«العمل» الأوّل، الحُبّ الأول

قبل عامٍ من الآن، انتهت رحلة عملي في مؤسسة كويريّة. انتهت تجربتي المهنيّة والسياسيّة الأطول والأعمق في طاقم مؤسسة تسعى للتغيير السياسي والاجتماعي حول قضايا الجنسانية، وتحديدًا الميول الجنسية والهوية الجندرية. ليس من المألوف أن يكتب المرء بفيض من المشاعر عن تجربة مهنيّة، عن «وظيفة» ضمن النظام الرأسمالي. 

أكتب عن تجربتي المهنيّة المتطرّفة بعد انتهائها، كجزء من محاولة استيعابها والتأمّل فيها. تجربة مركّبة وغنيّة ومليئة بالتحوّلات، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن توفيها أي مشاركة مكتوبة أو محكيّة حقّها وتشرح ما فيها من تعقيد. أبوح في الأسئلة القادمة حول هذه التجربة فقط ما يمكنني بوحه، باختيار ووعي تام لما أقول وما أكتم. أبوح في هذه الكلمات لعلّي «أتحرر» من هذه التجربة وكل ما فيها من مشاعر عظيمة وصعبة. أبوح بها بعد عام من انتهائها، وما زالت معي في تفاصيل حياتي اليوميّة.

عملت لأربع سنوات في مؤسسة تعنى بالقضايا الكويريّة، وكانت هي التجربة المهنيّة الأولى لي. كنت من «المحظوظين» في هذه البلاد بألّا أعيش فترة بطالة وبحث لا نهائي عن عمل بعد انتهاء فترتي الجامعية؛ اندفعت للعمل واصطادتني المؤسسة وفتحت لي ذراعيها بحبٍّ وتقدير فورًا، وبدأت حياتي المهنيّة فيها طريًّا ومقبلًا وأريد أكل هذا العالم أجمَع. الكتابة حول هذه التجربة هي بحدّ ذاتها مسار غير هيّن، يحفر في العمق وصولًا إلى مناطق حسّاسة قريبة من الانفجار، وهو ما أعتقد أنّه يعطي الكتابة عن هذه التجربة أهميّتها؛ فالمفارقة هي في كون الحديث عن عمل في مؤسسة مجتمع مدني هو حديث عن أمور حميميّة وخاصّة جدًا.

إفصاح لا رجعة فيه

العمل في مؤسسة كويريّة لشخص مثلي، لا يجد نفسه في تعريفات الجندر الذي يتوقّعه ويفرضه عليه المجتمع، ولا ينجذب عاطفيًّا وجنسيًّا للجندر الذي يفرضه عليه المجتمع، هو بحدّ ذاته خطوة إفصاح عن ميولي الجنسيّة أو هويّتي الجندريّة. ينطلق هذا النوع من العمل أو أي نشاط سياسي حوله في العادة من التجارب المعيشة للأشخاص المنخرطين فيه، وبالتالي وضعني هذا الموقع المهني في موقع «كشف» دائم لميولي أو هويّتي الجندريّة.

هذه حالة خاصّة ومميّزة جدًّا يحيل فيها التعريف «المهني» أو العمل مع حراك سياسي معيّن إلى استنتاجات وافتراضات حول التجربة الجنسيّة والجندريّة للشخص، وفي حالتي طبعًا كان استنتاج وافتراض صحيح. يمكن أن يبقى هذا العمل سريًّا أو محصورًا في دوائر معيّنة في بعض الحالات، إلا أن حالتي المتطرّفة لم تسمح بذلك كون مجال العمل هو في العلاقات العامّة والاتّصال. يتسبب هذا الموقع في حالة رعب حقيقيّة من حدوث اصطدام في أيّ لحظة، ولا بدّ من عدم الوضوح أو الصدق في الكثير من الحالات عند سؤالي عن عملي. 

تجلّى هذا الإفصاح بأكبر صوره عند الحديث مع الإعلام أو في مساحات مفتوحة وعامّة، وكان يظهر من خلال حاجتي للتأكيد على تجربتي أو تجاربنا الجندريّة والجنسيّة في هذه المؤسسة أو المجموعة أو الحراك. «مؤسسة قائمة على جهود نشطاء ترانس ومثليين»، «نحن كمثليين ومثليات»، وغيرها من الجمل التي حاولت دومًا ترديدها في أي حديث مهني أو شخصي كي أقطع أي شكّ إن كان موجودًا.

سيبقى عالقًا في ذاكرتي، في إحدى المقابلات الإذاعيّة مع راديو فلسطيني، أجريت حديثًا سلسًا وخفيفًا حول فعاليّة كبيرة للمؤسسة، إلا أن المذيع – كما يبدو – أراد أن تُقال الأمور بوضوح ودون أي مجال للشكّ والإنكار، فباغتني بسؤال «عمر هل أنت مثلي؟». توتّرت وتلعثمت وبلعت ريقي، وليس لديّ أدنى فكرة كيف خرجت منّي بعد لحظة «يعني آه». 

الخوف والأثمان المدفوعة للعمل في قضيّة كهذه أمر مفروغ منه ومعروف وكان دومًا بديهيًّا لي، إلا أنّ ما لم أحسب حسابه، ما لم ألقِ له بال، ما لم أتوقّعه، هو استمرار هذا الخوف وهذه الأثمان لأشهر طويلة حتّى بعد «انتهاء» هذا العمل ومحاولة أخذ مسافة للتأمّل والراحة. لاحقني ويلاحقني عملي في «مؤسسة المثليين» حتّى هذا اليوم، حتّى اقتنعت أن هذه الخطوة من الظهور والإفصاح والقتال هي خطوة لا رجعة فيها.

الجهد العاطفي أكبر

يستفزّ العمل في موضوع شخصي جدًا وقريب جدًا الكثير من المشاعر المبنيّة مع تجاربنا الشخصيّة أصلًا، وتكون مشاعرنا وتجاربنا النفسيّة في هذا النوع من العمل، هي من الأساس نقطة الانطلاق والدافع للنضال والتغيير، وتكون «المادّة» الأساسيّة للعمل. هذا يعني أن يترافق هذا العمل بحمل عاطفي ثقيل ومستمرّ، يغدو هو الشقّ الأصعب من العمل، وليس مهمّات العمل المختلفة، الصعبة أصلًا بسبب «حساسيّة» الموضوع. 

قد تكون هذه تجربة مشتركة أو مألوفة لأشخاص يعملون مهنيًّا في مجالات التغيير الاجتماعي حول قضايا صعبة ويحيط بها الكثير من العنف، سواء أكانت قضايا تتعلّق بالجنسانيّة أو غيرها. الأبرز في هذا النوع من العمل أنه علاوة على كونه مصدرًا للرزق، فهو مصدر للرضى والنموّ والامتلاء في المعنى. لكن في المقابل، وتحديدًا معنا كأشخاص كوير موجودات في سياق ممعن في العنف والقسوة تجعل من تجاربنا مجبولة في الألم كمكوّن أساسي فيها، يغدو هذا العمل مصدرًا للتعب النفسي المستمرّ المرافق لنا في حياتنا العائليّة والعاطفيّة وفي المساحات العامّة، وفي حالتي: في العمل أيضًا. 

في هذا السياق من العمل، تحتاج «أبسط» المهام إلى جهد عاطفي كبير لما تسببه وتستفزّه من مشاعر صعبة. وهنا موقف واضح يكثّف هذه الحالة سيبقى عالقًا في ذاكرتي: يومًا ما وردنا خبر مفجع بانتحار امرأة ترانس وانتشار الخبر بشكل واسع. كانت حوالي الثامنة مساءً، تداول الطاقم الموضوع بمراسلات متخبّطة ومنفعلة، وبطبيعة الحال علينا أن نفعل شيئًا ما. قررنا – بموجب سياساتنا – أن نكتب شيئًا ما ونشاركه، بالأساس لمحاولة تخفيف مشاعر الوحدة والخوف والصدمة لأشخاص كوير آخرين، أي: على الشخص المسؤول – وهو أنا في هذه الحالة – تنفيذ مهمّة واضحة ولا تحتاج تقنيًّا سوى إلى بضع دقائق، ألا وهي صياغة فقرات قليلة تقدّم العزاء وتدعو للمساواة، تشير إلى العنف، وتفتح باب المشاركة والتوجّه. 

هذه المهمّة الواضحة و«البسيطة»، حول انتحار شخص كوير بسبب جنون هذا العالم وقسوته، أقوم بها أنا، من عاش لسنوات طويلة – وما زلت – مع أفكار انتحاريّة شديدة، وحولي الكثير من الأحباب والأصدقاء القريبين ممّن يعيشون أفكار انتحاريّة تطوّر الكثير منها إلى محاولات، فكانت مهمّة صعبة وقاسية، نفّذتُها «بنجاعة» ونجاح، وقضيت ليلة كاملة باكيًا.

عمل كثير مع شعور كبير بالتقصير

تكملةً لموضوع الحمل النفسي الكبير لهذا النوع من العمل، كان من أبرز المشاعر الثقيلة التي رافقتي خلال العمل هو الشعور بالذنب. بالنسبة لي كانت المعادلة واضحة وبسيطة: «كلّما عملت بجديّة واجتهاد أكثر، كانت حياتي وحياة من حولي أفضل». يتراوح هذا التصوّر لهذا النوع من العمل المهني والسياسي بين الواقعية البالغة والتبسيط والسطحية البالغتين، لكن وبغضّ النظر عن دقّته، لا شكّ أنه كان محركًا أساسيًّا لي.

 كان يمكنني أن أرى الأثر القريب والمباشر لإنجازات أو حتّى نشوات العمل على حياتي وحياة أشخاص آخرين، من كسر للعزلة وتوفير للمعلومات ودفع للنقاش العام ومقارعة الاستعمار وغيرها الكثير. إلا أن الأثر الأكبر هو العميق وطويل المدى، الذي يتحقق من العمل بجدّ واجتهاد وبشكل استراتيجي، وهو ما أرى نفسي – أو على الأقلّ أحبّ أن أرى نفسي – جزءًا منه ومن حالة صنعت تغييرًا حقيقيًا في السنوات الأخيرة.

مقابل الشعور بالأثر والجدوى، كان للشعور بالتقصير طريق سهلة إلى حياتي دومًا. من أكبر أثمان هذا النوع من العمل هو الغرق في دوّامات من الجلد الذاتي في حال لم تتمّ مهمّة أو خطّة، أو تحلّ مشكلة، أو يُساعدَ شخص، أو يُحرّر كافة كويريين العالم، ويكون التعامل مع هذه المشاعر من خلال العمل بشكل جنوني، الذي بدوره لا يحلّ «المشكلة»، بل كانت حلقة مفرغة من العمل أكثر والشعور بالحاجة إلى المزيد منه، وهكذا. 

لا تسبح هذه المشاعر في الفراغ بطبيعة الحال، بل توجّد في بيئة خصبة تعززها طوال الوقت: أوّلًا تقف أساسًا على أرضيّة نفسيّة يشكّل فيها مشاعر الذنب – عادةً – مكوّنًا أساسيًّا من تركيبتنا كأشخاص كوير. كما أنها موجودة في سياق نظام وعلاقات إنتاج رأسماليّة وسريعة تتطلّب «الإنجاز» والإنتاج الدائم، تصل بدورها إلى أشكال العمل السياسي «المناهض للرأسماليّة» أيضًا.

أبحث عن عمل

بعد عام من انتهاء وظيفة في مؤسسة كويريّة، ومع كلّ الجوانب المنهكة والصعبة التي ذكرت جزء قليل منها في الأسطر السابقة، أدرك نعيم تلك التجربة وامتناني لها، خاصّة مع كل مقابلة عمل أذهب إليها. كما ذكرت في البداية، لن يوف هذا المقال، ولا غيره من المقالات، تفاصيل تجربة مركّبة عاطفيًّا ومهنيًّا وسياسيًّا إلى أبعد الحدود، إلا أنني حاولت مجرّد أخذ خطوة أولى في المشاركة والتأمل في هذه التجربة، وأنا على يقين أنّها قضيّة للنقاش العام والتفكير الجماعي، وإن بدت شديدة الخصوصيّة والفرادة. على أمل الانتقال لتجربة أخرى مثيرة وغنيّة، لأكتب عنها بشكل أقل دراماتيكية.

Skip to content