الفصل السادس: الرجل المعنِّف في الحياة اليومية

أشعر أني سَيجن جنوني.

أحيانًا أشعر أنه يومٌ سينفجر فيه في وجهي مهما فعلت.

إنه حنون في الداخل.

لا يمكن لي توقعه أبدًا، فهو متقلّب هكذا دون سبب.

لا يصح لي تسميته بالمعنّف، فهو يمكن أن يكون لطيفًا لأسابيع طويلة.

أنا أحبّهُ حقًا.

خلال الخمسة عشر عامًا التي عملت فيها مع الرجال المعنِّفين، قضيت مئات الساعات على الهاتف استمع لوصف شريكات عملائي لحياتهم. وظيفتي تنطوي على رؤية العميل من عيون شريكته، مستخدمًا خيالي لأدخل منزلها وأستوعب الأجواء التي يخلقها العميل في الحياة اليومية. بتقمّصي منظورها أبدأ برؤية ما وراء القشور.

في الوقت نفسه، ما أراه ليس الرجل الذي تراه المرأة المعنَّفة تحديدًا، فالظروف التي أراه فيها لها عدة جوانب غير اعتيادية:

  • من الآمن لي تحدّيه ومواجهته فأنا جالس في غرفة مليئة بالشهود بمن فيهم قائد الحلقة الآخر. وفي العديد من الحالات أملك بعض السلطة عليه لأنه تحت المراقبة القانونية للسلطات، وبالتالي يمكن أن يعيده تقريرٌ سلبي مني إلى المحكمة.
  • لدي قائمة بأسماء وأوصاف تكتيكاته، وبالتالي يجد هو صعوبة في إرباكي أو تخويفي أو جعلي أنتقد نفسي، لأنني مداومٌ على فضح مناوراته ونواياه. يفقد التعنيف بعض قوته عندما تملك أسماء أسلحته.
  • لستُ مضطرًا للعيش مع هذا الرجل، وبالتالي فُرَصه للانتقام مني لأنني واجهته منعدمة.
  • بعض الرجال في الحلقة يحاولون تطبيق مفاهيم البرنامج عبر تحدي منظور وسلوكيات هذا الرجل. وهذه التحديات من غيره من المعنِّفين تصعّب محاولته لوم كل شيء على شريكته أو على النساء عمومًا.

وأضيفي على ذلك أني أتعلم عن الرجل بمراقبة ردودِ فعله للنقاشات في حلقته. فمثلًا، يميل لاستنكار عنف العملاء الآخرين ذوي الأسلوب المختلف في التعنيف عن أسلوبه – لأنه يعتبر أي شيءٍ لا يقوم به تعنيفًا «حقيقيًّا» – في حين يتعاطف ويعزز لأي معنِّفٍ آخر يستخدم التكتيكات أو التبريرات المماثلة لأسلوبه، وينظر إلي ويقول: «ماذا تتوقع من هذا الرجل المسكين فعله في حالٍ كهذا؟».

بالتالي أحاول مع المرأة المعنَّفة تشكيل فريق، حتى نشارك ملاحظاتنا حول الرجل ونساعد بعضنا على رؤية أنساق سلوكه وآلياتها، وأنا متحمّسٌ للتعلم منها حول عميلي، وفي نفس الوقت متحمّسٌ لمشاركة أي ملاحظات أعتقد أنها قد تساعدها في حماية نفسها أو حلحلة تلاعبه بذهنها.

أحد الدروس الأولية التي تعلمتها من النساء المعنّفات هو أن فهم التعنيف يستلزم عدم الاكتفاء بالنظر في الانفجارات، بل عليك تفحص الفترات الفاصلة بين الانفجارات بعناية مماثلة، فنحن نتعلم من آليات هذه الفترات عن التعنيف بقدر ما نتعلم من لحظات الغضب، والأغراض المرمية، أو الكلام القذر، أو الاتهامات الغيورة. إن تفكير المعنّف وسلوكياته أثناء الفترات الهادئة هي ما يسبب الانفجارات الضخمة التي تجرح أو تخيف. وفي هذا الفصل ندخل ذهن المعنِّف في لحظات مختلفة من الحياة اليومية لنكوّن فهمًا أفضل لما يشعل سلوكه التعنيفي.

الرجل المعنِّف أثناء الجدال

سأبدأ بفحصٍ مفصل لجدالٍ بين رجلٍ معنِّف وشريكته من النوع الذي تكرر علي من عملائي وشريكاتهم. جيسي وبيا يمشيان في المدينة، وكان باديًا على وجه جيسي أنه متنرفز ومنزعج.

بيا: ماذا دهاك؟ لست أفهم لم أنت منزعج.

جيسي: لست منزعجًا. فقط لا أريد الحديث الآن. لِم تحاولين تفسير كل شيء كمشكلة؟ ألا يمكنني التزام الصمت لبعض الوقت؟ كونك تحبين الثرثرة دون توقف لا يعني أن كل الناس كذلك.

بيا: لست أثرثر طوال الوقت. ماذا تعني بذلك؟ كل ما أردته هو معرفة ما يزعجك.

جيسي: لقد قلت لك للتو، لا شيء يزعجني . . . وكفي عن الهراء، تقولين أنك لا تكثرين الثرثرة؟ أثناء العشاء مع أخي وزوجته، لم أصدّق أذني. لم تكفي عن الحديث عن فصل الصحافة الغبي. عمرك أربعون عامًا بحق المسيح؛ أتظنين أن الناس متحمسون لأحلامك بالشهرة؟ كبري عقلك ولو قليلًا.

بيا: أحلام شهرة؟ لست أحاول إلا إيجاد وظيفة جديدة، جيسي، لأن وظائف وكالات السفر انتقلت كلها للمدينة. ولم أُطِل أنا الحديث عنها، كانا حقًّا مهتمّين، فقد سألاني العديد من الأسئلة – ولهذا السبب أطلنا الحديث.

جيسي: أوه، بالتأكيد كانا مهتمّين! كانا لَبِقَيْن معك بسبب ثقتك الجوفاء بنفسك، لكنك أبلهُ من أن تنتبهي من استصغار الناس لك.

بيا: يا إلهي، مضى أسبوعان منذ عشاءنا، هل حملت علي طوال هذا الوقت؟

جيسي: أنا لا أحمل على أحد يا بيا،أنتِ من تفعلين ذلك، وتحبّين الخلط بين صِفاتنا. سآراكِ لاحقًا، لا وقت لدي لهذا الهراء.

بيا: لا وقت لديك لهذا الهراء؟؟ لم أفعل شيئًا! أنت من تتصرف هكذا منذ لقائنا اليوم!

جيسي: توقفي عن الصراخ في وجهي. أنتِ تعلمين حق المعرفة أني أكره ذلك. ألا يمكنك التحكم بمشاعرك؟ أنت بحاجة لعلاج نفسي. سأراكِ لاحقًا.

بيا: إلى أين أنت ذاهب؟

جيسي: سأعود مشيًا إلى المنزل، شكرًا. يمكنك أخذ السيارة. أفضل العودة وحدي.

بيا: كيف تعود مشيًا في هذا البرد القارس، سيأخذ ذلك منك أكثر من نصف ساعة.

جيسي: أوه، الآن أصبحت تهتمين بي. تبًا لك. وداعًا.

ومن ثم يمشي.

حياةُ النساء المعنَّفات مليئة بهذه الحوادث. جيسي لم يرمي بيا بأي ألقاب مهينة، ولم يصرخ، ولم يضربها أو يهددها. سيصعب على بيا شرح سبب استيائها لأصدقائها، لأن سلوك جيسي يصعب وصفه. ماذا عساها تقول؟ أنه متهكم؟ أنه يحمل عليها أحيانًا؟ أنه ناقدٌ أكثر من اللازم؟ صديقتها ستجيب: «يعني، ما يفعله صعب، لكنّه ليس تعنيف». ومع ذلك، عندما تراه بيا يتركها هكذا، تشعر وكأنما تلقت صفعة على الوجه.

ماذا خطب هذا الجدال؟

سننظر أولًا لما يفعله جيسي وبعد ذلك سننظر في تفكيره. النقطة الأولى الواجب إيضاحها هي:

مشكلة المعنِّف ليست ردّه غير اللائق في حال الصراع، بل تعنيفه ينشط قبل الصراع نفسه: بل تعنيفُه هو ما يخلق الصراع، ويحدد الشكل الذي يتّخذه الصراع.

عندما يتعامل المستشارون النفسيون مع المعنِّف عادةً ما يركزون على ردّة فعله تجاه الخلافات وجعله يتعامل مع الصراعات على نحوٍ مختلف. لكن منهجًا كهذا يخطئ الهدف: تعنيفه هو ما سبب التوتر من الأساس.

يستخدم جيسي عددًا من تكتيكات التحكم بالحوار، مثله مثل أغلب المعنِّفين:

  • ينكر أنه غاضب، رغم وضوح غضبه، وبدل التطرق لما يزعجه، يفرغ طاقته في انتقاد بيا حول أمرٍ آخر.
  • يهين ويستصغر ويستحقر بيا بطرقٍ عديدة، بما في ذلك القول إنها تتحدث دون توقف وتحلم بالشهرة، ينهرها ويقول لها «كبّري عقلك»، ويقول إنها تتهمه بالحمل عليها بينما هي من تحمل عليه واقعًا.
  • يقول لها إنها ليست واعية أو مدركة باستصغار الآخرين لها وأنهم لا يأخذونها على محمل الجد، ويسميها بـ «البلهاء».
  • ينتقدها لرفعها صوتها كرد فعل لتكرر إهاناته.
  • يقول إنها هي من تسيء معاملته هو.
  • يغادر المكان ويلعب دور الضحية عبر المشي الطويل وحده في الجو البارد.

ينتهي الحال بِبيا تعيسةً، تشعر أنّها عمودٌ خشبيٌّ استخدمهُ قطٌّ لِيشحذ مخالبه، وجزءٌ مما يهزها في هذه التجربة هو أنها يتعسر عليها أنْ تعلم متى ستبدأ الهجمة اللفظية التالية وما سيشعلها. ففي أيام أخرى قد تقيل جيسي إلى المنزل ويدردشان بكل أريحية عن يوم عمله، ولذا فهي الآن تشعر أن شيئًا ما لربما حصل له في العمل وهو يفرّغ غضبه تجاهها – وقد يكون ذلك صحيحًا بطريقةٍ ما لكن لا ارتباط حقيقي لذلك بما يجري.

إذن، ماذا يجري حقًا؟ بدأت القصة قبل أسبوعين، حين خرج جيسي وبيا ليتعشيان مع أقارب جيسي. ما تعلّمناه للتو من جدالهما هو أن جيسي لا يحب أن تكون جيسي محطّ الاهتمام لأي زمنٍ معتبر. لم لا؟ هنالك بضع أسباب:

  1. يعتبر وظيفتها تأدية دور داعم له، وذلك يوافق مقولة «وراء كل رجل عظيم امرأة». لو كان أحدهما سيحتل مركز الاهتمام، يجب أن يكون هو، ولو لم يودّ الحديث يجب أن تبقى هي أيضًا في ظله.
  2. إنه يركز دائمًا على أخطائها، ومن ثم يعتقد أن كل الناس كذلك.
  3. إنّه لا يود لها أن تبدو ذكيةً وقديرةً ومثيرةً للاهتمام علانيةً، لأن ذلك يتصادم باعتقاده العميق بأنه غير عقلانية وعاجزة ومستحقة للتجاهل – وهو يودّ للآخرين أن يشاركوه هذا المنظور.
  4. إنه يخاف بمستوى من المستويات أنها إن استردَّت مقدارًا كافيًا من قوّتها، فستتركه – ومن المرجح أنه على حق.

لاحظي أن النقطتين الثانية والثالثة تكادان تتعاكسان: إنّه يفترض أنها دائمًا تعطي انطباعًا سيئًا، مما يحرجه، لكنّه أيضًا قلقُ من أنها قد تعطي انطباعًا جيدًا جدًا، لأن ذلك قد يدفع الآخرين ليرون فيها إنسانةً قوية. وردُّ فعله قويٌّ تجاه الاحتمالين.

ونلاحظ أيضًا دلالات على أنَّ جيسي يرى في فصل الصحافة تهديدًا لتحكمه بها. في الحقيقة، الأرجح أن هذا ما ظل يشغله طوال الأسبوعين الماضيين، مما عكّر مزاجه. يشعر الرجال المعنّفون بالانزعاج من ملامح الاستقلال المتنامي في شريكاتهن وكثيًرا ما يبحثون عن طرق لهدم تقدّم المرأة في الأيام التالية.

نعود اليوم إلى يوم الجدال، يمكننا رؤية جيسي ينسب العديد من صفاته هو إلى بيا، فيقول إنها مغترة بنفسها، وأنها تنشغل بالمظالم، وأنها تصرخ، ولا تهتم به. وهنا نجد خطأً شائعًا في الإشارة إلى هذا السلوك عند المعنِّفين بـ «الإسقاط»، العملية النفسانية التي ينسب الناس عبرها مخاوفهم أو عيوبهم إلى من حولهم. لكن هذه العملية، كما رأينا في الفصل الثالث، التي يقلب من خلالها المعنِّف الواقع رأسًا على عقب ليست مماثلةً للإسقاط، فجيسي يتصوّر بيا تصرخ لأن أحد قيمه الجوهرية هي أنّها ليس من المفترض أن تغضب عليه مهما فعل، وهو يعتقد أنها لا تهتم به لأنه يعتقد أنها لا تهتم به إلّا إن لم تهتم إلّا به، ويرى أنها مغترة بنفسها لأنها تتحمس أحيانًا لأهدافها وأنشطتها، وهو يعتقد أنّها يجب أن تتحمس أكثر ما تتحمس بما يفعل هو، وهو يعتقد أنها تنشغل بمظالمها لأنها تحاول أحيانًا أن تحاسبه على ما يفعل، بدل أن تسمح له بدفعه لتنظيف الخراب الذي يتركه – حرفيًّا ومجازيًّا.

يستخدم جيسي الإسقاط كتكتيك تحكم، فأحد أسباب اتهام جيسي لِبيا بفعل كل الأفعال الأنانية أو التعنيفية التي يفعلها هو إضعاف قدرتها على التظلّم، وقد مرّ عليّ عدد من العملاء قالوا شيئًا من هذا القبيل: «بالطبع كنت أعرف أن ما قلته ليس صحيحًا، كل ما أردته هو إزعاجها» (وعدد المعنِّفين الذين يعترفون – إن أتاهم السؤال على حين غرة – بتوظيفهم المتعمد للسلوك التعنيفية والتحكمية لهو مفاجئ جدًا). ولكل هذه الأسباب، الاكتفاءُ بالقول «إنه يسقط س عليها» لا يتناسب مع أسباب اتهامات المعنِّف المشوَّهة.

والسلوك الأخير الذي علينا فحصه هنا هو قرارُ جيسي بالعودة للمنزل مشيًا في برد الليل. لماذا يحول نفسه إلى الضحية؟

  • أنه يميل لجعل بيا تشعر بالأسى تجاهه حتى تظلّ مشاعره مركزَ الاهتمام، دافعةً مشاعرها إلى خارج الصورة. فهي ستشعر أنها لا يجب أن تتعاطى مع مظالمها حول هجمته اللفظية، لأنه يعاني جدًّا الآن.
  • وهو يريد من الناس الآخرين أن يشعروا بالأسى تجاهه. يمكنه أن يصف لأصدقائه أو أقربائه كيف أدى هذا الجدال لسيره البائس لوحده إلى المنزل، وسيرون فيه الرجال المسكين، وسيحرّف القصة بعض الشيء لتميل لصالحه – فالمعنّفون يضيفون بعض البهارات لسردياتهم – وقد يقول أنها كانت ساخطة وهي من رحلت عنه بالسيارة، وتركته ليمشي في البرد القارس. وهو ليس يخطط لهذه المناورات مسبقًا وعلى نحوٍ واعي، إنما التجربة علمتهم على مستوى أعمق أن تأدية دور الضحية يزيد من مستوى التعاطف الذي يتلقاه.
  • لربما يريد لها أن تقلق مما سيقوله الآخرون، فهي لا تريد أن تبدو كالطرف اللئيم، ولذا ستتخذ خطواتٍ لتهدئة الوضع.
  • بدرجةٍ ما، هو يستمتع بالمشي وحيدًا لنصف ساعة، يتمرّغ في حزنه وشفقته على نفسه، ما يساعده على الإحساس بأن نسق قسوته وتهديمه تجاه بيا مبرَّر. وهي طريقة ليطمئن نفسه بأنها هي اللئيمة، لا هو. فالمعنِّف إنسان، وفي داخله – في مكان ما – تحت أغطية ثقيلة من حسّ الاستحقاق وعدم الاحترام، يوجد قلبٌ يعلم أنّ ما يفعله خاطئ. وهذا القلب يحاول دوريًّا إرسال بعض الإشارات عبر هذه الأغطية، ويحاول المعنِّف قطع سلك وصولها.

كل معركة لفظية مع معنِّف هي كالمشي في حقل ألغام، وكل حقلٍ مختلف عن الآخر. يبدو جيسي كمزيجٍ بين «الجلّاد البارد» و«الضحية»، تضاف إليه ملعقة من «أبو العرّيف». ولربما هذا الجدال نفسه لو جرى مع «الشاويش» أو «اللعوب» لاختلف تمامًا، لكن مهما كان الأسلوب المحدد، ليس في ما يفعله المعنِّف في الجدال ما هو غير عقلاني أو عاطفي كما يبدو.

أربع سمات جوهرية في الجدال التعنيفي

قد تجدين كل خلافٍ مع شريككِ متمايز وقد يبدأ بأي طريقة كانت، لكن مهما كانت الاختلافات والبدايات فهي تنتهي إلى أربع أو خمس نهايات – وكلّها سيئة. الشعور الذي يخالجك بعقم وحتمية هذه النهايات آتٍ حقيقةً من طريقة تفكير الرجل المعنِّف بالصراع اللفظي، فمنظوره يحول دون تقدم أي جدال نحو أي شيء إلّا تلبية رغباته – وإلا العدم. تبرز هنا أربع سمات:

1. المعنِّف يرى الجدال كحرب.

هدفهُ في أي خلافٍ لفظي ليس التفاوض حول رغباتٍ مختلفة، وفهم تجربتكما، أو التفكير بحلٍّ نافعٍ لكلاكما. ما يريده هو الانتصار ولا شيء سواه. والانتصار يُقاس بِمَن يتحدث أكثر، ومن يرمي الآخر بأكثر الإهانات إساءة و«هزليةً» (وليس فيها ما يضحك شريكته، بالطبع)، ومن يتحكم بالقرار الأخير الناتج من المناظرة، ولن يقبل بأي تسوية سوى الانتصار. ولو شعر أنه خسر الجدال، قد يتجه إلى التراجع التكتيكي ليستجمع قواه ويهاجم لاحقًا.

وتحت هذه الطبقة توجد طبقةٌ أعمق لدى العديد من الرجال المعنِّفين نجد فيها اعتقاده أن العلاقة بأكملها حرب. ولأصحاب هذه العقلية، العلاقات ثنائية تناقضية، وأنت إما على هذا الجانب أو ذاك: إمّا المهيمِن أو الخاضع، البطل أو المهزوم، الرجل المذهل أو الفاشل. ولا يرى العلاقات بأي وجه آخر.

2. إنها دائمًا مخطئة في عينه.

من المحبط، والعقيم في آخر المطاف، أن تجادل شخصًا موقنًا بلا أدنى شك أن منظوره دقيقٌ وكامل ومنظورك خاطئ وغبي. فإلى أين يمكن لحواركما أن ينتهي؟

المسألة ليست ما إذا كانت يكثر الجدال، فالعديد من الناس غير المعنِّفين يعبّرون عن آرائهم بقناعةٍ راسخة وعاطفةٍ وحماسة ومع ذلك يسمحون لأنفسهم أن يتأثروا بآراء الطرف الآخر. وفي المقابل، ليس من الصعب تحديد ما إذا كان من يحاورك يرفض الاستماع لأفكارك بحسن نية ويحاول استخدام أي أداةٍ يعتقد أنها ستوجه ضربةً حاسمه لرأيك. فحين يوبّخكِ شريكك قائلًا: «كلا، السبب وراء تذمّرك عن طريقةِ جدالي هو أنكِ عاجزة عن التعاطي مع آرائي القوية»، فهو يحاول أن يشتت الانتباه عن تكتيكاته، ويَقلبُ الواقع رأسًا على عقب، فالحقيقة هي أنه هو من لا يقبل اختلافكِ في الرأي ولا يريدُ لآرائه أن تتأثر بآرائك (وفي الحالات النادرة التي يقبل فيها بآرائك، قد يدعي أنها كانت آراءهُ واقعًا).

3. لديه مصفوفة من تكتيكات التحكم أثناء الصراع.

لدى عملائي طرقٌ عديدة للغاية للتنمر بغاية الانتصار في الجدال ولا يسعني إدراجها جميعًا، لكن التكتيكات الأكثر شيوعًا ستجدينها في هذا الصندوق:

الاستهزاء

السخرية

تحريف ما تقولينه

تحريف ما جرى أثناء حوارٍ سابق

العبوس

يتهمكِ بشيءٍ هو في الواقع من يفعله

استخدام نبرة اليقين المطلق والمعرفة التامة – «تعريف الواقع»

المقاطعة

عدم الاستماع، والنأي عن الرد

الضحك بصوتٍ عالٍ على رأيك أو منظورك

قلبُ مظالمك لاستخدامها ضدك

تغيير الموضوع لتتحدثا عن مظالمه هو

النقد الحاد، غير المُستَحق، أو الكثير

استثارة الشعور بالذنب

تأدية دور الضحية

التبسّم سخريةً، الامتعاض، وغيرها من تعبيرات الازدراء

الصراخ، وطمرِ صوتكِ بِصوته

السب، الرمي بالألقاب، الشتيمة، والإهانة

الخروج وسط النقاش

إخافتك جسديًا

الدور حواليك لإخافتك

الوقوف في طريقك

غيرها من ضروب التخويف الجسدي، مثل الاقتراب الشديد منك وهو غاضب

التهديد بهجرانك

التهديد بأذيتك

تكتيكات التحكم بالحوار مضايِقة مهمن كان مستخدمها، لكنها إكراهية ومزعجة خصوصًا إن استخدمها رجلٌ معنِّف بسبب السياق المحيط من التخويف العاطفي أو الجسدي، فأنا نادرًا ما قابلت معنِّفًا لم يستخدم مصفوفةً واسعة من التكتيكات أعلاه في النزاع، فإن كنت تعتبر الجدال مع شريكتك حربًا، لم لا تستخدم كل سلاح يطرأ على بالك؟ تجعل العقلية الكامنة سلوكًا كهذا يكاد يكون حتميًا.

يرغب الرجل المعنِّف تحديدًا بإضعاف مصداقية منظورك، ومظالمك تحديدًا، وقد يقول لك مثلًا أن الأسباب «الحقيقية» وراء تظلّمك لطريقة معاملته إياك هي أنّكِ:

  • تمنعينه من أن يحبّ نفسه.
  • لا تتحملين اختلاف رأيه عن رأيك، ولا تتحملين غضبه أو كونه على صواب.
  • حساسة أكثر من اللازم، أو تقرئين أكثر من اللازم، أو تسيئين فهم الأمور.
  • عنِّفت في طفولتك أو من شريكٍ سابق، ولذلك ترين التعنيف في أي شيء.

وكل هذه استراتيجياتٌ يستخدمها لتجنب التفكير بجدية بمظالمك، لأنه قد يضطر وقتها لتغيير سلوكياته وآرائه.

هدف الرجل المعنِّف في حدم النقاش هو جوهريًا دفعك للتوقف عن التفكير لنفسك بنفسك وإسكاتك، لأن آرائك وشكواك بالنسبة له عوائق أمام فرضه إرادته وإهانة لشعوره بالاستحقاق. إن راقبت عن قرب، ستلاحظين أن كثيرًا سلوكياته التحكمية هدفها النهائي إضعاف مصداقيتك وإسكاتك.

4. يسعى للحصول على مراده، بأي وسيلةٍ كانت.

الفكرة النهائية لديه في الجدال هي أن يحصل على مراده – اليوم وغدًا وأبدًا – ويشعر أنه له الحق في ذلك.

دوراتُ الرجال المعنِّف

يمكن للحياة مع معنِّف أن تكون موجةً مدوخة من الأيام الجيدة السعيدة وفترات مؤلمة من العنف اللفظي أو الجسدي أو الجنسي. وكلما طالت العلاقة، قلَّت وتباعدت الفترات الإيجابية. فإنك كنت في علاقةٍ مع شريكٍ معنِّف لسنوات عديدة، قد تنفذ الفترات الجيدة نهائيًا، حتى أنه مصدرٌ لا متغير للبؤس.

تتبع فترات الهدوء النسبي أيام وأسابيع يصبح المعنِّف فيها حادًّا تدريجيًا، ومع تراكم التوتر، تقل أهمية ما قد يبعث بسلسلة الإهانات، فأعذاره لعدم قيامه بمسؤولياته تتراكم، وانتقاداته واستياؤه يستمران دون توقف. أخبرتني العديد من النساء أنهن يتعلَّمن كيفية قراءة مزاج شريكهن أثناء فترة التراكم هذه ويمكنهن استشعار قرب وقت انفجاره، فيومًا ما سيصل إلى حده، غالبًا على أتفه الأمور، وينفجر صراخًا بالإهانات المقززة والمؤلمة أو العدوانية المخيفة. وإنْ كان معنِّفًا جسديًا، يخول لنفسه رمي الكراسي ودفع الأثاث ولكم الجدار أو الاعتداء على شريكته مباشرةً، تاركًا إياها مرتعدةً للغاية.

بعد تطهير نفسه، يتصرف عادةً وكأنه يشعر بالعار أو الندم على قسوته أو عنفه، على الأقل في السنين الأولى من العلاقة. وبعدها قد يدخل فترةً تذكرك بالرجال الذي وقعت بحبه – ساحر، مهتم، ظريف، ولطيف. تحمل أفعاله هذه أثر شفطك إلى الدورة المتكررة للصدمات النفسية حيث تأملين كل مرة أنه، هذه المرة، سيتغير حقًا، ومن ثم تبدئين برؤية علامات الانزلاق البطيء إلى التعنيف، ويزداد قلقك وحيرتك مرةً أخرى.

يتكرر السؤال من النساء: «ماذا يجري في ذهنه أثناء هذه الدورة؟ لم لا يتمكن من البقاء في الفترة الجيدة؟ كيف لي أن أبقيه فيه؟» للإجابة على هذه الأسئلة، علينا النظر من خلال عيونه لكل مرحلة:

  • مرحلة تراكم التوتر

يجمّع شريكك أثناء هذه الفترة نقاطًا سلبية عنه ويخزّنها جانبًا لوقت الحاجة، فكل خطأٍ ترتكبينه مهما كان صغيرًا، وكل ما يحبطه، وأي فشلٍ منكِ لإيفاء صورة المرأة المتفانية المثالية التي خلقها عنك – كلّها تسجل كنقاط سوداء عند اسمك.

يغذّي المعنِّفون مظالمهم، حتى أن أحد زملائي السبقين سمّى هذه العادة بحديقة الأحقاد، وهي عمليةٌ يزرع فيها المعنِّف شكوىً صغيرة ومن ثم يغذّيها وينمّيها بعناية حتى تنمو لتصل أبعادًا خيالية تستحق الغضب والتعنيف، فجيسي مثلًا زرع حوار طاولة العشاء في حديقة أحقاده ليحصدها بعد أسبوعين ويرميها في وجه بيا مع مزيجٍ من غيرها من القضايا في كُرةٍ كبيرة قبيحة.

ليقي نفسه ضد أي شكوى قد تعبرين عنها، يخزّن المعنِّف مظالمه كأسلحة لتحمي أرضه العزيزة الملآى بالأنانية وانعدام المسؤولية. وبعضُ سلبيته حولك ليست إلّا عادةً اعتادها، فالمعنِّف يقع في روتين الخوض فيما يراه كعيوب شركته، ولأنه يراكِ مسؤولة عن إصلاح كل شيءٍ له، من المنطقي أن يختاركِ كمكبِّ كل إحباطات الحياة العادية.

  • الاندلاع

يميل الرجل المعنِّف لتجميع الأحقاد ضدك في ذهنه حتى يشعر أنِّك مستحقة للعقاب. ومتى ما استعد لتسديد ضربته، يمكن لأي شعلةٍ مهما صغرت أن تسبب اندلاعه. وأحيانًا قد تقرر المرأة المعنَّفة أن تشعل شريكها عمدًا في هذه اللحظة، رغم ما يحمله ذلك من خطر، لأن خوف الانتظار وترقب ما سيفعل ومتى لهو أسوأ. فلربما يكون انفجارُ الهجمات اللفظية أو الجسدية فظيعًا، لكنه انتهى على الأقل.

بعد انفجاره، يعفي المعنِّف نفسه من الذنب بالاعتقاد أنه فقد السيطرة، إما ضحيّةً لاستثارةِ شريكته أو ألمه الذي لا يطاق. بينما في أوقاتَ أخرى قد يقول إن الرجال أقوى وأقل عاطفيةً من النساء، فهو الآن يبدّل ويقول: «كل رجلٍ وله حدوده»، أو «لقد آذت مشاعري حقًّا، ولم أقدر على كبح الانفجار». وقد يعتبر ردود فعل المرأة – مثل البكاء – فعلًا وضيعًا، رغم أنها لا تؤذي أحدًا، لكن حينما يشعر الرجل بمشاعر قوية، فحتى العنف مبرر. فحتى بعض أشدَّ عملائي تمرجلًا يستخدمون شعورهم بالألم بلا حرج كعذرٍ لسلوكهم القاسي.

  • مرحلة «القلوب والورود»

بعد انتهاء الاعتذارات، قد يدخل المعنِّف فترة هدوءٍ نسبي، يبدو فيها أنّه حقق تنفيسه بإنزال القنابل وقصف التعنيف على شريكته. يشعر حينها بالانتعاش وقد يتحدث لغة البدايات الجديدة، بأخذ العلاقة إلى وجهةٍ جديدة. بالطبع، لا يوجد ما هو تنفيسي في أن تكون المرأة هدفًا للتعنيف (بل وتشعر بأذى أشد بعد كل دورة)، لكن لأن المعنِّف متمركز حول ذاته فهو يظل أنها يجب أن تشعر بتحسّن لأنه هو يشعر بتحسّن.

في هذه الفترة، يعمل المعنِّف لإعادة بناء الجسر الذي أحرقه تعنيفه، ويريد أن يعود عند حسن نيّة شريكته، لربما يريد أن يمارس الجنس، ويسعى للحصول على طمأنتها بأنها لن تتركه – أو تفضحه. يشيع استخدام الهدايا وبطاقات الحب في هذه المرحلة، ولذلك نسميها فترة «القلوب والورود». ولكن الرجل المعنِّف لا يريد النظر بجدّيه إلى نفسه، فكل ما يريده هو إلصاق بعض ورق الحائط لتغطية الفجوات التي سببها – سواءً مجازيًا أم حرفيًا – وتعود الأمور لما كانت عليه. لا يمكن للفترة الجيدة أن تدوم وذلك ببساطة لأن شيئًا لم يتغير، فعاداته الإكراهية ومعاييره المزدوجة وازدراؤه لها كلها ما زالت حاضرة. تتكرر الدورة لعدم وجود أي سبب لعدم تكررها.

وبعض الرجال المعنِّفين لا يتبعون دورةً واضحة كما سردت أعلاه، فحوادث التعنيف مع شريكك قد لا تتبع نسقًا معينًا، ويتعسر عليك تخمين ما سيجري المرة القادمة. ومرَّ عليَّ عملاءٌ بدى وكأنهم مسرورون لاستحالة توقّع فعالهم، مما يزيد من قوّتهم. يمكن للتعنيف العشوائي أن يحمل آثارًا وخيمة نفسانيًا عليك وعلى أطفالك.

نظرة أقرب على الفترات الجيدة

حين يقضي مدمن كحولٍ شهرًا أو شهرين دونَ شراب، نقول إنه «في الطريق»، ففترة الجفاف هذه تشكل انقطاعًا عن النسق وتبعث بالأمل في التغيير الإيجابي، لكن مع المعنِّفين في العلاقات، ففتراتُ الجود – أو على الأقل حينما لا يكون في أسوأ أحواله – ليست أبدًا خارج نسقه، بل هي عمومًا وجهٌ متأصلٌ لصفته التعنيفية، محاكةٌ في نسيج تفكيره وسلوكه.

ما الوظيفة التي تؤديها الفترات الجيدة؟ إنها في الواقع تؤدي وظائف عدة، منها:

  • فتراتُ الحنان والكرم هذه تساعده بتحسين صورته عند نفسه، بل ويمكن أن تقنعه أنِّك أنتِ من أخطئت، فيقول لنفسه: «أنظر إلي، أنا رجلٌ عظيم».
  • تشعركِ هذه الفترات تدريجيًا بالحميمية تجاهه والثقة به، وهي ضرورية لربطكِ بالعلاقة، خصوصًا إنْ لم تكن لديه سبلٌ أخرى لثنيكِ عن الرحيل، مثل التحكم المالي أو التهديد بأخذ الأطفال.
  • عند شعورك بالثقة به، تكشفين له المزيد من مشاعرك الحقيقية تجاه العديد من قضايا حياتك ويظهر حينها أنه مهتمٌّ بك، مما يخلق ضعفًا فيك يمكنه استخدامه لاحقًا للتحكم بك (وهو على الأرجح ليس يخطط لذلك بوعي)، فأثناء أحد فترات جيسي السيئة مثلًا، قد تحاول بيا مثلًا حماية نفسها بإخباره أنها تودُّ أخذ دروس الصحافة «حتى أحصل على نقاط اللغة الإنجليزية لإكمال شهادتي الجامعية»، لكن في الفترات الأكثر حميمية، قد تفاتحه بأحلامها بالسعي لممارسة الصحافة، وقد يقول إنها فكرةٌ جيدة، ومع ذلك فحين يعود إلى طور التعنيف، يعود متسلّحًا بمعرفة حياتها الداخلية الممكن له استخدامها لإيذائها، كما شهدنا في جدالهما.
  • وهو يستخدم الفترات الجيدة ليشكّل صورته العلنية، مما يصعب عليك إقناع الناس أنّه معنِّف.

لم تمر علي ولا حالة واحدة من بين ألفي رجل عملت معه دامت فيها الفترات الجيدة لدى المعنِّفين على المدى الطويل، إلّا إنْ قام الرجل بعملٍ عميق ليغير معتقداته التعنيفية، فاللطف والحب يغدو في العادة مجرد منهجيةٍ أخرى للتحكم والتلاعب ويمتزج تدريجيًا ويذوب في التعنيف الأكثر صراحة. أدرك انه من المؤلم أو المخيف أن تقبل امرأةٌ معنَّفة بهذا الواقع، لأن فترات اللطف هذه والأمل الذي تبعثه يمكن أن تكون آخر ما تتشبّثين به، نظرًا لكل ما انتُزِعَ منك، لكنّ أوهام التغيير تبقيك أيضًا محتجزةً في أشراكه ويمكن أن تزيد من شعورك بالعجز أو الإحباط حينما يعود إلى طرقه القديمة، فالتغيير الحقيقي يختلفُ مظهره اختلافًا كبيرًا عن الفترة الجيدة الاعتيادية، حتى يندر أن يختلط عليكِ الاثنان، كما سنرى في الفصل الرابع عشر.

عشرة أسباب تدفعه لألّا يتغير

للإجابة على سؤال «لماذا يفعل ذلك؟» علينا فحص الأساس الذي تستند عليه سلوكياته التعنيفية. على المستوى الأول نجد معتقدات وعاداتِ المعنِّف – التفكير الذي يحرّك سلوكه اليومي، وهو ما نظرنا له حتى الآن. على المستوى الثاني نجد عمليات التعلم التي من خلالها ينمو الفتية ليمسوا رجالًا معنِّفين، أو بعبارة أخرى: منبعُ قيم التعنيف، وهو موضوع الفصل الثالث عشر.

يوجد مستوى ثالث أيضًا، قد يندر أن يذكر في نقاشات التعنيف لكنه أحد أهم الديناميات: المنفعة التي يحصّلها المعنِّف مما يجعل سلوكه مرغوبًا لديه. فما الذي يجعل التعنيف مجزيًا؟ وكيف يُعزَّز هذا النسق التدميري؟

فلننظر في السيناريو التالي: الأم والأب وأطفالهما يتعشون معًا مساء الإثنين. الأب سريعُ الغضب والإزعاج ذلك المساء، ينتقد الجميع أثناء الطعام، وينشرُ توتّرها بينهم كما الكهرباء، وحين ينتهي من الأكل، يترك طاولة الطعام فجأة ويتجه للخروج من الغرفة، وتسأله ابنته ذات العشرة أعوام متفاجئة، «بابا، إلى أين أنت ذاهب؟ الإثنين يومكَ لغسيل الصحون»، وعند سماعه تلك الكلمات، ينفجر غضبًا ويصرخ: «أيتها القزمة القذرة اللعينة، أتتجرئين وتقولي لي ما أفعل وما لا أفعل؟ خذي أحد هذه الصحون على وجهك!» ويمسك أحد الصحون، ويمثّل أنه سيرميه عليها ويغير مسار الرمي ويكسره على الأرض، ويستدير ويطرح أحد الكراسي أرضًا ويخرج من الغرفة غضبًا. الأم والأبناء يرتجفون ذعرًا، البنت تنفجر بكاءً، فيظهر الأب عند الباب ويهدّدها إن لم تصمت، وعندها تكتم بكاءها، مما يزيد من عنف رجفتها. دونَ أن يمسّ بأحد، سدّد الأب صدمةً مؤلمة على لكل الأسرة.

ننتقل الآن إلى الإثنين اللاحق. الكل جالس على طاولة العشاء، دون أيٍّ من توتر الأسبوع الماضي، لكن الأب عند انتهائه من الأكل يخرج مرةً أخرى دون غسيل المواعين. هل يذكره أحد أفرادُ أسرته أنّ اليوم دوره لغسيل المواعين؟ بالطبع لا، ستمرُّ شهورٌ طويلة حتى يقع أحدهم في هذا الخطأ مرةً أخرى. سينظّفون الصحون بأنفسهم، أو سيتشاجرون فيما بينهم حول من يجب أن ينظف، موجّهين إحباطهم حول ظلم الأب وتقلّبه نحو بعضهم البعض. وهكذا خلق سلوك الأب المخيف سياقًا حيث يمكنه التنصّل من تنظيف الصحون متى ما رغب، ولا أحد سيتجرّأ على مطالبته بذلك.

كلُّ حادثة سلوك تعنيف تأتي للمعنّف بمنافع مثلما فعلت هذه، ومع الوقت، يتنامى ارتباط الرجل بمجموعة امتيازاته ورفاهيته المتنامية، وأدناه بعض الأسباب التي قد تجعله عازمًا على مواصلة تنمّره:

1. الرضى المتأصل في القوة والتحكم

يكسب الرجل المعنّف قوّة من خلال سلوكه الإكراهية والمخيفة، وهو شعورٌ يمكن أن يبعث بإحساسٍ مثيرٍ بالقوة. فمن يمتلك القوة يشعر بالأهمية والفعالية ويجد راحةً لحظية من ضغوط الحياة العادية، وليس ألمُ المرأة ما يجذبه، فأغلب المعنِّفين ليسوا ساديين، بل الواقع أنه يبذل جهدًا جهيدًا ليحمي نفسه من ميله الطبيعي إلى تقمّص وجدانها. تقع اللّذة بشعوره بأنه الحاكِم.

ولكنّ هذا الإحساس المثير بالقوة ليس إلا بداية ما يكسبه المعنِّف من خلال إساءته معاملة شريكته، فلو توقّفت المكاسب عند ذلك، لكان من السهل عليّ أن أدفع عملائي للتغيير.

2. الحصول على مراده، خصوصًا حينما يعني له الأمر الكثير

تتضمن الشراكة العاطفية سلسلة لا متناهية من التفاوض بين حاجات الفردين ورغباتهما وتفضيلاتهما المختلفة، والعديد من الاختلافات الواجب حلّها التي تحمل أهمية مهولة للحياة العاطفية لكلٍّ من الشريكين، مثل:

  • هل سنقضي عيد الميلاد (أو أي عيدٍ يتهم به الشريكان) مع أقربائي، الذين استمتع بمجالستهم، أم أقربائك، الذين يزعجونني ولا يبدو أن فيهم من يحبني؟
  • هل سنأكل العشاء اليوم في مطعمي المفضل، أو في ذاك المطعم الذي سئمت منه وينشط فيه الأطفال ويزعجوننا؟
  • هل سأذهب وحدي إلى حفلة المكتب، مما يشعرني بالاستياء، أم ستهذب/ين معي رغم أنك تفضل/ين فعل أي شيء آخر ما عدى ذلك؟

من المهم ألّا نستهين بأثر هذه القرارات اليومية، فسعادتكما في العلاقة تعتمد بشكل كبير على قدرتك على إسماع الطرف الآخر حاجاتك ونظره فيها بجدية. وإنْ تولّى هذه القرارات شريكٌ معنِّف أو متحكم، فستمرّين بإحباط يتلوه إحباط وستتوالى تضحيتك بحاجاتك، أما هو فسيتمتع برخاء لعلاقةٍ يندر فيها أنْ يقدم تنازلات، ويفعل كل ما يحلو له، ويتجاهل أيّ ما يريد تجاهله. سيستعرض كرمه في الأمور التي لا تهمه، حتى يرى الأصدقاء حسن تعامله وجوده.

ينتهي المعنِّف بمنفعة الدخول في علاقة حميمية دونَ التضحيات المصاحبة عادةً لهذا المجال الحياتي، ويا له من أسلوب حياةٍ فارهة.

3. شخصٌ يرمي مشاكله عليه

هل حصل ومرّيتي بإحباطٍ شديد أو خسارةٍ مؤلمة وذهبت تبحثين عن شخصٍ تلقي عليه الملامة؟ هل، مثلًا، تعاملتِ معاملةً سيئة مع عامل بقالة حينما كنتِ واقعًا مستاءة حول وظيفتك؟ لدى أغلب الناس اندفاعٌ داخلي لكبِّ مشاعرهم السيئة على شخصٍ غير مستحق كطريقة – مؤقته – لتخفيف الحزن أو الإحباط. في بعض الأيام لربما علمين أن عليكِ أن التنبّه لنفسك كيلا تكسري عنق أحد.

إن الرجل المعنّف لا يزعج نفسه ويتنبّه لنفسه، بل هو في الواقع يعتبر أن من حقه استخدام شريكته كإنسانٍ على هيئة مكبّ نفايات يرمي فيه كلّ آلام وإحباطات الحياة العادية التي تصيب أيًّا فينا، فهي هدفٌ حاضرٌ دائمًا، هدفٌ سهل الملامة – فليس هنالك شريكـ/ـة مثالية – ولا يمكنها منعه من كبِّ قمامته لأن الوضع لن يزداد إلّا سوءًا لو قاومت، وعذره حين يرمي كربه عليها هو أن حياته ملآى بآلام استثنائية – وهي عقلنةٌ غير مقبولة حتى وإن كانت صحيحة، وهي عمومًا ليست كذلك.

4. عملُ مجاني منها؛ رخاءٌ وحرية له

لا يوجد رجلٌ معنِّف يشارك أعباء العمل بإنصاف في العلاقة، فقد يستغل عمل شريكته الدؤوب في ترتيب المنزل، وتجهيز الطعام، والاعتناء بالأطفال، وإدارة مختلف تفاصيل الحياة، أو قد يكون أحد المعنِّفين القلائل الذين يتشاركون هذا العبء، إنما يستغلّها عاطفيًا، مستنفدًا اهتمامها وعنايتها ودعمًا ولا يقدم لها إلّا القليل القليل.

وهذه الأعمال المقدّمة بلا مقابل منها تعني الراحة له، فالساعات التي يقضيها متحدثًا عن نفسه تعفيه من عمل الاستماع، وعطلات نهاية الأسبوع الطويلة التي تقضيها في عناية الأطفال هي فرصته لمشاهدة التلفاز أو ممارسة الرياضة أو يتفرّغ لكتابة روايته. إن عملائي لا يدركون أنَّ شخصًا ما يتحمّل عبء ذلك العمل، فهم يعتقدون أن قوّةً غامضة تتحمله وتنفذه وينعتون النساء بـ «الكسولات». ومع ذلك، فعلى مستوى أعمق يبدو المعنِّفون مدركين تمامًا صعوبة عمل شريكتهم، لأنهم يقاتلون بشراسة لكيلا يشاركونها الأعباء، فهو معتادٌ على رخائه ويكثر الحديث عن إنهاكِه والمبالغة فيها كعذرٍ لكي يتقاعس ولا يساعد.

تبين الدراسات أن أغلبية النساء تشععن أنَّ شركائهن الذكور لا يساهمون بإنصاف في المسؤوليات المنزلية، ولكن المرأة ذات الشريك غير المُعنِّف لديها، على الأقل، خيار فرض نفسها والإصرار على مشاركة الرجل، إنما لو حاولت فرضَ نفسكِ مع رجلٍ مُعنِّف، فإما سيتجاهلك أو سيجعلك تدفعين الثمن.

يَخرج المعنِّف من المنزل ويرجع كما يحلو له، ويقوم بمسؤولياته أو يتجاهلها حسب نزواته، ويتجاهل أي شيء لا يعجبه. بل الواقع أنَّ بعضهم بالكاد يقضون وقتًا في المنزل أساسًا، يستخدمونه كقاعدةٍ للتجديد الوقود ما بين الفترة والأخرى.

5. أن يكون مركز الاهتمام، وأن تُعطى حاجاته الأولوية

حينما يسيء شريكُ امرأةٍ معاملتها على نحوٍ مُزمن، ما الذي يشغل أفكارها؟ هو من يشغلها بالطبع، فهي تحتار حول كيفية تهدئته حتى لا ينفجر، وكيف تحسّن من نفسِها في نظره، وكيف تثير قضيّة حساسةً معه، حتى لا يبقى لديها إلّا حيّزٌ صغير لتفكّر بحياتها، الأمر الذي يروق للمعنِّف، فهو يريدها أن تفكّر به. فالمعنِّف هكذا يحصد التعاونَ والخدمات المقدمة لتلبية حاجاته الجسدية والعاطفية والجنسانية. وإنْ كان لدى الزوجين أطفال، فكامل الأسرة تسعى لتحسين مزاجه الجيد وإصلاح السيء، أملًا في ألّا يمزّق أحدهم إربًا. ولبقاء المعنِّف في مركز الاهتمام وحصوله على مُراده، يضمن تلبية حاجاته العاطفية بالشكل الذي يبتغيه – وهي حالة رفاهية يأبى أن يهجرها.

6. التحكم المالي

المال سببٌ رئيسٌ للتوتر في العلاقات الحديثة، على الأقل في العلاقات التي تتضمن أولادًا، حيث الخيارات المالية لها تداعياتٌ كبيرة على جودة الحياة، مثل: هل هو أم هي من سيتسنى له شراء أمرٌ مهمٍّ يُريده أو تريده؟ وما التجهيزات، كالتقاعد، الواجب العمل عليها للمستقبل؟ وما نوع نشاطات وقت الفراغ والترحال التي نفعلها؟ ومن سيعمل فينا؟ ومن فينا يتسنى له ألا يعمل إن لم يرغب أو ترغب بالعمل؟ وكيف نلبّي حاجات الأطفال؟ أن تُحرَمين من صوتك في هذه القرارات لهو حرمانٌ مَهولٌ لحقوقك وله تداعيات على المدى الطويل. وفي المقابل، المُعنِّف الذي يهيمن على هذه القرارات يحتكر لنفسه فوائد مهمة، سواءً كانت الأسرة فقيرة أم غنية. فأحد أهم التكتيكات الشائعة التي أسمعها، مثلًا، هي أن المُعنِّف يتحايل ليوقّع على العقود مع شريكته أو بالنيابة عنها حتى تصبح ممتلكاتها، مثل منزلها أو سيارتها، تحت اسمه. بل بعضُ عملائي كان تعنيفه اقتصاديًا حصرًا وتمكّن من شفط آلاف الدولارات من شريكته، إمّا مباشرةً أو عبر الخدع المالية.

وتاريخ الاستغلال الاقتصادي للمعنف ينتهي بأن يكون هو في وضعٍ أفضل بكثير ماليًّا من شريكته لو انشقّت العلاقة، واختلال التوازن هذا يُصعِّبُ عليها تركه، خصوصًا إن كانت ستحتاج لإيجاد طريقة لإعالة أبنائها، فهو قد يهدد أيضًا باستخدام امتيازه المالي للتعاقد مع محامٍ والسعي للحصول على الحضانة، وهي أحدُ أشنع السيناريوهات الممكن أن تواجهها امرأةٌ مُعنَّفة.

7. ضمان إعطاء الأولوية لِمشواره المهني أو الدراسي أو غيرها من الأهداف

تتشابك مع التحكم المالي مسألة تحديد من فيكما ستُعطى أهدافه الشخصية أولويةً، فإنْ كان المعنِّف يحتاج لقضاء أكثر من مساءٍ خارج المنزل للدراسة لأجل شهادة ستحسن إمكانية تقدّمه الوظيفي، فسيفعل ذلك، ولو صادف فرصةً وظيفية تتضمن الانتقال إلى ولاية أخرى، فمن المرجح أنه سيتجاهل أثر ذلك على شريكته، وإن ترك المجال لها للسعي وراء أهدافها أحيانًا، فذلك فقط في حال لم تتعارض مع أهدافه.

8. المَكانة الاجتماعية للشريك و/أو الأب دون التضحيات التي تستلزمها

بمهارات عالية في إرضاء الآخرين وطاقته الحيوية تحت أعين الناس، كثيرًا ما يعتقد الآخرون أن الرجل المعنِّف شريكٌ مرِحٌ ومحبٌّ وأبٌ حنون ومتفاني. فهو يتشرّب البسمات والتقدير الذي يتلقاه من الأقرباء والجيران والناس في الشارع غير الواعين لسلوكه في المنزل.

9. تأييدُ أصدقائه وأقربائه

كثيرًا ما يختار المعنِّف أصدقاءً داعمين لِمعتقداته التعنيفية، ويضاف إلى ذلك أنه قد ينحدر من أسرة مُعنِّفة، بل وأبوه أو زوج أمه قد يكون له قدوةً أساسية في كيفية التعامل مع الشركاء الإناث، وإنْ كان هذا هو محيطه الاجتماعي، فسيتلقى المديح لمعرفته كيف يتحكم بشريكته و«يجعلها تعرف مكانها» من فترة لفترة، أو لِسخريته من شكواها عنه، بل وقد يتقارب هو وأصدقاؤه وأقرباؤه بمنظورهم المشترك تجاه عموم النساء بصفتهن لا عقلانيات أو نَاقمات أو محبات للمال، وَلِكي يترك هذا الرجل تعنيفه، سيستلزم ذلك تركه فريق التشجيع هذا أيضًا.

10. ازدواج المعايير

يفرض الرجل المعنِّف صراحةً أو ضمنًا نظامًا هو فيه معفيٌّ من القواعد والمعايير التي يطبقها عليك، فقد يسمح لنفسه الدخول في علاقة غرامية ما بين فترة والأخرى «لأن للرجال حاجاتهم»، وإن صادفَ زاغَتْ عينكُ تجاه رجلٍ آخر، التفاتةٌ لا أكثر، فأنت «عاهرة»، وقد يصرخ في وجهك أثناء الجدال، لكن لو رفعتِ أنتِ صوتكِ فأنت «هستيرية»، وقد يرفع أحد أبنائك من أذنه، لكن لو عاقبتِ ابنكِ بفرضِ الصمت عليه لأنك لَكَمَ رجلك فأنت «تعنّفين الطفل»، وله أن يترك جدوله مفتوحًا ومرنًا في حين عليكِ أن تُبلغيه بكل خطوة تأخذينها، ويحق له أن يشير لعيوبك، في حين يرى نفسه فوق النقد، وذلك حتى لا يحتاج للتعاطي مع شكواك أو أن يُواجَهَ بآثار سلوكه الأناني أو المدمّر. يملك الرجل المعنِّف امتيازَ العيش وفق مجموعة خاصة من المعايير المخصّصة له وحده.


ألقي نظرةً سريعة على المجموعة البديعة من الامتيازات أعلاه، وستتبدد أيُّ حيرة حول نأي الرجال المعنِّفين عن التغيير، ففوائد التعنيف هي سرٌّ اجتماعي كبير، يندر أن تذكر في أي محفل أو مجال، ولماذا لا تُذكر؟ غالبًا لأن المعنِّفين أخصائيون في تشتيت انتباهنا، ولا يريدون لأيٍّ منا أن ننتبه لكيفية عمل هذا النظام لصالحهم (وعادةً لا يعترفون بذلك حتى لأنفسهم). فلو أدركناها، لن نشعر بالأسى عليهم وسنبدأ بمحاسبتهم على أفعالهم. وطالما نرى في المعنِّفين ضحايا، أو وحوشَ هائجة، سيواصلون تدميرهم حياة النساء. إن أردنا للمعنِّفين أن يتغيّروا، فعلينا أن نُلْزمهم بترك رفاهية الاستغلال.

حينما تنتهي مواجهةٌ مع شريككِ المتحكِّم وأنتِ تشعرين بالألم أو الحيرة، اسألي نفسك: ما مراده من هذا؟ ما مصلحته النهائية فيه؟ يمكن للتفكيرُ بهذه الأسئلة أن يساعدك على تصفية ذهنك والتعرُّف على تكتيكاته.

من المؤكد أن الرجل المعنِّف يخسر الكثير عبر تعنيفه، فهو يخسر نيلَ الحميمية الحقيقية في العلاقة، وقدرته على التعاطف والتقمص الوجداني مثلًا، لكن هذه الأمور ليست أمورًا يقدّرها عادةً، ولربما لا يشعر بغيابها، وحتى لو كان يرغب بحميمية أكبر، فهذه الرغبة يتغلب عليها ارتباطه بفوائد التعنيف.

هل سيتجه للعنف الجسدي؟

الرجل المعنِّف يكون مخيفًا جدًّا أحيانًا، فحتى لو لم يرفع يده على شريكته يومًا أو يهددها، فهي تجلس محتارة عما هو قادرٌ على فعله، فهي ترى الشناعة الممكن أن يصل إليها، فجأةً أحيانًا، وترى رغبتهُ بِسحقها عاطفيًّا تصبح ملموسةً أحيانًا، إذ تتلقى منه طعنةً لفظيّةً قاسيةً لم تتصور أنها قد تحصل في العلاقة. وحين يُبيّن الرجل استعداده للتصرف بِلؤمٍ وقسوةٍ، فمن الطبيعي، بل من الحكمة أن تتساءل حول ما إذا سيتجاوز ذلك، فيتكرر عليّ السؤال: «هل تعتقد أنه سيتجه إلى العنف؟ أمْ أنا أبالغُ في ردّةٍ فعلي؟ فهو ليس من النوع العنيف».

قبل أنْ نمشي في قائمة النقاط التي يجب النظر فيها لِمعاينة هذه القضية، أبقي التالي في ذهنك:

تبيّن الأبحاث أن شعور المرأة الحدسي بما إذا كان شريكها سيعرّضها للعنف الجسدي هو أدقُّ مؤشرٍ على ما إذا كان سيحصل عنفٌ في المستقبل.

إذن، أنصتِي لِصوتكِ الداخلي قبل أيِّ شيء آخر.

 فحين تُخْبرني امرأة بمخاوفها حول إمكان اتجاهه للعنف، أشجّعها أولًا على التنبّه لما تشعر به، فلو كان يُخيفها، عليها أن تأخذ إحساسها الحدسي بجدّية، حتى لو لم تعتقد أن سلوكه التخويفي متعمَّد. وبعدها، أودُّ أن أعرف ما إذا قد سبق وحصلت أيٌّ من هذه الأمور:

             هل حجزكِ في غرفةٍ ولم يسمح لك بالخروج؟

             هل رفع قبضته يومًا وكأنه سيضربك؟

             هل رمى بالأغراض تجاهك سواءً ضربتك أو أخطأتكِ؟

             هل حصل وقبض عليك أو طرحك أرضًا لإيقافك؟

             هل هدد بإيذائك يومًا؟

لو كان الجوابُ على أي من هذه الأسئلة بِنعم، فلا داعيَ للحيرة بَعْد عمّا إذا كان سيتجه للعنف، فهو عنيفٌ أصلًا. في أكثر من نصف الحالات التي قالت لي فيها امرأة إن شريكها معنِّفٌ لفظيٌّ، أكتشفُ أنّه يهاجمها جسديًّا أيضًا.

من الضروري استخدامُ تعريفات الحسّ العام والتعريفات القانونية لتحديد ما يشكّل عنفًا، وليس تعريف المعنِّف نفسه. يهوّن المعنِّف من سلوكه بمقارنته برجالٍ أسوء منه يعتقد أنهم المعنِّفون «الحقيقيون»، فإن كان ينأى عن تهديد شريكته، فالتهديد بالنسبة له يُعرّف التعنيف الحقيقي، وإن كان يهدّدها فقط ولا يضربها، فالمُعنِّفون الحقيقيون هم من يضربون. وكلُّ معنِّف يختبئ وراء هذه العملية الذهنية: إنْ كان يضربها لكن لا يَلْكمها . . . إن كان يلكمها لكنّ بقوة لا تكسر عظامها أو تحتاج فيها للتطبيب . . . إن كان يُبْرحها ضربًا لكنّه يعتذر بعد ذلك ويقودها إلى المستشفى بنفسه (كما فعل عددٌ ليس بصغير من عملائي) . . . ففي ذِهن المعنِّف، سلوكهُ هو ليس عنيفًا حقًّا.

كشفت العملية الذهنية هذه نفسها لي في عددٍ لا بأس به من الحالات التي مرّت علي، قال فيها العميل: «لست مثل أولئك الرجال الذين يعودون للمنزل ويضربون زوجتهم دون أي سبب»، أو بعبارة أخرى: لو كان يملك التبرير المناسب، فهو ليس عنفًا. وتفكير المعنِّف هذا يَميل للتغلغل في المرأة، وكأنه دودةٌ شريطية، فَشريكات علمائي تخبرنني أشياءَ على غرار: «من الواضح أني استفززته للغاية»، أو «هو لم يضربني ولا مرة، فكل ما يفعله هو دفعي أرضًا ما بين الفينة والأخرى»، وهي عباراتٌ قادمةٌ بالتأكيد من غسيل المعنِّف دماغها.

لكي نتجنب تزوير الواقع هذا، علينا أن ننتزع تعريف العنف من يديّ المعنِّف ونطبّق تعريفًا مناسبًا نحن صُغناه. العنف هو سلوكٌ يتضمن أيًّا من التالي:

  • يؤلِمك أو يخيفك جسديًا، أو يستخدم الاحتكاك الجسدي كوسيلة للتحكم بك أو إخافتك.
  • يحرمك من حرية الحركة، كأن يحجزك في غرفة أو يمنعك من الخروج من السيارة.
  • يجعلكِ تعتقدين أنِّك ستتعرضين للأذى الجسدي.
  • يجبرك على التعاطي الجنسي معه أو غيره من ضروب الحميمية الجسدية غير المرغوبة.

استنادًا إلى التعريف أعلاه، يمكننا الإجابة على أسئلةٍ عديدة قد تثار:

هل من العنف أن يقول لي أنه «سيبرحني ضربًا» لكنه لا يفعل ذلك أبدًا؟

نعم. التهديد بالأذى الجسدي هو تعنيف جسدي، فهو يترك المرأة خائفةً ومرتعدةً، وتهرب من الغرفة، وتحاول الاختباء في مكان ما مع أطفالها، ولذلكَ آثارٌ عاطفية بالطبع، فالتعنيف الجسدي هو بطبيعته تعنيفٌ نفساني.

هل من العنف أن يوكزني؟

على الأرجح نعم. على حدّ علمي، الرجال غير الإكراهيين لا يوكزون شريكاتهم، فلو كان الفعل يخيفك أو يؤلمك أو يتحكم بك أو يدفعك للحيرة حول ما سيفعله في المرة القادمة، فذلك عنف. أمّا مسألة ما إذا كان الفعل يحمل هذه الآثار فالأمر يعتمد جزئيًّا على تاريخ التهديدات السابقة وما يظهر لكِ من دوافعٍ وراء هذه الحالة المحددة، فلو كان متكرر التعنيف العاطفي، فالوكزة عنيفةٌ بالتأكيد. بعبارةٍ أخرى، السياق مهم.

سينكر المعنِّف بالطبع أنه تقصّد إخافة شريكته، فهو «فقد أعصابه» فقط أو «لم يعد يستحمل»، وقد يستهزئ منها لاستيائها، قائلًا أشياءَ مثل: «تسمّين الوكزة عنفًا؟؟ هذا تعنيف؟؟ أنتِ أكبر ملكة دراما هستيرية في العالم!» في نظري، هذه الردود التنمرّية توضح حقًّا دافع فرض القوة عليك.

صفعتُه على وجهه، وهو لكمني وكدّم عيني. يقول إنَّ فعلته دفاعٌ عن النفس، فهل هو على حق؟

لا، هذا انتقام. فعملائي يقولون لي إنّهم ضربوا شريكتهم «لكي تعرف ما فَعلته» أو «لأريها أن عليها أن تلزم حدودها معي». وهذا ليس دفاعًا عن النفس، فالدفاع عن نفس هو استخدام أدنى قدر من القوّة اللازمة لحماية النفس، في حين أنه يستخدم ضربها له كنافذة ليبين لها عنفه، منبِّهًا إيّاها بما قد يجري مستقبلًا لو لم تَحذر، فانتقامهُ عادةً أكثرُ جُرحًا وإخافةً بعدة مستوياتٍ مما فعلته، ما يُضعِف ادّعاءه الدفاع عن النفس أكثر، فهو يعتقد أنّه حينما يشعر أنكِ آلمته، عاطفيًّا أو جسديًّا، فذلك يعطيه الحق في فعل شيءٍ أسوء بكثير لك.

يقول إنّني أنا العنيفة، لأنني صفعته أو دفعته مرةً أو مرتين، فهل هو على حق؟

لَو لَمْ تؤذِه أفعالُكِ أو تخيفه أو تتحكم به، فهذا لا يتناسب مع تعريفي للعنف. إنّه يوصمك بالعنيفة لكي يحول الأنظار تجاه ما تخطئين أنتِ فيه، حتى يحكمَ قبضته عليكِ. ولكّني أنصحك بعدم مهاجمتهِ مرةً أخرى، فقد يستغل الفرصة كعذرٍ لإلحاقِ أذًى خطيرٍ بكِ. تُقنع بعض النساء أنفسهن أنّهن يحفظن كرامتهن باستخدام العنف، قائلات: «يمكنني تلقّي العنف، ويمكنني أن أفعله أيضًا»، لكن مع الوقت ستجدين أنَّكِ أنتِ من تعانينَ من التحكم والأذى والذُعر. ويضاف على ذلك أنَّ ضربَ الشريك بحد ذاته خطأ، إلّا في حال الدفاع عن النفس. استخدمي سلوكك كعلامةِ تحذيرية على أنّكِ لست قادرة على تحمّل شريككِ المُعنِّف، واتّصلي بالخطّ الساخن للتعنيف الآن.

السؤال الحادي عشر: هل سيتحول عنفه اللفظي إلى عنفٍ جسدي؟

إنْ كان شريكك لم يستخدم أيًّا من أشكال العنف الجسدي بَعد، فكيف تحددين ما إذا كان من المرجح أن يتوجّه إليه أم لا؟ هذه بعض المؤشرات الممكن أن تُعْلِمك أنَّ عاصفةً عنيفة قد تأتي يومًا ما:

  • حينما يغضب عليك، هل ردة فعله هي رمي الأغراض، لكمُ الجدران أو الأبواب، أو ركل السيارة؟ هل يستخدم إيماءاتٍ عنيفة مثل جزّ أسنانه، أو تمزيق ملابسه، أو التلويح بيديه في الهواء ليبين غضبه؟ هل أصابك قيامه بهذه الأفعال بالذعر؟
  • هل هو على استعدادٍ لتحمل مسؤولية هذه السلوكيات والموافقة على الكف عنها، أو هل يبررها غاضبًا؟
  • هل يستمع إليكِ حينا تخبرينه أن هذه السلوكيات تذعرك، أم أنّه يحملك المسؤولية، ويقول إنك أنت من تسببيها، وأن مشكلة الخوف مشكلتكِ أنت؟
  • هل يحاول استخدام سلوكياته المخيفة كأوراق للمساومة، مثل القول إنّه لن يتوقف عن لكم الجدران ما لم تكفّي عن الخروج مع صديقاتك؟
  • هل ينكر أنه فعل ما فعل من سلوكيات مخيفة، مثل الزعم أنَّ ذاك الباب المكسور تسبب بكسره شخصٌ آخر أو أنّك تختلقين القصص أو تبالغين فيما جرى؟
  • هل يهددك تهديداتٍ غامضة، على نحو «لا تريدين أن تريني غاضبًا»، أو «أنتِ لم تري وجهي الآخر»؟
  • هل تعنيفهُ اللفظي قاسٍ جدًا؟ (تشير الأبحاث والدراسات أنَّ أفضل المؤشرات السلوكية على أن رجلًا ما سيصبح عنيفًا تجاه شريكته هو مستوى التعنيف اللفظي).

رغم قدرة هذه الأسئلة على مساعدك في تحديد درجة ميل شريكك إلى العنف، فمن المهم التواصل مع برنامج للنساء المعنَّفات مهما كانت إجاباتك، فواقعِ أنِّك تفكرين حتى باحتمال الميل إلى العنف يعني أنَّ في العلاقة خطبٌ جسيمٌ.

وإن كان شريكك يؤذيك أو يخيفك، عليك التفكير بالحصول على الحماية القانونية، ففي العديد من الولايات، يمكنكِ طلب أمرٍ تقييدي حتى لو لم يضربك شريككِ أو يعتدي عليكِ جنسيًّا طالما أفعاله أذعرتك، وبعض الولايات تعرض على النساء خيار الحصول على أمرٍ يسمح للرجل مواصلة الإقامة في المنزل لكنّها تحرّمه من التصرف بطرق مخيفة.

بعضُ المنهجيات لتقييم مقدار خطورة شريككِ قد تندرج تحت عنوان «طرق آمنة لترك المعنِّف» في الفصل التاسع، ونقاط الضعف والقوة لاتخاذ خطوات قانونية سَتُناقش تحت عنوان «هل علي أن أطلب أمرًا تقييديًّا؟» في الفصل الثاني عشر.

الفروقات العرقية والثقافية في التعنيف

أجدُ أنَّ السلوك والتفكير الأساسي للرجال المعنِّفين عابرٌ للخطوط العرقية والإثنية، فالهدف الكامن عند هؤلاء المعنِّفين، سواءً كانوا واعين لذلك أم لا، هو التحكم بشريكاتهم، فهم يعتقدون أنَّ لهم الحق في المطالبة بِالخدمات وفرض العقاب عند شعورهم أن حاجاتهم لا تلبّى، ويحتقرون شريكاتهم ويرونهن أدنى منهم، وهذا المنظور هو جزءٌ عادةً من منظورهم الأوسع للنساء عمومًا.

وفي الوقت نفسه، فالشكلٌ المحدد الذي يتخذه التعنيف قد يتنوّع تنوعًا معتبرًا بين الأعراق والثقافات، فالمعنِّفون يعتمدون بشدة على ضُروب التعنيف الأكثر قبولًا عند الرجال المنحدرين من نفس خلفيتهم، فعملائي الأمريكيون البِيْض مثلًا يميلون إلى التزمّت الشديد حول السماح لشريكاتهم بالجدال أو التعبير عن الغضب، فلو رفعت شريكةُ أحد هؤلاء العملاء صوتها، أو استخدمت كلماتٍ نابية، أو رفضت أن تصمت حينما أمرها بذلك، فمن الأرجح أن يتبع ذلك التعنيف، وعملاءٌ آخرون من ثقافات أخرى يركّزون أكثر على كيف تعتني شريكاتهم بالمنزل وتجهز الطعام تحديدًا، فحياتهم الاجتماعية تتمحور حول الطعام، ويتوقّعونَ أن يُخْدَمون كالمُلوك، بعشاءٍ دافئ وبديع ولذيذٍ كل ليلة، فحتى لو عادَ الرجل متأخرًّا ساعتين دون إعلامها بذلك، فهذا لا يغيّر توقعه بأن الطعام سيظل ساخنًا بقدرة قادر، وإلّا. وأَجدُ أنَّ العملاء من بلدانٍ معينة تبرز فيهم غيرةٌ متطرفة، تقودهم إلى طعن شريكاتهم لفظيًّا لمجرد الحديث إلى رجلٍ غريب لعشر دقائق في الشارع أو للرقص الوجيز مع رجلٍ آخر في حفلة ما، ويشيع لدى رجالٍ من منطقة أخرى من العالم ضربُ أطفالهم بالحزام، وهو سلوكٌ يتلقى الاستنكار اللاذع من المعنِّفين من بقاع أخرى من العالم، وهؤلاء الأخيرون قد يُذعِرون الفئةَ الأولى بأخذهم حضانة الأطفال من الزوجة.

وليست السلوك التعنيفية هي وحدها ما يتشكل – جزئيًّا – وفق خلفية الرجل المعنِّف، بل حتى الأعذار والتبريرات، فالرجال من فئة ما قد يميلون للاعتماد على عُذر فقدان السيطرة مثلًا، في حين يعترف آخرون أنّه اختيارٌ اختاروه ولكنهم يبرّرونه بالقول إن عليهم اللجوء إلى التعنيف ليصونوا الأسرة من الفوضى والضياع.

وكما سنرى في الفصل الثالث عشر، التعنيف في العلاقات هو مشكلةٌ تُنقَل من جيلٍ لجيل عبر التدريب الثقافي، وبالتالي تأخذ شكلًا متمايزًا في كل مجتمع، لكن بالنسبة للنساء – وفي حالاتٍ عدة، الأطفال – القابعين تحت هذه الوحشية، فالتنوعات الثقافية لا تغير بالضرورة جودة الحياة كثيرًا. يمكننا النظر إلى التعنيف كَوَصفةٍ طعامٍ تتضمن الأنواع نفسها من المكوّنات: التحكم، وحس الاستحقاق، وعدم الاحترام، والأعذار، والتبريرات (بما فيها لوم الضحية)، وهي مكوّناتٌ دائمةُ الحضور، وكثيرًا ما تصاحبها الإخافة الجسدية أو العنف.

يميل الرجل المعنِّف لاستخدام هذا المكوّن أو ذاك أكثر أو أقل من غيره، معوّضًا عنه بتكتيكات وأعذار مختلفة باختلاف ثقافاته، ما يتيح لشريكته بعض الحقوق ويحرمها من أخرى، ولكن رغم كل هذه التنوعات، يظل طعمُ التعنيف هو هو لا يتغير، ولذلك فالمعنِّفون – وبالتالي الشريكاتُ المعنَّفات – يحملون قواسم مشتركة كثيرة تعبر الخطوط الوطنية والعرقية.

هل تعنيفُ النساء مقبول في بعض الثقافات؟

أصادف كثيرًا التصور الخاطئ بأنَّ بعض الفئات من بعض الأوطان أو الإثنيات تتصرف بنحوٍ أشدّ تعنيفًا نحو النساء أكثرُ بكثير من الوضع العام في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، فيقول لي بعض العمّال الاجتماعيون مثلًا: «الأسرة التي أعمل معها الآن تنحدر من تلك الثقافات حيث العنف الأسري عاديٌّ ومقبول»، لكن الواقع هو أنَّ القُبول الثقافي لِتعنيف الشريكة مرتفعٌ على نحوٍ مقلقٍ في مجتمعنا، حتى في الفئات الثرية والمتعلّمة (أنظر الفصل الثالث عشر)، وإحصائيّاتنا للعنف الأسري، وإن كانت ليست الأسوأ عالميًّا، فهي في الطرف الأعلى. والولايات المتحدة هي البلد الصناعي الوحيد الذي لم يصادق على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، التي تشير تحديدًا إلى العنف ضد النساء كأحد أشكال التمييز. ولعل توجيه أصابع الاتهام إلى البلدان الأخرى طريقةٌ لتجاهل مشاكلنا الجسيمة.

الواقع هو أنَّ تعنيف النساء – والقبول الاجتماعي به – هي مشكلةٌ مفتشية في الغالبية العظمى من الثقافات الحديثة، فالأماكن الوحيدة التي لا نجده فيها هي ضمن بعض الشعوب القَبَليّة التي لديها رفضٌ شديد لكل ضروب العدوان وتمنح النساء والرجال قوّة متساوية أو شبه متساوية.

قد يكون الرجال المعنِّفون المنحدِرون من خلفيات وطنية معينة صريحينَ ومباشرين جدًا في قواعدهم الثقافية والدينية، ما يجعل معتقداتهم تبدو سيئة على نحوٍ غير اعتيادي، فقد يقول رجل ما مثلًا: «منح الله الرجل حق معاقبة المرأة»، أو قد يقول تهديدًا لشريكته: «جزءٌ من وظيفة الزوجة هو منح الرجل الجنس متى ما رغب به»، ولكن هل المعنِّفون الأمريكيون البِيْض يختلفون في هذه المعتقدات عن المعنِّفين من الثقافات الأخرى؟ لا، الواقع هو أنّهم أفضلُ في إخفاء معتقدتاهم، وبذلك يَخلقون انطباع «التنوّر»، لكنَّ كون الرسالة الثقافية مباشرة لا يعني أنّها أقوى، فقد عَملت مع مئات المعنِّفين غير البيض من طيفٍ واسع من الثقافات والأديان، ينحدرون من أكثر من عشرين بلدًا، ويمكنني أن أؤكد أنَّ عملائي البِيْض من الطبقة الوسطى لا يختلف شعورهم عن غيرهم أبدًا بأن سلوكياتهم مبرّرةٌ، ولا يختلف اعتقادهم بالفوقية والازدراء تجاه النساء، وكشخصٍ منحدرٍ من ثقافة بروتستانتية أنغلو-سكسونية، فأنا مُدرك لإرثها العتيق في إخفاء تعنيف النساء تحت تغليفٍ جميل، وحين نفتح هذا الغلاف، لن يختلف المحتوى كثيرًا.

بعض الأعذار والتبريرات المحددة ثقافيًّا

بعضُ أنواع العقلنة المحددة ثقافيًّا التي يستخدمها الرجال المعنِّفون يمكن أن تكون محيرةً جدًّا للنساء، فأجد مثلًا أنه من الشائع أن يعتقد الرجل المُعنِّف المنتمي لأقلية عرقية أن التمييز العرقي الذي واجهه في حياته يُبرّر سوء معاملته لشريكته، ولو اشتكيتِ له من تعنيفه إياك، فقد يتّهمكِ بخيانته كرجلٍ من أقلّية، ويقول إنك منحازةٌ مع الثقافة البيضاء التي كثرت سكاكينها عليه، ولأن العنصرية العرقية ما زالت واقعًا قاسيًّا، فقد ينجح في إشعارك بالذنب لانتقاده أو لمحاولتكِ تركه. وإن كنت منتمية للخلفية نفسها سَتريه يطبق ازدواج المعايير في التضامن العرقي، فهو في ذهنه ليس يخون جماعته العرقية حين يعنِّف امرأةً من الأقلية نفسها، ومع ذلك يعتبركِ أنتِ غير موالية حين تشتكين من معاملته أو تنددي به. والحقيقة هي أنه يقلبُ الواقع رأسًا على عقب، فهو نفسه من يخون هذا التضامن.

ومرَّ عليّ عدد من العملاء خلال سنين عملي ينتمون لجماعات أصولية دينية، عادةً إمّا جماعاتٌ أصولية مسيحية أو إسلامية أو أرثودوكسية يهودية، وعادةً ما يصرّح الرجال المعنِّفون من هذه الجماعات علنًا باعتقادهم بنظامٍ ليس للنساء فيه أي حقوق والرجل هو الحاكم الذي لا يُسأل في المنزل، وما يزيد الطين بلة هو أنّ هذه الطوائف الدينية زادت من قوّتها السياسية في أرجاء العالم خلال العقدين الماضيين، ويمكننا أن نأخذ النمو المتزايد لنفوذ الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة كمثال. قد تشعر النساء اللاتي يعشن داخل هذه الجماعات الدينية تحديدًا بأنهن سجيناتُ هذا التعنيف، فمن المرجّح أن مقاومتهن للهيمنة سُينظر لها كفعلٍ شرّير والمجتمع المحيط قد يدعم أو حتى يجلّل المعنِّف. (يمكن للنساء المسيحيات اللاتي يعشن مع التعنيف أن يجدن إرشادًا بديعًا في «Keeping the Faith» لماري فورتشن. أنظر «الموارد»).

يقول بعض عملائي الأمريكيين الأفريقيين إنَّ النساء السود أقوى من أن يُعنَّفن، بل وحتى يدّعون أنهم ضحايا عنف النساء، وهو زعمٌ يصاحبه عادةً توصيف الأسرة السوداء بـ «الأمومية» أو «تهيمن عليها الأنثى»، وهذه المبالغات في الاختلافات الثقافية تعمل على التعتيم على حقيقة أنَّ النساء الأمريكيات الأفريقيات، وفق أحدث الإحصاءات الأمريكية، يتعرضن للتعنيف بقدر متساوٍ لما تتعرض له النساء البِيْض. ومن تجربتي، بعض النساء السود حقًّا يقاومن المعنِّف الجسدي أكثر من النساء البِيْض (رُغمَ أن العديد من النساء البِيْض يقاومن أيضًا) لكن لا ينتهي الحال بهن أقلَّ جروحًا أو ذعرًا أو خضوعًا.

نقطة أخيرة، ينمّي الرجال المنتمون لبعض الثقافات القَبَلية سُلوكيّات تعنيفية تجاه النساء بعد تعرّضهم المكثّف للمجتمعات الحديثة واحتكاكهم معها للمرة الأولى، فقد أشارت النساء القَبَليّات مثلًا إلى أن التلفاز عندما وصل إلى مناطقهم الجغرافية أتى معه العنف الأسري مع بدءِ رجالهم تعلّم معتقدات العنف والهيمنة الذكريّة التي يتسم بها الجزء الأكبر من الثقافة الحديثة، وقد يبرّر الرجل القَبَليّ اتّسامه بالتعنيف بعبارات مثل التقدّم والتوافق مع الجو العام، رابطًا ازدراءه لشريكته باستنكار كامل أساليب الحياة القَبَلية، والبعض يفعلون عكس ذلك، فيزعمون زورًا أنَّ تقاليدهم تدعم سلوكياتهم الظالمة.


بينما ركّزت هنا على الاختلافات والتشابهات بين الرجال المعنِّفين، يوجدُ حالٌ آخر حيث العرق والثقافة لهما أهميّة كبيرة في التعنيف: حينما يكون المعنِّف أمريكيًا (أو كنديًا) أبيضًا والمرأة ملوّنة أو مهاجِرة، ففي مثل هذه العلاقة يميل المعنِّف لاستخدام العنصرية العرقية كتكتيكٍ إضافي لِيُهين ويتحكم بشريكته، والنساءُ من الأقلّيات اللاتي يعنِّفهنَّ رجلٌ أبيض يمكن أن يواجهن تحيّزًا معتبرًا ضدهن لدى الشرطة والمحاكم وخدمات حماية الأطفال. وبعضُ الموارد المختصة للنساء المعنَّفات من الأقلّيات – مهما كان عِرقُ الرجل المعنِّف – مُدرجَة في آخر هذا الكتاب.

المعنِّفــ/ـة المثليـ/ـة

رغم أن «المعنِّف» غالبًا من الرجال و«المعنَّف» غالبًا من الإناث، فهذه الصورة غير المتوازنة لها أسبابٌ اجتماعية، وليست بيولوجية، فبعض النساء يعنِّفنَ شريكاتهن المثليّات، ويعنَّفُ بعض الرجال على يد شركائهم المثليين، والتفكير الذي يحرّك سلوك المعنِّفين المثليين والمعنِّفات المثليات يتّبع غالبًا نفس الأنساق التي عاينّاها. وبينما من الصحيح أن التبريرات التي يوظفها المعنِّفون الرجال الغيريّون ليست متوفرة لدى المعنِّفات المثليات أو المثليّين – تبريراتٌ على شاكلة «لدي الحق في حكمكِ لأني أنا الرجل وأنتِ المرأة» – تعوّض عنها المعنِّفات/ون المثليّات/ون بتبريراتٍ تحمل القوة نفسها، والمرأة أو الرجل المثليّيْن المعنَّفيْن قد يصبحا سَجيني التعنيف مثلما المرأة الغيرية.

فلنقي نظرةً أولًا على بعض التبريرات غير المتوفّرة لدى المعنِّفَة المثليّة (سأستخدم المؤنَّث هنا للإشارة إليها):

  • لن تتمكن من استخدام توقّعات الأدوار الجنسية المستندة إلى القواعد الثقافية أو الدينية بسهولة ما يستخدمها المعنِّف الذكر الغيري.
  • لن يكون لديها نفس مقدار فوائد القوة الاجتماعية التي لدى الرجل الذي في علاقة مع امرأة (يمكن للرجل الغيري أن يستغل مختلف أوجه واقع أننا نعيش في «عالم الرجل» رغم بعض التغيرات الاجتماعية الحديثة).
  • قد لا تتمكن من استخدام الحجم والقوة لإخافة شريكتها بسهولة ما يستخدمها الرجل الغيري المعنِّف. بل الواقع أنها قد تكون أصغر حجمًا وتبدو «أضعف» من شريكتها.

تعوِّض المعنِّفة المثليّة عن هذه الفجوات بعدة أوجه، سأقدّم بعضها كأمثلة:

  1. قد تحمل اعتقادًا أعمق حتى من المعنِّف الذكر الغيري، أنها من المستحيل أن تكون مُعنِّفة مهما كان مستوى قسوتها بل وعنفها، وذلك لاعتقادها أنّ التعنيف «لا يحصل» في العلاقات المثلية. بل وقد يصل مستوى يقينها بذلك إلى إقناعِ شريكتها المعنَّفة أنَّ ما يجري ليس إلّا الخلافات الاعتيادية في كل علاقة.
  2. تستخدمُ مثليّةَ شريكتها ضدّها، فحين تغضب، قد تهدد بإعلام والدَي شريكتها أنّهما في علاقة، أو تتّصل بعَمَلها و«تفضحها»، ما يؤدي لخسارتها الوظيفة، وإن كانت معنِّفةً جسديّة، قد تقول لشريكتها أشياء على شاكلة: «هل تظنين أن الشرطة أو المحاكم ستساعدك لو علِمت أنِّك مثليّة؟» وقد يقول المعنِّف الذكر المثلي لشريكه: «ستضحك عليك الشرطة لو قلت لهم أنَّك خائف. وسيقولون لك أن تكون رجلًا».

والحقُّ أن المثليّة أو المثليّ الداخلان في علاقة مع معنِّفـ/ـة جسديّـ/ـة أو مهدِّدة، يواجهان تمييزًا من الشرطة والمحاكم، والمعنِّفة تعلمُ ذلك. وفي العديد من الولايات مثلًا لا يمكنْ لِمعنَّفَة أو معنَّفٍ أن يحصلان على أمرٍ تقييد لإبعاد المعنِّفـ/ـة لو كانـ/ـت من الجنس نفسه.

  • الفائدة التي تحصل عليها المعنِّفة المثلية بتأدية دور الضحية قد تكون أكبر مما يحصل عليه المعنِّف الذكر الغيري. فحين يدّعي رجلٌ غيري أنَّ المرأة تعنِّفُه، يُقابَل بالتشكيك – وهو تشكيكٌ مشروع. ولكن حينما ننظر إلى زوجٍ مثلي، كيف لنا أن نعرف مَنْ منهما تَتعسّفُ بالقوة؟ وإلقاء نظرةٍ خاطفة لن يعطينا الجواب. فالحاصل هو أنَّ المعنِّفة المثليّة يمكن أن تقنع محيطها، وأحيانًا حتى شريكتها، أنها هي المعنَّفة. وحين يذهب الأزواج المثليّات إلى المؤسسات المساعِدة في التعنيف الحميمي، من المألوف أن تقول المعنِّفَة أنها الضحية وأن تقول الضحية أنَّها المعنِّفة! فتنجح المعنِّفة أحيانًا في الحصول على المساندة والتعاطف لفترة طويلة قبل أن يدرك موفّرات وموفِّرو الخدمات أنهم يساعدون الشخص الخطأ.
  • يمكن أن تدفع هذه المعنِّفة محيطها الأوسع ليتستّر عليها، لأن الجميع يعاني أصلًا من الصورة الاجتماعية السلبية للمثلية، والعديد من المثليّات والمثليّين يشعرون – وهو أمرٌ متفهّم – أن التوعية بالتعنيف في العلاقات المثلية سيستخدمها المتعصّبون كذريعة لزيادة التنميط والتمييز، ولا شكّ بأن المتعصِّبين سيفعلون ذلك، لكن الصمت ليس الحل، فهو يعزل المثليّاتِ والمثليّيين المعنَّفات ويخذلهن، ويسمح للمعنِّفات بمواصلة سحق حياةِ شركائهن.

لربما مرَّت المعنِّفة المثلية بحياةٍ صعبة جدًّا، وقد تشعر أنَّ أيّ شخصٍ يوصمها بـ «المعنِّفة» فهو يظلمها، نظرًا لمعاناتها. فلربما طُرِدت من أسرتها بسبب مثليّتها، أو حُرِمت من التقدم لوظيفي، أو غَمرها الشعور بالعار أيام المراهقة، ومحيطها الاجتماعي مكوّن من أناس مررن بنفس المعاناة وبالتالي يشعرن بالتعاطف المباشر معها، لكن هذه المعاناة والتجارب مع الظُلم لا تقتصر على المثليّة المعنِّفة، بل تمرَّ بها المثليَّة غير المعنِّفة. فالمعنِّفة المثلية، مثل المعنِّف الذكر الغيري، تستخدم أي عذرٍ ممكن لإعفاء نفسها من مسؤولية أفعالها ولاجتذاب التعاطف.

وفي آخر المطاف، تفكيرُ وأفعال المعنِّفَيْن المثلي والمثلية أقرب للتشابه – لا الاختلاف – مع تفكير وأفعال غيرهما من المعنِّفِين. وسنستكشف لاحقًا الجذور الاجتماعية لِسمة التعنيف، وسيتضح لمَ يتبع جميع المعنِّفين النموذج نفسه تقريبًا.

نقاط مهمة للتذكر:

  • يستخدم الرجل المعنِّف غالبًا التكتيكات العدوانية اللفظية لكي يضعف مصداقية تصريحاتك ولإسكاتك. بإيجاز، هو يرغب بتجنّب الاضطرار للتعاطي الجاد مع منظورِك في النزاع.
  • الجدالات التي تبدو أنها خرجت عن السيطرة «من دون سبب» عادةً ما تكون واقعًا حوادث يستغلّها الرجل المعنِّف لتحقيق أهدافٍ معيّنة، ورغم أنه قد لا يكون واعيًا لدوافعه، فأفعاله وتصريحاته أكثرُ عقلانيةً مما يبدو عليها.
  • الفترات الجيدة مع الرجل المعنِّف هي وجهٌ مهم ومدمج في تعنيفه، وليست أمرًا منفصلًا عنها.
  • يجد الرجال المعنِّفون في التعنيف أمرًا مُجزيًا، ومكانةُ الامتياز التي يحصلون عليها سببٌ مركزي لنأيهم عن التغيير.
  • يميل الرجال المعنِّفون للشعور بالسعادة فقط حينما يكون كل شيء في العلاقة يجري حسب رغبتهم، وهذا سببٌ أساسي وراء التبدل المزاجي الحاد الذي يتبين عليهم من يوم لآخر.
  • العنفُ لا يقتصر على اللكمات والصفعات، فهو يشمل أي شيء يخيفك جسديًّا أو يستخدم جسدك للتحكم بك.
  • أنواع المعنِّفين قد تختلف بالعرق والهوية الوطنية والميول الجنسي، لكن قواسمهم المشتركة أكثر من اختلافاتهم.
  • يمكن أن يصعّب الاضطراب وانعدام الأمن والخوف الذي يسببه شريكك في الحياة اليومية عليك إدراك نسق معتقداته وسلوكياته. بمراجعةِ تاريخكما ذهنيًّا، يمكنك رؤية الأنساق الشائعة.
  • كوني حذرة، واْسْعَي للحصول على المساعدة، فأنت لا تستحقين حياةً كهذه، وليس من الضروري أن تعيشي حياةً كهذه. حاولي حجب كلماته من ذهنك وكوني واثقةً بنفسك ومؤمنةً بها. أنتِ قادرة وقديرة.
Skip to content