حول الاشتراكية (1949)

مقدّمة المترجِم:

كتب عالم الفيزياء الشهير ألبرت آينشتاين هذا النص لصالح العدد الأول من المجلّة الاشتراكية الأمريكية المستقلة «منثلي رفيو» (Monthly Review) عام 1949م، في فترةٍ اتصفت بقمعٍ شديد للنشاط السياسي والعمّالي.

بعد أن هرب من آلة القمع النازية في ألمانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تعرض آينشتاين لرقابة وتجسس مكتب التحقيقات الفدرالي (الـ FBI) بسبب أنشطته المناهضة للحرب والعنصرية والمناصِرة للاشتراكية. حاولت السلطات الأمريكية نبش أيّ رابطٍ له بالاتحاد السوفييتي ودسّت المخبرين حوله، سعيًا لاتهامه بالتجسس لصالح السوفييت، وفد حاولت أيضًا بعد ذلك أن ترحّله من البلاد على خلفيةِ هذه الأنشطة.

لم تنجح جهود السلطات الأمريكية فيما يتعلق بآينشتاين، لكن الجهود القمعية للفترة التي سمّيت لاحقًا بالمكارثية لم تقف عنده، بل هي لم تبدأ ولم تنتهي عند النهاية الاسمية لهذه الفترة، فقد كانت متماشيةً مع المنهجية التي اعتمدتها في التعامل مع الأحزاب اليسارية والعمّالية في بداية القرن العشرين والحركات التحرّرية في ستينياته وسبعينياته وثمانينياته.

ولعلّ هذا النهج مستمرٌ حتى يومنا هذا، سواءً إن كنا نتحدث عن الرقابة القمعية المفروضة على الجاليات الصينية، أو منع هجرة أعضاء الأحزاب الشيوعية إلى البلاد، أو التعبئة اليمينية المدعومة من قطاعاتٍ من الطبقة الأمريكية الحاكمة ضدّ ما تصفُه بِالمؤامرة اليهودية-الإسلامية-الشيوعية الهادفة لتدمير أمريكا المسيحية-البيضاء. فـ «محاربة الشيوعية» (رغم عدم وجودها) إلى جانب «الحرب على الإرهاب» (الوهمي والحقيقي) باتت الأساس لشرعنة القمع السياسي والاجتماعي والاقتصادي العام في البلاد.

في هذا النص، يقول آينشتاين بضرورة تجاوز ما يصفه بـ «المرحلة الافتراسية» للتاريخ البشري، ويشرح أسباب تأييده للاشتراكية كحلٍّ لمشاكل المجتمع الرأسمالي، وطرافة طرحه (المبسّط بعض الشيء) تكمن – في رأيي – في مسعاه الصريح للتغيير أثناء هذه الفترة القمعية بعد ما شهده من قمعٍ ساحقٍ في ألمانيا، وهنا ينتقد فيه تقديس الأفراد، واحتكار الخبراء والأخصائيين للحق في تقرير مصير المجتمع، فالشؤون المعنية بالمجتمع ككل لن تأتي حلولها إلّا من المجتمع ككل، لا من فردٍ أو زمرةٍ صغيرةٍ ذات تنوّرٍ وبصيرةٍ وعلمٍ مطلق تقود «الجماهير» كالقطيع إلى جنّات عدنٍ دُنيويّة.

بداية النص

هل من المستحسن أن يعبر شخصٌ ليس أخصّائيًّا في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية عن رأيه في الاشتراكية؟ أعتقد أنه كذلك لعددٍ من الأسباب.

فلننظر أولًا إلى المسألة من وجهة نظر المعرفة العلمية. قد يبدو لوهلة أنّه لا اختلافاتَ منهجية جوهرية تذكر بين علم الفلك وعلم الاقتصاد: العلماء في كلا الحقلين يسعون لاكتشاف قوانين المقبولية العامة لمجموعةٍ محددة من الظواهر لجعل ترابطات هذه الظواهر أوضح فهمًا قدر ما أمكن. لكن الواقع هو أنّ الاختلافات المنهجية واقعة. إنّ اكتشاف القوانين العامة في حقل الاقتصاد يصعّبه ظرفُ تأثُّرِ الظواهر الاقتصادية الواقعة تحت المراقبة بعوامل يتعسّر للغاية تقييمها بانفصال. ويضاف على ذلك أنّ الخبرة المتراكمة منذ بداية ما يدعى الفترة المتحضرة للتاريخ الإنساني ظلَّت – كما هو معروف – متأثِّرةً ومقيَّدةً إلى درجةٍ كبيرة بأسبابٍ ليست ذات طبيعة اقتصادية خالصة بأي شكلٍ من الأشكال. فعلى سبيل المثال: أغلبُ الدول الكبرى في التاريخ يعود فضلُ وجودها إلى الغزو، والأناسُ الغازية أسَّست أنفسها – قانونيًّا وسياسيًّا – كطبقةٍ ذات امتيازٍ على البلد المغزيّ، وقبضوا على الأراضي واحتكروها وعيّنوا كهنةً من صفوفهم، والكهنة – لتحكّمهم بالتعليم – جعلوا من التقسيم الطبقي للمجتمع مؤسَّسةً دائمةً وخلقوا منظومةَ قيمٍ انتهجها الناس منذئذٍ في سلوكهم الاجتماعية – بشكلٍ غير واعٍ إلى حدٍّ بعيد.

لكن الإرث التاريخي، إن صحت التسمية، قد مضى؛ لم نتجاوز حقًّا ما أسماه ثورشتاين فيبلين بـ «المرحلة الافتراسية» للنمو البشري. فالحقائق الاقتصادية المرئية تنتمي إلى تلك المرحلة وحتى تلك القوانين الممكن لنا اشتقاقها منها لا يمكن تطبيقها على غيرها من المراحل. مذ أن الهدف الحقيقي للاشتراكية هو تحديدًا تجاوز المرحلة الافتراسية للنمو البشري والتقدم إلى ما بعد ذلك، فالعلم الاقتصادي في حالته الراهنة قادرٌ على تسليطِ ضوءٍ خافتٍ على المجتمع الاشتراكي للمستقبل.

ثانيًا، الاشتراكية موجّهة نحو غاياتٍ أخلاقية-اجتماعية. لكن العلم عاجزٌ عن خلق الغايات، وأعجز من غرسها في البشر؛ العلم – في أفضل الأحوال – قادرٌ على توفير الوسائل الممكن من خلالها تحصيلُ غاياتٍ معينة. لكن الغايات نفسها تتصورها شخصياتٌ بِمُثُلٍ أخلاقية نبيلة، وإنْ لم تكن الغاياتُ مجهضة، بل حية وقوية، ومن ثم تبنّاها وحملها وشرع بها الآلاف المؤلَّفة من البشر الذين – بعملهم شبه الواعي – يحددون التطوّر البطيء للمجتمع.

لهذه الأسباب، يجب أن نحذر من المبالغة في تقدير أهمية العلم والطرق العلمية فيما يتعلق بالمشاكل البشرية، ويجب ألّا نفترض أنّ الخبراء هم الوحيدون الذين لديهم الحق في التعبير عن أنفسهم حول مسائل لها أثرٌ على تنظيم المجتمع.

لقد تكاثرت الأصوات التي تصرح بأن المجتمع البشري يمر بأزمة، وأنّ استقراره يمر بهزّة مميتة. من طبائع هذه الأوضاع أنْ يشعر الأفراد باللامبالاة تجاه المجموعة التي ينتمون إليها – مهما صغرت أو كبرت – أو حتى بالعدوانية. ولإيضاح ما أعنيه، دعوني أسرد تجربةً شخصية مررت بها. تناقشت مؤخرًا مع رجلٍ ذكيٍّ وحسن الطباع حول خطر حربٍ أخرى، وهي في رأيي ستشكل تهديدًا على الوجود البشري، وأشرتُ إلى أنّ منظّمةً فوق-قومية وحدها قادرةٌ على توفير الوقاية من هذا الخطر. وعندها قال لي زائري بكلِّ هدوء وبرود: «لماذا أنت معارضٌ لاختفاء الجنس البشري بهذه الشدة؟».

أنا متأكد أنّ لا أحد حتى قبل قرنٍ من اليوم كان ليصرح بهذا القول بهذا الهدوء. فهذا تصريحُ رجلٍ سعى بلا جدوى للوصول إلى توازنٍ داخليٍّ وفقد كامل أمله في النجاح. وهو تعبيرٌ عن انعزالٍ وانكفاءٍ يعاني منه الكثير من الناس في هذه الأيام. ما السبب؟ هل من مخرج؟

من السهل طرحُ أسئلةٍ كهذه، فالصعوبة تكمن في الإجابة عليها بدرجةٍ من الثقة. عليَّ رغم ذلك أن أحاول قدر ما أمكن، رغم وعيي التام بحقيقة أن مشاعرنا ومساعينا عادةً ما تكون متناقضة ومبهمة ولا يمكن التعبير عنها بصيغٍ سهلةٍ وبسيطة.

الإنسان، في آن، كائنٌ وحداني وكائنٌ اجتماعي. بصفته كائنًا وحدانيًّا، يحاول حماية وجوده ووجود المقرّبين منه، ليشبع رغباته الشخصية، وينمّي مَلَكاته. وبصفته كائنًا اجتماعيًّا، يسعى للحصول على إقرار أقرانه من البشر ومحبتهم، ليتشارك أفراحهم، ويخدمهم في الأحزان، ويحسن من شروط حياتهم. ووجودُ هذه المساعي المتنوّعة والمتصارعة أحيانًا وحده قادرٌ على تفسير الشخصية الخاصة برجلٍ، ومزيجها المعين يحدد درجة تمكّن الفرد من إنجاز توازنٍ داخليٍّ والمساهمة في رفاهية المجتمع. من الممكن أنَّ القوة النسبية لهاذين المُحرِّكَين تحكمها – بشكلٍ رئيس – الوراثة، لكن الشخصية التي تنشأ في آخر المطاف تُشكِّلها غالبًا البيئة التي يصادف أن يجد الإنسان نفسه فيها أثناء نشأته، وبُنيةُ المجتمع الذي تربّى فيه، وتقاليد هذا المجتمع، وتثمينه لأنواع معينة من السلوك. «المجتمع» – كمفهومٍ مجرّد – يعني الفرد البشري في كونه المجموع الكامل لعلاقاته المباشرة وغير المباشرة بمعاصريه وكلّ الناس من الأجيال السابقة. الفرد قادرٌ على التفكير، والشعور، والسعي، والعمل بنفسه، لكنه يعتمد على المجتمع – في وجوده الجسدي والفكري والعاطفي – إلى حدّ يستحيل عنده التفكير به، أو فهمه، خارج إطار المجتمع. فـ «المجتمع» يوفّر للإنسان الطعام والملبس والمأوى، وأدوات العمل، واللغة، وأشكال التفكير، وأغلب محتوى الأفكار، فحياته يتاحُ إمكانها عبر عمل وإنجازات الملايين العديدة في الماضي والحاضر المخفيين وراء تلك الكلمة الصغيرة: «المجتمع».

من البديهي إذن أن اعتماد الفرد على المجتمع حقيقةٌ طبيعية لا يمكن إلغاؤها – مثلما الحال عليه عند النمل والنحل. إنما سيرورة حياة النمل والنحل محكومةً حتى أدق تفاصيلها بغرائزَ موروثة جامدة، في حين الأنساق الاجتماعية والعلاقات المتبادلة للكائنات البشرية شديدة التنوع وقابلةٌ للتغير. فالذاكرة، والقدرة على خلق أمزجةٍ جديدة، وهِبةُ التواصل الفموي أتاحت تطوُّراتٍ لدى الجنس البشري لا تحكمها الضرورات البيولوجية. تتمظهر هذه التطوّرات في التقاليد والمؤسسات والمنظمات، في الأدب، وفي الإنجازات العلمية والهندسية، وفي الأعمال الفنية. هذا يفسر كيف – بمعنىً ما – يمكن للإنسان أن يؤثر على حياته عبر سلوكه، وفي هذه السيرورة يمكن للتفكير والرغبات الواعيتين أنْ تؤدي دورًا.

يكتسب الإنسان في ولادته، عبر الوراثة، بنيةً بيولوجية يجب أنّ نعتبرها ثابتة ولامتغيّرة، بما في ذلك غرائز طبيعية يتسم بها الجنس البشري. ويضاف إلى ذلك أنه، في حياته، يكتسب بُنيةً ثقافية يتبنّاها من المجتمع عبر التواصل وعبر الأنواع العديدة الأخرى من التأثير. وهذه البنية الثقافية هي، عبر مرور الزمن، عرضةٌ للتغيير وتحدد إلى حدٍّ بعيدٍ جدًّا العلاقات بين الأفراد والمجتمع. لقد علّمتنا الأنثروبولوجيا الحديثة – من خلال التحقيق المقارِن لما تدعى الثقافات البدائية – أنّ السلوك الاجتماعية للكائنات البشرية قد تختلف كثيرًا، اعتمادًا على الأنساق الثقافية السائدة وأنواع التنظيم المهيمنة في المجتمع. وفي هذا التربة يمكن للساعين لتحسين حال الإنسان أن يغرسوا آمالهم: ليس محكومًا على البشر – بسبب بنيتهم البيولوجية – إبادة بعضهم البعض أو العيش تحت رحمةِ مصيرٍ قاسٍ متأصّلٍ فينا.

إنْ سألنا أنفسنا كيف يجب أن تُغيَّر بنية المجتمع والمواقف الثقافية للإنسان لأجل جعل الحياة الإنسانية مُرضيةً أكثر ما أمكن، فعلينا أن نعي على الدوام حقيقةَ وجود شروطٍ معينة لا يمكننا تغييرها. فالطبيعة البيولوجية للإنسان، كما أسلفت، ولجميع الأغراض العملية، ليست قابلة للتغيير. ويضاف على ذلك أن التطورات التكنولوجية والديموغرافية للقرون القليلة الماضية خلقت شروطًا ستبقى معنا. في المستوطنات البشرية ذات الكثافة السكانية العالية نسبيًّا بالبضائع الضرورية لبقائها، من الضرورة المطلقة وجود تقسيمٍ شديدٍ للعمل وجهازٍ إنتاجيٍّ فائق التمركُز. فقد ولّى ذاك الزمن – وإن بدى شاعريًّا اليوم – حيث يمكن لأفرادٍ أو مجموعات صغيرةٍ نسبيًّا أن تحقق اكتفاءً ذاتيًّا كاملًا، وليس في كلامنا إلّا القليل من المبالغة إنْ قلنا إنّ البشرية تشكّل حتى في يومنا هذا جماعةً كوكبية للإنتاج والاستهلاك.

وصلتُ الآن إلى نقطةٍ حيث أود الإشارة بإيجازٍ لما يبدو لي أنه يشكّل جوهر أزمة زماننا. وهو يتعلق بعلاقة الفرد بالمجتمع. لقد صار الفرد أكثرُ وعيًا من أي وقتٍ مضى باعتماده على المجتمع. لكنه لا يعيش هذا الاعتماد كفائدةٍ إيجابية، ورابطةٍ عضوية، أو قوّةٍ وقائية، بل كتهديدٍ على حقوقه الطبيعية، أو حتى وجوده الاقتصادي. ويضاف إلى ذلك أن موقفه في المجتمع تُشحَذ فيه المحرّكات الأنانية التكوينية باستمرار، في حين محرِّكاته الاجتماعية، وهي ضعيفةٌ بطبيعتها، تتآكل تدريجيًّا. كلُّ الكائنات البشرية، مهما كان موقعها في المجتمع، تعاني عملية التآكُل هذه. لجهلهم كونهم سجناءَ أنانيتهم، يشعرون بانعدام الأمان، والوحدة، والحرمان من التمتع الساذج والبسيط والابتدائي بالحياة. لا يمكن أن يجد الإنسان معنىً في حياته – بقُصرِها ومخاطرها – إلّا بتكريس نفسه للمجتمع.

الفوضى الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي كما هو موجودٌ اليوم هي، في رأيي، المصدر الحقيقي لهذه الشرور. نرى أمامنا الجماعة الضخمة للمُنتِجين، أعضاؤها يسعون بلا توقف لحرمان بعضهم البعض من ثمارِ عملهم الجماعي – ليس بالقوّة، بل بالامتثال المخلص للقواعد المُؤَسَّسة قانونيًّا. في هذا الصدد، من المهم إدراك أنّ وسائل الإنتاج – أي: كامل الطاقة الإنتاجية الضرورية لإنتاج السلع الاستهلاكية ومعها السلع الرأسمالية – قد تكونَ قانونيًّا، وغالبًا، مِلكيّةً شخصية للأفراد.

بغاية التبسيط، في النقاش التالي ما أسمّيه «العُمّال» هم أولئك الذين ليست لديهم حصّة في وسائل الإنتاج – وإنْ لم يتوافق هذا التعريف بالاستخدام العرفي له. يحتل مالكُ وسائل الإنتاج موقعًا يتيح له شراء قوّة عملِ العامل. وباستخدام وسائل الإنتاج، ينتج العامل بضائع جديدة تصبحُ مِلكيّة الرأسماليّ. النقطة الجوهرية في هذه العملية هي العلاقة بين ما ينتجه العمّال وما يُدفَع لهم، وقياسهما بقيمتهما الحقيقية. بقدر ما عقدُ العمل عقدٌ «حر»، ما يتلقاه العامل لا تحدده القيمة الحقيقية للبضائع التي ينتجها، بل حدُّه الأدنى من الحاجات وبمستلزمات الرأسمالي لقوّة العمل فيما يتعلق بعدد العمّال المتنافسين على الوظيفة. من المهم إدراكُ أنّه حتى نظريًّا ما يدفَع للعامل لا تحدده قيمةُ ما ينتج.

يميلُ رأس المال الخاص إلى التركُّز في أيدٍ قليلة، جزئيًّا بسبب التنافس بين الرأسماليين، وجزئيًّا لأن التطوّر التكنولوجي والتقسيم المتزايد للعمل يشجع على تشكيل وحداتٍ أكبر للإنتاج على حساب الوحدات الصغيرة. ونتيجةُ هذه التطوُّرات هي أوليغارشية رأس المال الخاص، قوّتها المهولة لا تقبلُ الضبط حتى في المجتمعات السياسية المُنَظَّمة ديمقراطيًّا. والحال كلك لأن أعضاء الأجهزة التشريعية تختارها الأحزاب السياسية، التي يُموِّلُها غالبًا الرأسماليّون الخاصّون أو ينفذون فيها بطرقٍ أخرى، وهؤلاء – لكل الأغراض العملية – يفصلون الناخبين عن السلطة التشريعية. ونتيجة ذلك أنّ ممثلّي الشعب لا يحمون في الواقع مصالحَ الفئات المحرومة من السكّان بما فيه الكفاية. بل ويضاف إلى ذلك أنّه تحت الشروط الحالية يتحكَّم الرأسماليّون الخاصّون – بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة – بالمصادر الرئيسة للمعلومات (الصحافة، الإذاعة، التعليم). ومن الصعب للغاية، بل والحق يقال من المستحيل في أغلب الأحيان للفرد المواطِن أن يصل إلى استنتاجاتٍ موضوعية ويقوم باستخداماتٍ متعقِّلة لحقوقه السياسية.

الوضع السائد في اقتصادٍ مستندٍ إلى المِلكية الخاصة لرأس المال يتصف بالتالي بمبدئين أساسيّين: الأول مفاده أن وسائل الإنتاج (رأس المال) مملوكةٌ بشكلٍ خاص وأنَّ المالِكين يتصرّفون بها كيفما يشاؤون، والثاني مفادُه هو أنَّ عقدَ العمل عقدٌ حُر. بالطبع، لا يوجد شيءٌ اسمه مجتمعٌ رأسماليٌّ خالِص بهذا المعنى. وبالتحديد من الحريّ بنا التنويه إلى أنّ العمّال نجحوا عبر نضالاتٍ سياسيّة طويلة ومُرَّة بتحصيل شكلٍ محسَّنٍ بعض الشيء لـ «عقد العمل الحر» لبعض أصناف العمّال. لكنْ إن أخذنا الوضع الكلّي، فاقتصادُ يومنا الحاضر لا يختلف كثيرًا عن الرأسمالية «الخالصة».

الإنتاج يجري لغاية الأرباح، لا لغاية الاستخدام. فلا بنود تنصّ على أن كل من لديهم القدرة على العمل والرغبة في ذلك سيتوفر لهم الوضع اللازم لإيجاد وظيفة دائًما؛ إذ يوجد دائمًا «جيشٌ من العاطلين». يعيش العامل في خوفٍ دائمٍ من فقدانه وظيفته، ولأن العطالة والأجور المنخفضة لا تؤدي إلى سوقٍ مُربِحة، يغدو إنتاجُ السلع الاستهلاكية محدودًا، والنتيجة هي ضيقةُ العيش. وأما التقدّم التكنولوجي فلا يؤدي عادةً إلّا للمزيد من العطالة بدلًا من تسهيل عبئ العمل على الجميع. إنّ دافع الربح – باقترانٍ مع التنافس بين الرأسماليين – مسؤولٌ عن انعدام الاستقرار في مراكمة رأس المال وفي استخدامه، مما يؤدي إلى كساداتٍ متزايدةِ الحدة. فالتنافس غير المقيَّد يؤدي إلى إهدارٍ كبيرٍ للعمل، وإلى إعاقة الوعي الاجتماعي للأفراد كما أسلفت.

وأنا أعتبر إعاقة الأفراد هذه أسوء شرور الرأسمالية، فنظامنا التعليمي بأكمله يعاني منها، فيه يغرس في الطالب منظورٌ تنافسيٌّ متفاقم، إذ يُعلَّم عبادةَ النجاح الاستحواذي كتجهيزٍ لمسيرته المهنيّة المستقبلية.

أنا مقتنعٌ أنّه لا طريق إلّا طريقٌ واحدة لإلغاء هذه الشرور القاتلة، ألا وهي طريقُ تأسيس اقتصادٍ اشتراكيٍّ، يجاوره نظامٌ تعليميٌّ موجّهٌ نحو أهدافٍ اشتراكية. في اقتصادٍ كهذا، المجتمع نفسه يملكُ وسائل الإنتاج ويستخدمها على نحوٍ مُخطَّط. فاقتصادٌ مُخطَّطٌ يوائم الإنتاج مع حاجات الأهالي سيوزّع العمل ليقوم به كلّ من لديهم القدرة على العمل، وسيضمنون حياةً كريمة لكلّ رجلٍ وامرأةٍ وطفل. وأما تعليمُ الفرد، فبالإضافة إلى تحفيزه تنمية مَلكاتهِ، سيحاول أن ينمّي فيه حسّ المسؤولية تجاه أقرانه بدلًا من تعظيم السلطة والنجاح في مجتمعنا الحالي.

ومع ذلك فعلينا أن نتذكر أنّ الاقتصاد المخطَّط لا يعادل الاشتراكيّة. فمن الممكن أنْ يجاور الاقتصاد المُخطَّط بحد ذاته الاستعبادُ التام للفرد. إن إنجاز الاشتراكية يستلزم حلًّا لبعض المشاكل الاجتماعية-السياسية الشديدة الصعوبة: كيف لنا، في منظور مركزةٍ واسعة النطاق للسلطة السياسية والاقتصادية، أن نمنع تشكُّل بيروقراطيةٍ متجبّرة ومتغطرسة؟ كيف لنا أن نضمن صيانة حقوق الأفراد ونوفّر وازنًا ديمقراطيًّا لسلطةِ البيروقراطية؟

يتخذ الوضوح حول أهداف الاشتراكية ومشاكلها أهمّيةً قصوى في زمن النقلة هذا. ومذ أنّه تحت الظروف الحالية، أصبح نقاش هذه المشاكل بحرية ودون قيودٍ من كبرى المحرّمات، أعتبرُ تأسيس هذه المجلّة خدمةً عامةً مُهمّةً.

المصدر: منثلي رفيو

تعريب:

مراجعة:

Skip to content