الأصفاد لأول مرة

رغمة صدمة الموقف، و رجفات الخوف و تسارع نبضات القلب، و الحيرة بين الحلم و الواقع، و الشعور بالجبن و الخضوع و التسليم، و التساؤل المتشائم حول المستقبل، داخل ذلك كله تبقى هنالك خلف كل ذلك الضجيج شعلة صغيرة متوقدة بالحماس و المغامرة، تتسل بين الضوضاء لتنعكس و تتجسد ببسمة على الوجه. تلك كانت حالة الشعور بعد وقوف السيارة رباعية الدفع البيضاء، و إنزالنا منها و قد كنا متكدسين فوق بعضنا البعض.

قبل عشر دقائق كنت أنا وبضعة رجال و مجموعة من النسوة اللاتي سبقن الجميع بالتجمهر نمشي ملثمين منادين بالحرية للشعب البحريني، و «ستة عشر سنة كفاية!»، في إشارة إلى المعتقلين المنسيين بتهمة تفجيرات أبراج الخبر في أواخر التسعينات. لم يكن التجمهر كما توقعت، و أنا للتو نزلت من السيارة التي قلّتني أنا، و أبوي و أمي اللذان أوصلاني للمظاهرة، لأصل الى شارع الملك عبد العزيز أو كما نسميه شارع الثورة. كنت في آخر سنة ثنوية، و قبيل أسبوع واحد من الامتحانات النهائية كنت أخطط أن أتوقف عن الذهاب للتظاهر ريثما تنتهي الامتحانات، لكن إعلان المظاهرة على وسائل التواصل كان عن تظاهرة متزامنة واحدة في القطيف و أخرى في البحرين؛ في تلك الفترة كان كل ما يتملكني من شعور هو تلك الهوية المتخيلة المحددة بإطار جغرافي، و المغلفة بلبوس مذهبي، بين وحدة المصير للبحرين الكبرى، أو «أرض أوال»، بين سكان جزيرة البحرين و نحن في الضفة الشرقية للجزيرة العربية. هذا الشعور بالعمل الواحد للضفتين دفعني لاتخاذ القرار للذهاب نهاية ذلك الأسبوع للتظاهر في اليوم الثالث من شهر يونيو عام 2011.

دقائق قليلة و نحن نسير و أنا أفكر أن الأمر لم يكن يستحق، فالمظاهرة قليلة العدد، لنتوقف أمام بنك سامبا و أرى العشرات من مجندي قوات الطوارئ ينقضون علينا من الأمام و من الخلف. لم أحرك ساكننا أو أهرب، وقفت مسلم حتى أمسكني من رقبتي أحدهم أسمر اللون ضخم الجثة. حاولت إحدى النسوة فكي منه، فدفعها بشدة. لم أكن أستطيع التنفس و أحاول أن أصيح، «هواء هواء»، حتى قال آخر له، و هو الذي كان يحمل آلة تصوير تصور الأمر برمته، «فكه لا يموت»، ليسدحني أرضًا و يربط يدي و رجلي و يحملني إلى خلف السيارة الرباعية الواقفة في الأمام، و يضعني فوق الآخرين الذين مُسِكوا و يجلس فوقنا و يغلق الباب.

لم تستمر الرحلة سوى دقائق. أخذنا إلى الميدان الرئيسي حيث تتمركز القوات، أُنْزِلنا، أُفرِغت جيوبنا؛ جوالٌ و مفتاح و محفظة، و الغترة الفلسطينية التي كنت أتلثم بها. لحظتها، استوعبت الوضع و الخوف يغمرني، ألبّي كل ما يقوله العساكر ظنًا مني، يائسًا، بأن هذا الخضوع الذليل مفيد، لأنظر لمن حولي ممن أخذوهم، حيث بأني الآن أرى وجوههم بدون لثام، ستة تقريبًا، لا اليوم الآن وجوه، إلا اثنين منهم إخوة، عرفت ذلك بعدها بأيام عندما تشاركنا الزنزانة؛ شابٌ ثلاثيني قصير أسمر سمين، و الآخر قمحي أطول منه، لعله طولي. ركبنا باص قوات الطوارئ، لا أدري إلى أين، لكن ما لفت انتبهاي تغيير شكل المقاعد في الداخل عن أي باص. أقول في نفسي، «اها كدا الباص من الداخل؟»، ليسير الباص إلا انك لا ترى الخارج فلا زجاج فيه، فلم أكن أعرف الى إين وقف الباص بعد قرابة العشر دقائق، و استمر الوقوف و الانتظار و طال؛ الحرارة و الرطوبة عالية في الخارج، و الباص مغلق و بلا تكييف. يصيح أحد العساكر الجالس أمامي، «افتحوا الباب ليدخل الهواء»، ليقول له الذي بجانبه، «تعامل معها وكأنها حمام سونا».

أُنزِلنا ودخلنا الى غرفة. أغراضي على الطاولة، و أرى أنّ هنالك سكين و سلسلة حديدة، لأنظر لمن كان يجلس على الطاولة، و هو ضابط. كنت أراه سابقا في مدينتي، اسمه علي القحطاني، ليقول «لمن هذه؟»، لنرد أنها ليست لنا، ليقول «اعترفوا أو سنعرف من خلال البصمات»، لأقول في نفسي، «أين يفكر نفسه، بصمات!» لينظر إلي و يسألني عن اسمي و مدينتي، ثم عرف من أي العوائل أنا، و سأل عن موقع المنزل لأقول له و يرد، «اها، خلف حلاق السوريين البسابيس». لم أندهش لمعرفتهم كل تلك المعلومات. في الأخير، كنت أتوقع أن ضباط الشرطة في المنطقة، وإن كانوا من خارجها، إلا أنهم يعرفون البيوت و الأسماء و مختلف العوائل.

بعد ذلك أخرجونا من الغرفة و كانت لا تزال أرجلنا و أيادينا مربوطة برباط بلاستيكي، ليصفّونا بعيدين عن بعض و مقابلين الجدار. و يعبر العساكر يضربون بعضنا و يقولوا: «ثورة ها، تريدون ثورة!».

أدخلونا مرة أخرى إلى غرفة. يبدوا أنها الآن غرفة مدير المباحث. بعد أول الخطوات لداخل الغرفة رأيت المدير بلباس مدني، و كان على ما أتذكر غامدي، ليصرخ على الفور طلعوهم و لا ترجعوهم إلا بعد وضع «الكلابج»، أي الأصفاد الحديدة. ليقطعوا البلاستيك و يستبدلوها بالأصفاد، وكانت تلك أول مرة في حياتي تربط قدماي و يدي بأصفاد حقيقية. شعرت لحظتها بشيء مختلف، أنا الآن معتقل و بأصفاد، لأخطو أول خطواتي بالأصفاد في رجلي.

ندخل عليه مرة أخرى، ليسألني عن اسمي مجددًا و يقول، «من اين؟» لأرد «الإيميل؟» كنت جاهزًا لذكر الإيميل، توقعت أنهم سيسألون عنه كون أن كل التحشيد للتظاهر عبر الفيس بوك، ليرد ضابط آخر كان جالسًا على الأريكة بجانبه «إيميل عشان ثورة المنطقة الشرقية ها». ثورة المنطقة الشرقية كانت الصفحة الرئيسية للحث و التحشيد على التظاهر. قال «من أين؟» فأجبت، ليسأل «هل يعمل ابوك؟» قلت، «نعم، في الحكومة»، «هل لديكم بيت؟»، لم يكن لدينا بيت ملك لكنني أجبت بالإيجاب.

شعور الخوف يدفعك بأن تجيب بما يرضيه، لم استطع القول بأنه، لا لا نمتلك بيت أو أن علينا ديون. كنت فقط اجيب بما يريده ويوصله إلى النتيجة التي يريدها ليقول في الأخير، «إذن لماذا التظاهر؟» سكتّ، لم أرد أو بالأحرى لم أعرف بماذا أرد. قال «اخرجوه». قلت، «حضرة الضابط لدي امتحانات بعد أسبوع»، قال، «لو كنت تعرف ما تطول لسانك قبل و الآن لا تتكلم». في البداية لم أفهم ماذا يقصد، لكن بعدها علمت أنه يقصد اجتماع المزرعة، و هو اجتماع كان أثناء المظاهرات، دعى إليه أحد برجوازية المنطقة للحديث عن الحراك. و كنت يومها وقفت وشاركت داعيًا للتظاهر و إلى عدم الأخذ بطريق التواصل الوجهائي مع الدولة.

أخرجت من الغرفة، و مرة أخرى لمقابلة الجدار، أُدخِل الباقون، ثم أُخرِجوا إلى الجدران مرة أخرى، و استمر مرة العساكر، و الضرب و السخرية الطائفية. يقول العسكري للرجل الاسمر السمين، «الخميني ها» ليرد الرجل، «من الخميني أنا وش دخلني». أتى عسكري بورقة صفراء و سحبني، و عندما خرجنا من المبنى متجهين إلى الآخر، قال لي «لماذا تخرجوا للتظاهر، قل لهم لا يخرجوا، أنا تم استدعائي من المدينة المنورة و علي الآن دفع السكن و المداومة بعيدًا عن أهلي»، تبادلنا الحديث قليلًا، كان حسن التعامل لنصل إلى غرفة، و أدخل و أقف و يجلس هو، و أمامي ضابط كث اللحية. لم أعي ماذا سيحدث أولها، ثم رأيت على الطاولة دفتر أزرق مكتوب عليه محضر تحقيق، ليبدأ بالأسئلة و تدوين أقوالي: الاسم، و من أين، و لماذا تتظاهر، و بدأ بالصراخ، «كيف تعرف عن المظاهرات؟» لأرد، «الفيس البوك»، لكن الرجل العجوز لم يفهم ما الفيس بوك، أو لم يعتبرها إجابة، فأمسى يهدد بأنه سيجعل العسكري الشاب يبرحني ضربًا، لم أعرف ماذا أقول، قلت «صفحة ثورة المنطقة الشرقية»، ثم قام ليصفعني ست صفعات متتالية، عددتها أثناء صفعي، لأسقط وأنظر إلى وجه العسكري الجالس الذي اتسم وجهه بالتعاطف، ثم قال الضابط، «قف»، و هو يكيل الشتائم و يقول، «إذا اردت الرجوع إلى أمك اليوم أجب». جزء من داخلي صدقه. كل ما كنت أفكر فيه هي الامتحانات النهائية. ثم شتمني مرة أخرى و صفعني، لأقول أنا، «سأجاوب سأجاوب!» يرجع و يجلس على الكرسي و لأقول له، «قناة العالم و محاضارات الشيخ نمر النمر». فرد، «نمر النمر الله ينتف لحيته»، و ليكمل الأسئلة، من كان في المظاهرة؟ و من أين ابتدأت؟ و غيرها ثم، ليدير محضر التحقيق و يقول، «اقرأ اقوالك و ثم وقع». كان كل ما كتبه أقوالي تمامًا، وكان حريصًا على أن أوقع في كل صفحة.

أعادني العسكري الشاب إلى المبنى الأول وإلى مقابلة الجدار مرة أخرى، ثم لأرى بقية من كانوا معي قد انتهوا من التحقيق. كان من الواضح أن ما لاقوه أثناء التحقيق أمرُّ مما مررت به. كنت أصغرهم و بوجه طفولي في الأخير. استمرنا في الوقوف طويلًا. سأل أحدهم أحد العساكر، هل لنا أن نجلس؟، سكت العسكري، نظر إلى صاحبه، ثم قال، «اجلسوا اجلسوا». جلسنا على البلاط. لا أدري ما الذي سيحدث بعدها. كنت لا أزال أظن أنه من الممكن أن يطلق سراحي في تلك الليلة. استمر جلوسنا قرابة الساعة ثم ليأتي العساكر و يأخذونا إلى الخارج؛ ثلاث سيارات شرطة وُزِّعنا بينها، لأركب إحداها مع نفس العسكري الذي أخذني للتحقيق، و تبدأ السيارة بالمسير. سألته، «إلى أين؟» لم يجب. ترجيته بأني أريد أن أتصل بأهلي. رفض متأسفًا. لتستمر الرحلة قرابة الـ 35 دقيقة، يقف الجيب وأنظر إلى المبنى لأقرأ، شرطة غرب الدمام. أنزلنا لندخل أنا و الأخوين. كان عساكر مركز الشرطة في انتظارنا. استبدلوا الأصفاد بأصفادهم، ثم فتشونا. كنت متعبًا، كل ما أريده هو النوم، أريد الهروب من كل هذا و النوم. أدخلنا إلى التوقيف الذي كان في القبو، و وزعنا على مختلف الزنازين. يقول لي العسكري، «ابوك موظف؟ لماذا تتظاهر؟ هل تريد أن يحصل لنا كما في سوريا؟» فتح باب الزنزانة الانفرادية، دخلت أنا زنزانة رقم ستة.

كانت عبارة عن دورة مياه مترين مربعين، وباب حديدي بنافذة زجاجية شديدة الوساخة، البراز في كل مكان، يبدو أن السجين السابق كان يتمتع بحس فني فقد كان يرسم بالبراز على الزجاج. استلقيت. لم أستطع مد رجلي، لكيلا أطأ على بقايا البراز. نمت على الفور.

فجأة فتح الباب قوات الطوارئ، ثلاثة ضخام الجثة، نفس الذين اعتقلوني من الشارع، يسحبونني لا أعرف إلى أين. قلبي ينبض بشدة و أرتجف، «إلى أين؟ إلى أين؟» لأفتح عيني و أنا أتنفس بشدة. لقد كان حلمًا. لم أعرف كم الساعة، آخر ما أتذكره قبل دخولي كانت الساعة الرابعة، لكن الآن من الغرفة التي أمامي يوجد ضوء النهار. هنالك رجل أمامي في تلك الغرفة، لم ألحظه سابقًا. لا يتوقف يدور حول الغرفة؛ المشهد كأنه قرد في حديقة للحيوانات، و ينظر الى وجهي. أبيضٌ طويل ضعيف بلحية و نظارات، حينها دخل أحد العساكر معه كيس بلاستيكي. لاحظ أني أنظر إلى الغرفة الكبيرة، ليقول، «تريد ان تدخل معه؟» و هو يضحك. أعطاني قطعة خبز و علبة من المربى من فتحة وسط باب الزنزانة. سألته عن اتجاه القبلة للصلاة، سكت ثم أجاب، و استمر في التوزيع على باقي الغرف التي بجانبي. لم استطع الأكل. جلست، اكتشفت أن في الزنزانة صدى. أنشد و أتكلم إلى جانب الأدعية كانت أناشيد الانتفاضة الفلسطينية هي أكثر ما كان يشحذ النفس، أتذكر كلما كنت أسوق السيارة إلى إحدى التظاهرات، منذ بدايتها في كانون الثاني لذلك العام، كانت أناشيد المقاومة فرقة الإسراء وأناشيد مارسيل خليفة أثناء الانتفاضة كل ما أسمع، إمضي و دمر عروش الطغاة، إمضي وحارب كل الغزاة، نحن نار الكفاح نحن عصف الرياح نحن نبع العطاء أن يعز السماح، نحن بركان تفجر، و غيرها. رجعت الى النوم ليوقظني العسكري بعد ان فتح الباب، «تعال!» وضع علي الأصفاد، قال اتبعني، و كان الجميع من داخل زنازينهم ينظرون إلي. مشيت خلفه إلى الأعلى. أدخلني لغرفة أحد الضباط. عرفت الوضع، تحقيقٌ آخر. امتلكني الخوف خصوصًا من وجه المحقق أحول العينين، و بشارب دون لحية، إلا انه قال لي أجلس. نفس الأسئلة، يبدوا أنه كان ضجرًا، أراد فقط أن ينهي التحقيق، أو هذا ما توقعته. لم أكن أعلم أن أمي و أبي قبل ساعات كانوا في مركز الشرطة يسألون عني، و أجابوهم بنفي وجودي هنا الامر الذي جعل تصرف الضباط معي مختلف، أنهي التحقيق و توقيف الأقوال، و أرجعت للزنزانة.

عندما ركب العسكري الى الاعلى ماهي الا لحظات و أسمع «سيد! سيد! سيد! افتح الفتحة التي وسط الباب لأسمع الصوت»، كان أحد جيراني في الانفرادي يبدو أنه سمع اسمي ليلة أمس لذلك ناداني بالسيد، ليقول « أين اخذوك؟!» قلت له، تحقيق، ليرد «لا حول ولا قوة الا بالله»، قلت له لم يكن هنالك ضرب، سمعنا صوت الباب، سكتنا، دخل العسكري فتح الباب للأخ الصغير، أخذه. عرفنا أنه ذاهب للتحقيق.

Skip to content