لا، نحنُ لا نُريد أن نلتحِق بِرَكبِ أحد (1961)

هلمّوا إذن يا رفاق، يجب أنّ نعزم الآن على تغيير طرقنا، يجب أنّ نزعزع هذا الظلام الحالك الذي حلّ علينا، ونتركه وراءنا. هذا اليوم الجديد الذي في المتناوَل يجب أن يلقانا ويملؤنا الثبات والتعقل والحزم.

يجب أن نترك أحلامنا ونترك معتقداتنا القديمة وصداقاتنا المعقودَة قبل بزوغ هذا الفجر. دعونا لا نضيّع أي وقتٍ في ابتهالاتٍ عقيمة وتقاليدَ مُقرِفة. اتركوا أوروبا التي لا تكلّ من الحديث عن «الإنسان»، وتقتل مع ذلك الإنسان حيث ثقفَته في كلّ زاوية من كل شارع من شوارعها، بل وفي كلّ أركان العالم. فهي خَنَقت الإنسانيّة جمعاء لِقرونٍ طويلة بِاِسمِ «التجربة الروحيّة» المَزعومة. أنظروا لَهُا اليَومَ تترنّح بين انْحِلالٍ نوويّ وتفسّخٍ روحي.

ومع ذلك قد نقول إنّ أوروبا نجحت فعلًا في كُلّ ما يُمكِن لها تحقيقُه.

استحوَذَت أوروبّا على قيادة العالم بحماسةٍ واستهتارٍ وعُنف. أنظروا لامتداد ظِلال قصورها أوسعَ من أيّ وقتٍ مضى! كُلّ حركة منْ حركاتها تحطّم حدود الفضاء وحدود الفكر يومًا بعد يوم. رَفَضت أوروبا التَواضُع والخجل، ولكِنَّها رفَضَت معهُما الرفق والحنان.

وتبيَّنت سِماتُها، فهي لا تتّسِم إلّا ببخلٍ شديدٍ وجشع مع الإنسان؛ وَلَم تقتل وتلتهِم إلّا الإنسان.

إذن يا إخوتي، لم لا نعي وجود ما هو خير لنا من ملاحقة ركب أوروبا هذه ذاتها؟

أوروبا هذه التي لا تكف عن الحديث عن «الإنسان» والتي لا تبرح عن الادعاء أنّ همها الأوحد هو رفاهية «الإنسان»، نعرف اليوم ما تكبدته الإنسانية من معاناةٍ وآلام ثمنًا لكل واحد من انتصاراتها الذهنية.

هلمّوا إذن يا رفاق، فهذه اللعبة الأوروبية انتهت أخيرًا، ويجب أن نجد لأنفسنا شيئًا مختلفًا، فنحن اليوم قادرون على كلّ شيء، طالما لا نقلّد أوروبا، طالما لسنا مَهْوُوسين بِرَغبة ملاحَقة ركْب أوروبا.

تعيش اليْومَ أوروبا بوتيرة جنون وطَيشٍ مسفحل هَزَّت وأطاحَت برشادِها ورُشْدها، وهَا هي تجري مُتهوِّرةً نَحو الهَاوية، فمِنَ المُستحسَن لنا تجنّب هذه الهاوية أَسرَعَ ما أمكن.

ومع ذَلِك، نَحْنُ بِالفِعل بحاجة لنموذَج، ونحن نريد مُخطَّطاتٍ وأمثِلة، والكثيرون فيما بيننا يرون النّموذج الأوروبيّ أكثرها إِلهامًا. وقَد رأينا بِالتّالي في الصفحات السّابِقة نَوعَ النّكساتِ المُذِلَّة التي قادتنا لَها هذه المُحاكاة. لا يجب أن تُربِكنا الإنجازات الأوروبيّة والتكنيكُ الأوروبيّ والأسلوب الأوروبيّ أو تفقدنا توازُنَنا بعد اليوم.

وحينما أبحث عن «الإنسان» في تكنيكِ وأسلوبِ أوروبا، لا أرى إلّا نفيًا مستمرًا للإنسان، ومَعَهُ سيلٌ من سَفْك الدِماء.

إنّ الحالة الإنسانيّة، والخُطط لأجلِ البشريّة والتّعاون بَيْنَ البّشر في تِلْكَ المَهامّ التي تُغني كيان الإنسان هي مسائِلُ جَديدَة، وبالتالي تَتَطلّبُ إبداعاتٍ حقيقيّة.

دعونا نُقرِّر ألّا نحاكي أوروبا؛ دعونا نجمع قُوّةَ عضلاتنا وعقولنا في طريقٍ جديدة. دَعونَا نُحاوِل خلقَ إنسانٍ مُكتَمِل، إنسانٌ عجِزت أوروبا عن تَوليدِه وِلادةً ظافِرَة.

منذ قرنين من الزمن، قرَّرت مُستعمَرة أوروبية قديمة أن تلحق بِرَكب أوروبا. ونجحت حتى أصبحت الولايات المُتحدة الأمريكية مَسخًا نَمَت فيه عيوب وأمراض وَوَحشية أوروبا لأبعاد فظيعة.

يا رفاق، أليس لدينا ما نفعَلُه سوى صُنعِ أوروبا ثالِثَة؟ رأى الغَربُ في ذاتِه مُغامَرةً رُوحيّة. وبِاسمِ الرّوح، رُوْح أوروبا بالطّبع، قامَت أوروبا بِانتهاكاتها، وبِاسم هذه الرّوح برّرَت جَرائِمها وشَرعنَت استعِبادَها لأربَعةِ أخماسِ الإنسانيّة.

وعَلى الرُغمِ مِن ذلك، فَلِهذه الروحِ الأوروبيّة جُذورٌ غريبة. فالفِكرُ الأوروبيّ بأكمله انكشف في أمكِنةٍ ما تنفكّ تخلو مِن الإنسان، وما تنفكّ تزداد وعورة؛ وبالتالي نمى هذا التقليد في أمكنةٍ اختفى مِنها الإنسان شيئًا فشيئ.

لم يكفّ كلٌ مِن الحوارِ الدائم مع الذّات والنرجسيّةِ الفاحشة عن إعداد طريقة لوضعٍ شِبه هذيانيّ، فيه يُصبِح العمل الفكري مُعاناةً والواقِعُ ليس أبدًا واقع إنسانٍ حيّ يعملُ ويَصنعُ ذاته، وإنّما مُجرّدَ كلِمات، تركيباتٍ مُختلِفة مِن الكلِمات وتوتّرٍ نابِع من الدلالات المتضمّنة في هذه الكلِمات. ومع ذلك، نِجدُ بعضُ الأوروبيين يحثّون العُمالَ الأوروبيّين أن يحطّموا هذه النرجسيّة وأن يكسروا ارتباطَهُم بهذا التَجريدِ للواقع.

ولكنَّ عمومَ العُمّال الأوروبيين لم يستجيبوا لهذه الدّعوات، فهؤلاء العُمّال أيضًا يحسبون أنفُسهم جزءًا مِن المغامرة الإعجازية للرّوح الأوروبية.

كلُّ عناصِر الحلّ لمسائل الإنسانيّة العُظمى تواجَدت في أوقاتٍ مُختلفة في الفِكر الأوروبيّ، ولكنّ الأوربيين لم ينفّذوا فِعلًا المُهمّة التي وقعت على عاتِقهم، وهي أن يستنِدوا استنادًا قويًا إلى هذه العناصر، وأن يعدِّلوا ترتيبها وطبيعتها، وأن يغيروها و – في آخر الأمر – أن يرتقوا بمسألةِ الإنسانيّة لمستوىً لا متناهي في العلو.

اليوم نحن نَشْهدُ ركودَ أوروبا. فلنهرب يا رفاق من هذه الحركة الساكِنة حيث الجدليّة تتغيّر تدريجيًا لـ «منطقِ التوازُن». دعونا نعيد النّظر في مسألة البشريّة. دعونا نُعيد النّظر في مسألة الواقع الذّهني والكتلة الذّهنية للبشريّة جمعاء، الّتي يجب زيادة روابطها وتنويع قنواتِها واسترداد إنسانية رسائلها.

تعالوا أيّها الإخوة، فلدينا عمل كثير يتجاوز في حجمه لَعِب دورِ حامِيةِ الجَيش. فعلت أوروبا ما أعدّت لِفعلِه، وفَعلَته بشكلٍ جيّد إجمالًا؛ دعونا نكفّ عن لومِها، ولكن علينا أنّ نقُول لها بحزمٍ أنّها يجب تكفّ عن الغناء والرّقص احتفالًا بِما فَعلت. ليس هنالِك ما نخشاهُ بَعد اليوم، إذن دعونا نكفّ عن حسدها.

إنّ العالم الثالث يواجِه اليوم أوروبا كأنّه كُتلة جبّارَة يتوجّب أن يكون هدَفُهَا محاولة حلّ المسائل التي لَم تتمكن أوروبا مِن إيجادِ حلٍ لها.

لا، نحن لا نُريد أن نلتحِق بركبِ أحد. ما نُريده هو أنّ نتجِه للأمام طِوال الوقت، ليلًا ونهارًا، بِرِفقة الإنسان، بِرِفقةِ كلّ البشر. ويجب أن تكون القافِلة متراصّة ولا تتشتّت، ففي هذه الحالة سيصعُب على كلّ صفٍّ أن يرى الصّف الذي تقدَّمه، والبَشرُ الذين لم يعودوا يألفون بعضهم البعض يندرُ تلاقيهم، ويندرُ حديثهم معًا.

المسألةُ هي أن يُدشّن العالمُ الثالِث تاريخًا جديدًا للإنسان، تاريخٌ يضع بعين الاعتبار أطروحات أوروبا المُذهِلة أحيانًا، ولا ينسى جرائم أوروبا، إذ أنّ أفظعهَا ارتُكِبت بحق فؤادِ الإنسان، وهي التمزيق المريض لوظائفه وإفساد وحدته. وفي إطار المجتمع أفُتعِلت اختلافاتٌ مِنْ تقسيم طبقي وتوتّر متعطّش للدماء تغذّيه الطبقات، وأخيرًا على المستوى البشريّ الواسع أوجَدت كراهية عِرقيّة واستعبادٌ واستغلالٌ، بل وإبادةٌ جماعيّة غير دامية تنطوي على تهميش مليارٍ ونصف مليارِ مِن البشر.

إذًا يا رفاق، دعونا لا نثني على أوروبا بِخلق دولٍ ومؤسساتٍ ومجتمعاتٍ تستلهِم منها.

فالإنسانيّة تنتظر مِنّا شيئًا مُختلفًا عن مِثل هذه المحاكاة الّتي ستبدو أشبه تقليدًا فاحش.

إن كُنا نريد أن نحوّل أفريقيا لأوروبا جديدة أو أمريكا لأوروبا جديدة، دعونا إذن نترك مصائر بُلدانِنا إلى الأوروبيين، فهم يعلمون كيفية ذلك أفضل من أكثرنا ذكاء.

ولكن إن أردنا الإنسانيّة أن تتقدّم خطوةً للأمام، وإن كُنّا نريد أن نصعد بِها لمستوى أعلى من المستوى الذي قدّمته أوروبا، يجب علينا أن نبتكِر ويجب علينا أن نكتشف.

إن رغبنا أن نرقى لمستوى توقّعات شعوبنا، يجب أن نبحث عن جواب في غير أوروبا.

بل وإن رغبنا أن نستجيب لتوقّعات شعب أوروبا، فليس من الحِكمة أن نُرسِل لهم صورةً – وإن كانت صورةً مِثاليةً – عن مجتمعاتِهم وعن فكرهم، فكرٌ أصبحوا يشعرون تجاهَهُ باشمئزازٍ لا يُقَاس.

فمِن أجل أوروبا، ومِنْ أجل أنفسنا، ومِن أجل الإنسانيّة يا رِفاق، يجب أن نفتح صفحةً جديدة، يجب أن نكتشِف مفاهيم جديدةً وأن نحاول خلق إنسانٍ جديد.

Skip to content