لحظةٌ في مسيرة إنهاء الاستعمار: عشر سنوات على انتفاضة صحار

الاستعمار عمليةٌ طويلة الأمد، ولا بدّ أنّ نشاط تفكيكها وإنهائها عمليةٌ تاريخيةٌ طويلةُ أيضًا، وقد تمرّ حوادثها علينا دون أن ندركها في سياقها، أو يغيّب هذا السياق عنها أو هي تُغيَّب عنه، مثلما هي انتفاضة صحار التي بدأت في 26 فبراير وانتهت 28 مارس 2011، ونحن في هذه الأيام نمرّ بذكراها العاشرة: انتفاضةٌ شعبيةٌ تشاركت الدوائر الفكرية والإعلامية لما سمّيَ بـ «الربيع العربي» في تهميشها وتجاهلها وإخمادها مع الدولة السلطانية وَوسائل الإعلام الغربية، فتلقّم العديد من النشطاء الخليجيين والعرب الروايةَ الرسمية الإمبراطورية التي عتّمت على حقيقة الانتفاضة وواقعها وتواطأت معها النخبة المثقفة الوطنية العمانية التي خانت الانتفاضة في معالجتها، خيانةٌ تعود جذورها إلى الخلاف حول فاعليّة المبادرين بهذه العملية وحول ضرورتها، ضرورةٌ لم يدركها من لم يرى الانتفاضة في سياقها الفعلي، سياقُ تصفية الاستعمار، لتتكشّف له طبيعة الانتفاضة عند مشاهد أحداثها.

لعلّ انتفاضة صحار 2011 مثالٌ على العمل الاجتماعي الناجح – وإن لم يكتمل – الذي تبادر به الشعوب المضطهدة لتغيير ظروف حياتها، ورؤيتها من هذه الزاوية تستلزم تقديم خلفيةٍ عامة لهذا التاريخ في صحار وسرديات الدولة السلطانية ومبرراتها للاستبداد، وما شهدته الأيام الأولى من استرداد صحار والسيطرة الشعبية عليها وما تضمنه ذلك من تحرير العقل من استعمارِه – كخطوةٍ تالية لإنهاء استعمار الجسد – في ضوء نصوص فرانز فانون عن تحوّل الذات، وإن انتهت الانتفاضة إلى استرداد الدولة سيطرتها على المدينة.

لست أتحدّث هنا كمراقبٍ جانبيٍّ أو أجنبيٍّ، بل كمشاركٍ في الانتفاضة من بداياتها وكشخصٍ غيرته الانتفاضة إلى الأبد، فاستمرّ أثرها فيّ وثقّفني وربّاني، بطرق وأزمان عدّة، خلال عشر سنواتٍ مضت، فإن وجدت حقيقةٌ لي أن أعلنها عن النمو الذاتي الراديكالي، فالفضل يعود بلا شكٍّ إلى الانتفاضة، فقد دخلتها مستمدًّا من الشعور بالقمع والحاجة للتحرر، كشخص من الطبقة الوسطى اندمج مع الجماهير، لارتكاب ما وصفه المناضل الغيني بيساوي أميلكار كابرال بالانتحار الطبقي – وإن لم أكن وقتها قد أدركته بهذه العبارة –  واكتشاف العزم على خوض عملية التحرر التي لم تنتهي حتى يومنا هذا، وقد كنت يومها أعمل كمهنيٍّ في المنطقة الصناعية الحديثة التي جلبت الثروة للمستثمرين الدوليين والدولة من جهة، والفقر والمرض والازدراء لأهل البلد.

ونظرًا لكون الغرض من هذا المقالة هو تقديم مناقشة حول إنهاء الاستعمار، أجد في الفكر التطبيقي الراديكالي الأسود مُعينًا قديرًا على هذه المعالجة، خصوصًا مع الفقر المنهجي الذي سببته الرقابة السياسية في عمان. وارتكاز المقالة على الفكر الراديكالي والنسوي الأسود كمنهجية، وهو مرتكز على النضال من أجل التحرر ضد العدو نفسه، وسيمكننا من توليف النظرية مع التجارب الحية، والنصوص مع الدموع والعقل والجسد، بغايةِ مخاطبة المظلومين الذين يعيشون حاليًّا تحت طغيان الدولة الاستعمارية في شبه الجزيرة العربية، ولهذا أراه ملائمًا لهذا المسعى، فبناء جسور التضامن الضروري بين شعوب الجنوب العالمي، وهذا الإرث الراديكالي الأسود خيرُ رابطٍ، وهو أنسبُ بالتأكيد مما يسود من المناهج والحلول ذات المركزية الأوروبية لحل قضايا الجنوب العالمي.

يتمحور كثيرٌ من هذا الفكر الراديكالي على نصّ فانون، «معذبو الأرض»، فقد انطلق إيمانه من قدرة المظلومين على تغيير ظروف حياتهم نحو تحليلٍ للعلاقات التي أنتجها الاستعمار الأوروبي لشعوب الجنوب العالمي، وذلك بعد تحقيقه المفصّل في أوروبا و«العرقية البيضاء»، و«الاستعلاء الأبيض» ومعاداة السّواد، باعتبارهما سمات تأسيسية لليبرالية الغربية و«التنوير» في كتابه الأول: «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء»، ولم يستهدف فانون «تحضير» أوروبا أو إنقاذها من مرضها الأخلاقي، بل تركيزه انصبّ على الدور الذي تلعبه أشدّ قطاعات المجتمع عرضةً للاستغلال في دول الجنوب العالميّ في امتصاص العنف الاستعماري وإعادة إنتاجه من أجل مصلحتهم وغياتهم، فلأن الاستعمار يخلق بشرًا جددًا لا-أخلاقيين، على إنهاء الاستعمار أن يأتي من الأسفل ليدكّ أسس تلك الإنسانية اللا-أخلاقية ويشكّل بشرًا جددًا كاملي البشرية، وهذا هو الإطار الذي أودّ عبره النظر في انتفاضة صحار، إطارٌ يدرك قدرة الناس على المبادرة بالنضال والمقاومة لتغيير ظروف قمعهم، .

«علامات الساعة الكبرى»: أعراض السياسات الاستعمارية الجديدة

بعد الحرب العالمية الثانية، واجهت الإمبراطوريات الأوروبية مساعي إنهاء استعمارها أراضي الجنوب العالمي، وفيما يسمّى اليوم «سلطنة عمان» انتفض الشعب ضد الإمبريالية البريطانية والنظام الدمية التابع لها في عام 1964، وانتظموا لاحقًا وفقَ المبادئ الماركسية اللينينية دون اللجوء إلى الدولة التي لم تتشكل بعد، ولكن الثورة الشعبية انتهت بالهزيمة على يد البريطانيين في 1976، فَاختُلِقَت الدولة العمانية الراهنة من حمّام الدمِّ والعنف الفظيع ضد شعب البلاد كجزءٍ من مشروعٍ إمبراطوريٍّ بريطانيٍّ يستهدف استمرارية نهب موارد البلاد، واستغلال عَمالتِها، وتوظيف أراضيها كقاعدةٍ عسكريّةٍ بريطانيّةٍ متقدّمة في المنطقة، وطُبِّقت العديد من السياسات والتكتيكات والقوانين بغيّة تهدئة الجماهير الساخطة، لتضحي عُمان بلدًا يشتهر بالهدوء الباسِم، وحقيقته صمتٌ خائف، صمتٌ يستلزمه إبقاء البلاد على الهيئة التي يصفها المثل العماني: «الحديقة الخلفية للاستخبارات البريطانية».

تجمّع لمقاتلين ومقاتِلات أثناء ثورة ظفار. من فيلم «ساعة التحرير دقت» (1974)

الهوية العمانية الحديثة هويةٌ استعماريةٌ كما أراد لها «المُخرِج» أن تكون، فقد أخفت الإمبراطورية البريطانية خوفَ الناس من قهرِ الدولة بأن صبغته بِطلاء «الاعتدال و«الاتزان»، دَولةٌ تحبّها بريطانيا بعد أن صمّمتها نظامًا استبداديًّا للحفاظ على مصالحها لا غير، فَكَرِهها أهلُ البلد للسبب نفسه، وأمّا النظام العمانيُّ فدعايته تكاد تنطبق بكل حذافيرها مع توصيف نظرية ديبيش تشاكرابارتي لما يسمّيه بالتأريخية، فالنظام يرى «الحضارات الغربية» كالهدف النهائي الغائي، وبقية الدول مصطفّة في انتظار قطار اللحاق بأوروبا، والعمانيّون – كما قال أسعد بن طارق، شقيق السلطان الجديد – لم يبلغوا مرحلة القدرة على تولّي أمورهم بأنفسهم بعد، ما يستلزم طبقةً حاكمة ترعى هؤلاء «العجزة» وتقوم بأمورهم، في رِسالةٍ وإن كانت حمّالةً ذات أوجه فهي لا تزيغ شبرًا عن سردية الدولة القائلة إنّ تاريخ الشعب قبل عام السبعين كان تاريخ فقرٍ وجوعٍ وحرب، وحربٍ وجوعٍ وفقر، وضع النظام الحالي نهايةً له وابتدأ تاريخًا جديدًا هو أساسُ مشروعيّته.

عمدت الإمبريالية البريطانية، في سعيها للسيادة على البلد وأهاليه، التفرقة بينهم في طبقات متفاوتة في نصيبها الاقتصادي من فضيلِ وفتاتِ الثروة المحلّقة إلى لندن، لتتركز نخبة المثقفين والمهنيين في العاصمة مسقط، وتصاحبهم نُخبٌ أخرى في الأرياف التي تحتضن الطبقة العاملة وما دونها، أي من يسمّون «الطبقة الكادحة الرثة»، وقد انتصبت انتفاضة صحار بِعِماد هذه الفئة الأخيرة وتضاد مطامحها مع المصالح الإمبريالية البريطانية التي ما زالت تسيّر البلد، ولهذا غُيِّبَ حراكها من الذاكرة التاريخية، ولم يسعفها أنّ النُّخب الفكرية العاصميّة ارتجفت غيرةً من زخم انتفاضة صحار ورعبًا وامتعاضًا من أنّ الناس، منذ بدء الحراك، استهدفوا تدمير آلهتهم الأوروبية المتحالفة مع النظام المستبد.

«التحرير الجسدي»: فكرة التغيير

لم تكن عمان معزولةً عن موجة الحركات الشعبية لعام 2011، فتدفّق أخبارها وصورها وفيديوهاتها استحثّ تعبئة مظاهرتين سلميّتين في مسقط في يناير وأوائل فبراير 2011، ومنظمّو هذه المظاهرات كانوا من دوائر النخب المثقفة، ولم تحِد مطالبهم عن مطالِب الطبقة الوسطى (والطبقة الكادحة الحضرية) في مسقط، وعلى بُعد مئتين كيلومتر أو ما حولها من العاصمة بدأت مجموعة تعدادها بين 30 و40 شخصًا بالتجمّع أمام فرع وزارة القوى العاملة بِصحار أسبوعيًّا، اعتبارًا من أوائل فبراير، للمطالبة بوظائف، وخلافًا للعاصمة، انتمت هذه المجموعة للفئة الساحقة في المدينة: عاطلونَ عن العمل ينتمونَ لمجتمعٍ زراعيٍّ رَعوي يعاني من لا-مساواةٍ هائلة وأمراضٍ وكوارث بيئية تسببت بها عن المنطقة الصناعية الضخمة الحديثة.

وقفة في ولاية لوى قرب صحار ضد التلوث (المصدر: المركز العماني لحقوق الإنسان)

ولكن من الإجحاف بالانتفاضة وأهلها إرجاعها حصرًا إلى عدوىً لا تفسير لها بحركات التمرّد لذاك العام، فإمكانيّة التأثر بحد ذاتها أساسها هو ترابط الظروف المعيشية لكل بلد، وقد رأت النخب الحكومية والفكرية، المتوهّمة بأن التاريخ لا يصنع إلا من قمّة الهرم، في المكان الذي خرجت منه مجموعة التظاهُر الأولية مكانًا خارجًا عن حركة التاريخ وفي الفئة الخارجة فئةً عاجزةً عن تحريكه، لكنّ التاريخ – لحسن الحظ – لا يسير وفق أوهام النُخب، ففي 26 فبراير 2011 وردت أنباء عن عجز الحكومة على توظيف العاطلين، فقرر عدد منهم بدء اعتصام أمام فرع الوزارة في صحار، وسرعان ما استجابت الشرطة بأن أبعدتهم عن مبنى الوزارة، وفي حركةٍ تاريخية قررت المجموعة نقل الاعتصام إلى الطريق السريع الرئيسي بين مسقط ودبي عند دوار الكرة الأرضية، الدوار الرئيسي في صحار، بغرض إغلاقه، ليجسّدوا التاريخ في أنفسهم، على حدِّ تعبير فانون.

متظاهرون عند دوار الكرة الأرضية بصحار. فبراير 2011. (مجهول المصدر)

وصل عدد المتظاهرين إلى المئات في غضون ساعات، ليحتلوا الدوار ويحوّلونه لساحةٍ عامة، وهذه الأعداد انقسمت بين المتفرجين والطامحين لإسقاط الطغيان، وكان أغلبهم من المعطّلين عن العمل من الشباب العمانيين العشرينيين والثلاثينيين، ولم يَغِب عن هتافاتهم السياق الاستعماري، بارزًا في مسألة نهب أرباح النفط الهائلة، مردّدين: «أين نفطنا؟ أين نفطنا؟»، وكبقيّة التجمّعات والاعتصامات في المنطقة صوَّر الحاضرون ونشروا على يوتيوب أول لقاءٍ بين الشرطة والمتظاهرين، يظهر فيه تهديد المفتش العام لهم، تهديدٌ أنبأ لمن خرجوا بعد أن تقطّعت بهم سبل العيش بأن لا طريق لهم سوى المواجهة، وهذا ما حصل بالفعل.

متظاهر يرفع لافتة للمطالبة بمحاسبة المفتش العام للشرطة. صحار، 28 فبراير 2011. (تصوير: سالم آل تويه)

انفجر من هذا الوضع لحظةُ فوضىً كاملة، لحظةٌ «تتناقض مع طبيعة المجتمع العماني» حسب توصيف إعلام السلطنة، أي مع حفظ القانون والنظام الاستعماريين، لحظةُ إنهاء الاستعمار كعملية تاريخية عسيرة الإدراك كما يصفها فانون في «معذّبو الأرض»:

من الواضح أن إنهاء الاستعمار، الذي يهدف إلى تغيير نظام العالم، هو برنامج للفوضى الكاملة. لكن لا يمكن أن يأتي نتيجة ممارسات سحرية، ولا صدمة طبيعية، ولا تفاهمٍ وديٍّ. فإنهاء الاستعمار، كما نعلم، هو عملية تاريخية: بمعنى أنه لا يمكن فهمه، ولا يمكن أن يصبح مفهومًا أو واضحًا لنفسه إلا في المقياس الدقيق الذي يُمَكّننا من تمييز الحركات التي تمنحه الشكل والمحتوى التاريخي.

وفي لحظة الفوضى الكاملة تلك، انتهى الأمر بالمفتش العام بعد أن وجّه تهديده ووعيده بأن لُكِمَ وَلُوحِقَ  إلى مركز الشرطة الواقع على إحدى زوايا الدوار، حلقةٌ من سلسلةِ اشتباكات استمرت بين قوات الشرطة والمتظاهرين بأعدادهم المتزايدة التي ابتدأت ظهر ذاك اليوم، 26 فبراير 2011، فقرّرت مجموعة المتظاهرين الأولية حماية موقعها الثابت والتخييم في الدوّار والنوم هناك، فانقضّت عليهم الشرطة في منتصف الليل ونقلوا إلى سجن سمائل المركزي حيث تعرّضوا للضرب طوال الليل.

متظاهرات يرفعن لافتة تطالب بمحاسبة الفاسدين وحماية المال العام. صحار، 28 فبراير 2011. (تصوير: سالم آل تويه)

وفي الصباح التالي، تجمعت المئات أمام مركز شرطة صحار مطالبين بالإفراج عن جميع المتظاهرين ظنًّا منهم أنهم محتجزون بالمخفر، إذ لم يعلم أحد أنّهم نقلوا إلى السجن المركزي، وأخذ حجم التجمهر أمام مركز الشرطة في الازدياد، وإن تنوّعت أعمار المتظاهرين فقد استمرّ الشباب المُعطَّل طاغيًا عدديًّا، هم وأبناء الطبقة الكادحة من البلدات والقرى المجاورة، فالتجأت الدولة – كما تفعل الدولة – إلى العنف، وبعد أن بلغت أعداد المتظاهرين في الظهيرة الآلاف، تقرّر جماعيًّا ألا يتحرّك أحدٌ حتى يُطلق سراح كل من في مركز الشرطة، فاندلع برنامج الفوضى الكاملة، وأطلقت قوّات الشرطة الذخيرة الحية والمطاطية والغاز المسيّل للدموع بكثافة لمواجهة أمطار الحجارة وزجاجات المولوتوف التي قابلهم بها الناس، فأردي أحدُ المارّة، عبدالله الغملاسي، شهيدًا برصاص الشرطة، ما كان وقودًا لتفاقم الوضع المضطرب، فقررت الحكومة إطلاق سراح المجموعة المعتقلة لتهدئة الأوضاع في صحار، علاجٌ ضعيفٌ في وقتٍ متأخر، ففرصةُ التهدئة قد عدّت، واتجاه السلطة للقمع القاتل دفع نحو تغيّر موازين القوى بانضمام مجموعاتٍ محلية أخرى إلى النضال إلى جانب المتظاهرين.

في صحار مجموعتان عهدتا المواجهة مع الشرطة، على خلفية «التفحيط» سابقًا، وهما «مجموعة 007» و «مجموعة مرخوص»، ينتمي «عناصرها» إلى شريحة الشباب التي أفقرها النظام وغدت «عمالة غير ماهرة» وفق التقييم الرأسمالي الاستعماري للعمل، وكان أعضاؤها أصلًا في خطِّ «مجمّع السجن الصناعي» الذي – بتعبير روث ويلسون جيلمور – هو وسيلةٌ لتوجيه الحانقين على الوضع العام نحو نظام الجزاء والسجون، ما يذيب ويئفل الطاقات الثورية، فقد انضمّت هذه الجماعات بأعدادها الكبيرة وبعزمٍ كبير للانتفاضة، ليجدوا الناس واقفين إلى صفّهم ضدّ قمع الدولة وعنفها، فزادهم هذا التأييد عزمًا على خوض العملية النضالية، ليستخلص الجدل في نقطةٍ واحدة: إما نحن أو الشرطة في المدينة، فطُرِدت الشرطة ونقلوا خارجها بالمروحيات بعد هجمات غاضبة متوالية على المركز من كل زاوية، وأحرق مكتب المحافظ بعد أن أرسل شيوخ القبائل لإقناع المتظاهرين بالتهدئة، في محاولةٍ فاشلة انتهت بمطاردة هؤلاء الشيوخ وضربهم بصفتهم أحد العوامل المساهِمة في القمع وغياب المساواة الاجتماعية.

وفي تلك الليلة، مساء 27 فبراير، غيرت صحار اتّجاه انتفاضة الشباب في عمان، بتمكينها كلّ الحركات في البلاد من رفع صوتها كرهًا في الاستبداد، بعد أن احتشد المتظاهرون في صحار غضبًا وسخطًا ورغبةً في إنسانيّةٍ كاملةٍ عزمًا على بناء ولاية للناس على أنفسهم بالمقاومة والثورة ضد الدولة.

لولو هايبر ماركت قرب دوار الكرة الأرضية بعد أن أشعل فيه النار بعد قتل متظاهرَيْن. صحار، 29 فبراير 2011.

لعلّ توصيف فانون لردّة فعل أهل البلد على العنف الاستعماريّ بعنفٍ مقابِل، وإن صُغَر كمًّا واختلف نوعًا عن عنف الدولة، لكي «يجسّد التاريخ في شخصه»، لم ينتهي مع الانتهاء الرسمي (والاسمي) لحقبة الاستعمار القديم، فهذه هي هي، الطبقة الكادحة الرثّة، الفئة التي وصفها فانون بأنها وقود الثورة، تقود الثورة، وإمّا حقد وحسد الإنسان المُستعمَر، حسب وصف فانون، في رغبته بالإنسانية الكاملة، فقد ظهر في الجدل مع الشرطة بتوجيه المتظاهرين المطالبَ مباشرةً لبريطانيا ودُميتها السُّلطانية وربط تردّي وضعهم الاقتصادي بمسألة النفط.

شرعيةُ نظام الطاغية لم تستند يومًا إلى الشعب، بل إلى التأييد البريطاني، والأسرة الحاكمة الحالية تعلم أن الشعب يريد أن يستردّ ما سُرِقَ مِنه، وخوفها من هذه الإرادة هو ما يدفعها لاستخدام العنف ضد الناس، فقد تدرّبت (أي: الأسرة المالكة) وتعلّمت على يد بريطانيا على الاعتقاد بعجز العمانيين عن التمرّد وبُعدِهم عن العقلانية، بسبب دونيّتهم المزعومة، وفي صحار دخلت الطبقة الكادحة الرثة، إلى جانب الجماعات المضطهدة الأخرى، في حرب طبقيةٍ ضد النظام، ساعية إلى تغيير ظروف العيش، وخلال الاضطراب الفوضوي العنيف والتحالف بين العديد من الجماعات المضطهدة، أُنتِجَ بشرٌ جددٌ يحملون الثقة الكافية واللازمة لاتخاذ قرار الحكم الذاتي، ليثبتوا كشف زيف ذاك التاريخ، تاريخهم المكتوب بِحبر الإمبريالية البريطانية، كشعبٍ ليس مستعدًّا لحكم نفسه.

«تحرير العقل»: الثورة عمليةٌ طويلة الأمد

كانت النقطة الفاصلة للانتفاضة هي استشهاد عبدالله الغملاسي، فخبر قتله تداوله الناس عبر الواتساب والفيسبوك ودفع آلاف من الناس للانضمام إلى الاشتباكات القائمة مع الشرطة والبدء بالمشاركة في تنظيم الحراك الشعبي، ما لم يترك خيارًا آخرَ إلّا إراقة الدماء، ليرسل الناس في اضطرابهم الفوضوي رسالةً واضحةً للنظام: نحن هنا لنحدّث الدولة باللغة التي حدّثتنا بها، إنّما بِغاية فكّ الاختناق، واستخلاص وضعٍ جديد بأنفسهم ولأنفسهم. وبعد انسحاب الشرطة من المدينة، تجمع الآلاف في دوار الكرة الأرضية بصحار، فتجمّعت حولهم آلافٌ أخرى، وتحللت السلطة المركزية على الفور في المدينة، وتوزعت إلى أقسام محلّية تعمل مع مجموعات الدفاع المحلية، ليرسي ذلك الأساس لحكمٍ ذاتيٍّ كاملٍ من الناس للناس، فاعتبارًا من 28 فبراير، أي بعد يومين من بداية الأحداث ويومٍ واحدٍ من استشهاد الغملاسي، أقفلت المدينة من كل المداخل بنقاطٍ تفتيش تحت إدارة المتظاهرين، ولم يسمح بدخول الشاحنات وشاحنات النفط وسيارات الدولة، لتتحرر كامل المنطقة المحيطة بالدوار وتُعاد لمصلحة الناس.

لكنّ ذلك لم يوقف جهود الدولة في مكافحة التمرّد واحتوائه بكافة الأساليب، باستخدام العنف في كفّة ووساطةِ شيوخ القبائل في أخرى، ومن ثمّ المواعظ الدينية عبر تلفزيون سلطنة عمان، إلى جانب اختراق الحراك ومحاولة رشوة قادته، وتنظيم الدولة للمظاهرات المضادة (ما سمّي بمسيرات الولاء والطاعة)، وحملةُ شيطنةٍ إعلاميةٍ تصف أهالي صحار بـ «الحثالة» و«الخونة».

وأما المنطقة المحيطة بالدوار فقد كانت مزدحمة ليلَ نهار، بخيام مختلفة لمختلف المجموعات وخيمةٍ للمجموعة التنظيمية الرئيسة، ائتلافٌ مكوّن من أعضاء من هذه المجموعات المختلفة والطبقة الكادحة الحضرية المحلية مع عدد قليل من البرجوازية العميلة من رجال الأعمال والنخب الفكرية المحلية، أطلق عليها مسمّى «لجنة الشعب»، فاستمرت مناقشاتها العامة كل مساء حتى اليوم الأخير من الانتفاضة، دون تنظيم استراتيجي، ورغم إمساك لجنة الشعب بزمام السلطة في صحار بالدماء والصراع والدموع منذ 28 فبراير، فهي لم تستطع البدء في تغييرٍ حقيقيٍّ مباشر.

متظاهر يرفع لافتة تحمل عددًا من المطالب في رسالة إلى حاكم عمان. صحار، 28 فبراير 2011. (تصوير: سالم آل تويه)

الثورة، بالطبع، ليست فورة، بل عمليّةٌ طويلة الأمد، عمليةُ إنهاء الاستعمار، ففي صحار، تطلبت فكرة طرد الأجهزة الحكومية تنظيمًا مستمرًّا من اللجنة الرئيسة مع الأقسام المحلية لإشراك الجميع، وليس فقط الرجال العمانيين، وفي شهر مارس بدأت النخبة الفكرية الوطنية اعتصامًا في العاصمة مسقط بِغاية تقاسم السلطة مع النظام المستبد من خلال الدستور، في حين أراد الناس في صحار السلطة بأيديهم، ولكنّ لجنتهم، لجنة الشعب، لم ترى الصورة الأوسع، وحصرت المقاومة في مواجهة الهجمات المستمرة  للدولة لمكافحة التمرد، وأصرّت على أن تكون وسيطًا، وسيطًا جديدًا، لا حزبًا طليعيًّا، وكان ذلك ظهوره التاريخي الطبيعي، وفشلت في إشراك شرائح مضطهدة أخرى في المجتمع، مثل عموم النساء، والمقيمين والمقيمات تحت نظام الكفالة (موروثٌ بريطانيٌّ وحشيٌّ آخر)، ولم يتمخّض عن نقاشاتها برامج للإنتاج المجتمعي والاقتصاد التعاوني والسيادة الغذائية، وإن نجحت في إنشاء مجموعات الدفاع المحلية، وتشجيع مجموعات التعاضد الاجتماعي، وعقد الإضرابات العامة والتجمعات الشعبية اليومية، فقد كانت الثورة تحتضر وتذبل في ظل التكتيكات التجريبية المتنوعة للدولة وهجماتها لمكافحة التمرد وفي ظل خيانة النخبة المثقفة الوطنية في مسقط، احتضارٌ لم يسعفه الفشل في التحالف مع المضطهدين الآخرين والعجز داخل لجنة الشعب على التنظيم كحزب طليعي يقدّم ما يحتاجه الناس وما قرروه سلفًا بأنفسهم في 26 و27 فبراير.

هاجم الجيش ووحدات القوات الخاصة ومهام الشرطة والقوات الجوية والأمن الداخلي صحار ليلة 28 مارس 2011 وأعادت المدينة تحت سيطرة النظام السلطاني، وقُبض على 800 شخص، واتهم 27 منهم بموجب قانون الإرهاب، وقَتل الجيش شخصًا آخرَ في مظاهراتٍ أقل حدة نظّمت على الفور في الأسبوع التالي للهجمة، وأبرزت الانتفاضة عدة شخصيات سياسية فهمت دورها التاريخي لاحقًا في عام 2012 ونظمت لتأسيس حزب مستقل في مقاومة النظام السلطاني والإمبريالية البريطانية.

والآن، بعد عشر سنوات، ما زلنا نواجه طريقًا طويلًا للتحرر، طريقٌ قد ينير بعضًا منه على الأقل تحليل فانون الذي يبرز لنا القائمين الحقيقيين على التغيير، حَمَلةُ التاريخ، أي: الناس. فرغمَ سياسة النظام السلطاني القمعية ورقابته على المعرفة، تمكّنت الطبقة الكادحة في صحار لشهرٍ كاملٍ، عبر الاضطراب الفوضوي العنيف، من تجسيد حركة التاريخ في أنفسهم، واستردّوا إنسانيّتهم الكاملة، ولو للحظة، بعزيمةٍ وقوّةٍ جماعيّةٍ استلهمت من أسلافهم، الثوريّون العمانيون والظفاريون، وإن لم ترضخ الدولة بسهولة، وإن كانت الثورة بحاجة إلى تنظيمٍ مستمرٍّ لتمسّ المشهد العام ولتفرز الانتفاضة مجتمعها، فإخماد نار الثورة لم يعالج أساس الاستغلال والاضطهاد الذي انطلقت من عليه، ولم يلغي ضرورة إنهاء الاستعمار وتدمير العالم القديم وإنشاء عالم جديد، بشرهُ متساوون تمامًا، وحياتهم لا تتناقض مع وجودهم في بِبيئتهم، عالمٌ استشعرنا بعض ملامحه في صحار في 2011 في لحظةٍ كشفت أفقًا بدت في الماضي مستحيلة.

Skip to content