مصر: الشعب، واللامبالاة، و«الكُرباج»

في سبتمبر 2019 أُسقِطَت صورة السيسي في ميدان عام، عندما خرجت العشرات والمئات تهتف ضد السيسي في القاهرة والمحلة والإسكندرية ودمياط والسويس. لم يستغرق الأمر سوى 6 سنوات. بعد أن خرج علينا طوال السنين السابقة سيل من العدميين الذين قرروا نبذ السياسة حتى يرتاحوا ويعيشوا حياتهم، والحقيقة أن الواقع هو من نبذهم. فكم مرة سمعنا بأنه لن يستطيع أحد الخروج على السيسي؟! سيدهسكم السيسي؟!

الشعب لن تقوم له قائمة، الشعب يحب حياة «الكُرباج»

واحدة من الجُمل الافتتاحية التي تعقب وصف حالة الصمت واللامُبالاة السائدة، وبالفعل نحن نعيش حالة من الصمت اللامُبالي للجماهير الذي يدل على استلابها ومدى السيطرة عليها، والحقيقة فإن تشخيص اللامُبالاة هذه يمثل مشكلة فقط لمن هم «في السُلطة» أو «الثوريين» الذين يريدون الاستيلاء على السُلطة. لماذا؟!

لأن الفريقين السابق ذكرهما يبني كل منهما تصوراته وخططه بناءً على ثنائية مبالاة/لامبالاة الجماهير.

فالسُلطة تتخذ قوانينها وإجراءاتها وتشريعاتها، وبناءً على صمت ولامبالاة الجماهير، تشرع السلطة في تمرير المزيد مما كانت تخضعه للظروف، وسياسة رفع الدعم وأجندة الإصلاح الاقتصادي برعاية صندوق النقد خير شاهد على ذلك. الخطة التي حُدِّدَ لها بدايةً مدة خمس سنوات، شرعت الحكومة بتنفيذها في ثلاثة فقط وفي وقت مكثف فائق للتوقعات – بحسب تصريح مندوبة صندوق النقد كريستين لاغارد. كل هذا كان بناءً على رد الفعل اللامبالي من الجماهير.

وفي الجهة المقابلة، يرى الثوريون تمرير سياسة تلو الأخرى، قمعٍ تلو آخر، وإهمال وتعسّف وغلاء معيشة وفساد متفاقم وجور ما بعده جور من السلطة بتبنّي خطاب أوحد ورؤية واحدة، ثم ينظرون إلى الجماهير، ويجدوها لا مُبالية، ولكنّ تلك اللامُبالاة الصامتة هي «سلاح الجماهير المطلق» بحسب تصريح جان بودريار، فيلسوفٌ يأس سابقًا من الجماهير والتغيير، ومن ثم زاد قولاً:

الجمهور، رغم عمليات المسح المتكررة، لا يصرح بهل الحقيقة مع اليسار أم مع اليمين؟! ولا يقول هل يفضّل الثورة أم القمع؟! الجمهور يستخدم صمته اللامُبالي كقدرة على التحمّل وكقدرة أخرى على تدمير كل أشكال السلطة.

ففي فترة ما كان الخطاب الشعبي العام عبارة عن نقاش حول السياسة: انتخابات مجلس الشعب، والدستور، وانتخابات الرئاسة، ومحاسبة نظام مبارك . . . إلخ، وقد امتدت تلك الفترة من 2011 وحتى ما قبل السيسي في 2013، واتسمت بالمدّ الجماهيري الذي إن لم يُعبَّرْ عنه على مستوى الفعل والحراك، فكان التعبير على سبيل الخطاب والتداول الإيديولوجي. وتلك الفترة بالرغم من قصرها إلا إنها كانت معبّرةً عن نضج الظروف الموضوعية والذاتية وقتذاك التي أنتجت حالةً ثوريةً عامةً، رغم ما سبقها من فترة انحطاطٍ وركودٍ ورجعيةٍ عاصرَتْ وجود مبارك وتراكمت على مدار ثلاثين عامًا: ثلاثون عامًا أنتجت وضعًا ثوريًا تراكم على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وذلك الوضع بدوره أنتج حالته الثورية التي عُبِّرَ عنها في 2011. والآن مصر ما بعد السيسي تعيش فترة انحطاط لا يضاهيها أحد، بتحوّل الخطاب الشعبي العام إلى كرة القدم ثانيةً وخناقاتِ رجال الإعلام، وطبعًا لا ننسى سطوة الترندات وتناول السقطات والفلتات التافهة والساذجة من جسم فلانة ولبس فلان وكلام علان. وكل هذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على انعكاس حالة الردة والانحطاط التي خُلقت من الجو العام للحكومة، حكومة الثورة المضادة التي همّشت المواطن بسياسات الإفقار والتجويع، وهمّشت السياسي بعزله وفصله عضويًا عن باقي السياسيين بالقمع والاعتقال والإعدام، وعن الشعب بالإلهاء والتأثير الإيديولوجي العام.

دروس سبتمبر 2019 

كان الجميع يترقب وينتظر مظاهراتٍ كبرى، وكل هذا الترقّب لم يكن مبنيًّا إلا على الآمال، لكن السياسة والعمل السياسي لا يمكن أن تبنى على الآمال وحدها، بل تبنى بدراسة جذر الأزمة ومطالعتها وتحليلها وفهمها وصياغة البديل، وبتحليل مجريات الأسبوع 20-27 سبتمبر، لا بد من أن نخرج بتوصيات عامةٍ يضعها كل مهموم بالتغيير أمامه:

أولًا: شاع التعامل مع فكرة «خروج الجماهير» إما بالنفي المطلق، كما تردد شلل العدميين الذين نفروا من الثورة والعمل السياسي وألقوا بأنفسهم في حضن المجتمع وتطلعاته وامتيازاته، وإما بالتأكيد المطلق، لدى مجموعات من الثوريين العفويين الذين تشكل الثورة لهم لحظةً حميميةً مليئةً بالحنين والذكريات والنوستالجيا، والفئة الأولى دحضها الواقع بتظاهرات الجمعة 20 سبتمبر، والفئة الثانية دحضها واقع يوم 27 سبتمبر.

ثانيا: شتّان بين مفهومي قيام ثورة وانتصار ثورة، ومخطئ من يظن أن قيام ثورة يستدعي فقط انتفاض الشعب، فلا يكفي من أجل الثورة أن تدرك الجماهير المظلومة أنّها لا تقدر على العيش بالطريقة القديمة، بل من الضروري أيضاً أن تغدو الطبقة الحاكمة عاجزةً على تسيير مصالحها بالنمط القديم.

هي معادلة طرفها المُستثمِرون والمُستثمَرون، وقد أوجز الثوري الروسي فلاديمير لينين تلك المعادلة بكلماته: إن الثورة مستحيلة بدون أزمة وطنية عامة تشمل المُستثمِرين والمُستثمَرين معاً.

ثالثا: الفترة القصيرة التي لم تتجاوز الأسبوع فضحت للجميع حالة «الفراغ السياسي» التي ركبها لصٌّ برجوازيٌّ شعبويٌّ من خلال دعاياتٍ مستمدة من قصة «النهب العام»، وعلى أثره نأت التيارات السياسية بنفسها، بتجميد نشاطها أو الارتماء في معسكر الدولة، ومنها من جنح للتمويه والاختباء، وهذا يحيلنا إلى أحد أهم مقومات الحدث الجماهيري: القيادة والمسؤولية السياسية، التي لم يضطلع حزب أو تيار أو حركة بها، وهذا يرجع إلى ظروفٍ موضوعيةٍ من الملاحقات والتضييق الأمني والاعتقالات التي طالت اليمين واليسار وغير المنتمين والصحفيين والحقوقيين، وظروف ذاتية تتعلق بالعمل السياسي نفسه الذي اتسم طوال فترة الثورة وبعدها بـ «الشللية» وافتقاده للناظم الحزبي والمنهجي والإيديولوجي.

الدرس الأكبر: القيادة السياسية

الشعوب دوماً في حاجة إلى قيادة، وفي اللحظات الحرجة في حياة الشعوب، تكون لحظات الهبّات والثورات تعبيراً عن فقدان الثقة في قيادة وضرورة توافر قيادة بديلة، وشعبنا المصري في لحظته الآنية يعبّر عن محنته الكبرى منذ 2011، فاستلم المجلس العسكري السلطة، وفي ظل ضغط قيادة سياسية فرضت نفسها على المشهد العام – الإخوان المسلمين – سلّمَ المجلس العسكري لها القيادة، وفشلت القيادة الجديدة، وأعني بـ «فشلت»: فشلت في أن تفرض وجودها بالقوة الموضوعية، واستلم المجلس العسكري القيادة باعتباره القيادة الموضوعية الوحيدة القائمة، واستمرّ في السلطة وتحايل عليها وواصل سلطته بالقوة وما زال يحاول الاستمرار بهذا النهج.

فحين خرج الشعب المصري بعفويته في 2011 – وعفويته هنا لها معني إيجابي يتعلق بتفجّر حالته، ومعنى آخر سلبي يتعلّق بغياب القيادة الحزبية وتأثيرها – وخرج بهتافه الشهير: «الشعب يريد إسقاط النظام»، هنا أنجز الشعب مهمته التاريخية بالانتفاض، وتبقّى على السياسيين والمشتبكين الثورين تحديد ملامح هذا الانتفاض، وملامح هذا المطلب الشعبي: إسقاط النظام.

ولأن السياسيين لم يكونوا على استعداد لبلورة مفهومٍ لإسقاط النظام: غابت المعالم الواضحة حول عدة مسائل أساسية: ما النظام المراد إسقاطه؟! وهل النظام يعني الدولة أم لا؟! وهل النظام مجرد آلة قمع بوليسية أم يمتد ليشمل القوات المسلحة وباقي أجهزة ومؤسسات الدولة؟! وهل النظام متجسّد في شخص أم مجموعة أم، بمعنىً أدقٍّ وأكثر تحديدًا، متجسّد في طبقة؟!

لذلك ما جرى في يناير 2011، وتحت ضغط اعتصامات الجماهير بميادين مصر وإضرابات الطبقة العاملة في فترة «الـ 18 يوم» الشهيرة، أدى إلى «إزاحة مبارك»، واستخدام «إزاحة» هنا لا ينفي فعل وتأثير الجماهير، لكنّه يمثل أيضاً فعل الطبقة الحاكمة نفسها لأجل احتواء المشهد.

هنا يبرز مفهوم «الثورة» الذي طرحته الكاتبة الإنجليزية لوسي ريزوفا: «إنها حالة تُعلَّق فيها الدولة أو تُوضع محلّ الشك».

وهذا الشكّ هو مغزى الأسئلة السابقة التي تكشف تموضع السياسيين والعاملين بالعمل العام، والذي على أثره تشكلت القماشة السياسية لفترة ما بعد الثورة حتى الآن. وتلك القماشة السياسية – سواءً الإسلام السياسي من إخوان وسلفيين، أو التيار الليبرالي والحقوقي والمنظمات المموّلة – لم يكن في تصورها مفهومٌ محددٌ لإسقاط النظام، حيث أن نفس هذا النظام الذي يريد الشعب إسقاطه – نظام مبارك – هو نفسه النظام الحاضن لترعرع جماعة الشاطر وحسن مالك التي عاشت على التمويلات الخارجية والتجارة والمضاربة الداخلية وممارسة آلية «الزيت والسكر» كمشروع سياسي اجتماعي لغزو البؤر الشعبية وحصد أصوات البرلمان وملء الفراغ الاجتماعي الذي خلفته دولة مبارك حيث تنامت العشوائيات والنطاقات الريفية التي كانت أرضًا خصبةً للخطاب الإسلامي.

ونفس هذا النظام الذي خلق مشاريع حقوقية حكومية وغير حكومية نشط فيها أبناء الطبقة الوسطى من المثقفين والليبراليين والنسويات صاحبات النزعات التحررية الفردانية والاستقلال الذاتي . . . إلخ، التي تربّحت من التمويلات والعطايا الأوروبية والأمريكية، التي في حالة الفراغ السياسي جسدت شكلًا للمعارضة الصورية تحت مسمى «المجتمع المدني»، الذي يستبدل منظمات الجماهير الشعبية كالنقابات والمنظمات الفلاحية والأحزاب العمالية والسياسية، لصالح المنظمات المرتبطة بمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) والأونروا وغيرها من المنظمات غير الحكومية (NGOs).

مصر 2020

في 2020، وفي ظل حالة الحجب والتعتيم واحتجاز المصريين في واقع يطوله البؤس المعيشي والسياسي، وحالة الاستقرار الزائفة المرسومة من السلطة الحاكمة من خلال قمع واعتقال ومصادرة الرأي العام، والتكتيم عن انتفاضة الشعب السوداني والعراقي واللبناني وتهميش الصراعات الإقليمية الكبرى: فلسطين وسورية واليمن – كل ذلك همّش قضية الثورة وأفق التغيير وحصرها في مجموعة من الأشخاص ذوي الثقافة والمطالعة وفصلهم عضويّاً عن كل أفق للتواصل والعمل السياسي. كما تم تفريغ كل المحتوى السياسي لمرحلة ما بعد يناير 2011 وحصرها إما في مخطط هدم الدولة الإخوانية أو مخطط الحفاظ على الدولة العسكرية/الوطنية، وتدعيم الرأي العام بمخططات الجيش في بناء الدولة، من بنية تحتية ومشاريع تنموية وسكنية بإشراف الجيش.

إلا أن ما سعت إليه السلطة على مدار السنوات الماضية في تخويف المواطنين من السياسة والحديث عن أحوالهم ومآل حياتهم، أتى بنتيجة عكسية، ففي أثناء كتابة هذه السطور تعيش بعض قرى ومناطق الأرياف حالة قصوى من الاستنفار جرّاء بعض المظاهرات ضد الحكومة، نتيجة القرارات الاستفزازية الأخيرة المتعلقة برسوم التصالح على البناء، التي ستُغرّم ملايين الأسر المفقرة والمُحمّلة بعبء المعيشة والاحتياجات الصعبة المنال فوق طاقتهم أكثر وأكثر، في حين تعيش الحكومة في حالة عامة من إنكار الواقع تُسيَّر من خلالها آلة إعلامية تديرها المخابرات وهيئة الشئون المعنوية تُعلن عن بناء دولة أخرى بعاصمة إدارية جديدة وعشرات المدن الجديدة على أعلى مستوى الجاهزية تبدء الأسعار بها بداية من 900 ألف جنيه، في حين تقع على أطراف المدن آلاف العشوائيات التي تفتقد إلى الخدمات والمياه والطرق الممهدة والكهرباء والصرف الصحي، ولا تصرف بضعة آلاف لتقنين أوضاعهم.

لربما سيخيّم الهدوء مرةً أخرى، لكنّه هدوء مختلف، مليء بالريبة والترقب والتساؤلات، عكس هدوء الفترة السابقة الذي كانت سمته الأولى: اللامُبالاة. هذا الهدوء الذي عكر صفوه مآلات الواقع من الوباء العالمي والتبعات الاقتصادية التي تلته من غلق الأسواق وتسريح العمالة، وفواتير الإصلاح الاقتصادي التي أثقلت ظهور المصريين من إزالة الدعم وتقليل الإنفاق الحكومي العام وخصخصة الأعمال والتعليم، وصولاً إلى غرامات التصالح والتهديد بالإزالة والهدم وقطع المرافق. وفي ضوء ذلك تعيش قطاعات كثيرة من المصريين على هامش الحياة، فاقدةً كل الثقة بالمجتمع والدولة، وقطاعات أخرى تعيش في قلق دائم لتحظى بأمانها المؤقت الذي ليس إلا نتيجة خوفها المستمر.

بالنهاية اختم مقالتي بخبر يحمل الكثير والكثير عما نعيشه في مصر حيث استشهد ثلاثة مواطنين قتلهم رصاص قوات الأمن أثناء فض مظاهرة بمدينة العياط محافظة الجيزة بتاريخ 25 سبتمبر 2020.

Skip to content