الجزء السادس: جبل في أعالي البحار (2020)

بيان صادر عن اللجنة الثورية السّرية للشعوب الأصلية — القيادة العامة لجيش زاباتيستا للتحرير الوطني.

المكسيك.

5 أكتوبر/تشرين أول 2020

إلى المؤتمر الوطني للشعوب الأصلية-مجلس الحكم للشعوب الأصلية،

إلى الوطنية والأممية السادسة،

إلى شبكات المقاومة والتمرّد،

إلى كل الصادقين ممن يقاومون في كل بقاع المعمورة،

أخواتنا، إخواننا،

رفيقاتنا، رِفاقنا،

نحن الشعوب الأصلية من جذر المايا وزاباتا نحيّيكمن ونعلمكن بما ما وصل إليه فِكرنا الجماعيّ بحسب ما نشاهده ونصغي إليه ونشعر به.

أولًا.– نرى عالمًا حياته الاجتماعية مريضةٌ ونسمع أنينه: عالمٌ يفتت الناس إلى ملايين شظية لا يعرف بعضها بعضًا فالشغل الشاغل لكلّ منها هو الرزق اليومي، لكن (أي الناس) يوحدها قهرُ نظامٍ مستعدٌّ لفعل أي شيء ليروي تعطّشه للربح غير آبهٍ بما اتّضح من تعارض نهجهِ (نهجُ هذا النظام) مع وجود الكوكب. 

إن انحراف هذا النظام ودفاعهُ الأحمق عن «التقدّم» و«الحداثة» يصطدم بواقع إجرامي: قتلُ النساء. قتلُ النساء لا لونَ له ولا قومية، فهو كونيٌّ. وإن كان من العبث أصلًا ومن غير المعقول أن يُلاحَق المرءُ ويُخفى قسريًّا ويُقتَل بسبب لون بشرته وعِرقه وثقافته ومعتقداته، فما بالك بأن كونكِ امرأة يعني أن تُلحق بكِ عقوبة التهميش والموت.

إنه تصعيدٌ يسهل التنبؤ بِه، ابتداءً بالتحرش، ومن ثم العنف الجسدي، فيتلوه التشويه، وآخره القتل، قتلٌ تصادق عليه حصانة بُنيوية متأصّلة («الحق عليها»، «ماذا تتوقع وعليها كل تلك الوشوم»، «ما الذي كانت تفعله في ذاك المكان وفي تلك الساعة؟»، «أرأيتم لبسها؟»). لا يحمل قاتلو النساء منطقًا سوى منطق النظام، فالثابتُ الوحيد بين مختلف الطبقات الاجتماعية ومختلف الأعراق، والأعمار المتمدّدة منذ الطفولة المبكرة وحتى الشيخوخة، ومختلف المناطق القريب منها والبعيد، الثابت الوحيد هو: الجندر. وليس في مقدور النظام أن يفسّر العلاقة بين هذه القضية وكل ما يحرزه (أي النظام) من «نموّ» و«تقدم»، فبحسب إحصائيات الموتى الفظيعة، كلما كان المجتمع أكثر «نموّ»، ازداد عدد ضحايا حرب الجندر هذه، وهي حرب حقيقية.

وكأنها (أي «الحضارة») تبشّرنا  نحن الشعوب الأصليّة: «إن الدليل على تخلّفكم يكمن في انخفاض معدل قتل النساء عندكم! عليكم بالمشاريع العملاقة والقطارات والمحطات الكهروحرارية والمناجم والسدود والمراكز التجارية، بمحلات الأجهزة الإلكترونية، بمحطة تلفزيون خاصة بكم. . .تعلّموا الاستهلاك! كونوا مثلنا!» وبعدها، تبشّرنا تلك «الحضارة»: «ومن أجل سدادِ دَين كل هذا الدعم التقدّمي الذي نوفّره لكم، لن تعوضه أراضيكم، ولا مياهكم، ولا ثقافاتكم، ولا كرامتكم. عليكم مشاركتنا بالقيام بهذا الواجب: عليكم القضاء على حياة نسائكم!».

ثانيًا.– نرى طبيعةً مجروحة بالموت ونصغي إلى نحيبها: طبيعةٌ، في احتضارها، تحذّر الإنسانية من أن الأسوأ لم يأتي بعد. فمن شأن كل كارثة «طبيعية» أن تنبئ بكارثة قادمة وتُنسينا – والنسيان مريح – أنها حصلت بفعل فاعلٍ بشريٍّ.

لم يعد الموت والدمار ذاك الأمر البعيد، المحصورَ داخل حدود بلدٍ ما، احترامًا للجمارك والمواثيق الدولية، فمن شأن الدمار الحاصل في أي ركن من أركان المعمورة أن يتردد صداه في الكوكب بأسره.

ثالثًا.– نرى أقوياء يهربون ويختبئون داخل ما يُسمى بالدول القومية ونسمعهم يحيطون أنفسهم بجدرانها. في هذه القفزة المستحيلة إلى الوراء تنبعث القوميات الفاشية، والشوفينيات التافهة، والثرثرة التي تصم الآذان، وفيها (أي هذه القفزة إلى الوراء) نشاهد الحروب التالية: حروبٌ  تتغذّى على تاريخٍ مزيفٍ أجوَفٍ وكاذبٍ، تاريخٌ يُترجم القوميات والأعراق إلى تفوِّقٍ يستمد قوته من الموت والدمار. ونرى في البلدان المختلفة نِزاعًا بين النُخب الحاكمة والطامحين لخلافتها، وفي نزاعهم يسعون لأن يشتتوا أنظارنا عن حقيقة أنّ السيد والرئيس وصاحب الأمر والنهي واحد، لا جنسيةَ له ولا هوية، سوى رأس المال، وأما المؤسسات الدولية فهي في اندثارٍ حتى لن يبقى منها إلا الأسماء، كآثارٍ معروضةٍ في متحف. . .بل ما هو أتفه من ذلك.

في العتمة والضجيج السابقين لتلك الحروب القادمة، نسمع الهجمة ونراها، ومعها مداهمةُ أيِّ ذرّةٍ من الإبداع والذكاء والتعقّل ومحاصرتها. في مواجهة الفكر النقدي، يحتاج الأقوياء إلى التعصّب، ويطالبون به ويفرضونه، فالموت الذي يزرعونه، يحرثونه، ويحصدونه لا يقف عند الجسد، بل يطال ذلك الشيء الذي يجعل من الإنسانية كونيّةً، ألا وهو العقل، ويؤدي لانقراضه مع كل ما وصلت إليه الإنسانية وأنجزته. فتنبعث – أو تُختلق – تيّارات باطنية جديدة، منها العلماني ومنها ما ليس كذلك، تتقنّع بقناع الموضات الفكرية والعلمية الزائفة، لتبدو الفنون والعلوم، في هذا السياق، وكأنها فعلٌ يقوده الانحياز السياسي.

رابعاً.– لم يُظهِر وباء كوفيد-19 ضعف الإنسان فحسب، بل أظهر جشع الحكومات القومية المختلفة وحماقتها أيضًا، بل وجشع وحماقة ما يُسمى بمعارضاتِ هذه الحكومات، فقد استهينَ بالإجراءات والتدابير المتوافقة مع أبسط معايير الفطرة السليمة، مراهنين على قُصر أمد الجائحة، ومع استمرار المرض شيئًا فشيئًا، أخذت الأرقام تحلُّ محل المآسي، وهكذا أصبح الموت رقمًا يضيع يوميًّا وسط الضجيج والبيانات؛ أصبح الموتُ عاملًا قاتمًا للمقارنة بين القوميات التافهة؛ أصبح الموتُ يعادل نسبةَ الركلات والأهداف النظيفة التي تحدّد أي فريق، أو أيّ أمة، هي الأفضل أو الأسوأ.

كما شرحنا في أحد بياناتنا السابقة، نحن مناصرو ومناصراتُ الزاباتيّة اخترنا الوقاية وتطبيق تدابير صحية وفق نصائح قدّمها لنا حينها علماءُ استشرناهمن، فأرشدننا وقدّمن لنا المعونة دون تردد، ونحن الشعوب الزاباتيّة ممنونون لهمن، وقد عبرنا عن ذلك في بلاغاتنا السابقة، والآن، وبعد ستة أشهر منذ تطبيق هذه التدابير (الكمّامة أو ما يعادلها، التباعد بين الناس، الحد من الاحتكاك بين الناس في المدن، الحجر الصحي مدة خمسة عشر يومًا لكل مَن احتكَّ بمُصابٍ مُحتمل)، نأسف على وفاة ثلاثة من الرفاق ظهر عليهم عَرَضان أو أكثر مرتبطة بكوفيد-19 وسبق واحتكّوا احتكاكًا مباشرًا بأشخاص نعلم أنّهم أصيبوا به.

وتوفي ثمانية رفاقٍ آخرين ورفيقة واحدةٌ خلال هذه المدة مِمّن ظهرت عليهم الأعراض، وبما أننا نفتقر للقدرات اللازمة لإجراء الفحوصات، نقدّر أن مجموع الوفيّات الناتجة عمّا يسمّى فيروس كورونا هو 12 رفيقًا (نصحنا العلماء باعتبار أي صعوبة بالتنفس كأمرٍ ناتجٍ عن كوفيد-19)، ونحن نتحمل مسؤولية رحيل من رحل، فهُم لم يكونوا يروحوا ضحية «النقلة الرابعة»1أشار الرئيس المكسيكي ذو الميول اليسارية أندريس مانويل لوبيس أوبرادور أن مشروع حكمه سيشكل «نقلة رابعة»، أي أنه سيعادل النقلات الثلاث في تاريخ المكسيك: استقلال المكسيك (1810)، فترة الإصلاحات الليبرالية في منتصف القرن التاسع عشر، والثورة المكسيكية (1910). أو المعارضة، ولا النيوليبيراليين ولا المحافظين الجدد، ولا مدّعي اليسارية أو مدّعي البرجوازية. كلّا، من رحل لم يقع ضحيةَ المؤامرات والمكائد. كان علينا تشديدُ التدابير الاحتياطية أكثر.

في الوقت الراهن قمنا، وكاهلنا يثقله رحيل 12 منّا، بتحسين الإجراءات الوقائية في كلّ بلداتنا، ونحن الآن نتلقى المساعدات من منظمات غير حكومية وتوجهياتٍ من علماء حول كيفية مواجهة احتمالية صعود موجة ثانية، أن نواجهها بشكلٍ جماعيٍّ وفرديٍّ وبثباتٍ أقوى، فقد وُزعت عشرات الآلاف من الكمامات (المصممة خصيصًا لمنع نشر عدوى المرض، والمنخفضة التكلفة، والقابلة للاستخدام المتكرر والاستخدام في مختلف الظروف) في كل بلداتنا، ونحن في صدد إنتاج عشرات الآلاف من الكمامات الإضافية في ورشات التطريز والخياطة تحت إدارة الثوريين والثوريّات في القرى، فالاستخدام العام للكمامات، والحجر لمدة أسبوعين لمن يعتقد إصابته بالعدوى، والتباعد الاجتماعي، والمداومة على غسل الأيدي بالماء والصابون، وتجنب الخروج إلى المدن قدر الإمكان، كلها إجراءات نوصي بها حتى إخوتنا الحزبيين والحزبيّات، وذلك من أجل احتواء انتشار العدوى والحفاظ على نمط حياتنا الجماعي.

أما بخصوص تفاصيل هذه الاستراتيجية في الماضي والحاضر، فسيتاح الاطلاع عليها في الوقت المناسب في المستقبل، أما الآن فنكتفي بالقول – وقلبنا نابضٌ، واستنادًا لتقديراتٍ قد يتبيّن خطأها – إن مواجهة الخطر كجماعة، لا كأفراد، وصبّ أغلب جهودنا في هدف الوقاية هو ما يخوّلنا للقول إنّنا كشعوبٍ زاباتيّة، ها نحن هنا، نقاوم، ونعيش، ونناضل.

في كل العالم، الآن، يريد رأس المال الكبير العودةَ إلى الشوارع، لِيتمكن البشر من استئناف حياتهمن كمستهلكين ومستهلكات، فما يشوب السوق من مشاكل، نعني الركود الراهن في استهلاك السلع، هو ما يقلقه (أي رأس المال).

علينا أن نستردّ الشوارع، نعم، إنّما نستردّها لأجل النضال، فقد سبق وقُلنا: إن الحياة، إن النضال من أجل الحياة، ليس مسألةً فردية، بل جماعية، والآن ها نحن نرى أن المسألة ليست قوميةً حتى، بل عالمية.

نرى ونسمع كثيرًا من الأشياء من هذا القبيل، وما يجول في فكرنا لا يسعه هذا البلاغ…

خامسًا.– نرى ونستمع أيضًا لحركاتِ مقاومةٍ وتمرّد، رغم ما تعرضت له من إسكاتٍ وتغييب، ظلّت دلائلًا على وجود إنسانيةٍ ترفض التبعية لنظامٍ يهرول نحو الانهيار، فقطارُ التقدم الفتّاك منطلقٌ، بفخرٍ وعجرفةٍ، سليمٌ معافى، نحو جرفِ الهاوية، وَرُبّانه نسي أنه موظّفٌ آخر لا أكثر ولا أقل، وبات يؤمن بسذاجة أنّه هو مَنْ يقرّر مسار القطار، وكل ما يفعله هو الإشراف على اندفاع القطار على سكّته الحديدية نحو الهاوية.

حركاتُ مقاومةٍ وتمرّدٍ لا تَنسى البكاء على راحليها، ولكنّها تصرّ على النضال – أتصدقون ذلك؟ – من أجل ذاك الشيء الأكثر عصيانيّةً في عوالمنا المُقسمة بين نيوليبيراليين ومحافظينَ جدد: الحياة.

حركاتُ تمرّدٍ ومقاومةٍ تُدرِك – كلٌّ على طريقتها الخاصة، ووِفقًا لزمنها وجغرافيّتها – أن الحلول ليست في الحكومات القومية، حركاتُ تمرّدٍ ومقاومةٍ لا تحتمي في حضن الحدود ولا ترتدي أردية اختلاف الأعلام واللغات.

حركاتُ تمردٍ ومقاومةٍ تعلّمنا نحن، الشعوب الزاباتية، أن الحلول قد تكون القاع، في الأقبية، وفي هوامش المعمورة، لا في القصور الرئاسية ولا مكاتب الشركات الكبرى.

حركات تمرّدٍ ومقاومةٍ هي بمثابة شهادة على أن المستكبريْن عندما يحّطمون الجسور ويغلقون الحدود، فسبيلنا نحو التلاقي هو قطع الأنهار والإبحار في المحيطات. والعلاج، إن وُجِدَ، فهو عالميٌّ، ولونه لون الأرض، لونُ العمل الذي يعيش ويموت في الشوارع والحارات، في البحور والسماوات، في الجبال وبواطنها، وهؤلاء أشبه بِحبّاتِ الذُّرَة البلديِّ بتعدّد ألوانها وأنساقها ونغماتها.

كل هذا، وأكثر، هو ما نراه ونسمعه. ونرى ونسمع أنفسنا كما نحن: عددٌ لا يُعَد. فالحياة لا تٌقيَّم، ولا تُبَاع، وليست خبرًا يذاع، ولا أرقامًا في إحصائيات، ولا تتنافس في الاستطلاعات، وليست مؤثِّرةً في في شبكات التواصل الاجتماعية، ولا تحرِّض، ولا تمثِّل رأسَ مالٍ سياسيٍّ، وليست عَلمًا حزبيًّا، ولا ضّجة تصخب وتصمت حسب الموضة. من ذا الذي تهمّه حياةُ مجموعة صغيرة، صغيرة جدًّا، من الشعوب الأصلية، من الهنود؟ حياةٌ، أي: نِضال.

يُحكى أنّنا نعيش. فرغمًا عن أنوف المرتزقة، والجوائح، والمشاريع الضخمة، والأكاذيب، والافتراء والنسيان، نحن نعيش، أي: نناضل.

وهذا الذي نفكّر فيه: كنّا وما زلنا نناضل. كنّا وما زلنا نعيش. ونفكّر: طوال السنين التي مضت وصلتنا أحضانٌ أخوية من أناسٍ من بلدنا ومن العالم، ونفكّر في أن الحياة، هنا، إذا كانت تقاوم، بل وتزدهر، رغم الصعوبات، فهذا بفضل من تحدّوا المسافات، والخطوط الحمراء، والحدود والاختلافات الثقافية واللغوية، بفضلهنّ، بفضلهم، بفضلِهِمِنَّ – ولكن بفضلهنّ فوق كل شيء – وهنّ يتحدَّيْن ويهزِمن التقاويم والجغرافيات.

فكل عوالم العالم وجدت في جبال جنوب الشرق المكسيكي قلوبًا صاغية، لن تتجاهل أحدًا، وكلماتُ عوالم العالم وأفعالها تشكّلُ غذاءً للمقاومة والتمرد الذيْن، بدورهما، ليسا سوى استمرارٍ لمقاومة أسلافنا وتمردهمنّ.

أناسٌ وَجدوا، بواسطة العِلم والفنِّ الذيْن اتخذوهما سبيلًا، وسيلةً لاحتضاننا وتشجيعنا، حتى عن بُعد، صَحَفيّون، من النُخبةِ كانوا أم لا، نَقلوا البؤس والموت الذي قاسيناها ماضيًا، والكرامة والحياة التي سنعيشها أبدًا، أناسٌ من كلّ مهنةٍ وحِرفة، بِزَخَمٍ كبيرٍ بالنسبة لنا، ولعلّه في نظرهم قليل، فقد كانوا معنا، وسيظلّون.

وفي هذا كله نفكّر بقَلْبِنا الجماعيّ، وها قد خطر على بالنا أنه قد حان الأوان لأنْ نَردّ، نحن، على مسامع هذه العوالم ما أوصلته لنا من كلماتٍ وجِوارٍ، القريبُ منّا جغرافيًّا والبعيد.

سادسًا.– وهذا ما قرّرناه:

حان الآوان لترقص القلوب مرةً أخرى، وألّا تكون موسيقاها وخطواتها موسيقى الحزن وخطوات الاستسلام. 

ستخرج البعثات الزاباتيّة المتنوّعة، من الرجال والنساء وغيرهمنّ ممّن لونهمنّ لون الأرض، سنخرج لنجول العالم على مشيًا وإبحارًا حتى نبلغَ أراضٍ وبحارَ وسماواتٍ بعيدة، ليس بحثًا عن الاختلاف، ولا عن التفوّق، ولا عن الاستصغار، بل ولا عن اعتذارٍ لنا من غيرنا، ولا عن شفقةٍ منهم علينا.

نحن في طريقٍ نأملُ أن نجد في نهايتهِ المساواة.

لا الإنسانيةَ فقط، التي تُودِع الحياة في جلودنا وأساليبنا المختلفة، ولغاتنا وألواننا المتنوّعة، بل، وفوق كل شيء: أن نجدَ الحلمَ المشتركَ الذي نتشاركه جميعًا – كجنسٍ بشري – منذ أنْ انطلقنا من رحم المرأة الأولى، في أفريقيا التي تبدو بعيدة عنّا، لكي نمشيَ، فقد كان البحث عن الحرية هو ما استحثّ اتخاذ تلك الخطوة الأول، أن نمشي بلا توقّف.

أن تكونَ وِجهتنا الأولى في هذه الجولة الكوكبية هي القارة الأوروبية.

أن نبحرَ نحو الأراضي الأوروبية، أن نغادر وأن نبحرَ، من أراضٍ مكسيكية، في شهر أبريل/نيسان من العام 2021.

إنّنا، وبعد أن نجولَ أركانٍ عدة من أوروبا، من الأسفل وإلى وإلى اليسار، سنصل مدريد، العاصمة الإسبانية، يوم 13 أغسطس/آب 2021، أي بعد 500 سنةٍ مما يُسمى بـ «فتح» الأراضي التي تُعرف اليوم باسم المكسيك، وسنواصل المسير بعد وصولًا فورًا.

سنحدّث الشعب الإسباني، لا لتهديده، ولا لنعتب عليه أو نهينه أو نطالبه بأيّ شيء، ولا حتّى بأن يعتذر منا، ولا لأن نخدمه ولا لأن يخدمنا. 

سنذهب، وسنقول لشعب إسبانيا شيئيْن مهميْن:

أولًا: لم تحتلّوا بلادنا، فها نحن ما زلنا نقاوم ونتمرد.

ثانيًا: لا يوجد أي داعٍ لمطالبتهم بالاعتذار منا. كفى تلاعبًا بالماضي البعيد لتبريرِ جرائم اليوم الراهنة  عبر الديماغوجية والنفاق، أي لتبريرِ اغتيال المناضلين الاجتماعيّين، مثل أخينا سمير فلوريس، لتبريرِ الإبادات المتسترة وراء المشاريع الضخمة التي تُصمَّم وتُنفذ لإسعاد الأقوياء – نفس أصحاب السياط في كل أركان المعمورة – ولتبرير سياسات تقوية المرتزقة بالمال وضمانات الحصانة، لتبريرِ شراء الضمائر والكرامات بقرش أو اثنين.2كرر الرئيس لوبيز أوبرادور ابتداءً من مارس 2019 مطالبة إسبانيا والفاتيكان بالاعتذار عن الاستعمار، هذا وقد واصلت إدارته المشاريع الكبرى المدمرة اجتماعيًّا وبيئيًّا للإدارات المكسيكية السابقة.

نحن، الزاباتيّون والزاباتيّات، نرفض العودة إلى ذاك الماضي. لا نريد أن نعود إليه، إلى الماضي، لوحدنا، ولا نريد أن نعود برفقة مَن يريد زرع العداوة العنصرية ويسعى لتغذية قوميته التي عفى عليها الزمن بالمجد المزعوم لإمبراطورية – أي: إمبراطورية الأزتيك – كانت توسّعت على حساب دماء أقرانها، ولا بِرفقة مَن يريد إقناعنا بأننا مع سقوط تلك الإمبراطورية قد هُزِمنا نحن، الشعوب الأصلية لهذه الأراضي. 

لا على الدولة الإسبانية ولا على الكنيسة الكاثوليكية أن يقدما لنا الاعتذار ولا هم يحزنون. لن نكونَ صدىً لتلك الأصوات المخادعة التي تدّعي أنّ دمائنا، التي سفكتها أيديهم، هي دماؤهم.

علامَ نطلب من إسبانيا الاعتذار؟ على أنها وَلدت سرفانتس؟ أو على خوسيه إسبرونسيدا؟ على ليون فيليبي؟ على فيديريكو غارسيا لوركا؟ على مانويل باسكيس مونتالبان؟ على ميغيل هرنانديس؟ على بيدرو ساليناس؟ على أنطونيو ماتشادو؟ على لوبي دي بيغا؟ على بيكير؟ على ألمودينا غرانديس؟ على بانشيتو بارونا، آنا بيلين، سابينا، سِرّات، إيبانييس، ياتش، أمبارانويا، ميغيل رِيّوس، باكو دي لوسيا، فكتور مانويل، آوْتي سييمبري؟ على بونويل، ألمودوفار، أغرادو، ساورا، فِرنان غوميس، فرنادو ليون، بارديم؟ على دالي، ميرو، غويا، بيكاسو، إل غريكو وبيلاسكيس؟ على أفضل فكر نقديّ خرج في التاريخ بِختم شارة «A» الليبرتارية؟ على الجمهورية؟ على المنفى؟  على أخونا ابن شعب المايا غونسالو غيرّيرو؟ 

علامَ نطلب مِن الكنيسة الكاثوليكية الاعتذار؟ على عبور بارتولومي دي لاس كاساس؟ على الدون صموئيل رويس غارسيا؟  على أرتورو لونا؟ على سيرخيو مينديس أرسيو؟ على الأخت تشابيس؟ على عبور الكهنة والأخوات الراهبات داخل الإكليريكية وخارجها الذين ساروا جنبًا إلى جنب مع أهل البلاد الأصليين دون أن يزعموا قيادةً أو وكالةً عليهم؟ على من خاطَروا بِحريتهم وحياتهم للدفاع عن حقوق الإنسان؟

في العام 2021 ستمر 20 سنةٍ على مسيرة لون الأرض التي سِرناها، جنبًا إلى جنبٍ مع إخوتنا شعوب المؤتمر الوطنيّ للشعوب الأصلية، مطالبين بمكانٍ لنا في هذا الأمة الآخذة بالانهيار.

بعد 20 سنةٍ من مسيرتنا الأولى، سنبحر ونسير، لنقول لأبناء المعمورة، إن في هذا العالم، هذا العالم الذي نحسّ به في قلبنا الجماعيّ، مُتَّسعٌ للجميع، متَّسعٌ لكم ولكنَّ ولكمُنَّ جميعًا. هكذا، ببساطة، فهذا العالم مستحيلٌ إلّا إن ناضلنا جميعًا، إن ناضلتن، ناضلن، ناضلتمنَّ، من أجل النهوض به.

ستكون البعثات الزاباتية مُكونة غالبًا من النساء، ليس لأنّهن يرغبن بالردّ بالمثل على احتضاننا خلال اللقاءات الأممية السابقة، بل قبل كل شيء، لكي نوضّح نحن، الرجال الزاباتيّون، أنّنا نحن ما نحن عليه، ولسنا ما لسنا عليه، بفضلهنّ، ومن أجلهنّ، وبرفقتهنّ.

ندعو المؤتمر الوطني للشعوب الأصليّة-مجلس الحكومة للشعوب الأصليّة أن يكوِّن بعثةً لترافقنا، وهكذا تكون كلمتنا أكثر إثراءً لكلِّ من يناضل وتناضلُ بعيدًا، وندعو بشكل خاصٍّ لبعثة من الشعوب التي سترفع اسم الأخ سمير فلوريس سوبيرانيس عاليًا، وصورته ودمه، لكي يصل ألمه، وغضبه، ونضاله ومقاومته إلى أبعد الأفق. 

ندعو كل مَن لديه رسالة والتزام وأفق في الفن والعلم أن يرافقنا – عن بعد – في إبحارنا وخطواتنا، وهكذا يساعدنا على نشر فكرة أن فيهما (أي الفن والعلم) تكمن إمكانية نجاة الإنسانية، وليس الإنسانية وحدها، بل العالم الجديد الذي نريد.

باختصار: سنغادر إلى أوروبا في شهر أبريل/نيسان من العام 2021. في أي يوم بالضبط وفي أي ساعة؟ لا نعرف. . .بعد.

أيها الرفاق:

أيها الإخوة، الأخوات، الإخوَتات:

إليكم عزيمتنا:

في وجه القطارات الجبارة، زَوارقنا.

في وجه محطات توليد الطاقات الكهربائية، مصابيحنا الصغيرة التي وهبتها النساء الزاباتيّات رعايةً للنساء المناضلات في كل العالم.

في وجه الجدران والحدود، إبحارنا الجماعي.

في وجه رأس المال الكبير، حقل ذُرةٍ نزرعه ونحصده جماعيًّا.

في وجه دمار الكوكب، جبلٌ يبحر في الفجر.

نحن الزاباتيّون والزاباتيّات نحمل فيروس المقاومة والتمرد، وبصفتنا هذه، سنسافر إلى القارات الخمس. 

هذا كل شيء. . .حتى الآن.

من جبال جنوب الشرق المكسيكي.

باسم النساء، الرجال وغيرهُمهُنَّ من الزاباتيسا.

القائد الأدنى إنسورخينتي مويسِس.

المكسيك، أكتوبر/تشرين أول 2020.

ملاحظة: نعم، إنه الجزء السادس. مثل السّفر، سيُتّبَع باتجاه عكسي؛ أي سيتبعه الجزء الخامس، وبعده الرّابع، وبعده الثالث، ومن ثم يأتي الجزء الثاني وسينتهي بالجزء الأول.

 

هذا النص جزء من المنشور:

Skip to content