مأزق مشروع الاستسلام العربي

«لولا المقاومة لما وُجِد احتلال»، مقولةٌ طريفة من أحد مريدي التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهي ليست خاطئةً للأمانة، فهي تشير إلى معادلةٍ بسيطة: لو رضينا جميعًا بالذل لما ظهر الذل ذلًّا، ولو يقاوم بعضنا الاحتلال لما ظهر على ما هو عليه. والمقولة نفسها مؤشّرٌ على الأزمة التي عانا منها حَمَلَةُ عقيدة الاستسلام العربي لعقود: كيف يُظهِرون ركوعهم نهوضًا؟

كانت بداية الحلِّ في تطبيع الذل والمهانة، ولست هنا أقصد الشتيمة أو السباب، فما أتحدّث عنه هنا هو علاقةٌ محدّدةٌ مع هذا العالم، مستندة إلى نهجٍ أوضح معالمه هو الاستسلام الكامل للقوى المهيمنة أيًّا كانت. وهذا النهج وإن سبق بزوغ نجم دول الخليج فهي اليوم دليلُه وعرّابه ونموذجه، وَدُبي جوهرةُ تاجه. وأما النموذج الاستقلالي النقيض، الذي تعايشَ مع نموذج التبعية لفترة وتصارع معه في أخرى، فقد باءت كل محاولاته بالفشل، ولا يعنينا هنا أنّ القوى العالمية المهيمنة ساهمت في إفشاله، فنجاحه كان مرتهنًا أساسًا بالقدرة على مواجهةِ هذه القوى والانتصار على الرغم من الدسائس والمؤامرات، لكنّه في وجهها فشل، فصارت الأفق خليجية.

وهنا لا أقصد «الخليجَ» بِجماهير مُهمَّشيه ومهمَّشاتِه (سواءً من مقيماتٍ/ـين أو مواطنين/ـات أو «بِدون» محرومات/ـين من كامل الحقوق المدنية)، بل الخليجَ بصفته مشروعًا سياسيًّا قُصِدَ له أنْ يكون محلَّ تركيز ثرواتِ المنطقة، وممرًّا للمصالح الأورو-أمريكية عليها وركيزةً لاستقرارها، ومنصّةَ انطلاقٍ لِتجريب استراتيجيات الهيمنة المدمّرة، الخرقاء. أو بجملة واحدة: الخليج بصفته مشروعَ كوريا جنوبية في غربِ آسيا، يفتحُ أفقًا جذّابًا للتبعية.

ومع فتحِ هذا الأفق دخلت تياراتٌ من باقي المنطقة فيه أفواجًا، منقسمينَ عمومًا بينَ شقّين، شقُّ انقيادٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ وراءَ دول الخليج (أو: وراء الطبقات-العوائل الحاكمة الخليجية)، وشقٌّ يرغب بمنافسة الخليج، عبر التَخَلْجُن، أو بالأحرى عبر اعتمادِ نموذجه. وهذا التنافس تنافسٌ في رُتبةِ التبعية تحرّك تياراته مقولةُ أنّ بلدانها «أكثرُ تحضُّرًا من الخليج» (أي: أقلُّ عروبةً منه) وبالتالي أحقُّ بالتبعيّة المباشرة للأسياد الأورو-أمريكيين بسبب «القُرْب الحضاري».

تنطلق من هذه التياراتِ دعواتُ التنصُّل من العروبة واستنكارها، ولا شكّ أن الاستنكار يستندُ بدرجةٍ ما إلى توظيفاتها القمعية في تاريخ المنطقة، لكن استنكارًا عن استنكارٍ يختلف، وهو يختلف باختلاف المضامين. فإنْ كان الاستنكارُ الشائع استنكارَ القمع تحديدًا، فَماذا يفسّر الارتماء في الأحضان الأمريكية والأوروبية كبديلٍ والتغاضي التام عما ألحقته بالمنطقة من قتلٍ ودمار؟ لا بل واستنكار القمع «السلطوي» و«الشمولي» هذا تجاورهُ تبرأةٌ للاستعمار، وحنينٌ له، وافتخار بتاريخه وبِجنرالاته قادةً للتحرير.

وليس هذا الاستنكارُ ينطلقُ من منهج عملٍ سياسي يفتح حدودَ التضامن، بل منطلقه هو الدعوة لإغلاقها التام، أي ليسَ استنكارًا ضدّ القمع بجملته، بل لشكلٍ محدّد ألغيت شرعيته لصالح قمعٍ آخر (إمبريالي) مشرعَن بل ومبرّر، فنحن «نستحق» ما حلّ بنا. فهذا الاستنكار الرائج للعروبة إذن يستنكرها بصفتها مشكلةً حضارية، بصفتها غل التخلّف والانحطاط الثقافي/العرقي الواجب التحرُّر منه، بصفتها منبع «الإرهاب»، ألا وهو الحائل بيننا وبين التأنْسُن والدخول في مصافي الأمم المتحضّرة، وإنْ اختصرنا تحليلنا بجملةٍ واحدة، نقول: أحد أركان الرفض السائد اليوم للعروبة هو رفض الاستقلال.

قد يساعدنا على فهم حقيقة هذا التيار إلقاءُ نظرةٍ على الصورةِ التي اتخذها في السعودية، وتحديدًا بين حاشية محمد بن سلمان وَمُحبّيه، وكيف انعكست لديهم السردية التي انتشرت في المنطقة مسبقًا، فهؤلاء يرسمون «الحدود الطبيعية» للعروبة بحدود السعودية، و«العروبة الأصيلة» التي يروّجون لها معتدلة، ومتسامحة، ومتقبّلة للآخر، على عكس طبائع الكنعانيين والبابليين والفينيقيين والأمصار والبربر والحميرية، الذين قَدِموا للسعودية مُحمَّلين بِمظلوميّاتهم وأفكارهم المتطرّفة وسيطروا على إعلامنا وتعليمنا وبثّوا من خلاله فكرهم التكفيري الإرهابي. وَشعبُنا، لِطيبته وحسن نيّته، تقبّل هذا الآخر الذي استغفلنا واستغلنا لأجل قضاياه، وها نحن اليوم نصحّح المسار ونركّز على «مصلحتنا الوطنية» بدل الانشغال في «قضايا الآخرين».

ورغم أنّ مضمونَ هذه السردية في أغلب بلدان المنطقة – وليس فقط العربية منها – يفضي إلى ضرورة القطيعة الثقافية عن الجزيرة العربية والتنكّر للصلة التاريخية بها، فهو يفضي أيضًا إلى انتهاج الطريق السياسي للطبقات-العوائل الحاكمة الخليجية، وهو انتهاجٌ له بكل ما يحمله من انكفاءٍ عن قضايا التحرير وتمويهٍ لها واستغلالٍ لكافة الفرص التجارية مع الغرب (والشرق) بِغاية الانتفاع الشخصي والزبائني.

يَعِدُ المروّجون لهذا النهج جماهيرهم بأن هذا النهج سيعود عليهم – مثلما عاد على الخليج – بالنفع والخيرات، فهو نهجٌ نجحَ واكتملَ تمامًا، وتضيفُ وعودهم أنّ العائد الربحي للتبعية سيكون أكبر بسبب العمق الحضاري المزعومِ افتقارُ بلدان الخليج له.

لكن هذا المشروع، مشروعُ الخليج بصفته جنوب كوريا المنطقة، اكتملَ ونجح بالفعل، وهو لذلك قابلٌ للتقييم في نجاحه.

لأجل هذا التقييم، لنتجاهل لِلَحظة كون هذا النهج يستند أساسًا إلى الاستغلال الفائق للعمالة الوافدة (العربية وغير العربية)، واستغلال الأراضي الزراعية في بقية المنطقة لصالح «السلة الغذائية» الخليجية، مما أسهم في عمليّات الإفقار في باقي المنطقة، ولنتجاهل ما يشترطه استقرارُ هذا النموذج من زجّ الآلاف في السجون على أقلّ الأفعال السياسية وأهونها (وهو في هذه الأسس لا يختلف عن كوريا الجنوبية). فلنقُل إنّ كل ذلك، وأكثر، مقبول، فكلّها «قضايا آخرين» لا تمتّ بـ «المصلحة الوطنية» من صلة.

يبقى لدينا نموذج ناجحٌ، ونجاحه – لا فشله – ها هو يودى به في طريق الانهيار، بمدن ملحٍ متناثرة وعمرانٍ مشيّدٍ على البحر، وشخصنةٍ متنامية للسلطة والثروة، وتبديدهما بالتخبّط والامتثال لِدَجل شركات الاستشارة الغربية وحماقاتها، وبالتنافس في التبعية، وفي المقابل نجد ارتفاعًا مطّردًا للأسعار، وانخفاضًا في المستويات المعيشية، وتهجيرًا جماعيًّا للناس لأجل تشييد مدنٍ خيالية في أمل استجلابِ شعبٍ جديدٍ من أوروبا، وكلّها ناتجةٌ عن الآليات الداخلية لعمل المنظومة نفسها، دون معيقاتٍ خارجية، فمنظومة محرّكها المركزي هو الانتفاع الشخصي والزبائني ستعجزُ عن حلّ مشاكلها إلّا بالهروب إلى الأمام، وهذه هي البيئة الاجتماعية التي كرّستها هذه الأنظمة، بيئةٌ تولّد سعيًا متسارعًا ومتشرذمًا للهرب من الدمار الذي تحلّه على من يقبعون ويقبعن تحتها (أليس من اللائق إذن أن الاندفاع نحو التطبيع لا تحرّكه مصالح وطنية أو قومية أو حتى طبقية، بل مصلحةُ بعض الأمراء في الخروج من مآزق شخصية؟).

المشكلة على النقيض من المشاريع الاستقلالية، فهي لا تكمن في الأمور التي على المشروع السياسي مواجهتها، التي تستلزم التماس استراتيجياتٍ ملائمة للعمل السياسي على المستوى الوطني لتوطيد المشروع وتدعيمه وضمان ديمومته وما قد يتخلل ذلك من إشكالاتٍ وأخطاء، بل المشكلة هي النموذج نفسه، فقد استمرَّ هاربًا من المشكلة، أي من نفسه، حتى وصل اليوم إلى مهربه الأخير، ترسيم التطبيع مع الكيان الصهيوني، أملًا في طوق نجاه ما، في أن الامتثال التام للإمرة الأجنبية سيحلّ مشاكله. وبذلك يكتمل مشروع الاستسلام العربي، بِوصوله إلى مثواه الأخير.

Skip to content