قِدَم البرجوازية بل نتاج القرن العشرين. وإذا ما كان النظام الرأسمالي يقتضي الليبرالية (دعه يعمل دعه يمرّ)، فإنّه لا يقتضي الديمقراطية التي انتُزعت منه انتزاعاً. وما يعنيه هذا هو أنّ ثمة ضرورة نظرية وتاريخية ونضالية لفكّ الاقتران بين الليبرالية والديمقراطية، هذا الاقتران الذي هو واحدة من أكبر السرديات الأيديولوجية، بالمعنى الرديء لكلمة أيديولوجيا الذي يعني الوهم والخداع والتعمية.

ظلّت الملَكيّات المختلفة أشكالاً للحكم في أوروبا الرأسمالية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. وحلّت محلّ هذه الأنظمة التقليدية في بعض البلدان (كإيطاليا وألمانيا وإسبانيا والبرتغال) كلٌّ من الفاشية والدكتاتورية العسكرية، فلم تقم أنظمة ديمقراطية في ألمانيا وإيطاليا إلا بعد الحرب العالمية الثانية، في حين استمرت الدكتاتورية العسكرية في إسبانيا والبرتغال حتى سبعينيات القرن العشرين. ولا تزال الأنظمة السلطوية سائدة في معظم العالم الثالث.

حتى في الدول التي تُعتبر قوى استعمارية عظمى، ليست الديمقراطية البرجوازية بالقِدَم الذي يزعمه أيديولوجيوها. ولو اقتصرنا هنا على مثال الولايات المتحدة الأميركية لوجدنا أنّ إعلان دستورها في الربع الأخير من القرن الثامن عشر أنَّ «جميع الناس وُلدوا متساوين» لم يَحُل دون استعباد ملايين البشر من السود الأميركيين على مدى الثمانين عاماً التي تلت هذا الإعلان، أو دون استمرار الفصل العنصري القانوني بين البيض وغير البيض في أرجاء واسعة من الولايات المتحدة حتى خمسينيات القرن العشرين.

حتى حقّ الاقتراع الذي تعتبره البرجوازية جوهر الديمقراطية، هو مسألة من مسائل القرن العشرين. إذ ابتدأ القرن العشرون وحقّ النساء في الاقتراع مقتصر على نيوزلندا وولاية وايومنغ الأميركية، ولم يكتمل نيل النساء هذا الحقّ في جميع البلدان التي تجري فيها انتخابات إلا في عام 1960. ولم تمنع البلاغة الثورية في دساتير وإعلانات الثورتين الأميركية والفرنسية ماري ولستونكرافت من التساؤل عن جنس الشعب والمواطن الذي تتكلم باسمه هذه النصوص. وبالطبع، فإنّ «الشعب» في عبارة «نحن الشعب»، في «إعلان الاستقلال الأميركي» لم يكن يضمّ – علاوة على النساء – لا السكان الأصليين ولا العبيد من أصل أفريقي.

لا يتسع المجال هنا للكلام على ما تركته الحركات العمالية والفلاحية والحركات المناهضة للاستعمار من أثر مُنْشِئ للديمقراطية. وإذا ما كانت هذه الحركات تعود إلى أواخر القرن الثامن عشر، وربما إلى قبل ذلك، إلا أنها اتّخذت زخماً جديداً وتغيّرت بصورة نوعية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، لتنفجر في القرن العشرين على هيئة إعصار راح يضم إليه مزيداً من قطاعات المجتمع الواحد ومزيداً من مناطق العالم.

هذا المشروع الديمقراطي هو ما وقف النظام الرأسمالي في وجهه وضيّقه ما وسعه ذلك، بخلاف الأسطورة التي تقرن الديمقراطية جوهرياً إلى الرأسمالية. ومع ما حققه هذا النظام مؤخّراً من انتصارات، هي هزائم لقوى الديمقراطية آنفة الذكر، كان أن نشأت مجموعة من الحالات المرضية السياسية، مثل الصحوات الدينية التي تعمّ العالم، والحركات الفاشية والعنصرية الجديدة في أوروبا، وتَلَبْرُل كثير من اليسار، والحركات الأصولية والإرهابية عالمية المدى، ومختلف «سياسات الهوية» التي تشوّه نضالات الشعوب وتطلعاتها إلى التحرر والعدل.

2. الديمقراطية علمانيّة بالضرورة

تُفهَم «العَلمانية» عادةً على أنّها تقتصر على الانفكاك عن الدين، مع أنّ لها في الأصل معنى زمنياً يوضحه لفظها الإنكليزي (secularism) المشتق من الكلمة اللاتينية (saeculum) التي تعني زمناً يساوي تقريباً العمر المحتمل لشخص أو يكافئ الزمن اللازم لتجدد شعب تجدداً كاملاً. وبذلك تكون الترجمة الأصح لـ (secularism) هي «الزمنيّة»، بالمعنى الذي لهذه الكلمة الأخيرة لدى المقابلة بين الزمني والروحي. ومن الواضح أيضاً أنَّ كلمة «عَلْمَانية» العربية مشتقّة من «العالَم» و«الدنيا». ولمّا كانت أمور «زمننا» و«عالمنا» و«دنيانا» أموراً تهمّنا غاية الأهمية ويتوقف عليها مصيرنا، فإنّ الكلام على «العلمانية» لا يعود كلام مثقفين مترفين يناقشون مسألةً نافلة.

تعني العَلمنة الحديثة اعتبار الزمن زمناً دنيوياً عادياً يُقِيْمُه النشاط البشري محلّاً لجميع بنياته وأشكاله الاجتماعية الحديثة، بعيداً عن أيّ أبديةٍ تتعالى عليه، أو بعيداً عن أي زمن أسمى يُضفي عليه المعنى والقيمة. وبذلك تعني العلمانية أننا نعيش ونعمل ونُقَيَّم إِنْ كنا صالحين أو طالحين، في زمن دنيوي تصنعه فعالياتنا، سواء كنّا نؤمن أم لا بإلهٍ تُتْرَك الأبدية له وحده. وهذا بالطبع يختلف عمّا كان سارياً قبل الحداثة، حين لم يكن يمكن فهم أيّ فعالية عامة، مثل السلطة السياسية وسواها، على نحو منفصل عن الإلهي، وزمنه الأسمى.

والحال، إنَّ العلمانية بهذا المعنى لا تعني نهاية الدين أو الإله، بل نهاية المجتمع الذي يشكّلان أساسه. فما إن يتبدّل هذا الأساس الأخير حتى يمكن للدين والإله أن يواصلا حضورهما لا في المجال الشخصي وحده، بل حتى في المجال العام بمعنى ما (كما يشير المثال الأميركي). ذلك أنَّ العلمانية يمكن أن تكتفي بالحلول محلّ نسق بعينه يجثم فيه الإله ومن يدّعون تمثيله في زمن متعال يُعَدُّ هو – لا الأفعال البشرية – منبع المجتمع البشري. وبذلك قد لا تعني العلمانية نفي الدين والإله، بل تبويئهما مكاناً جديداً متوافقاً مع الإحساس بأنَّ الأفعال الاجتماعية كلّها إنّما تحدث في زمن دنيوي.

يشير الزمن العلماني، إذاً، إلى مجتمع أفقي مساواتي لا يستمدّ نشأته واشتغاله من أيّ منبع متعالٍ عليه، إله أو كاهن أو زعيم. وهذا يختلف جذرياً عن المجتمعات قبل الحديثة الشاقولية التراتبية المشخصنة التي تقف الآلهة في قمّتها ويقف البشر في قاعدتها ويتوسّط بينهم الكهنة والملوك. وهذه المساواتية التي تحتضن أفعال المجتمع المشتركة التي تجري في زمن دنيوي، لا بدّ منها لقيام الديمقراطية التي تحيل في جوهرها على تساوي البشر في الحقوق والواجبات. وهذا يعني أنّ الديمقراطية علمانية بالضرورة، من دون أن يعني أنَّ العلمانية ديمقراطية على الدوام. فالفاشية علمانية وكذلك الصهيونية. وفي الفاشية، يُفهم أنّ المساواة والأفعال المشتركة إنما تعكس إرادة مشتركة تُرِكَ التعبير عنها للزعيم. في حين أنَّ الإرادة المشتركة الحقّة تبقى أكيدة ولا بدّ منها في أي نظام ديمقراطي يقوم على سيادة الشعب.

لا شكّ أنَّ كلّ هذا هو جزء من سيروة طويلة وليس ضربة لازب. لكن غيابه الواعي والمقصود كأفق أو برنامج، خصوصاً لدى قوى تزعم الثورة، أمرٌ بالغ الدلالة والخطورة. ونقد هذا الغياب ضرورة حيوية. من لا يريد الديمقراطية التي هي علمانية بالضرورة قد يكون أيّ شيء ما عدا كونه ثورة.

3. الديمقراطيةُ «اشتراكيةٌ» بالضرورة

كان للهزيمة التي لحقت بالنضال من أجل العدالة الاجتماعية – تلك العدالة التي لم يُوجِد أحدٌ اسماً لها أفضل من «الاشتراكية» و«التحرر من التبعية» اللتين طبعتا القرن العشرين بطابعهما – أن تلقي المشروع الديمقراطي ذاته في أتون أزمة عميقة، تجلّت في مظاهر شتّى، لعلّ أبرزها ما نراه من ضياع الديمقراطية جرّاء ربطها بـ «حرية السوق» وبسياسات الهوية، بدل أن تكون هدفاً للنضال من أجل مساواة جذرية فعلية، الأمر الذي يصعب وجوده من دون صلة داخلية عميقة مع النضال من أجل الاشتراكية.

ما يعنيه هذا هو أنّ الديمقراطية ليست نتيجة لـ «حرية السوق» الوهمية كما تزعم سردية أيديولوجية كبرى سائدة ولا لـ «لعب الهويات الذي لا ينتهي» كما تزعم سردية أخرى مماثلة. بل إنَّ ربط الديمقراطية بـ «حرية السوق» وبـ «سياسات الهوية» هما سبب أزمتها وضياعها اليوم، إذ يحرفها ذلك عن حقيقة كونها غاية نضال المضطهَدين من أجل مساواة فعلية جذرية، الأمر الذي يصعب من دون صلة جوهرية تربطه بنضالات الاشتراكية والتحرر الوطني.

كي نوضح كلّ هذا، يكفي أن نورد شهادة شاهدين من أهله. أولهما هو جون رولز، وهو واحدٌ من أئمة الفكر الليبرالي، حاول إحياء هذا الفكر بإجراء تغيير عميق في تصوراته ومبادئه. وفي الوقت الذي كان عديدٌ من الاشتراكيين الأوروبيين يولّون وجوههم صوب الليبرالية بعد هزيمة 1968 – وهو ما سيحاكيه على نحو مُزْرٍ كثير من اشتراكيي العالم الثالث متأخرين عقوداً – كان رولز يحاول إخراج الليبرالية من أزمتها بإجراء تجديدين مستمدّين من الاشتراكية وأسلافها: دمج مبادئ المساواة الاجتماعية والاقتصادية في نظرية العدالة الليبرالية، وتقديم ليبرالية «سياسية» لا تعتمد على قيم الاستقلال الشخصي والازدهار الفردي بل على فكرة أعمّ هي احترام الأشخاص وطرائق عيشهم.

يبدو مبدأ رولز الخاص بالعدالة (المساواة المنصفة في الفرص للجميع وبمزايا اجتماعية واقتصادية قصوى للأقلّ تميّزاً) أقرب إلى الاشتراكية منه إلى الليبرالية. وهو لا يخفي أنَّ إعادة التوزيع اللازمة لتحقيق العدالة الاجتماعية لا تقوم إلا من خلال دولة أكثر تطوراً وقوة مما يقبله الليبراليون في الحالات العادية. ولا يكتفي رولز بجمع فكرة الحرية الفردية، من التراث الليبرالي، وفكرة المساواة الاجتماعية، من التراث الاشتراكي، بطريقة جديدة، بل يتعدّى ذلك إلى اشتقاق مقتضيات المساواة من المنطلقات ذاتها التي تُستمَد منها الحريات الشخصية والسياسية في الليبرالية الكلاسيكية (فكرة الفاعلية الأخلاقية وفكرة المساواة بين الأشخاص).

أمّا الشاهد الثاني فهو من أولئك الذين كسبوا الكثير من النظام الرأسمالي من دون أن يمنعه ذلك من التشكيك في قابليته للحياة. ففي كتابه أزمة الرأسمالية العالمية: مجتمع مفتوح مُعَرَّض للخطر (1998) ينبّه جورج سوروس، المضارب البليونير، إلى ضرورة السيطرة على غريزة القطيع لدى الرأسماليين قبل أن يدوسوا الجميع بأقدامهم: «لا يبدي النظام الرأسمالي بحدّ ذاته أيّ ميل إلى التوازن. فالرأسماليون يسعون إلى تعظيم أرباحهم إلى أقصى حدّ. وإذا ما تركوا وشأنهم، فسوف يواصلون مراكمة رأس المال إلى أن يغدو الوضع غير متوازن. قدّم ماركس وإنجلز قبل 150 عاماً تحليلاً جيداً جداً للنظام الرأسمالي، وهو تحليل يجب القول إنه أفضل من بعض النواحي من نظرية التوازن التي قدّمها الاقتصاد الكلاسيكي… والسبب الأساسي الذي حال دون تحقق نبوءاتهما هو ضروب التدّخل السياسي المضاد في البلدان الديمقراطية. والمؤسف أننا نواجه مرةً أخرى خطر التوصّل إلى استنتاجات خاطئةٍ من دروس التاريخ. لكن الخطر لا يأتي هذه المرة من الشيوعية بل من أصولية السوق».

هل من حاجة لمزيد؟

Skip to content