الثقافة السياسية للفاشية

مقدمة الهامش:

تحتضن الهند اليوم إحدى أكبر الحركات الفاشية، إنْ لم تكن أكبرها، تسير تحت راية «الهندوتفا»، أو «القومية الهندوسية»، ويقودها حزب بهاراتيا جاناتا الذي فاز في انتخابات 2014 واتسعت حصّته في البرلمان الهندي حتى أصبح أكبر حزب في الهند بل وأكبر حزب في العالم بعضوية تتجاوز 180 مليون، وتصاحبه منظمة التطوّع الوطنية ذراعًا شبه عسكرية تسعى لفرض حكم الحديد بتواطئٍ من أجهزة الدولة.

في السياق السياسي النشط للهند، ما زال طلّاب جامعة جواهرلال نهرو وطاقمها، أحد معاقل اليسار في الهند، في طليعة هذا القتال، وقد تعرّضت الجامعة وطلّابها للعديد من الهجمات على مرّ السنين منذ الصعود الفاشي، وبعد إحدى الهجمات في مطلع 2016، ألقيت سلسلة من المحاضرات الشعبية تحت عنوان ما يجب حقًّا أن تعرفه الأمة (What the Nation Really Needs to Know)، وقد ألقى إحدى هذه المحاضرات المؤرّخ والناشط جَيرُس بانَجي حول الثقافة السياسية للفاشية، متطرّقًا بذلك إلى جانبٍ يكثر التغاضي عنه في مسألة نشأة الحركات الفاشية، وهي مسألة الأساس الأيديولوجي الذي تبنى عليه والكامن في المجتمع قبل نشأتها كحركة سياسية صريحة.

ملاحظة حول تعريب:

اختار المترجم تعريبَ مصطلح (nation) إلى «أمّة» و(nationalism) إلى «قومية»، والأخيرة هذه مناسبة لعموميّتها وتجنّبها الحمولة الممكن أن تحملها تعريباتٌ أخرى مثل «نزعة قومية» أو «عقيدة قومية»، لكن لتجنّب اللبس يجب أن نوضح أن القومية المشار إليها هنا ليست رديفًا للأمة بل القومية بصفتها ظاهرةً أو نزعةً أيديولوجية وحركةً وتيّارًا سياسيًّا، ويتبيّن الفرق بين المقصود بـ «الأمّة» والمقصود بـ «القومية»، في هذا النص، في اقتباسٍ لهوبسباوم: «القومية تسبقُ الأمة، فَالأمم لا تصنعُ دولتها وقوميتها، بل العكس هو الصحيح»، أي أن «القومية» كعقيدةٍ أو نزعةٍ أو ظاهرةٍ أيديولوجية – حسب هوبسباوم – سابقةٌ للأمة وصانعةٌ لها. وبالنسبة للاقتباسات الواردة من كتاب الجماعات المتخيّلة لِبندكت أندرسون فقد اعتمدنا ترجمته الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات لثائر ديب.

  بداية النص  

ما أريد القيام به هو الحديث عن الفاشية في سياقٍ تاريخيٍّ بحت، تاركًا لكم المجال لرسم المقارنات والصلات والتداخلات بين ما سأتحدث عنه وَواقعنا الحالي في الهند، حسنًا؟ سأترك ذلك لكم. المفاهيم الثلاثة التي أود الحديث عنها، التي أعتقد أنها تمثل العناصر السياسية للثقافة السياسية للفاشية، هي كما يلي:

  • المفهوم الأول يتعلق بالطبيعة المصطنعة للفاشية: بإمكاننا تسميته أيضًا بـ «الفاشية وأسطورة الأمة».
  • المفهوم الثاني يتعلق بِفيلهلم رايش: الذي كان مُحللًا نفسيًا يعمل في برلين وكان له أثرٌ كبيرٌ على الحركة النسوية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأطروحته تقول إنّ النظام الأبوي والأسرة السلطوية هما عمادا سلطة الدولة في المجتمع الرأسمالي، وهذه الصيغة تمكننا من دمج الحركة النسوية مع الماركسية الثورية بطريقة غير اعتيادية، ونعيد صياغتها للأهمية: إنَّ الأسرة السلطوية «مصنعٌ» فعليّ للأيديولوجية الرجعية وَبُنيتِها، وعلى هذا الأساس فهي تمثّل الدعّامة الأساسية لسلطة الدولة في المجتمع الرأسمالي.
  • المفهوم الثالث هو مفهوم سارتر للتسلسلية المُتلَاعَب بِها (manipulated seriality): أود تقديمه بوصفه عنصرًا لثقافة الفاشية، وسأشرح معناه لاحقًا. ففي قلب السياسة الفاشية يوجد ما يسميه سارتر بالتسلسلية المُتلَاعب بِها، ونحن بحاجة إلى فهم مصطلح «التسلسلية» لفهم آليات حركة السياسة في أي دولة رأسمالية.

هذه هي، إذن، المفاهيم الثلاثة أو المقولات التي أريد الحديث عنها بإيجاز.

أولًا: الطبيعة المَبْنيّة للقومية، أو «الفاشية وأسطورة الأمة»

الفاشية وأسطورة الأمة مفهومٌ بارزٌ في كتيب للماركسي الألماني آرثر روزنبرغ نُشرَ عام 1943، أي بعد عامٍ من فراره من ألمانيا. كان روزنبرغ نائبًا في الرايخستاغ (البرلمان الألماني) عن الحزب الشيوعي، أيّ أنه، بالتعبير الهندي، كان عضوًا في المثيل الألماني للّوك سابها (مجلس الشعب، وهو المجلس الأدنى في البرلمان الهندي)، ذلك أن ألمانيا كانت تعتمد هيكلًا سياسيًا مشابهًا للهيكل السياسي الهندي: فيدرالي ومركزي في آن. لم يكن روزنبرغ شيوعيًا فحسب، بل كان في يسار الحزب الشيوعي الألماني، إذ كان إحدى الشخصيات البارزة لما كان يسمى «يسار برلين»، إلى جانب الفيلسوف كارل كورش، وقد استقال روزنبرغ من الحزب الشيوعي الألماني لاحقًا عام 1927 بسبب استيائه من التدخل الروسي المفرط في شؤون الحزب.

شكَّلَ كتيّب روزنبرغ المعنون الفاشية كحركةٍ جماهيرية (Der Faschismus als Massenbewegung) مساهمةً أصيلةً في الفهم اليساريّ للفاشيّة، فَالشيوعية الدولية (الكومنترن) لم تعتقد أنّ الفاشيّة ستدوم طويلًا بل واعتقدت أنّ جذورها ضحلة، فهي لم ترى فيها سوى مؤامرةٍ دبرها رأس المال الماليّ، كما لو أنّ مجموعةً من المصرفيين الألمان جلسوا في مكانٍ ما واختلقوا الفاشيّة من العدم، وكما لو أنَّ هتلر كان مجرد دميةٍ في يدِ رأس المال الماليّ، وكما لو لم تكن للشعبية التي حظي بها الحزب النازيّ في أواخر عشرينيّات القرن الماضي وأوائل ثلاثينياته جذورٌ أعمق من رأس المال الماليّ. هذه النظرة باختزاليتها البالغة هي نظرةٌ سخيفة تغفل ما يميّز الحركات اليمينية، وهذا ما جعل كتيّب الفاشية كحركةٍ جماهيرية تحديًا مباشرًا لمفهوم الكومنترن عن الفاشيّة، أو بالأحرى: كان تحديًا للخط الرسمي السوفييتي عنها، وما يقول به من ضحالة الجذور وضعف الارتباط بالثقافة الجماهيرية والعجز عن تعبئتها، فما هي أطروحة روزنبرغ؟ وما الروابط التي تجمع الأطروحات الثلاث؟

يقول روزنبرغ: لا تنجح الفاشية إلّا كحركةٍ جماهيريةٍ؛ فقد تكون موجودةً في المجتمع سياسيًا، لكنّها تبقى في الهامش ما لم تحشّد قاعدةً جماهيريةً، وإن نظرنا للهند هنا، ستبرز لنا نقطة التحول في الثمانينيات، عندما أعيد تأهيل العنف الطائفي عبر المذابح بمباركةِ الدولة عام 1984، مما غذّى توسع القوى المجتمعية لليمين. لكن مقولةَ روزنبرغ هذه تثير سؤالًا مهمًا: كيف تبني الفاشية، أو الحركات اليمينية بشكلٍ عامٍّ، قاعدةً جماهيريةً؟ هذا سؤالٌ مهم علينا فهمه في سياق الهند، وإجابته اللافتة هي: إنّ الأيديولوجية التي يُطلِق الناس عليها مسمى «الفاشية» كانت منتشرةً في أوروبا أصلًا قبل عام 1914، أي أنّ مقولة روزنبرغ ترجع أصول الفاشية إلى ما قبل تشكُّل الحزب النازي واكتساب هتلر والحزب شعبيةً بعدما ضربت الأزمة ألمانيا بشكلٍ كاسح في العشرينيات.

كيف يشرح روزنبرغ ما يعنيه حينما يقول إنّ ما نسميه بـ «الفاشية» كان منتشرًا أصلًا في المجتمع الأوروبي بحلول 1914؟ يقلبُ روزنبرغ العلاقة بين السياسة والأيديولوجية، إذْ يقول إنّ الأيديولوجية ليست من صنع الحزب السياسي، بل على العكس من ذلك: الحزب أو الحركة السياسية تصنعهما الأيديولوجية، عبرَ سيرورةٍ بطيئةٍ ضمن حدود السياسة والمجتمع الأوروبييْن، يمكن تقصي أثرها إلى سبعينيّات وثمانينيّات القرن التاسع عشر. لكن ما هي هذه السيرورة؟ عندما أخذت الديمقراطية البرلمانية بالانتشار في أوروبا، واجهت النُخب التقليدية للمجتمع الراقيّ الأوروبي معضلةً، يلخصها سؤال: كيف لنا أنْ نفوز بالانتخابات؟ لم تملك هذه النخب أي صلةٍ بِالجماهير، أبدًا، على الإطلاق، فهي لا تمثّل إلا مصالح الشركات الكبرى والمُلّاك العقاريين الكبار، وأيّ صلةٍ ستربط هؤلاء بالجماهير، إن كانوا هم أنفسهم مضطهدِو الجماهير العامِلة؟ في ضمن هذا السياق تحديدًا تغدو أيديولوجية الطرف المضطهِد مهمةً، وفي هذه الفترة تحديدًا نشأ تيارٌ سياسي انتشر في كل أرجاء أوروبا أسماه روزنبرغ بـ «التيار المحافظ السلطوي الجديد»، وكان باكورة الأيديولوجية الفاشية في القرن التاسع عشر، أيّ باكورة الفاشية التي ازدادت هيمنتها فيما بعد.

الأيديولوجية الفاشية هي في الواقع خليطٌ من الأفكار، أي خليطٌ من التيارات الفكرية المختلفة التي لا تصلها روابطُ داخلية معتبرة، وأهميّةُ هذه النقطة تكمن في تبيانها ضرورة النظر في العناصر الفردية المكوّنة للأيديولوجية الفاشية، الواجب أن تتضح لنا اليوم، ونورد منها الأمثلة التالية: معاداة السامية وأشكال العنصرية الأخرى، وتأييد ودعم دولةٍ قويةٍ بإمكانها العمل خارج حدود الدولة (فقد أراد الفاشيون لرأس المال الألماني أن يصبح إمبرياليةً ألمانيةً قادرة على المنافسة بِفعاليةٍ في السوق العالمية، وبالتالي دعم الإمبريالية لدفعٍ عدوانيٍّ هجوميٍّ خارجيٍّ)، ومعاداة العمّال (أي: العداء شديد للعمّال وللطبقة العاملة المنظَّمة ذاتيًّا)، والاستبداد المتربط بالأبوية، وأخيرًا: القومية، وهي آخر وأهم عنصرٍ مكونٍ في خليط مكوّنات الفاشية.

يكمن مفتاح نجاح اليمين في السياسة الأوروبية، منذ سبعينيّات القرن التاسع عشر فصاعدًا، في ظهور نوعٍ جديدٍ من القومية معادٍ للأجانب وكارهٌ لهم، لم يكن موجودًا ضمن السياسة الأوروبية قبل ذلك العقد – فلم يوجد لا في 1848، عام ربيع الشعوب، ولا في ستينيات القرن التاسع عشر، عندما كتب ماركس رأس المال – بل أمسى مهيمنًا وأجهر عدوانيته في السبعينيات فطالعًا، مرتبطًا جزئيًّا بالاستعمار والاندفاع المسعور لتقسيم أفريقيا والاستيلاء على قطاعاتٍ واسعةٍ من أراضيها، ولكنّ روابطه لم تقف عند ذلك، فأنا لا أريد تفسير القومية تفسيرًا اختزاليًا اقتصادويًا. إذن، ماذا أقصد بالطبيعة المَبْنيّة للقومية؟ و«الفاشية وأسطورة الأمة»؟ هل الأمم موجودةٌ فعلًا؟ هل هي موجودةٌ بنفس كيفية وجود الطبقات؟

أنا أعرف ما الطبقة عندما أراها، وأعلم ما الطبقة الوسطى في مدينةٍ مثل بومباي، وأعرف نوع الثقافة التي تجسدها تلك الطبقة في الهند اليوم، أنْ أراها بثقافتها وسياساتها، ولو عشتُ في مكانٍ آخرٍ، في ريف الهند على سبيل المثال، لقابلتُ طبقاتٍ أخرى، وأنا أعلم أيضًا كيف تبدو الطبقة العاملة وأين تعمل، فليس كلّ أفراد الطبقة العاملة في وحداتِ إنتاجٍ ضخمة، فالبعض يعمل في المنازل، وهكذا دواليك. أؤكّد هنا إنّ الطبقة تمثل جماعاتٍ حقيقيةٍ، كياناتٍ موجودةٍ بالفعل، حتّى عندما لا تكون واعيةً بنفسها على ذلك النحو. فمن يجرؤ إذن على القول إنَّ الأمة موجودةٌ بنفس كيفية وجود الطبقة، أو أنّ الأمة موجودةٌ بنفس معنى وجود الطبقات؟

بما أن القومية من الموضوعات الرئيسة لهذه المحاضرات، سألخّص موقفي الشخصي تجاه التفسيريْن أو النموذجيْن السائديْن ذوي القبول الواسع للقومية حاليًا: النموذج الأول مرتبطٌ بإرنست غلنر، وقد أيَّدَ رأيهُ هوبسباوم، والنموذج الثاني ازدادَ شيوعه منذ ثمانينيّات القرن الماضي متمثّلًا في موقف بنديكت أندرسون في كتاب الجماعات المُتخيَّلة، واصفًا الأمة بهذا الوصف، وَمُضفيًا نوعًا من الإيجابية على كلمة «متخيَّل»، بما يختلف اختلافًا تامًا مع فهم غلنر للأمم والقومية، فَمُؤيده هوبسباوم يقول عن الطابع المَبْنيّ للقومية: «فيما يتعلق بِغلنر، أود تشديد عنصر الاصطناع، والاختراع، والهندسة الاجتماعية الذي يدخل في صنع الأمم»، ويتلو ذلك باقتباسٍ لِغلنر: «إن الأمم بصفتها طبيعةً، بصفتها طريقةً لتصنيف الناس موهوبةً إلهيًّا، بصفتها مصيرًا سياسيًّا فطريًّا، هي أسطورة»، ولهذا ذكرتُ «الفاشية وأسطورة الأمة»، فهذه «القومية، التي تقبض أحيانًا على ثقافاتٍ موجودةٍ مسبقًا وتحولها إلى أمم، تخترعها أحيانًا وغالبًا ما تنسف الثقافات الموجودة مسبقًا. هذا هو الواقع»، وهذا محلُّ عدم الاتساق: الأممُ أسطورة، لكنّ القومية حقيقية. يخلصُ هوبسباوم  متّفقًا مع غلنر إلى القول: «باختصارٍ، ولأغراضٍ تحليليةٍ، القومية تسبقُ الأمة، فَالأمم لا تصنعُ دولتها وقوميتها، بل العكس هو الصحيح». وهذه هي مقولةُ غلنر وهوبسباوم، وأنا أتفق معها تمامًا.

 يقول أندرسون بالنقيض من ذلك: «يقدّم غلنر، بشيء من الحدّة، ما يمكن مقارنته بما يقدّمه رينان، حيث يقرّر أنّ «القومية ليست يقظة الأمم على وعي ذاتها»»، ولمَ لا؟ لأن الأمم لا تسبق القومية، بل هي «تخترع الأمم حيث لا وجود لها»، ويقول أندرسون أنّ «العيب في هذا الصوغ يتمثل فيما يبديه غلنر من تلهّف شديد لأن يبيّن أن القومية تتخفّى وراء مزاعم زائفة مما يدفعه لأن يحوّل «الاختراع» إلى «تلفيق» و«زيف»، لا إلى «تخيّل» و«خلق»». فلننظر الآن إلى الخط الفاصل هنا، أحدهما يقول: إنّ الأمم مُلفَّقَة، أمّا الآخر فيقول: لا، لا، ليس تحديدًا، إنها تخيلات. فأندرسون يفضّل صوغها على هيئة تخيّلاتٍ وتصوّراتٍ، ويقولُ إنّ غلنر يعتقد بوجود جماعاتٍ «حقيقيةٍ»، مقابِل جماعاتٍ مُلفَّقَة مثل الأمم. ما «الجماعاتُ الحقيقية» التي تجول في بال أندرسون؟ لا شكّ ومن الواضح أنها الطبقة، إذ أنّها بالنسبة له لا تختلف عن الأمم في تمثيلها جماعةً متخيَّلة، وماذا يقصد بالتخيّل؟ «يجري تخيُّل الأمة على أنّها جماعة، لأن الأمة يتم تصوُّرها على الدوام كعلاقةٍ رفاقيةٍ أفقيّةٍ عميقةٍ». هائل! السؤال البديهي والفيل الضخم في الغرفة الذي يواجه أندرسون هو: من يقوم بالتخيل؟ فَحتّى لو افترضنا أنّ الأمم جماعاتٌ متخيَّلةٌ، من يا ترى يقوم بالتخيل؟ لا أعتقد أنّ أندرسون أجابَ على هذا السؤال حتى الآن. وما معنى هذه «العلاقة الرفاقية» في سياق الانقسامات التفاوتيّة العميقة التي يتصف بها كل بلد؟ وما صِحّةُ الحديث عن الأمة باعتبارها «علاقة رِفاقية أفقيّة عميقة»؟ أتفهم أنْ تُتَصوَّرَ الطبقة وتُناقَش بهذا النحو، لكن ذلك لا ينسحبُ على الأمة.

فلنُدخِل لياه غرينفيلد في الصورة، وهي مفكّرةٌ كتبت كتابًا عنوانه القومية: خمسة طرق للحداثة (Nationalism: Five roads to modernity)، بحثت فيه مفهوم في القومية في سياق فرنسا وروسيا وألمانيا، إلخ، وتشير فيه إلى نقطةٍ مثيرةٍ للاهتمام ذاتُ اتصالٍ مباشرٍ بالهند، وتقول: «تُعرَّف الأمة، في كثير من الأحيان، ليس بصفتها كيانًا مركبًا»، أي بصفتها شيئًا مكونًا من أفراد، «بل بصفتها فردًا جمعيًّا»، يا للقرف، يذكرني ذلك بِأرنب غوسوامي، فَهذا الفرد الجمعيّ «يتمتّع بمشيئةٍ َومصلحةٍ ذاتيةٍ، وهذه المشيئة وتلك المصلحة مستقلتان عن مشيئة وإرادة الأفراد، وتحظيان بالأولوية عليهم». وهؤلاء الأفراد هم أنا وأنتم وأنتن، أناسٌ حقيقيون، كياناتٌ وجوديةٌ حقيقيةٌ، نلتقي ونتحدث مع بعضنا البعض، وهكذا دواليك. لكنّ أرنب لا يعنيه أيٌّ من ذلك، فكل ما يهمه هي «الأمة»، فهو يزعق كلّ مساء: «الأمة تطالب بأن تعرِف!». تواصل غرينفيلد: «إن تعريفًا للقومية كهذا يؤدي إلى قوميةٍ جمعية» (collectivistic nationalism) وهذه «القوميات الجمعية تميل إلى السلطوية وتقتضي ضمنًا عدم المساواة بين حفنةٍ ممّن عيَّنوا لأنفسهم منصبَ مفسري مشيئة الأمّة من جهة – ألا وهم القادة – والجماهير من جهة أخرى، الذين يتعين عليهم الامتثال لتفسيرات النخبة». ومفهوم «قومية جمعية» ينطبق بالتفصيل على ما نواجهه اليوم في الهند إلى جانب مُفَسري مشيئة الأمة المنصَّبِيْن ذاتيًّا! وهذه القومية سلطوية في جوهرها، وَهي ما يجري حاليًا فرضه علينا واستخدامه ضد طلّاب جامعة جواهرلال نهرو.

بعد الاستطراد، نعود إلى جزءٍ آخر يستحق الانتباه من مقولة روزنبرغ حول الطابع المبْنيّ أو الأسطوري للأمة، فقد قال إنَّ الأيديولوجية المُسمَّاة بالفاشية كانت منتشرةً أصلًا قبل عام 1914، وأنّ النازية كانت نِتاجًا لتلك الأيديولوجية، لا العكس، ونقطته الأخرى مفادها أنّ ما يميز الفاشية اليوم هو: «تكتيك قوات الصدمة». وفي الهند مؤخرًا، أصبحت لدينا خبرةٌ كبيرةٌ مع قوات الصدمة، لكنني وعدتكم بألّا أتحدث الهند، ولذلك سأترك لكم التفكير بهذه الروابط.

انتُهِلَت مفردة «قوات الصدمة» من الحرب، فهي تشير إلى فرق النخبة التي تجتاحُ خنادق العدو. في حرب الخنادق، كانت هي التكتيك الحربي السائد أو المهيمن إبّان الحرب العالمية الأولى، وإنْ شاهدتم فيلم «حصان حرب» (War Horse)، سترون ما يحاكيه من حرب الخنادق بإبداع، فَهي تُعَد أكثر أشكال الحرب يدويةً ودمويةً. فرغمَ وجودِ الطائرات حينها، كان الكمَّ الأكبر من القتل يجري في الخنادق وبينها، حيث دار القتال حول اقتحام خنادق العدو.

وحين نسحبُ ذلك على السياسة، فهذا ما تقوم به قوات الصدمة، وهذا المفهوم ليس من اختراع اليسار، بل من اختراع اليمين، فقد كانت «السكوادريتسي» (squadritsi) هي تلك الفرق التي ساعدت مُلّاك الأراضي في الجنوب الإيطالي على كسر إضرابات المزارعين، بل والقضاء على قادة نقاباتِها وقتلهم. وَعندما رأى مُلّاك المصانع في الشمال ما فعلته قوات الصدمة في الجنوب، دعوهم للقدوم إلى الشمال للتصدي لما واجهه مُلّاك المصانع من تمرد الطبقة العاملة.

ويضيف روزنبرغ نقطةً مهمّة حول قوّات الصدمة ينقل فيها صورةً دقيقةً للسيناريو السياسي الذي شهدته الأسابيع الستة الماضية:

إنّ الأنشطة الفاشية لقوات الصدمة تنتهك القانون انتهاكًا صارخًا. ويقتضي القانون مقاضاتهم والحكم عليهم بالسجن، لكن لا شيء من هذا القبيل يحصل على أرض الواقع، فإن أدينوا فالإدانة صورية، فلا يقضون كامل محكوميّاتهم، أو يُعفى عنهم بعد فترةٍ قصيرة، وهكذا تُعبِّر الطبقة الحاكمة عن مدى امتنانها وتعاطفها مع أبطالِها قوات الصدمة.

خلاصة مقولته هي أنّ الفاشية لا تشرع بالصعود في الديمقراطية البرجوازية إلّا مع تواطؤ الدولة وتستّرها المقصودين. وهذا ما شهدناه في الأسابيع الستة الماضية، فرأينا كيف تجاوبت أجهزة الدولة مع الأحداث التي جرت. فلا يمكننا تفسير أسباب بقاء المنظمات الفاشية على الساحة إلّا إنْ أدرجنا في الصورة تواطؤ الدولة وتستّرها على قوات الصدمة ومنحها إيّاهم حريةَ التصرف، فهي ترعاهم سرًّا حتّى عندما تمثّل، رسميًّا، ديمقراطيةً دستوريةً، مثل جمهورية فايمار الألمانية أو في ديمقراطيتنا هنا في الهند. لهذه الأفكار أو التبصُّرات، باعتقادي، قيمةٌ كبيرةٌ.

ثانيًا: النظام الأبوي والأسرة السلطوية

نتّجه إلى فيلهلم رايش، إلى مستوى وَسَاطَةٍ مختلفٌ تمامًا عن الصورة التي قدمها روزنبرغ عن نوع القومية ذاك المتصّف بمعاداةٍ هجومية للأجانب ظهرت أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا. مفادُ أطروحة رايش هو أنّ النظام الأبوي والأسرة السلطوية هما عمادا سلطة الدولة. بمعنىً ما، لا يحيد رايش عن موضوع القومية، فهو يعالج الموضوع نفسه، إنما هو يتحدث عن آليةٍ لغرس القومية من سنٍ باكرٍ.

نشر رايش كتابه السيكولوجية الجماهيرية للفاشية (Mass Psychology of Fascism) عام 1933 وبدأ بكتابته قبل عامين من ذلك مُرِيدًا التصدي لِمعضلة عويصة: لماذا تقبل الجماهير العاملة بأن تقتادها حركاتٌ تعارض مصالحها الاقتصادية بشكل جليّ؟ لماذا يقبل الناس بأن يقتادهم يمينٌ سياسيٌّ وَحركاتٌ ليس عندها ما تقدمه لجماهير العمال؟ يقول رايش، من ناحية، إنّ هذه المعضلة لا يمكن حلها في إطارٍ اقتصادي، لرفضه الاختزال أينما كان، فالاقتصاد في رأيه لا يمثل الحلَّ ولا التفسير، وَيقول مِن ناحية أخرى: إن وَقَع حلّها ضمن الإطار الأيديولوجي، فَسَيتعيّن علينا شرح معنى ذلك بالتحديد، وهذا ما شرع رايش بفعله من خلال إعطائه مكانةً مركزيّةً للأسرة في نوع الذاتية التي تقتضيها الفاشية. توجد إذن ذاتيةٌ فاشيةٌ، ذاتيةٌ تقتضيها الفاشية ضمنًا في كيفية عملها.

يمكن تلخيص أفكار رايش الرئيسة في هذا الكتاب في ثلاث مساقات تتخلل فصليْ الكتاب الأوليْن. والمساق الجوهري يدور حول تصوّره للأيديولوجية بصفتها قوةً ماديةً، أو بِعبارة أخرى: الأيديولوجية ليست معنيّةً بالأفكار بالمعنى التجريدي للكلمة، وهي ليست ظاهرةً ذهنيةً، بل جذورها مغروسةٌ إلى حد كبيرٍ – على أسسٍ حيويةٍ-نفسانيةٍ – في بُنىً تُقَولِبُها الأسرة و«التقاليد»، وفي جنسانيةٍ مقموعةٍ مُهشَّمةٍ. بجملةٍ واحدة: الأيديولوجية قوةٌ ماديةٌ ترتكز على الأسرة.

يتمحور المساق الثاني لأطروحة رايش حول تصوّره للأبوية، كما أسلفت القول، بصفتها دعّامةً أساسيةً لسلطة الدولة. وفي الثالث يقول رايش بوجود تناغُم بين بُنَى الشخصيات السلطوية التي تَتَقَوْلَب داخل الأسرة الأبوية وأيديولوجية الفوهرر (القائد) التي تنطبع بها جميع الحركات الجماهيرية اليمينية، التي تدور أيديولوجيتها حول قائدٍ جماهيريٍ، ذو شخصيّة قويّة وقيادية وقدرةٍ على السيطرة على الجماهير. فَهل كانت أنديرا غاندي مثلًا فوهرر بهذا المعنى؟ لا، بل كانت قائدةً سلطويةً، وشخصيةً سياسيةً سلطويةً قويةَ الإرادة، فقد كانت قادرةً على فرض حالة الطوارئ على البلد بأكمله. فهل في ماضي الهند القريب شخصيّة سياسية قد تشبه شخصية الفوهرر؟ زعيمٌ جماهيريٌ ذو إرادةٍ قويةٍ وَصدرٍ يصدُّ الريح؟ ما الذي يصنع «الفوهرر»؟ الناس الذين يدعمونه، فهو دونهم نكرة، وهذا ما يرمز إليه رايش، إلى أنّ تفسير هذه العلاقة الجدلية بين القائد والجماهير يستلزم استحضارِ بُنى شخصيةٍ من نوعٍ معينٍ، ألا وهي بنية الشخصية السلطوية المقموعة، وما تتناغم معه في بنية الفوهرر، فإحداهما تصنع – أو على الأقل تتيح – الأخرى.

مرّةً أخرى، نجد قَلْبًا للعلاقة السببية، وعكسًا لِاتجاه سير التأثير، فالأولوية لـ «الجمهور» والثقافة الجماهيرية، ومن ثمّ للسياسة، فهي، بمعنىً ما، انعكاسٌ للثقافة الجماهيرية. وأكتفي هنا بالقول إنّني أعتقد أن مفهوم الأسرة بصفتها «مصنعًا» للأيديولوجيات الرجعية، وليس كل الأُسَر، بل الأُسَر السلطوية التقليدية الأبوية هي مصانع للأيديولوجية الرجعية – هذه الفكرة أساسية. والأسرة بصفتها ساحة معركة، إما ينجو فيها الطفل ليصير فردًا مستقلًّا لاحقًا في حياته، أو أن تجرحه صدمات الطفولة، ويُهزَم في ساحة المعركة، أي في الأسرة. فيلمُ تيودور كوتولا الرائع، الموتُ صِنعتي (Aus einem deutschen Leben)، يسرد السيرة الذاتية لرئيس إحدى معسكرات الاعتقال النازية ويتتبع نشأته، وكيف انتهى به المطاف في مصانع الموت في معسكرات الاعتقال في أربعينيات القرن الماضي. ويطرح الفيلم السؤال: كيف يتشكّل فردٌ كهذا؟ ما السيرورة التي تسمح بتكوّن شخصٍ كهذا؟ من ناحيةٍ سِيَريةٍ وَوُجوديةٍ، كيف يمكن أن ينتهي شخصٌ آمرَ معسكر اعتقال، وعاملًا على خطوط إنتاج الموت؟ يبدأ الفيلم بطفولته، وما أقساها من طفولةٍ، في عائلةٍ بروسيةٍ ريفيةٍ من الطبقة المتوسطة الدنيا، مع رمز سلطةٍ عنيفٍ في الأسرة، أعني بذلك الأب. هذه هي اللحظة الأولى التي يواجه الطفلُ فيها الدولة.

إن لم تستطع الدفاع عن أمّك في وجه أبيك في طفولتِك، وإن لم تستطع مقاومة عنفه، فسيخالجكَ شعورٌ قاطعٍ بخسارة المعركة، وحينما تكبر وتغدو رجلًا بالغًا، فإنك لن تنجو حينها في معارك السلطة، بل ستخضع لربّ عملِك، وستخضع للدولة وأجهزة سلطتها، وستتصاغر جُبنًا أمام القوة التي تمثلها. والآلية المشتغلة هنا هي آلية تماهٍ، هي نوعٌ من آليات التعويض، بمعنى: لربما خسرت معركة طفولتك، لكنك الآن شخصٌ بالغٌ متماهٍ مع السلطة، فتظفرُ هذه المرة. وإن مضينا بهذا السرد إلى عالم الممارسة السياسية الفاشية، فسنرى مصدر نشأة شخصية الفوهرر.

في كتاب رايش فقرةٌ رائعةٌ حيث يتحدث عن الأفراد الذين يدعمون الفوهرر ويعبدونه، بصفتهم أشخاصًا شعروا بالعجز التام في طفولتهم. يُشدد رايش هذا العجز، وذلك لأنّ هؤلاء الأطفال حينما يكبرون يحاولون نيل تعويضٍ يأخذ الشكل هذا. فهؤلاء يفتقرون إلى أيّ شكلٍ من أشكال الاستقلال، ولا يستطيعون التفكير بشكل نقدي، فَقَد وقعت عليهم غَلَبَةٌ عاطفية وجُرِحوا في الطفولة. فلنتأمّل للحظة أهمية البنى الشخصية، أهمية نوع البنية التي تقولبها الأسرة «التقليدية» في الهند وفي غيرها من البلدان. تلعب النسوية هنا دورًا جوهريًا، فهنا تكمن إحدى الجسور بين النسوية واليسار، إذ في الأسرة يكمن الصراع الطبقي الأول، تكمن المعركة الأولى، تلك المعركة مع السلطة.

ثالثًا: التسلسلية المتلاعَب بِها

لنتجه أخيرًا إلى سارتر ومفهومه للتسلسلية المتلاعَب بها بصفته قلبَ السياسية الفاشية. لا ينكر سارتر وجود الطبقات في المجتمع، لكنه يقسم المجتمع إلى قسمين: أولئك المُنظَّمون (المجموعات)، وغير المنظَّميْن (السلاسل). هي تصنيفاتٌ سوسيولوجية مباشرة: إن كنت مُنظَّمًا، فسيتيح ذلك لك فرصة القيام بأشياء عدة، إذ أنك تتمتع بدرجةٍ من القوة، وإن لم تكن منظَّمًا، فستعجزُ عن القيام بأي شيء، وَغيرك سيصنعونَ بك ما يشاؤون. هذا هو الدرس الأساسي لهذه المحاضرة: الانقسام بين المجموعات المنظَّمة وتلك الكُتَل غير المنظَّمة، التي أَطْلَق عليها سارتر مصطلح «التسلسلية». عندما تنتظر عند موقف الحافلات على سبيل المثال، لا يربطك مع غيرك من المنتظرين أيُّ صلةٍ جوهريةٍ سوى الحافلة نفسها، وهذه الحافلة هي ما يوحدكم/ن، هي المُوحِّد الخارجي، الذي من دونه لن تربطك أيّ علاقةٍ داخليةٍ مع من تنتظر/ين معهم/ن. يأخذ سارتر مثال طابور الحافلات هذا، ويطوّره أكثر فأكثر، ويصل إلى أنّ هذا النوع من التكتُّلات هي «السلسلة»، و«التسلسلية» هي حالةُ كون الواحد جزءًا من السلسلة.

تتغلَّب المجموعات على السلاسل لأنّ الأولى منظَّمةٌ وقادرةٌ على العمل الجماعي. والسواد الأعظم لأي مجتمعٍ يشكِّلونَ جزءًا من الهياكل الساكِنة التي يطلق عليها سارتر مصطلح السلسلة، حيث يحمل مصطلح «ساكنة» هنا معنى العجز وعدم القدرة على التصرف. والدولة بالنسبة لسارتر هي تكتُّلٌ من المجموعات المنظّمة التي تطوّرت وتحولت إلى مؤسساتٍ منذ فترةٍ طويلةٍ. بِاستطاعتنا الحديث عن البيروقراطية، وعن الجيش، وَوَسائل الإعلام والأحزاب السياسية وما إلى ذلك، لكن هل تساءلتم يومًا عمّا تمثله هذه الكيانات من حقائقَ مؤسساتية متراصَّة؟ هذه الكيانات قد تمأسست بحقٍّ وأصبحت جزءًا من ماكِناتٍ مشتغِلة تلقائيًّا. والنقطة المهمة هنا هي في استحالة إدراك هذه «الماكِنات» وفهمها ما لم نفترض انبثاقها من مجموعاتٍ منظَّمَة، تمامًا كما تنبثق المجموعاتُ من السلاسل/التسلسلية، الأمر الذي ينطبق على كل المجموعات.

تكمن قدرة الطبقات الحاكمة على الحكم تحديدًا في تألُّفها، في نواتها، من مجموعاتٍ منظَّمة لها القدرة على التحكم بالجماهير والسيطرة عليهم. وهنا أيضًا تكمن أهمية النقابات بالنسبة للعمال، فهي تمثل تجربتهم الأولى في حشد قواهم وتضامنهم الجماعييْن. وبصفةِ النقابات مجموعاتٍ منظَّمةً، فهي قادرةٌ على مواجهة المجموعات المنظَّمة الأخرى. أرباب العمل المُنظَّمَون، بالطبع، بشكلٍ جيدٍ للغاية، وَوسائل الإعلام لا تقلّ عنهم تنظيمًا. والمجموعات المنظَّمة التي تشكل العمود الفقري لوسائل الإعلام وأرباب العمل، بصفتهم طبقة، تمثّل جزءًا من تكتُّلٍ واسعٍ من المجموعات التي تكوّن سلطة الدولة.

إذن، ماذا يعني مصطلح «التسلسلية المتلاعَب بها»؟ يقول سارتر إن المجموعات المنظَّمة تُدَاومُ على تشغيلِ التسلسليّات، وتشغيلُ التسلسليّات هذا، أي تشغيل السلاسل أو التسلسليّات، يسمّيه سارتر «التكييف الخارجي» (extero-conditioning)، وهو مصطلح استنبطه من عالم الاجتماع الأمريكي ريسمان، من كتاب الجمهور الوحداني (The Lonely Crowd). ونجدُ نموذجًا مثاليًّا للتسلسليّة المتلاعَب بِها في الملايين من مستهلكي الأخبار الذين يشاهدون القنوات التلفازية دون رابطٍ يجمعهم سوى الأخبار ومقدِّمها، فهم يصدقون ما يصدقه الآخرون، كما لو يوجد حقًّا «آخرون» يصدقون كل ذلك. وطالما نُظمت «وسائل التواصل الاجتماعي» بشكل مختلف، فَهذا الخطر أقل حضورًا بكثيرٍ فيها. إنّ سيرورة سيطرةِ المجموعات المنظَّمَة على السلاسل هي السيرورة الجوهرية التي يُحكَم من خلالها. فالطبقاتُ الحاكِمة تحكم بهذه الكيفية ذاتها: بِهيمنة المجموعات على السلاسل. وتحت ضغط التكييف الخارجي تصبح السلاسل «مادةً مُشغَّلة»، فَالعنف (مثل المذابح والإعدامات الغوغائية و«أعمال الشغب»، إلخ) بصفته سلوكًا تسلسليًّا، هو مادةٌ مُشغَّلَةٌ، وَهو نتاج تأثيرِ مجموعاتٍ منظَّمةٍ على السلاسل بطرقٍ معينةٍ.

حينما يتحدث سارتر عن أنّ التسلسلية المتلاعَب بها هي جوهر السياسة الفاشية، فهو يقصد علاقة المجموعة/السلسلة هذه بالتحديد. فالمذبحة الغوغائية هي المجموعة السيادية (الدولة) أو مجموعةٌ منتظمةٌ لا-دولتية تقودُ التسلسليات بطريقة تَستَخرِج أنشطةً من السلسلة. وهذه المذابح الغوغائية ليس فيها ذرّةٌ من العفوية، فَالسلاسل يتلاعب بها من الخارج لتتصرف كما لو كان تصرُّفها عملًا عضْويًّا لمجموعة، لا نشاطًا مسيّرًا لسلسلةٍ. (والقضاء الجنائي الذي يكتفي بمحاكمة المشاركين في أعمال العنف، ويغض الطرف عن القادة الفعليين المختبئين وراء الكواليس، يعكس ثقافةً قضائيةً بدائيةً لا تتماشى مع أفضل الممارسات الدولية). إنّ مناخ العنف الذي أُنشأ في الهند اليوم مع رجال قوات الصدمة ذوي المعاطف السود الذين يهاجمون القادة الطلابيين بتواطؤٍ كاملٍ من الدولة لهو مدفوع بـ «غضبٍ ذو حسٍّ وطنيّ» جرت «صِناعَتُه» (بتعبير روزنبرغ). تُعبَّئ القومية لِتُعزّز من مناخ العنف بِشعارات مثل «لقد شتمت وطني» و«أنت معادٍ للوطن»، وما إلى ذلك. وددتُ الحديث عن أشياء أخرى، لكنني سأكتفي بهذا القدر.

المصدر: هيستوريكال ماتيريالزم

Jairus Banaji, ‘Nationalism is the bedrock upon which all fascist movements have built themselves’, 20 March 2016, https://www.sabrangindia.in/article/nationalism-bedrock-upon-which-all-fascist-movements-have-built-themselves

Ernest Gellner, Nations and Nationalism, Second edn (Cornell University Press, 2009)

Des Raj Goyal, Rashtriya Swayamsevak Sangh (Delhi, 1979)

Liah Greenfeld, Nationalism: Five Roads to Modernity (Harvard University Press, 1993)

Eric Hobsbawm, Nations and Nationalism since 1780, Second edn (Cambridge, 2012)

Arthur Rosenberg, ‘Fascism as a Mass Movement’, Historical Materialism 20/1 (2012), pp. 133–89; reprinted in J. Banaji (ed.), Fascism: Essays on Europe and India, Second edn (Three Essays Collective, 2016)

Wilhelm Reich, The Mass Psychology of Fascism, translated Theodore Wolfe (1946), accessible here: http://www.whale.to/b/reich.pdf

تعريب:

مراجعة:

Skip to content