أن نموت ألف مرّة: كوفيد-19، الرأسمالية العرقية، والعنف المعادي للسود

مقدِّمة المترجمة:

أدناه مقال لجغرافيّين راديكاليين، يستخدمون عتادهم العلمي لتوضيح الروابط بين طرق الموت المتعدّدة التي تفرضها الرأسمالية العرقية، أي تلك التّي تعيد خلق نفسها وإنتاجيتها من خلال الاسترخاص العنصري، وتحديدًا من خلال معاداة السّواد، إمّا بجعلهم وقودًا لماكينات الاقتصاد أو بمراكمتهم وتسليعهم. إذ تقوم الرّأسماليّة العرقيّة بهندسة علاقاتيّة البيئة والإنسان والسوق لخدمة تراكم الأرباح من خلال تهميش وتسهيل الاستغناء عن حيوات الفئات المهمّشة المعرقنة والعاملة سهلة، بإضفاء قيمٍ تبادليّةٍ على حيواتهم، ومن خلال قتلهم الممنهج. وفي إطار جائحة الكوفيد-19، هؤلاء أكثر عرضة للوباء الذي سهل تكوّنه أو انتقاله من الحيوان إلى البشر وانتشاره من خلال انفتاح السوق العالميّة، بمفعول الرّأسماليّة. فإن لم يقتلهم الوباء، سيقتلهم عنف الشّرطة والمنظمة السجنية، وستقتلهم تفرقتنا بين قضايا البيئة والصحة والإنجابية والعمل. وهذه دعوة للتفكر فيها سويّة.

يستند هذا المقال على تاريخ طويل من الإلغائية، أي الحركات المطالبة بإلغاء المؤسسات والممارسات العنيفة والقاتلة، من العبوديّة وعقوبة الإعدام والمؤسسات العقابيّة عامّة. يبقى علينا في مناطقنا النّاطقة باللغة العربيّة أن نستكشف وجوه العنصريّة العرقيّة كما أُنتجت وتراكمت في سياقاتنا، وأن نقرأ لكتّاب سود ونبحث عن سِيَرهم لكي نستطيع تخيّل العدالة بحقّ، بطرق تضرب جذورها في واقعنا، خصوصًا عندما يدور النّقاش أو التّنظيم في سياق شمال إفريقيا. فلا يمكننا الحديث لا عن عروبة عبروطنيّة ولا عن أفريقويّة عابرة للأوطان، ولا عن أيّ منهجيّة أو رؤى تنظيميّة أخرى عابرة للحدود، دون مسائلة أنفسنا عن العنصريّة والرّأسماليّة العرقيّة التّي كوّناها ونعيشها، في شبهها واختلافها مع تلك التّي نستخدم وجودها في أماكن قصيّة من تاريخ العبوديّة لتبرئة ذواتنا.

رغم اهتمام النصّ بمعاداة السواد في الولايات المتحدة الأمريكية وعلاقته بالرّأسمالية والصحة العامة أو قرار الاقتصاد في منع الحياة عن البعض أو تعطيلها، أملي أن يكون المقال المترجم فرصة لتوسيع فلسفتنا في التّنظيم العابر للحدود من أجل عدالة شاملة لا تعتمد نظريّات إصلاحيّة خطيّة.

  بداية النص 

«تتمثل الكارثة في أن الأمور تستمر على حالها. ليست الكارثة فيم يدنو بل فيم هو قائم الآن. وبحسب سترندبرغ: ليس الجحيم أمرًا يتربص بنا في قادم الأيام، بل هذه الحياة هنا. أما الخلاص فيعتمد على الشرخ الصغير في الكارثة المستمرة». – فالتر بنيامين، سنترال بارك

تشير الأحداث العالمية التي توالت واحدةً تلو الأخرى إلى كل من الانحلال النظامي وانتشار الوعي بأن النماذج البديلة ممكنة وضرورية. فالموجة الأخيرة من الاحتجاجات على شرف جورج فلويد، وتوني مكديد، وأحمد أربيري، وبريونا تيلور، وديفيد ماكتي، وعدد لا يحصى من أرواح السود والسمر الأخرى التي رحلت بسبب إرهاب الدولة في الولايات المتحدة وخارجها، لا تنفصل عن القلق من الحرائق الناجمة عن التغير المناخي في أستراليا (والبرازيل وسيبيريا في السنوات الماضية)، والصدمة الناجمة عن رفض الدولة الاستجابة لفيروس كوفيد-19. فنحن نرى عنف الرأسمالية العرقية يتمظهر في أماكن عدّة، من تحيته على زاوية شارع معين في مينابولس إلى الموضوعات الضخمة – المناخية والوبائية – التي لا تقيّدها إحداثيات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS).

تتفاعل أنماط الفشل. تستخدم مليارات الدولارات من أسلحة الشرطة المُعَسْكَرة تستخدم ضد المواطنين العزل يكدح في حين يعمل عمّال المستشفيات دون معدات واقية وأجهزة تنفس. يخنق ضابط شرطة رجلاً أسودَ حتى الموت تحت زعم استخدامه ورقة نقدية مزيفة بقيمة 20 دولارًا، في حين يعاني الملايين من تفشي الجوع وتردي الرعاية الطبية ويحوم عليهم شبح الإخلاء من البيوت، وكل ذلك برعاية من الدولة. في بلدٍ أنكر شدة الفيروس لأشهر وطبق الحجر الصحي بلا اتساق (حيث طبقه أصلًا)، عبأت الدولة أجهزتها البوليسية تعبأةً كاملةً لقمع الانتفاضات السياسية في غضون أيام معدودة، مُظهِرة بوضوح أولوياتها السابقة والحالية. «لا أستطيع التنفس» لها معنى مزدوج في اللحظة السياسية الحالية. يهاجم كوفيد-19 بشكل غير متناسب رئات الأشخاص السود المعرَّضيْن والمعرّضاتِ له اتساق (بسبب الوقاية الرديئة، في حين تستمر رُكبة الدولة السجْنيّة في قطع الهواء عن الجسد الأسود. الذات البيوسياسية المثالية المنعزلة في مكانها – العامل المرن المشتغل عن بعد في منزله الضاحوي مكتبٌ خاصٌ به وهو أبيض بلا شك – هو نفس الذات التي يحميها جهاز الشرطة الذي يكرس المزاعم الاستيطانية بالمِلكية والاستطباق المعاصر. في هذه اللحظة، يتقاطع مسار مطالب إنهاء الرأسمالية العرقية الظاهرة في الاحتجاجات المناهضة للشرطة والهجمات ضد الرساميل الخاصّة، مع مسار كوفيد-19 المستمرّ والمعرقل للتجارة العالمية الذي وضح بطريقة فجّة عدم اكتراث الرأسمالية النيوليبرالية بالحياة البشرية على المدى الطويل.

بينما تبدأ البلدان في جميع أنحاء العالم بإعادة فتح اقتصاداتها وحدودها، مدعومة بعمليات إنقاذ رأسمالية الكوارث للأثرياء، نتذكر أن النظام العالمي الحالي للمديريات المتشابكة هو برنامج اشتمالي. فالرأسمالية «كمشروع، تسعى إلى خلق عالمٍ على صورة رأس المال، حيث جميع عناصر الطبيعة، البشرية وغير البشرية، قابلةً لمبادلة بشكلٍ فعّال» (مور 2015، 204). ومع ذلك، ليست العمليات البيولوجيةُ خاملةً، والخلطُ بين قيمة الاستخدام التي تحددها نظمٌ بيئيةٌ محدّدةٌ محليًّا وقيمة التبادل القابلة للمقايضة عالميًا يخلق وحوشًا فيروسيةً مرارًا وتكرارًا. فالاستثمارات الدولية في الإنتاج الصناعي للخنازير، والضغوطات المالية على المنتجين الزراعيين التي تؤدي إلى تفاقم الصيد الجائر للحيوانات البرية وتسليعها، والتنمية الحضرية والصناعية التي تقسّم النظم البيئية للمزارع والغابات، كلها اجتمعت فخلقت بوتقةً انتقالُ العدوى من الحيوان إلى الإنسان فيها منتشرٌ كالحريق في الهشيم – وفي بعض الحالات حرفيًّا مع الحرائق.

كانت الشروط المسبقة اللازمة لوباء عالمي في طور التكوين، فالطفوحُ الفيروسي من الحيوان إلى الإنسان كان ميزةَ الأمراضِ الفيروسية الرئيسة للخمسين عامًا الماضية (فيروس نقص المناعة البشرية والإيبولا وإنفلونزا الخنازير والسارس من بين أخرى). ومثل هذه الأمراض تمتدُّ كطيفٍ يمتد من شبه-جوائح إقليمية إلى جوائح حقيقية تتنوع فيها معدلات الإصابة ونسبُ الوفيات. ومع ذلك فحوادث الطفوح تكاد تظهر في كل الأماكن التي استثمر فيها رأس المال العابر للحدود في المزارع الكبرى والإنتاج الحيواني المُركّز والبنى التحتية الحضرية القائمة على المحو المستمر لسبل العيش الريفية. فبينما الخزانات الفيروسية في الغابات التي لم يسبق وعبث بها رأس المال لم يكن لها صلةٌ بشريةٌ تُذكر، فَمجانسة البيئات الطبيعية وربطها في جميع أنحاء العالم يعمّمان أحداث الطفوح إلى مستوىً كوكبيٍّ.

عند إنشاء نُظُمٍ بيئية-اجتماعيّة جديدة، تتشكل طبيعاتٌ طافرةٌ عليها بصمات المنطق الرأسمالي – من الصفوف المنظمة للمزارع الكبرى إلى تأشيب الحمض النووي الريبي الفيروسي نفسه. وأنظمة التجارة الدولية والدوائر العالمية لرأس المال تعمد على تشكيلِ «طبيعاتٍ اجتماعية مجرّدة» من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر في الزراعة وتمويل سلسلة التوريد واقتلاع الغابات والتطوير وتشكّل بحد ذاتها طبيعاتٍ اجتماعية مجردة. وهذا يعني أن كوفيد-19 هو في حد ذاته نِتاج طبيعةٍ رأسمالية تجريدية تشكَّلت عبر تطبيق الأدوات العلمية المرتبطة بالأشكال الإمبريالية للتنظيم والعنف، ما يؤدي إلى التداخل المتبادل للطبيعة في الرأسمالية والرأسمالية في الطبيعة. راهنت سلالات السارس المصدرية على رحلاتٍ دامت عقودًا من الزمن عبر الحيوانات المستأنسة والبرّية المحبوسة المكتظة المشهد الاقتصادي الزراعي لِجنوب الصين وَوسطها حتى نتجت سلالة سارس-كوف-2، فيروس كوفيد-19، وغدى ينتقل من إنسان إلى إنسان وشقّ طريقه إلى ووهان والعالم. إنّ حدوث انتقال فيروس كورونا مستجدٍّ من حيوانٍ إلى إنسان في سوقٍ ريفية في الصين ليس مشكلةً كتلك. فالبنية التحتية للطرق السريعة للجائحة هي شبكاتُ الترحال والتجارة الواسعة التي تربط ووهان بشنغهاي ولندن ونيويورك وما وراءها.

أنتجت التناقضات الإيكولوجية الرأسمالية كوفيد-19 وخلقت دوائرًا لانتشاره العالمي. فكما لاحظ ماركس، تنفّر الرأسمالية الإنسانيةَ وتسلّع الناس في قوةٍ عاملة تكدح لتوليد فائض الربح. وبمرور الوقت، أدى تدهور الآثار الارتدادية الإيكولوجية وتلوث التربة والهواء والماء إلى خلق بيئات شديدة السُمّية بحيث تنحصر قابلية الحياة في البكتيريا وغيرها من الكائنات أليفة الظروف القاسية. وهذه الشروخ لم تغرِّب النشاط البشري والطبيعة فحسب، بل وحتى الاستقصاء الفكري نفسه. فلا عجب إذن في أنّ التصدي لكوفيد-19 يحتوي تكاثرًا للثنائيات التي تميز بين صحة الإنسان والاقتصاد. فعلماء الزراعة يركزون على كفاءة سلسلة التوريد أكثر من التركيز على التنويع الإيكولوجي، وتتنافس المراكز الصحية الربحية على تسجيل ملكية اللقاحات في حين الأنظمة الصحية المجتمعية في انهيار. وبينما العديد من علماء الأحياء الجزيئية سيعملون على تحديد موقع الحدث المعين في السوق المعين الذي تسبب في سقوطنا في العدوى، فالصورة الأكبر للدوائر العالمية لرأس المال والأنظمة المتفتتة للصحة العامة وأنظمة دعم الحياة البيئية المُخلّ بها. وهذه حروب النفوذ الأكاديمية التي توجه دراسة مسببات الأمراض الناشئة لا تضع في خانة المستحيل تتبّعَ العوامل النظامية التي تؤدي إلى ظهور كوفيد-19 من خلال الأحياز الجديدة للتصنيع الرأسمالي فحسب، بل وحتى تتبع السلاسل الطويلة للانتقال التي تهبّ وتتشتت عبر المستشفيات والسجون ومصانع تعبئة اللحوم ودور رعاية المسنين – وهي نفسها تشكل حكايات للتطور الرأسمالي غير المتكافئ.

بينما بإمكان الشروخ الأيضية والديناميكيات المتداخلة للاغتراب أن تساعد في تفسير الشروط البيئية التي ينتشر من خلالها كوفيد-19، فإن المعاناة غير المتكافئة يشكلها زمنٌ طويلٌ من العنف العنصري، وتحديدًا معاداة السواد، التي تظل «شرطًا مسبقًا ضروريًا لاستمرار الرأسمالية» (بليدسو ورايت 2018). تُظهِر عدسةٌ للرأسمالية العرقية كيف يسافر كوفيد-19 على طول تضاريس حفرتها أشكال اللامساواة والعنف المنظوميّة التاريخية والمستمرة التي تراكم الثروة من خلال معاناة الأشخاص السود والسّمر والسكان الأصليين. وها قد ظهرت بقضّها وقضيضها الصبغة النيكروفيليّة للرأسمالية وتقديمها النمو الاقتصادي على الحفاظ على الحياة البشرية بمستويات. إنّ المقاومة المتقدمة بقيادة السود والسكان الأصليين في وجه حملة الموت العنصري للرأسمالية، مقاومةٌ أشعلت انتفاضاتٍ ضخمةٍ في جميع أنحاء العالم وبناء أنماطٍ مستقلة للرعاية مع التركيز على سياسات إلغائيّة ومناهضة للاستعمار، هي من أحياز الأمل القليلة في هذا الزمن.

يستلزم كوفيد-19 أن نسأل: كيف تعمل الرأسمالية العرقية كعملية حيّزية وبيئية؟ (رايت 2018) الاختلاف العرقي جزءًا لا يتجزأ من منطق الرأسمالية، وبالتالي علينا تتبع كيف يتخذ ميل الرأسمالية للتفرقة شكلاً حيزيًّا، خاصة في المشهد الجائحي. فالقسوة الشديدة التي تظهرها جائحة كوفيد-19 ليست جديدة، لكنها تسلط الضوء على أراضٍ حيوية ونيكرو-سياسية للرأسمالية آخذةٌ في التكون منذ وقتٍ طويل. ومع ذلك، يكشف الفيروس أنّ هذه الديناميكيات في حالة تغير مستمر حيث يجاهد رأس المال لإعادة إنتاج نفسه ويقيم تحالفاتٍ غير مستقرة مع الدولة. والآثار الاقتصادية المتنامية لكوفيد-19 التي لم تتحدد بعد – كتعطيل شبكات الخدمات اللوجستية الآنية والإفلاس الحكومي وركود التجارة الدولية والفقدان الهائل للوظائف – تكشف استحالة فهم جدلية المراكمة والأزمة دون معالجة قصص العنف الوحشيّ العنصري. ها هي الجائحة تفضح أجيالًا من العنف العنصري والقمع والظلم البيئي.

في الولايات المتحدة، يموت الأشخاص السود بمعدل أعلى بثلاث مرات من السكان البيض (بل ويصل إلى سبعة أضعاف في بعض المناطق)، ما يفضح القاعدة القاسية لنظامٍ اقتصاديٍّ نيكرو-سياسيٍّ قائمٍ على الاختلاف العرقي و«إنتاجُ العُرْضَة المُفرَّقة فئويًّا للموت المبكر واستغلالها إمّا بمصادقةٍ من الدولة أو خارج إطار القانون» (جيلمور 2007: 247). عزى مسؤولو البيت الأبيض ارتفاع معدل الوفيات للسود إلى مفاقمة فيروس الكورونا للحالات الطبية الموجودة مسبقًا مثل السمنة ومرض السكري. ولكن هذه «الأمراض المصاحبة» تشتبك مع تاريخٍ أطولٍ من العنصرية البيئية واللامساواة في توفر الرعاية الصحية، يزيد من احتمالية وقوع مضاعفات خطيرة من الفيروس أثناء انتشاره على طول «البنية التحتية المميتة» (فريشور وويليامز 2020) الواقعة تحت فرط التحديد العرقي. لقد أدت أجيال من التعرض لنوعية الهواء الرديئة والصحاري الغذائية والفصل العنصري الطبي والصدمات الاجتماعية والعاطفية الجماعية لإرهاب الدولة إلى إصابة السود وغيرهم من الأشخاص الملونين بمعدلات عالية من الربو وارتفاع ضغط الدم والسكري وأمراض القلب وغيرها من الحالات الحرجة التّي تؤدي إلى نقص المناعة وتضاعف احتمالات الوفاة عند الإصابة بكوفيد-19. ويمكن أن يؤدي عزل المرض إلى تجمّعاتٍ سكنية محددة باعتباره بلاءً انتقائيٌّ اجتماعيًّا إلى خلق ظروف من العزلة والإهمال والبؤس التي تؤدي بدورها إلى تفاقمِ معاناةٍ لا مبرر لها. والجهود المبذولة لربط العرق بالمؤشرات الاجتماعية-الاقتصادية، وإظهار كيف يحدّ الإجهاد المزمن الاستجابة المناعية للجسم، ومحاربة وصمة العار الإضافية على المناطق الجغرافية التي تعتبر بؤرًا للجائحة، كلها جوانب مهمة للاستجابة العادلة.

لطالما ابتليت الصحة العامة بمحاولاتِ إضفاء طابعٍ بيولوجيٍّ على الفروق العرقية والجندريّة. فالجسم مسيّسٌ وحاجاته مُسيَّسةٌ، بحيث تُعتبر عمليات الإجهاض والرعاية الصحية للعابرين والعابرات كماليّاتٍ غير ضرورية (أو تُحظَر جملةً وتفصيلًا) في حين تستمر الفحوصات اليومية للسكان الأثرياء في الأحياء المسوَّرة والأحياء الغنية. وأمّا خطاب «العمّال الأساسيين» فهو لا ينفصل عن الجوهرانية المُعَرْقَنَة التي تعتبر بعض الأجساد بطبيعتها ميّالةً إلى الخطر والموت المبكر. وبينما يُشاد بالعمال «على «تضحياتهم»، فواقع الحال هو أنّهم يضحَّى بهم» (مجموعة سالفاج التحريرية 2020). إن فئات الطبيعة ورأس المال والجسد ليستٍ فئات ثابتة على الإطلاق وتُعادُ صياغتها باستمرار من خلال عمليات التصنيف العرقية. فالعرق يطبّع الشروطَ البيئية ذات الآثار المبنية اجتماعيًّا، في حين أن الاحتكام إلى الطبيعة يطبِّع الاختلافات العرقية الناتجة عن الظلم الاجتماعي والاقتصادي والتاريخي. و«طبيعية» الفيروس تعتم على الشروط البنيوية الأساسية لما أحدثته النيوليبرالية من سحب الاستثمار من الصحة العامة حيث يتفاقم الاختلاف العرقي.

إن البؤر الفيروسية مثل مصانع تعبئة اللحوم ودور رعاية المسنين المنعزلة والسجون الريفية التي تأوي سكانًا حضر كلها متشابكة في سلسلة من «الإصلاحات» الاجتماعية والبيئية الموجودة سلفًا لحلِّ أزمات الرأسمالية العرقية. فصناعة اللحوم لطالما استندت إلى ممارسات العمل التعسفية التي تستهدف المهاجرين غير المسجلين، وهي، في حد ذاتها، بيئةٌ ناقلة للمُمْرِضات من بكتيريا وفيروسات. وإقامةُ قطاعٍ صناعيٍّ للحوم الذي أدى إلى إبادة جماعيّة للخنازير والدجاج، بسبب الإغلاق المؤقت للمعامل وظروف العمل غير الآمنة التي أدت إلى تفشي كوفيد-19 بين البشر، كان لها أهمّيةٌ مركزيةٌ في تحقيق مكاسب هائلة لكبار شركات اللحوم والشركات الزراعية في العالم. وفي الآن ذاته، في هذا الظرف التاريخي لتاريخ المُمْرِضات والإنسان، تكشفُ مطالب إلغاء الشرطة والسجن تناقضات الدولة الكينزية – التي لا تفتأ تتقلّص منذ زمن – التي حولت الموارد إلى جهاز سجنيٍّ ضخم أثناء سلخها التعليم والصحة العامة والخدمات الاجتماعية صيانتها للشرعية من خلال الترويج للمخاوف العرقية (جيلمور 2007). والمشكلة لا تقتصر على أنّ الفيروس يستشري في سجناء أمريكا – وعددهم هو الأكبر في العالم –، وللأشخاص السود والسمر نصيبُ الأسد في المحبوسين على خلفية جنحٍ غير عنيفة بل يضاف على ذلك أنّ التحويل التاريخي للموارد إلى السجون والشرطة قد أحال نظام الصحة العامة إلى الإفلاس والرداءة. يستحكم كوفيد-19 ويسبب المعاناة بشكل متفاوِت في مشهد تشكل فيه الرأسماليةُ العرقيةُ الكياناتِ البيولوجية وسيرورات العمل والتمييز في الممارسة الصحية والتعليم والرّقابة البوليسية، رأسماليةٌ عرقيةٌ إن لم تقتل جورج فلويد على يد الشرطة، كانت ستحبسه في السجون التي صارت بؤرةً لكوفيد-19.

ومع ذلك، لا يمكن تفسير الأبعاد العرقية لكوفيد-19 بالكامل من خلال عدسة الرأسمالية العرقيّة التي تقوم فيها الدولة ورأس المال بحلّ الأزمات من خلال إخضاع الأجساد غير المستحقة. يوجد أيضًا «اقتصاد ليبيديّ» (ويلدرسون 2003) معادي للسّواد وتضرب جذوره في العبودية، يتضمّن «الرغبة في الأجساد السوداء ومراكمتها» (239). فمن ناحية، توسّع التدابير الاستباقية التي تتخذها الطبقة العاملة من جماعات السود واللاتينيين/ات والسكان الأصليين/ات لحماية نفسها وتوسيع شبكات التعاضد المتبادلة والحد من انتشار الفيروس، متحدّية بذلك المنطق الكامن للسيطرة الفاسدة والقهر والماسوشية التي تعتمد عليها الرأسمالية العرقية. ومن ناحية أخرى، بالنسبة لقطاعٍ واسعٍ من السكان البيض المستوطنين المقتنعين بِحُلم الرقيِّ الفرديّ بعيد المنال ودائم التآكل، فإن مثل هذا العمل الجماعي يعادل فقدان الخيار الشخصي والحرية الفردية.

 مع تبخر «حريات» المراكمة والرقيّ الشخصي الضئيلة والقائمة على البترول، تُغذَّى الاختلافات العرقية. فيصبح الاقتصاد (الأبيض) شيئًا مرنًا وشبقيًّا يجب حمايته بأي ثمن في وجه كلّ الأعداء الخارجيين – كوفيد-19، مُنظمة الصحة العالمية، «المحرضون الخارجيون» – وبالتالي تُبرّر عمليات إنقاذ الرّساميل، وتعريض الناس بشكلٍ متفاوت للأخطار في السجون، ومعامل تعبئة اللحوم، والمباني السكنية المكتظة، وعنف الشرطة ضد المتظاهرين. والديماغوجية السياسية تحجب أصول الفيروس عن نظر الناس بتوظيف الأكاذيب المعادية للأجانب وحسّ القومية الوطنية الذي يحبط الجهود الدولية لاحتواء كوفيد-19 ودراسته. وعليه، تُعرقَل التجمُّعيّات الفقيرة والعاملة اللازمة لإحباط الجائحة ومعالجة الظلم الاقتصادي والعرقي المستمر. فالأشخاص السود والسّمر لا يضحى بهم فقط من أجل المراكمة الاقتصادية في مستودعات أمازون ومحطات مترو الأنفاق، بل إنها تشكّل خيالًا موضوعيًا ذليلًا ومنحرفًا يُعرِّفُ البياض نفسَه ضدَه أثناء تخبّطه في عالم أعاد تشكيلَهُ فيروسٌ صغير. يرى المرء على الوجوه المصوّرةِ لِديريك شوفين – قاتل جورج فلويد – واليمينيين المنتشرين في مظاهراتٍ شعبيةِ المظهر نخبوية الأصل وهم يطالبون الولايات الأمريكية بإعادة فتح الأبواب لِكوفيد-19، الاعتقاد الاعتيادي بأن من صلاحيّاتهم إنزال الموت على غير البيض متى ما لاءمهم ذلك.

في هذه اللحظة من اللاحتميّة وتراكم الموت اليوميّ والانهيار الاقتصادي، يكون الاندفاع المضاعف للعودة إلى الوضع «العادي» أمرًا مؤسفًا رغم كونه مفهومًا نظرًا للانقسام الزائف الذي تفرضه دولة ذات طابع طبقي معين. لقد بنت الرأسمالية شكلًا من أشكال الحياة الجهنمية قبل كوفيد-19، كما أن مواجهتها المرتجعة والرجعية للعقبات البيولوجية تطلق أشكالًا جديدة من المعاناة. ومع ذلك، فإن العودة إلى الوضع «العادي» لن يؤدي إلا إلى أنْ يسحقنا التاريخ الذّي أدى إلى ظهور الفيروس وعواقبه. تتحرك الرأسمالية بالفعل وتتكيف لاحتواء تداعيات كوفيد-19، فقد استخدمت شركات التكنولوجيا الاحتكارية فيروس كورونا كفرصة لتوسيع الخدمات عبر الإنترنت وتطبيع خصخصة التعلم عن بعد والمراقبة باسم الصحة العامة، وتحت ستار إنقاذ التعليم العالي والخدمات البلدية وأنظمة الرعاية الصحية، يطرح السياسيون والنخب التجارية مرةً أخرى خططَ التقشف كما لو أنّ شيئًا تبقّى بالإمكان التقشف فيه. ولكن الجائحة بالتأكيد لا تحمل نزعة غائية نحو «النسخ الديالكتيكي للأزمة الاجتماعية-الوبائية» (والكر 2020)، بل كشف الجائحة عن أزماتٍ غيرها، عددها لا يحصى، ما يلقي بجزءٍ كبير من العالم في حالة من التعليق الزمكاني وإلى المرحلة التالية من مراكمة المراقبة.

ومع ذلك، فقد فتحت الانتفاضات الجماهيرية التي تربط بين كوفيد-19 وجرائم القتل التي تمارسها الشرطة في العنف الطالح للرأسمالية العرقية «شقًّا صغيرًا في الكارثة المستمرة». والمقاومة من خلال أعمال الشغب والنهب وشبكات المساعدة المتبادلة، وحفلات الرقص، وتحدي حظر التجول، واستصلاح الفضاء العام، إلى إعادة توجيه قطاعات واسعة من اليسار نحو الإلغائيّة وتجسيد سياسات التضامن القائمة على مناهضة العنصرية ومناهضة الرأسمالية. وفي هذه اللحظة التي فضحت لاشرعية الديمقراطية البرجوازية، شكّل الناس شبكات دعم تتراوح من الدفاع عن النفس الجماعي إلى خدمات الصحة النفسية. وفي سياق انتفاضة مينابولس «شُكِّلَت ذاتيّاتٌ جديدة، وَعُلِّقَت قواعدُ لغةِ النظام الاجتماعي، ما سمح بترتيبات جديدة واستقصاء أشكال جديدة للتضامن» (ديريكسان 2020). ففي هذا الوقت الحانيّ، في نفس الجحيم الذي «ليس شيئًا ينتظرنا، بل هو هذه الحياة هنا»، تُصاغُ الاستجابات للتناقضات الاجتماعية والبيئية للرأسمالية العرقيّة وتُجرَّب بكل ما تحمله هذه الاستجاباتُ والتجارب من فوضى.

على نطاق أوسع، كان لتقاطع الجائحة مع الصور الصارخة المتكررة لعنف الشرطة والتداخل العميق بين القوة الفاشية والموت الفيروسي المبكر بسبب العرق – إذ تنصهر استعارات «طاعون» كامو في بعضها البعض في هذه اللحظة – كان لهذا التقاطع أن يكشف أنّ كوفيد-19 لا ينفصل عن الهياكل السجنية للرأسمالية العرقيّة التي تلحق العنف على أجساد السود. سواءً كان الاختناق ناتجًا عن قبض الشرطة على قصبة جورج فلويد الهوائية أو عن رشِّ الفلفل على ناشط محتجز في زنزانة محكمة الإغلاق في زمنٍ تتفشى فيه فيروسٌ تنفسيٌّ حادُّ العدوى فلن يغفله ملايينٌ ممن فقدوا وظائفهم وما توفر لهم من رعايةٍ صحية في نظام مصمّم للمحافظة على حدٍّ أدنى من الحياة أو على موت حيّ. فكما أظهر التعليق المؤقت لحق الطعن في شرعية الاحتجاز أمام محكمة في نيويورك، وتحويل مركز المؤتمرات في لوس أنجلوس إلى قاعدة لمكافحة التمرّد في غضون ساعات، وقمع المتظاهرين من قِبل القوى الأمنية المحلية بتنسيقٍ مع قوى الولاية والقوات الفدرالية، والتجاوز المتطرف وغير القانوني الذي تعتمده الدولة لسحق أي تحدٍّ لاحتكارها للسلطة. وبالنسبة للدولة، تُعدُّ المظاهرات الجماهيرية الطاعنة في شرعية النظام الرأسمالي العرقيّ تهديدًا أكبر بكثير من جائحة تصيب ملايين الناس.

بصفتنا جغرافيين راديكاليين، عملنا هو تسليط الضوء على الشقوق في الوقت الحاضر والترويج لها، والعمل جنبًا إلى جنب مع جهود الخطوط الأمامية وخدمتها لمحاربة كوفيد-19 وعنف الشرطة سويّةً في أغلب الأحيان. فالفحص الفكريّ للرأسمالية العرقية والنضال ضدّها لا ينفصلان عن حلّ التناقضات الإيكولوجية التي أنتجت ونشرت كوفيد-19، ما تسبب في ضرر فائض ومتفاوتٍ وغير مبرر. فبينما تنشرُ الجامعات بياناتٍ عن التنوع العرقي، في حين نراها تمضي قدمًا في خطط إعادة الافتتاح التي تسرع من المعاملة الافتراسية للطلاب وأعضاء هيئة التدريس والعمّال، فإنه يتعين على قراء وقارئات هذه المجلة التصدّي إلى ترياق الأمن المستقبلي وإحباطه لصالح نهج مشترك وجماعي للنضال من أجل الكرامة ولأوسع فهمٍ لِصحة المنظومة الإيكولوجية.

المصدر: مجلة Human Geography.

Bledsoe A and WJ Wright (2018) The anti-Blackness of global capital. Environment and Planning D: Society and Space DOI: 10.1177/0263775818805102

Derickson K (2020) Let This Radicalize Us: After the Minneapolis Uprising. Verso Blog. Available at: https://www.versobooks.com/blogs/4741-let-this-radicalize-us-after-the-minneapolis-uprising, accessed 15 June 2020.

Freshour C and B Williams (2020) Abolition in the Time of Covid-19. Antipide Online. Available at: https://antipodeonline.org/2020/04/09/abolition-in-the-time-of-covid-19/, accessed 26 May 2020.

Gilmore RW (2007) Golden Gulag: Prisons, Surplus, Crisis, and Opposition in Globalizing California. University of California Press: Berkeley.

Moore J (2015) Capitalism in the Web of Life. Verso: New York.

Salvage Editorial Collective (2020) The Covid State: Dispatch Three from a Changing World. 21 May, Available at: https://salvage.zone/articles/the-covid-state-dispatch-three-from-a-changing-world/, accessed 29 May 2020.

Walker G (2020) The Discreet Charm of Coronavirus. episteme issue 2: covid-19 pandemic Available at: http://positionswebsite.org/episteme-2-walker/, Accessed 26 May 2020.

Wilderson F (2003) Gramsci’s Black Marx: Whither the Slave in Civil Society? Social Identities 9(2): 225-240.

Wright W (2018) As Above, So Below: Anti-Black Violence as Environmental Racism. Antipode https://doi.org/10.1111/anti.12425

Skip to content