قضية الديمقراطية في العالم الثالث المعاصر (1994)

مقدّمة الهامش:

ننشر اليوم المادة الأولى في ملف «استشراف الحاضر» الذي سيحتوي نصوصًا هدفت لاستشراف المستقبل الذي نعيشه اليوم، ونبدأ بمادّةٍ للمفكر الماركسي المصري الراحل سمير أمين حول قضية الديمقراطية في العالم الثالث. نُشرت نسخةٌ مبكرة لهذا النص بالعربية في العدد 11 لمجلة الفكر الديمقراطي عام 1990، وفي كتاب سمير أمين بعض قضايا للمستقبل: تأملات حول تحديات العالم المعاصر (دار الفارابي) المنشور في العام نفسه، وأضاف سمير أمين على النسخة التي تستند إليها هذه الترجمة فقرةً ختامية حول «الطرق المختصرة»، وقد نشرت هذه النسخة في كتاب وجهات نظر أفريقية حول التنمية (African Perspectives on Development) ترجمها مايكل وولفرز من الفرنسية الأصل.

تكمن أهمية هذا النص في تناوله مسألةً ما تزال تهيمن على الجدل العام حول طرق التقدم المتاحة في ما تشيع تسميته اليوم بالجنوب العالمي (أو «البلدان النامية»)، وتبيانه إشكالات منهجيات التحديث ومحاولات اللحاق الاقتصادية بالمراكز الرأسمالية الغربية دون الالتفات إلى مقتضيات التقدم في بلدان الطرف للمنظومة العالمية الرأسمالية، وما قد تحمله الحركات الجديدة من محاسن ومساوئ، وما تستلزمه المرحلة الجديدة من العاملين والعامِلات في مجال التغيير الاجتماعي السياسي الجذري.

لاقتراح نصوصٍ للنشر في هذا الملف أو المساهمة في غيره من الملفات، يمكنكن/م التواصل معنا عبر نموذج المشاركة بالنقر هنا.

  بداية النص  

مقدّمة*

ظهر في السنوات الأخيرة في كل مناطق العالم توجّهٌ نحو دمقرطة الأنظمة السياسية وصلت إلى نطاقٍ لعلّه لا رجعةَ فيه على المدى الطويل. وفي البلدان الاشتراكية على الأقل فُرِضَ التوجه على السلطات الحاكمة؛ أن تختار، إمّا أن تأخذه في الحسبان وتتكيَّف مع مطالبه، أو تهلك. وفي بلدان العالم الثالث الرأسمالية لم تصل الدعوة للديمقراطية إلى تلك الدرجة من الشعبية، حتى وقتٍ قريب (1991)، لكنّها ما زالت تكسبُ زخمًا، وإنْ انحصر جمهورها في حالاتٍ كثيرة على الطبقات الوسطى وقطاعاتٍ من المجتمع الحضَري المُنظَّم – النقابات على سبيل المثال. ولكن هذا التوجه، حتى على صعيدٍ ضيق كهذا، مؤشّرٌ على قفزةٍ نوعية في نفوذِ الوعي الديمقراطي في الأنظمة السياسية لعدة عديدة من بلدان العالم الثالث. وفي الغرب انبعث إجماعٌ واسع يلمّ الحكومات والرأي العام والإعلام دعمًا لهذه الدعوة، خصّيصًا حينما تظهر في بلدان أوروبا الشرقية وأحيانًا، وإنْ ليس دائمًا، في العالم الثالث، ارتهانًا لمصالح ورهاناتِ الدول المعنية.

«السوق» والديمقراطية

ظهر التوجه الديمقراطي بالتزامن مع تطوّرٍ عالمي آخر برز في السبعينيات، وتنامى في الثمانينيات: هجمةٌ مُعمَّمَة لصالح تحرير «قوى السوق»، هدفها الإنعاش الأيديولوجي للسيادة المطلقة للمِلْكية الخاصة، وشرعنة كل أنواعِ التفاوت الاجتماعي ومناهضة الدولتية (anti-statism). وهذه الهجمة، التي سمّيت بالنيوليبرالية، لا تعرف حدودًا، ويزعم أن صلاحيتها عالمية. و«الانفتاح» (على رأس المال و«المعلومات»، أي: الإعلام المهيمن) يُعتبر مرادفًا للتقدُّم الضروري. ويبدو أنَّ السلطات القائمة في كلِّ مكان في طريقها للخضوع لهذا التوجه: ففي الغرب، لطالما قبلت التيارات الديمقراطية الاجتماعية بعقلانية السوق، وإنْ – كيلا نجحفها – بمعنىً محدود، فهي ما زالت ملتزمةً بِمقاومة خصخصة وتسويق الخدمات الطبية والتعليمية وغيرها من الخدمات العامة غير المُسَلَّعة، لكنّ الليبراليين الغربيين – حتى من يسمّون بالليبراليين الاجتماعيين – خضعوا تمامًا للتوجه النيوليبرالي، واستسلموا للمقتضيات المزعومة لـ «عقلانية» الأسواق المفتوحة في أغلب النواحي. وهذا التوجه واضحٌ أيضًا في العالم الثالث حيث كل الأنظمة القومية الراديكالية تبدو اليوم منتميةً لعصور ما قبل التاريخ، بل وحتى في البلدان الاشتراكية حيثُ قطاعاتٌ كاملة من الطبقة الحاكمة انتقلت – أو هي في خضمِ الانتقال – من تراجعها التكتيكي عن «ماركسيّتها» إلى تحريفِها – أو تركِها بالجملة.

تَصَادُف هاذين التوجّهين يجعلُ من عصرنا عصرَ ارتباكٍ وتشوّش شديديْن. فدق الجرس الصاخب إعلانًا للعصر الجديد، الذي يَحجب بنحوٍ ممنهج كل الأصوات الناشزة عبر حملةٍ إعلامية منسّقة لا سابقة لها، يصل الآذان كتأكيدٍ بسيطٍ وجاهرٍ من طرفٍ واحد، يَطلبُ القبول به كأمرٍ بديهي. وفيه يعتبر «السوق» – ككنايةٍ ألطف عن الرأسمالية – المحور المركزي لأي «نمو»، وهذا النمو لا يمكن أن يأتي إلّا كجزءٍ من «عولمةٍ حتمية». ويضاف إلى قائمة بديهياته الانفتاحُ الكامل على القوى الحاكمة للتطور العالمي والتبني المتزامن لنظامٍ داخلي مستندٍ إلى «السوق». وأما الدمقرطة فَتُعتبر منتجًا ضروريًّا وطبيعيًّا للخضوع إلى عقلانية السوق العالمي. ويُستَخلصُ من هذا المنطق معادلةٌ ثنائية بسيطة: الرأسمالية = الديمقراطية، الديمقراطية = الرأسمالية. ومن نفس المنطلق يُعلَن موت الاشتراكية (وماركس معها بالطبع)، ويُقال إنّ إخفاقها كامل، فقد بيَّنت أنّها لا ترادف إلّا للاستبداد وانعدام الكفاءة. وبالمثل يُعلَن أنَّ «التحرير الوطني» عفي عليه الزمن، وترمى «القومية» بتهمة التوليد الحتمي للتخلف القاتل في التنافس بين الأمم.

ومهما بلغت هذه الأطروحات أحادية الطرف من جدّية، فهي بسيطةٌ إلى حد التبسيط وتفتقر للأسس العلمية والتاريخية، بل ويبدو أنّها تربك حتى صفوف المُحارِبين لأجل الدَّمَقرطة والتقدم الاجتماعي أنفسهم في البلدان الاشتراكية الباقية، وفي العالم الثالث.

قضايا ثلاث تستحق الفحص في صياغة ردٍّ على الأسئلة التي أثارتها الحركات الديمقراطية المشتغلة في سياق الهجمة الرأسمالية: (1) سمة المرحلة الجديدة للتدويل الرأسمالي – والقضية هنا معنية بما إذا كان الانفتاح على الخارج قد بات فعلًا «حتميًّا»، (2) أزمة الرأسمالية الموجودة حقًّا – والقضية هنا معنية بما إذا كانت الأزمة تستدعي التشكيك في الماركسية والاشتراكية، (3) وأخيرًا، مجموع أوجه العلاقة بين الديمقراطية والتقدم الاجتماعي تحت شروط العالم الثالث المعاصر.

المنطق الداخلي لمقولتنا يقتضي التصدي لهذه القضايا الثلاث بهذا الترتيب، حيث الجواب على الأولى يحملُ تداعياتٍ على الأُخريين. وهذه الورقة تعالج قضية الديمقراطية في العالم الثالث المعاصر، لكنّي سأعرج بإيجازٍ على بعض المقدِّمات التي أسبهت فيها في مواضع أخرى. ولن أشير إلّا إلى استنتاجاتي الواجب ذكرها لمَوْضَعَةِ مقولتي في المادة المتناوَلة هنا.

إنْ أقررنا بأن أغلب الأنظمة السياسية لما تسمى ببلدان العالم الثالث لم يسبق وشهدت قط أشكالًا ديمقراطية حقيقية (على غرار الأشكال التي تطورت في بلدان الغرب الرأسمالية – منذ 1945 على الأقل)، فذلك الأمر ليس عرضيًّا وليس من مخلّفات «ثقافتها التقليدية». فالديمقراطية هنا ليست متوافقة مع مقتضيات التوسع الرأسمالي.

أما يزال فكّ الارتباط ممكنًا في الطرف؟

أحدُ الأبعاد التي استهانَ بها ماركس والماركسية هو الاستقطابُ المستمر على نطاقٍ عالمي (تناقض «المراكز/الأطراف») الذي ولَّدته ما أسمّيها بـ «الرأسمالية الموجودة حقًّا»، أي الرأسمالية بصفتها منظومةً عالميةً وليس بصفتها نمطَ إنتاجٍ باعتباره على أعلى مستوىً من التجريد. وهذا البُعد لم يضع في موقع الصدارة في هذه المرحلة التاريخية ثوراتٍ «اشتراكية» بقيادة الطبقات العامِلة للبلدان الرأسمالية المتقدمة، بل ثوراتٍ «مناهضة للرأسمالية» أشعلها الاستقطاب المتأصّل في التوسع الرأسمالي العالمي بآثاره الاجتماعية التي لا تطاق على الشعوب الطرفية وشبه الطرفية للمنظومة.

تستلزم الأهداف الاستراتيجية لهذه الثورات فك الارتباط مع منطق التوسع الرأسمالي العالمي، وَتطبيقُ هذه الأهداف يستلزم قوّةً مستندة إلى هيمنة اجتماعية «وطنية شعبية» (وليسَ «دكتاتورية البروليتاريا» التي يتوخاها التقليد الماركسي) إقرارًا بمزيجٍ تصارعيّ لمطامح ذات طابع اشتراكي وأخرى رأسمالية. وعملية تحقيق هذه الأهداف تقتضي بدورها تقدّمًا تدريجيًّا ومتواصلًا نحو دمقرطة المجتمع عبر الإدارة العملية للسلطة وللاقتصاد.

بدأت الأنظمة المنبثقة عمّا يسمى بالثورات الاشتراكية (الاتحاد السوفياتي، الصين، إلخ) بِخلق الشروط اللازمة لاجتثاث إرثِ التطريف الذي أنتجته الرأسمالية، عبر التخلي عن معايير العقلانية الرأسمالية وإجراء ثوراتٍ اجتماعية داخلية بآثارٍ مَهولة. وأما نضالات التحرر الوطني، الناشئة عن رفضٍ شبيه للتطريف الرأسمالي، لم تَقُد إلى تَقدُّماتٍ معتبرة كهذه، في فك الارتباط أو في التحويل الاجتماعي الداخلي. والمجتمعات التي انبثقت عن هذه النضالات في العالم الثالث ظلَّت حتى الآن خاضعةً لقانون الاستقطاب الرأسمالي، فَما تزال الثورة الوطنية الشعبية وفك الارتباط الهدفين الاستراتيجيين للقتال لأجل التقدُّم في طرف المنظومة العالمية الرأسمالية. وقد اعتُقِدَ أنَّ التقدم في هذا الصدد، في ما يسمّى بالبلدان الاشتراكية لأوروبا الشرقية وتلك في الجنوب (العالم الثالث الرأسمالي)، لن يحدد مستقبلَ الاشتراكية على نطاق عالمي فقط بل حتى التقدّم الاجتماعي العام لأغلب البشرية.[1]

المقولة المركزية التي رسمتها هنا ستفشل في حالتين، إمّا (1) إنْ أنهت الأشكالُ الجديدة للتوسع العابر القوميات صلاحيةَ الاستراتيجياتِ الوطنية الشعبية، وما يلازمها من فك ارتباط، وحصرت التنمية في مسلكٍ وحيد ممكن: المسلك الرأسمالي في الانفتاح العالمي، و/أو (2) إنْ كانت الأطروحات الأساسية للاشتراكية (والماركسية تحديدًا) المعنية بالحدود التاريخية للرأسمالية وبأشكال الديمقراطية المُطوَّرة على أساسها، تفتقرُ للأساس العلمي، ويتأكد طابعها الطوباوي بفشلِ تطبيقها في التجربة الاشتراكية.

يجب ألّا نستهين بحقيقة أنَّ التوسع الرأسمالي العالمي قد دخل طورًا أعمقًا، يتّصفُ بسماتٍ جديدة نوعيًّا، أذكُر منها على الأقل السمات الست التالية: (1) تبديل الأنظمة الوطنية للإنتاج (القائمة على منطق الاتفاقيات الاجتماعية التي أنتجها التاريخ الوطني) بمنظومةٍ عالمية للإنتاج تتحدّى الاتفاقيات الاجتماعية الوطنية، (2) وعولمة رأس المال المالي، (3) والثورة التكنولوجية الجديدة، (4) وعولمة ثقافية تنتجها اتصالاتٌ مكثَّفة، (5) وَتَوفّر أسلحةٍ ذات قوّة تدميرية تفرض تغيرًا على الدبلوماسية التقليدية، (6) والاتكال الإيكولوجي المتبادل، على نطاقٍ متزايد العالمية.

هل يعني ذلك أنَّ هذه العناصر الجديدة تفرض خضوعًا من طرف واحد لتوحيد العالم مِنْ قِبل «السوق»؟ وهل يعني ذلك أنَّ الأثر الاستقطابي للتوسع الرأسمالي يمكن تحييده داخل إطار الاستراتيجيات الوطنية المستعدّة للاشتغال ضمن هكذا خضوعٍ إلى «السوق»؟

أعتقد أنَّ من الضرورة رهن الإجابة على هذه المسائل إلى تحليلٍ لآثار هذه التطورات على بنية القوة العامِلة على النطاق العالمي. فمن هذه الزاوية تجتمع العناصر الثلاثة الأولى من اللائحة لتسرّعَ مِن تَشَكُّل جيشٍ احتياطي من العمّال هادنٍ يستغلُّه رأس المال العالمي، خصوصًا في أطراف المسلك نحو التحول الصناعي. ولن تخفف المرحلة الجديدة للتوسع الرأسمالي أبدًا من السمة الاستقطابية المتأصلة في الرأسمالية الموجودة حقًّا، فلا مناص لهذه المرحلة من زيادة حِدّة التباينات التي تعبّر عن نفسها من خلالها. ويضاف على ذلك أنَّ التطورات العسكرية والدبلوماسية والثقافية – آنفة الذكر – تساعدُ على نقل الآليات التي من خلالها يشتغل الاستقطاب، من حقل العلاقات الاقتصادية، بالمعنى الضيق، إلى حقل السياسة الأوسع.

وقد استخلصتُ أنَّ استراتيجيات الاستسلام لهذه «القيود العالمية» المحدّدة قد تؤدي إلى كارثةٍ لا تُحْتَمل. والأمر لا يقتصر على عدم وجودِ استجابةٍ تضاهي البديل «الوطني الشعبي»، بل هو اليوم أكثرُ مركزيةً مما مضى. لكن الأشكال التي سيتخذها ما زالت تحتاج إلى التحديد، حتى وإن كانت خطوطها العريضة قد سبقت صياغتها. ومن هذا المنظور، تبدو لي إعادةُ إعمار منظومةٍ عالمية متعددة المراكز خيارًا واقعيًّا (بقدر ما هو ممكن في المدى القصير نسبيًّا)، بل والخيار الوحيد القادر على استعادة الهامش الضروري للاستقلال الذاتي ليتيح التقدم الاجتماعي لكل الشركاء.[2]

الاشتراكية، والديمقراطية والأبوية الوراثية

يكثر استحضار أزمة مجتمعات أوروبا الشرقية لتدعيم مقولة إنَّ الاشتراكية فكرةٌ طوباوية، وأنَّ الرأسمالية عقلانيّةٌ أبدية، وأنَّ النقد الماركسي للرأسمالية ليس إلّا حالةً شاذة في هذا التاريخ. وهذا الالتباسُ يُوظَّف بنحوٍ خافتٍ يسهِّلُ كثيرًا استراتيجية الغرب، المستندة إلى معادلة: السوق = الديمقراطية.

الديمقراطية البرجوازية هي نِتاجُ الثورة التي أسقطت «الميتافيزيقيا الخَرَاجية»،[3] وإن كانت قد أسَّست «مساواة الحقوق» والحرّيات الشخصية، فلم تؤسّس «المساواة» (إلّا أمامَ القانون). وحتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر على الأقل، كان يمكن للحركة العمالية أنْ تفرض ديمقراطيةً سياسية غير مقيّدة، وتنتزع الحقوق الاجتماعية، إنما في إطار مساومةٍ مستندة إلى القبول بالإدارة الرأسمالية للاقتصاد، وهي مساومةٌ أتاحها الاستقطابُ العالمي لصالح المراكز الصناعية. فالديمقراطية الغربية اقتصرت، إذن، على المجاليْن السياسي والعام، في حين ظلَّت إدارة الاقتصاد واقعةً تحت المبادئ غير الديمقراطية للمِلكية الخاصة والتنافس، أو بعبارةٍ أخرى: لا يستلزمُ نمط الإنتاج الرأسمالي بحد ذاته ديمقراطيةً، فالواقع أنّ طبعه الاضطهادي مَخْفيٌّ وراء الاستلاب الاقتصادوي الذي يؤثر على كامل المجتمع. وأما المشروع الماركسي الساعي لمجتمعٍ غير طبقي متحرّر من الاستلاب الاقتصادوي وما يقتضيه من بنيةٍ ديمقراطية فهو على النقيض من ذلك، لكن من الجلي أنَّ الحال لم تكن على ذلك تحت ما تسمّى بـ «الاشتراكية الحقيقية» لأوروبا الشرقية السابقة. فَحالما يُكسَر الاتكال الرأسمالي على التنافُس، فالعلاقاتُ الاجتماعية المستندة إلى التعاون بين العمّال، لا على إخضاعهم، لا يمكن تصوُّرها دون الازدهار الكامل للديمقراطية.

وأزمةُ مجتمعات أوروبا الشرقية لا تبطل هذه الأطروحات الأساسية، والسبب الوجيه هو أنّها ليست أزمة مجتمعاتٍ اشتراكية حقًّا، فالمجتمعات الاشتراكية حقًّا لا بدّ أن تكون ملتزمةً ببناءٍ وطنيٍّ شعبيٍّ على أساس رفضٍ ثوريٍّ للاستسلام لإمرةِ التطريف الرأسمالي.

تواجهُ هذه المجتمعات حاليًا خيارًا ثُلاثيًّا ألخّصه تحت المسائل الثلاثة التالية:

  • التطوّر نحو ديمقراطية برجوازية، أو تجاوزها، عبر تعزيز القوة الاجتماعية للعمّال في إدارة الاقتصاد؟
  • استعادة «اقتصاد السوق» الكامل، أو التقدم الفعّال في لجوءٍ مضبوطٍ بعناية إلى قوى السوق من خلال التخطيط الديمقراطي؟
  • بابٌ مفتوح تمامًا على الخارج دون ضابط، أو لربما علاقةٌ محمية مع العالم الرأسمالي المحيط، إنما على أساس زيادة التجارة؟

إنّ الجدل النظري المرتبك والخلافات السياسية التي هزّت بلدان الكتلة الشرقية نابعتان جزئيًّا من كون الإرث الأيديولوجي الذي صنّفها كـ «اشتراكية» عتَّم على السمة «الوطنية الشعبية» حقًّا للثورات التاريخية التي أسست في البداية كل هذه الأنظمة، لكن الأهم هي حقيقة أنَّ القوى التصارعية للرأسمالية والاشتراكية تتلاقى اليوم داخل صراعاتٍ حقيقية، والقوى المتلهّفة لـ «استعادة الرأسمالية» تقترح قبولًا من طرف واحد بـ «السوق» (منصة الانطلاق لاستعادة المِلكية الخاصة)، وقبولًا بـ «الباب المفتوح على الخارج»، سواءً بِديمقراطية (بالمعنى الغربي للكلمة) أو دونها، وَوفق المقتضيات التكتيكية لمشروع هذه القوى. وإنْ ترددت القوى الاشتراكية في مقاومتها هذا المشروع، وإنْ استصعبت الخروج بِبديلٍ متماسك (على الخطوط المرسومة أعلاه)، فذلك بسبب غياب المناظرة الديمقراطية، فالمغالطات الأيديولوجية المنصوص عليها أعلاه معيقاتٌ كبيرة أمام العمل. وأضيفُ أنَّ الهجمة الأيديولوجية الغربية، بهندسةٍ من إعلامها القوي، تتدفق تمامًا لصالح القوى المناصِرة للرأسمالية، المعادية للديمقراطية.

إنَّ النظرية الاجتماعية العرفية التي تقدَّم كتفسيرٍ لغياب الديمقراطية في العالم الثالث هي نظريةٌ جوفاء ومجترّة إلى حدٍّ بعيد. ففي ألبِسَتِها المتغيرة التي تقتضيها موضات الإنتاج الثقافي لعصرنا، تصيغ هذه النظريّات نموذج «التحديث» وتعيد صياغته: مجتمعاتُ العالم الثالث «نصف تقليدية/نصف حديثة» (في مسلك النمو والتحديث)، وهي لذلك تَحْفظُ تقليد المفهوم الاستبدادي للسلطة، وتقتادها ظروفٌ قهرية إلى الدمقرطة تدريجيًّا، متماشيةً مع «اللحاق» على صعيد التخلف الاقتصادي. ولذلك فالطريق الرأسمالي، في هذا المجال مثلما في غيره، هو الطريق الوحيد المتوخّى، ويُفتَرَض أنّه ينتج الديمقراطية من باب الضرورة.

هذه الأطروحة، التي اختفت لفترة بسب نجاح «العالمثالثية» في الستينيات لدى الغربيين، عادت تبرز وجهها مؤخرًا في صيغة فيبرية.[4] وفيبر كما نعلم ميّز بين ما يوصف بالسلطة التقليدية، التي وصفها بـ «الأبوية الوراثية» (الباتريمونالية)، والمشخصنة والمخالفة لمفهوم قانون العصور الحديثة، والسلطة «البيروقراطية» واللا-مشخصنة، المستندة إلى مفهوم القانون.

أطروحة فيبر أطروحة ألمانية جدًّا في الواقع، بمعنى أنها تسحب صفاتٍ خاصة بالتاريخ الألماني على البشرية جمعاء، فالسلطة في المجتمعات ما-قبل الرأسمالية لم تكن عمومًا مُشَخْصَنَة، أو غير مكترثة بالقوانين. والنموذج الأمثل للمجتمعات الخَراجية المتقدمة نجده في الإمبراطورية الصينية التي وصلت إلى أقاصي درجات البيروقراطية الماندرية اللا-مُشَخْصَنَة، بل وفي مصر القديمة كتبَ الفرعون تحتمس الثالث للأسرة الثامنة عشر إلى وزيرِه رخريت: «ما على [الوزير] فعله هو مراعاة القانون. . .».[5] ولا شك أنَّ الفيودالية الأوروبية للقرون المبكرة (من الاجتياحات البربرية وحتى القرنين الثالث عشر والرابع عشر) تقترب إلى نموذج فيبر من وجهٍ واحد: شخصنة السلطة الفيودالية. ولكنَّ واقع تشظّي السلطة – وهو شرطٌ مسبق لشخصنتها – لا يبيّن إلا حقيقة الفيودالية بصفتها نوعًا طرفيًّا للمنظومة الخراجية، لا القاعدة العامة لـ «التقليد» ما-قبل الرأسمالي.[6] ويمكن رؤية خسارة نظام السلطة سمته الشخصية في أوروبا الميركانتلية للمَلَكيّات المطلقة، وأنَّ البيروقراطيّات المَلكية تشابهت مع بيروقراطيات المجتمعات الخراجية المتقدمة الأخرى، المناورالية، ولم يتأخر الراصدون المعاصرون عن ملاحظة ذلك.[7] والاستثناء المتميّز هو ألمانيا بتشدّقها بالمرحلة.

لكنَّ العنصر الرئيس للأيديولوجية الخراجية ليس «الأبوية الورثية» بل «السيطرة الميتافيزيقية»،[8] وذلك ينطبق على كل الحالات، في الأشكال الخراجية المتقدمة، مثل الكونفشيوسية في الصين والإسلام زمن الخلافة، والأشكال الفيودالية الطرفية أيضًا، وإنْ كانت السيطرة الميتافيزيقية تشتغل في هذه الأخيرة من خلال السلطة المستقلة للكنيسة، تعويضًا عن قصور الدولة. وإن عدنا لتطور أوروبا من الفيودالية إلى الممالك المطلقة، سنرى اندماج الكنيسة-الدولة قريبًا للنموذج الخراجي العام، كما يدل عليه تأسيس الكنائس الإصلاحية الوطنية أو حتى تلك التيارات التي برزت في البلدان الكاثوليكية، مثل الجاليكية التي ظهرت في فرنسا.

بل حتى ما تسمى بالأنظمة «الأبوية الوراثية» لم تتجاهل القانون بالجملة، فقد احتوت الأنظمة الخَراجية المتقدمة قانونَ دولةٍ يحكم كامل الحياة الاجتماعية، ونجدُ مثالًا عليه في الشريعة في البلدان الإسلامية، وأما في الأنظمة الطرفية الفيودالية، فالسلطة المانورالية، حتى وإنْ تشخصنت، كانت ملزمة باحترام الحقوق العرفية للفلاحين.

وأما هذا المفهوم الحديث للسلطة، المتباين مع المفهوم المزعوم للسلطة «الأبوية الوراثية»، حسب صياغةِ فيبر وَمُقلِّديه، فهل هو «بيروقراطيٌّ» في أثره الرئيس؟ لا بالتأكيد، فالسمة البيروقراطية ليست إلّا شكلًا من أشكال عمله، وَأما مضمون جوهره فهو برجوازي، يُنتجه اشتغالُ الديمقراطية البرجوازية، ما عدى نفس الاستثناء المميّز: ألمانيا، حيثُ ضعف البرجوازية وجد تتمّته في سلطة «المستبد المستنير» حتى وقتٍ قريبٍ جدًّا. وهنا مرة أخرى يبدو لي أنَّ ماركس يتفوق على فيبر في تحليله لهذه الخصوصية الألمانية، فهنا أيضًا يقبض فيبر على سمةٍ خاصةٍ اتّسمت بها ألمانيا الفيلهلمية بالفعل، ويعمّمها على الغرب بِمجمله، فلا شكّ أنّها لا تنطبق لا على إنجلترا البرلمانية ولا فرنسا الجمهورية الثالثة.

حاول مقلِّدو فيبر (ريتشارد ساندبروك مثلًا) تطبيق أطروحته التاريخية الركيكة لتفسير سمات خاصة بالسلطة في أفريقيا السوداء المعاصرة، حيث الشخصنة وعدم مراعاة القانون تبدوان حقًّا سمتين تتصف بهما الكثير من الأنظمة ما بعد الاستعمارية. وهؤلاء يعزّونَ هذه السمات ببساطة إلى «تقليد» أبوي وراثي أفريقي.

لكن هل أطروحة «السلطة الأبوية الوراثية» هذه صالحة حقًّا لوصف أفريقيا قبل الاستعمار؟ لا شكّ أن الأخيرة هذه تتشارك سماتٍ معينةً مع أوروبا الفيودالية. ومنذ أنَّ أفريقيا السوداء قبل الاستعمار كانت ما-قبل خراجية، أي أنّها عمومًا في المرحلة التي أسمّيها بالمشاعية،[9] فقد حافظت أوروبا الفيودالية على أشكالٍ مشاعية ذات أصلٍ بربري هي ما أعطى نظامها الخراجي سمته البدائية والطرفية. وهذه المقارنة تبيّن أهمية الحقوق العرفية للحالتين، في غياب قانون دولة بيروقراطية. مع العلم أن دور الكنيسة في الحالة الثانية يؤكد سمة السيطرة الميتافيزيقية الحاكِمة لهذه المرحلة. أما في أفريقيا، فما زالت أيديولوجية القرابة – اللائقة للمرحلة المشاعية – تحكم أنظمة شرعنة السلطة. وهذه الأيديولوجية تظهر بمظهرٍ شبيهٍ جدًّا للسلطة المشخصنة، لكنَّ الواقع خلاف ذلك، فقد وجب على هذه السلطة أن تشتغل، «تقليديًّا»، ضمن إطار قانونٍ عرفي يعمل ككابِحٍ لأهواء «الزعماء» المحتملة.

ومثلما سنبيّن لاحقًا، فالسلطات المعاصرة في أفريقيا لا اتصال لها بهذا الإرث المزعوم الذي فقد مصداقيته منذ زمنٍ بعيد، خصوصًا في تجارة العبيد. وأما مسألة الكاريزما المحتملة للقيادات، فسنبيّن أنها، هنا مثلما هي في الخارج، ليس لها أي جذور «تقليدية»، بل هي ظاهرةٌ حديثة سنعود إليها لاحقًا.

ليست الأطروحة النيو-فيبرية الشكل الوحيد للتعبير عن الباراديم الأوسع للتحديث، فكلُّنا نتذكر التنموية (desarollismo) في أمريكا اللاتينية في الخمسينيات والستينيات وقولها إنَّ التحول الصناعي والتحديث على الهيئة البرجوازية سيأتيان من تلقاء نفسهما بالتغيير الديمقراطي، واعتبرت «الدكتاتورية» من مخلّفاتٍ مزعومة لماضٍ ما-قبل رأسمالي. وقد بينت الحقائق خطأ هذا النوع الساذج من المقولات، فالتحول الصناعي والتحديث في إطار هذه الخطة البرجوازية لم ينتجا إلّا «دكتاتورية مُحدَّثَة»، وقد استُبدِلت المنظومات الأوليغارشيةُ الأبويةُ بعنفٍ فاشيٍّ «عالي الكفاءة» و«حديث». لا يمكن للتنمية الطرفية أن تتخذ طريقًا آخرًا، فمصيرها مفاقمة التفاوتات الاجتماعية، لا خفضها.

غيابُ الديمقراطية عن طرف المنظومة العالمية الرأسمالية عنصرٌ ثابت فيه، ليس بصفته إحدى مخلّفات عصورٍ «تقليدية» سالِفة، بل كنتيجةٍ حتمية للتوسع الدولي للرأسمالية الموجودة حقًّا. فالاستقطاب الدولي الملازم لهذا التوسع يأتي بدوره باستقطابٍ اجتماعيٍّ داخليٍّ متشعّب: التفاوتات المتفاقمة لتوزيع الدخل، والبطالة الواسعة، والتهميش، إلخ. إنّ في جَعلِ المنظومة العالمية الوحدةَ التحليليّة المفتاحَ، تَصَدٍّ لعاملٍ اجتماعيٍّ ذو أهمية حيوية في فهمِ رهان هذه الصراعات، ألا وهو: إنَّ الجيش الاحتياطي الجوهري لرأس المال يمكن أنْ نجده جغرافيًّا في أطراف المنظومة. والجيش الاحتياطي هذا متكوّن بالتأكيد من الكتل الضخمة من العاطِلين الحضريين والعمالة المستنقَصة (وأعدادها أكبر بأضعاف من عدد العاطلين في الغرب، حتى في أوقات الأزمات)، بل وحتى لدى شرائح كبيرة من العمّال غير المأجورين، المقدَّر لهم – وفق التقدّم في قطاعات الأنشطة هذه – أن يطردوا من أراضيهم، أو مما يسمّى بالأنشطة الحضرية «غير الرسمية» التي تَشْغَلهم. وحينما تدمج أجزاءٌ من هذا الجيش الاحتياطي في الجيش النشط، فهو دائمًا إدماجٌ شديد المحدودية، وإما يجري من خلال «التحول شبه الصناعي» الذي تتسم به الأطراف الحقيقية للحاضر والمستقبل، أو بِالهجرة الدولية نحو المراكز. ولكن هذه الهجرة دائمًا محدودة، وأحد أسبابها هو الاستراتيجيات التوظيفية للمراكز، فالأمر ليس معنيًّا إلّا بشريحة متناهية الصِّغر من الجيش الاحتياطي العالمي. وتظلُّ بذلك «الليبرالية» التي لم تتوخى أبدًا إكمال برنامجها – برنامج تحرير تدفق التبادل ورأس المال عبر الانفتاح غير المحدود للهجرة العمالية – حيلةً مَبْتُورة.

الاستبداد، والشعبوية، و«الديمقراطية الصغيرة»

انعدام الاستقرار هو القاعدة في الحياة السياسية للأطراف. على خلفية دكتاتورية وحشية – عسكرية أم غير عسكرية – سهلةِ الانقياد عمومًا لموجبات التوسع العالمي لرأس المال، تحدثُ أحيانًا انفجاراتٌ تتحدى هذه الدكتاتوريات، ولكن هذه الانفجارات يندر أن تقود إلى الديمقراطية السياسية أو أنْ تقاربها حتى، فالنموذج الأكثر شيوعًا هو الجواب «الشعبوي»، ونجده في أنظمة تتصدى حقًّا لبعض جوانب المشاكل الاجتماعية على الأقل، وتتحرى استراتيجية تنمية تخفّض الآثار المأساوية للتطريف. والحقُّ يقال، لهذه الأنظمة الفضل في التحوّل الصناعي (مِن قِبَل الدولة) وتأميم القطاعات التي يسيطر عليها رأس المال الأجنبي، والإصلاح الزراعي، والجهود المبذولة في حقليّ التعليم والصحة (الرائعة أحيانًا)، وبعض الحقوق الاجتماعية التي منحت درجةً من الأمان الوظيفي، ومصر زمن الناصريّة نموذجٌ على ذلك.

لكنّ هذه الأنظمة لها حدودها التاريخية أيضًا، فهي، من جهة، تتصادم مع الإمبريالية المسيطرة (ببساطة لأن أي سياسة تَقَدُّم اجتماعي في الطرف لا تتوافق وموجبات التوسع العالمي لرأس المال)، دون أن تقدر على التقدم بالمعركة إلى نهايتها المنطقية: فك الارتباط. وهذه الأنظمة، من جهة أخرى، ليست ديمقراطية، وحتى إنْ كانت شعبية، وحسب التعبير الشائع: تؤيدها «الجماهير»، فهؤلاء «الجماهير» يُبْقَون في شرطٍ ساكنٍ غير متبلور؛ «يُعبَّؤون» لـ «التأييد» دون أن يتاح لهم التنظيم على هيئة قوّةٍ مستقلة عن السلطات. وهذه الأنظمة، الناتجة عن وضعٍ متشابه يتصف بتشكيلةٍ طبقية ضعيفة، تَشرع بتحويل وطنيٍّ شعبي دون أن تقدر على إتمامه. ولهذا فالقائد الكاريزمي سمةٌ شائعة لهذه الأنظمة الشعبوية. ونقطة الضعف هذه المتأصلة في النظام الشعبوي – إلى جانب العدوان الأجنبي – تأتي بانهياره، غالبًا لصالح عودة الدكتاتورية.

توجد أرضُ وسط بين دكتاتوريّاتِ اليمين، و/أو الحركات الشعبية الشعبوية، يمكن أن تتسلل إليها أحيانًا «الديمقراطية الصغيرة» (petty democracy). ونعني بذلك الأنظمة التي تعترف بمبادئ الانتخابات المتعددة الأحزاب، وتمنح مقدارًا من حريّة الرأي، لكنها تعجز عن التصدي للمشاكل الاجتماعية الأساسية و/أو تحدّي علاقات التبعية للمنظومة العالمية والخضوع لها. تتراوح هذه الأوضاع بين «الديمقراطيات» الظاهرية، حيث تحتفظ السلطات بوسائل البقاء في الحكم (غالبًا بالتزوير الانتخابي)، والأنظمة الأخرى التي تخضع للنتيجة النهائية للانتخابات.

وهذه «الديمقراطيات» ليست إلّا تعبيرًا عن أزمة النظام الاستبدادي الاعتيادي للرأسمالية العالمية، وأمريكا اللاتينية وكوريا والفلبين توفر أمثلة على التناقضات التي لا تحلُّها مثل هذه الأنظمة، فَخُطط التنمية التي عملت عليها الدكتاتوريات التي تلتها هذه الأنظمة لم تأتي بالنتائج المرجوة: بَيَّنت الأزمة ضعف البنية، واستحالة «الاستقلال»، مما شرعنَ الدكتاتورية عند بعض الناس.

تواجه الأنظمة الديمقراطية المفروضة في ظروفٍ كهذهِ مُعضِلةَ إمّا-أو ملحوظة: إمّا تقبل الأنظمة السياسية الديمقراطية بالاستسلام لموجبات «التعديل» العالمي: ألّا تنظر في إنجاز إصلاحاتٍ اجتماعية ملموسة، وحينها لن يبطؤ وقوع الديمقراطية في أزمة (مثلما الحال عيه في الأرجنتين)، أو أنْ تستحوذ القوى الشعبية على الديمقراطية وتفرض الإصلاحات: سيدخل النظام حينئذٍ في صراع مع الرأسمالية العالمية المسيطرة، وعليه الانتقال عندها من مشروعٍ وطني برجوازي إلى مشروعٍ وطني شعبي. ومعضلة البرازيل والفلبين تقع بالكامل داخل هذا التناقض، فقد رأينا في الأرجنتين كيف عاد الناخبون – الذين كلّوا من ديمقراطية الرئيس آلفونسين العقيمة – من تلقاء أنفسهم إلى النفخ في صفّارات الشعبوية، وهذه المرة تحت رداءِ فاشيين خاضعين عالنًا لإمرةٍ أجنبية!

فك الارتباط عبر النبذ – المافيا تسيطر

إنَّ مناطق الطرف الأشد تأثرًّا بالتوسع الرأسمالي تعاني من مصيبةٍ أسوأ، وهذه الحالة الهشة لـ «العالم الرابع» ليست نتيجة رفضٍ للاندماج في التقسيم الدولي للعمل أو محاولة «فاشلة» في فك الارتباط، بل الواقع هو أنَّ «العالم الرابع» ليس أمرًا جديدًا كما يروج القول، بل هي سمةٌ ثابتةٌ للتوسع الرأسمالي. ونجدُ مثالًا واضحًا ومؤسفًا للعالم الرابع السابق في مناطق العمل الاستعبادي في الأمريكيتين في فترة الميركنتالية: شمال شرق البرازيل، جزر الهند الغربية (بما فيها هاييتي)؛ هذه المناطق كانت تعتبر «مزدهرة» في أيامها، وكانت قلبَ الطرف المصاحِب لمنظومة ذاك الزمن.

والبنى الجديدة للنمو الرأسمالي طرَّفَت هذه المناطق لاحقًا، فَها هي تعتبر اليوم من ضمن المناطق الأشد عذابًا والأعظم بؤسًا في العالم الثالث. ولذلك يجب ألّا يقتصر تاريخ التوسع الرأسمالي على «النمو» الذي ولَّده، فللرأسمالية جانبها المدمّر أيضًا، المحذوف عادةً من التصويرات المُجَلِّلة للمنظومة.

أوليست أفريقيا اليوم في طريق الإقصاء من التقسيم العالمي للعمل من قِبل منظومةٍ حدّدت للقارّة الاختصاص في الزراعة والتعدين من خلال الاستغلال المفرط للتربة حتى استُهلِكَت، وقتما وفرت الثورة التكنولوجية بدائلَ لبعض المواد الخام؟ لا يمكن لمجتمعات العالم الرابع الخاضعة لفك الارتباط السلبي عبر النبذ، بحكم التعريف، حل مشاكلها عبر سياسات الباب المفتوح. أوليست إعادة الاستعمار المحلَّاة بالتبرعات الخيرية تحاول اليوم إخفاء فشل الحلول النيوليبرالية في أفريقيا؟

أنساقُ السلطة «الاعتيادية» هنا هي على منوال التونتون ماكوتي (الغيلان) في هاييتي، وسوموزا في نيكاراغوا، وعددٌ يقض المضاجع من الديكتاتوريات من الطبعة نفسها في أفريقيا المعاصرة. وأطروحة السلطة «الأبوية الوراثية» التي انتقدناها أعلاه صيغت حول هذه الأنظمة الأفريقية، وهي على المستوى السطحي تبدو وكأنها توافق وصفًا شائعًا لهذا النوع من الأنظمة، مثل: الشخصنة المفرطة (من رئيس الدولة وحتى أصغر إداري – مستبدّ القرية)، والانتهاك الصارخ لكل مفاهيم القانونية والحقوق (بما في ذلك تلك الحقوق البرجوازية المقدّسة: حقوق المِلكية الخاصة)، هذا ناهيك عن حقوق الإنسان الأساسية، وتفشيّ الفساد. ويا لشدّة الإغراء في إلقاء اللوم على «الإرث» المزعوم للتقاليد الأفريقية – وهي تلميحاتٌ تستبطنُ لمسةً من العنصرية. ولكن الواقع هو أنَّه لا يوجد إرثٌ كهذا ينتج ظاهرة «العالم الرابع»، بل على العكس فهذه الظاهرة هي ما يستتبع هذا النوع من السلطة المشخصنة، فهذه السلطة المعنية ليست «أصيلة»، لا هي ولا الحيلة ذات الاسم نفسه التي تُستحضر كَشرعنةٍ أيدولوجية لسلوكياتها.

بل هي كما وصفها نزونغولا نتالاجا: كليبتوقراطية،[10] أقرب إلى العصابات الابتزازية والمافيا، لا إلى الزعامات التقليدية، فهذه الأخيرة كانت تراعي الحقوق العرفية. وَدولُ العالم الرابع على أي حالٍ دولٌ حديثةٌ تشتغل على نحوٍ مثاليٍّ بطريقتها الخاصة؛ أنّى للسلطات أن تشتغل على أي نحوٍ آخر تحت شروط العالم الرابع؟ تجرد هذه الشروطُ الدولةَ من كامل قدرات بناءِ الشرعية على تنميةٍ ملموسة، أو إيجاد قاعدةٍ اجتماعية تحملُ الاستراتيجية اللائقة إلى خلاصةٍ ناجحة، فالأمر لا يقف عند افتقار الطبقتين الفلّاحية والعاملة والهوامش الحضرية إلى ما يُتَطَلَّع إليه – وهم يعرفون ذلك – بل حتى البرجوازية محرومة من أي تطلّعات تنموية قيّمة، ولذلك فلا سبيلَ إلّا الاستغلال المباشر للسلطة، كوسيلةٍ للإثراء الشخصي، أو استغلالها غير المباشر عبر قنوات الأنشطة الاقتصادية الخاصة ظاهريًّا، ذات الربحيّة التي تعتمد تمامًا على علاقتها بالحكومة. إنّ الإرهاب والفساد والشخصنة الفائقة كلّها إذن ضروريةٌ لاشتغال المنظومة نفسها، وليس للكاريزما – التي يكثر الحديث عنها – حضورٌ هنا، فالقضية ليست قضيّة كاريزما زعاماتٍ كسبت شعبيّةً حقيقيّةً في لحظةٍ تاريخية، مثل حالة الأنظمة الشعبويّة، بل كاريزما زائفة فبركها إعلامٌ عاجزٌ عن خداع عامة الناس. ولربّما يجوز سطحيًّا اعتبارُ البرجوازية الصغيرة القاعدة الاجتماعية لهذه المنظومات، بقدر ما تتشارك هذه الشرائح في السلطة وتستفيد من الميزانية، وحين لا يكون ذلك خِداعًا بصريًّا فهذا يكشف درجةً من التحوّل الفاشستي لهذه الشريحة الاجتماعية. فمع تحطيم آمال هذه الشريحة، ونتيجةً لعجزها العام – في غياب إنتلجنسيا ثوريّة تقدم بديلًا – تلجأ لعبادة السلطة، والدولةُ نفسها تمسي مُخصخصة.

تجاهل الديمقراطية، وإعادة اكتشافها

المهمة الرئيسة للقوى التقدمية في طرف المنظومة اليوم هي تأكيد المُكوِّن الديمقراطي المفقود، ليس بصفته بديلًا للأوجه الوطنية والاجتماعية للتحرير الوطني الشعبي بل كتعزيزٍ لها.

والحقُّ يقال: لقد تجاهلَ البرادايم القديم للتحرير الوطني عمومًا المكوِّنَ الديمقراطي، الجوهري لمسعى التقدّم الوطني الشعبي. وهذا الوعي الديمقراطي قد يكون ظاهرةً جديدةً جدًّا، ففي الماضي اقتصرت المطالب الديمقراطية في أفريقيا على شرائح محددة من البرجوازية الحضرية، ولم يعبّر عنها بقوّة إلّا في لحظاتٍ محددة من التعمُّق الراديكالي للصراعات ضد الإمبريالية (والوفد المصري أحدُ أفضل الأمثلة). ويضاف على ذلك أنَّ ذاك الوعي الديمقراطي وقع في الحدود الضيّقة لليبرالية البرجوازية، فقد اتصفت التيارات السائدة للحركات الشعبية الراديكالية للتحرير الوطني غالبًا بمحتواها الاجتماعي التقدمي، لا بالمعتقدات الديمقراطية لمناضليها، وذلك على الرغم من الاستخدام – الشعائري أحيانًا – لمفردة «الديمقراطية»، بل ورغمًا عن الوعي الأكثر تقدُّمًا لبعض شرائح الطليعة. ولستُ أعتقد أنّي أشوِّه صورة الواقع إنْ قلتُ إنَّ الجندي-الفلّاح لجيش التحرير أثناء دخول بكّين عام 1949 لم يكن واعيًا بعد بمعنى الديمقراطية، بل كان يفكِّر بالإصلاح الزراعي، لكنَّ ابنه أو بنته العامِلة أو الطالبة اليوم لهما تطلُّعات جديدة، والحال لا تختلف مع الفلّاح المصري، بل وحتى ناخب الوفد، وغيره الكثير.

لكن عن أيّ ديمقراطية نتحدّث؟ ليس هذا المكان للانتقاص من إرثِ الديمقراطية البرجوازية الغربية: احترامُ الحقوق وحكم القانون، وحريّة الرأي، ومأسسة الإجراءات الانتخابية وفصل السلطات، والضوابط والتوازنات، وإلخ، لكننا يجب ألّا نقف عند ذلك، فالديمقراطية الغربية بحد ذاتها، بصفتها وسيلةً سياسية، لا تحملُ بُعدًا اجتماعيًّا – رغم أنَّها أتاحت لحركاتٍ عمّالية جبّارة مثل الحركات الإسكندنافية إدخالَ بعدٍ اجتماعي في السياسة، باستخدام وسائل الديمقراطية البرلمانية. والديمقراطية الشعبية في لحظات التغيير الاجتماعي الثوري (الاتحاد السوفياتي في العشرينيات، والصين زمن الماوية، وإلخ) قد علمَّتنا هي الأخرى الكثير عن إمكانات «قوّة الشعب»، لو سمحنا لهذه المفردة التي كثُر سوء استعمالها أنْ تحمل معناها الحقيقي. والاكتفاءُ بِالأشكال الديمقراطية الغربية دون الأخذ بعين الاعتبار التحوُّلات الاجتماعية التي تقتضيها الانتفاضة ضد الرأسمالية في الطرف، معناه أنْ نقع في صورةٍ مشوّهة للديمقراطية البرجوازية، وبالتالي يُحكم علينا بالاستلابِ عن الشعب، وبالضعف والهشاشة الشديدتين، فَلِكَي تُغرَس جذور الديمقراطية وتمتد، عليها أنْ تتخذ موضعًا يتجاوز الرأسمالية. وفي هذا المجال، مثل غيره من المجالات، يشتغلُ قانون النمو غير المتكافئ.

وهكذا مستقبل لا يمكن للإمبريالية أن تقبل به، ولهذا السبب فالحملةُ نحو «الديمقراطية» التي دبّرتها العديد من المؤسسات الغربية تشدّد بعض جوانب القضية وتتجاهلُ أخرى، فهي، مثلًا، تساوي بينَ الديمقراطية والتعددية الحزبية في السياسة. وخلافًا للغة الإعلام الغربي حول الديمقراطية، ينشغل تفكيرنا بالديمقراطية في خدمة التحرير الوطني والتقدم الاجتماعي (وليس اعتراضًا عليهما أو تغاضيًا عنهما).

وإن استعرنا من الثورة الفرنسية، أقول إنَّ «الديمقراطية اليعقوبية» حديثةٌ على نحوٍ مبهر، ففي كلٍّ من الثورات الثلاث الكبار للعالم الحديث (الفرنسية والروسية والصينية)، نجح تفاعل الأفكار والقوى الاجتماعية في لحظة التعمُّق الراديكالي في تخطّي احتياجات التحول الاجتماعي «الضروري تاريخيًّا وموضوعيًّا» بمسافة طويلة، ولذلك لم تقف منجزات الديمقراطية اليعقوبية عند تأسيس «السلطة البرجوازية»، رغم أن هذه الديمقراطية اشتغلت في إطار المِلكية الخاصة، فسعيها لتأسيس السلطة صدقًا في خدمة «الشعب» تصارعت مع الموجبات البرجوازية المحضة. في هذه المرحلة للنمو الاجتماعي تطلَّعت البرجوازية إلى ما يتجاوز الديمقراطية المقيّدة على الطبعة الإنجليزية والأمريكية والفرنسية في القرن التاسع عشر. وقد كانت البرجوازية مستعدة للمساومة مع المَلَكية والأرستقراطية أيضًا، كما يبين التاريخ البريطاني. وأما تطلُّعات «الشعب» – جماهير الفلّاحين والحِرفيين تحديدًا – فقد تجاوزت ذلك، وتخطّت مطلب «التجارة الحرة»، بل وتجاوزوه في «المؤتمر» أثناء الثورة الفرنسية حتّى أطلقوا الشعار المبهر في حداثته: «الليبرالية (أي: الاقتصادية) عدوّة الديمقراطية»! وهذا التطلّع كان تصريحًا سابقًا لوعيٍ اشتراكي لم يأتي بعد (والبابوفية مؤشّر على ذلك)، وقد عبَّر كلٌّ من الاتحاد السوفياتي في العشرينيات والصين الماوية عن رؤية شيوعية تتخطى بمسافةٍ بعيدة مقتضيات الإصلاحات «الوطنية الشعبية» على جدول الأعمال. ولحظات التعمُّق الراديكالي هذه هشَّةٌ بالطبع، وفي النهاية تنتصر مفاهيم أضيق وأكثر تناغمًا مع الحاجات «الموضوعية»، لكن سيكون من الخطأ الاستهانة بأهميّتها كمؤشِّرٍ على اتجاه الحركة الضرورية.

«الديمقراطية اليعقوبية» التي أنعشها التعمّق الراديكالي للثورات الاشتراكية لعصرنا هي الديمقراطية التي تتطلع إليها الطبقات الشعبية للعالم الثالث المعاصِر، وإنْ على نحوٍ مرتبك. وهذه الديمقراطية متمايزة عن الديمقراطية البرجوازية الليبرالية، التي تتجاهل بُعْدَ الإصلاحات الاجتماعية الضرورية، مثلما هي متمايزة عن «التعبئة الشعبوية» سالفة الذكر، التي ازدراؤها للديمقراطية استنفد إمكان تجديدها.

مقترحي لا يكترث بـ «الموضة» العصرية بالتأكيد! فهذه الأخيرة في هذه الأيام تريد التهوين من قيمة لحظات التعمُّق الراديكالي الثوري باسم «الواقعية»، أو تقارنها بإرثٍ آخر: إرثُ «الديمقراطية المحلية» المألوف في البلدان المتحدِّثة بالإنجليزية. ومن هذا المنطلق يكثر تقديمُ «اللا-مركزية»، إلى جانب استقلالية مجتمعٍ مدني مَبْتور ومقطَّع، بصفتهما تَقَدُّميْن قابلين للتحقيق، ذوي أرضٍ لعلّها أكثر خصوبة مما يُسمّى وَهْم الديمقراطية الشعبية «الدولتية». فموضات هذا التيار، وما يجوبها من لمسةٍ دينية شعائرية، تبدو لي وكأنها تقترح استراتيجيةً أشدّ إفراطًا في انحيازها لـ «مناهضة الدولتية» من أن ترقى حقًّا لمستوى التحدي التاريخي الحقيقي.

لكنّ ذلك لا يعني أنّ ليس فيها ما يُتعلَّم، فَالحوار الصادق ضروري هنا، ومع لك فمن الصعب في هذه الأيام معرفة ما إذا كانت الحركات الاجتماعية من مختلف الأنواع المتمظهرة في الطرف (وفي المركز) قادرة على إحراز تقدّمٍ في الاستجابة للتحديات الموضوعية أم لا.

وبعض الحركات تبدو لنا ذات نهاية مسدودة، مثل حركات التجديد الديني الأصولي، أو الانحسار الطائفي «الإثني»، فهي، لأنّها أحد أعراض الأزمة، لا حلولًا لها، ولأنها بالجملة إحدى آثار خيبة الأمل، فهي لذلك ستنهارُ حالما تكشف عُقْمَها في وجه الأزمة الحقيقية. وقولي هذا ينبع من تفاؤلي بأن الغلبة ستكون للعقل.

قد تجد غيرها من الحركات دورًا في إعادة بناء مشروعٍ لمجتمع «ما بعد الرأسمالية» يقصد حلّ التناقضات التي تعجز الرأسمالية الموجودة حقًّا عن تجاوزها، عبر نهل دروس الخطوات الأولى في هذا الاتجاه. ويبدو لي أن هذا يحصل حيثما «الحركات الجديدة» (أو القديمة!) لا تكتفي بالوقوف حصرًا على منصة «الاستيلاء على الدولة»، بل على مفهومٍ آخر للسلطة الاجتماعية المقصود اكتسابها. فالخيار إذن ليس بين «الصراع لأجل السلطة أو الصراع لشيءٍ آخر» (أي شيء؟)، بل هو يعنى بِماهية المفهوم المعتقد به للسلطة الواجب خوض النضال لأجلها. وهنا ستخسرُ أشكال التنظيم المبنية على المفاهيم «التقليدية» السائدة للسلطة (السلطة = الدولة) شرعيَّتها حتمًا حالما يدرك الناس سمة هذه الدولة المحافظة. وفي المقابل، سيزداد نجاح أشكال التنظيم التي تشدد المحتوى الاجتماعي المعقد للسلطة المقصود تنميتها. وفي هذا المستوى قد تُبيِّن أطروحة «السياسة اللا-حزبية» جدواها، والأمرُ نفسه ينطبق على «مناهضة السلطوية» في أمريكا اللاتينية، حيث يتقصى بابلو كاسانوفا الميزة الأساسية للحركات «الجديدة»: رفضُ السلطوية في الدولة، وفي الحزب، والطلاقُ مع المصطلحات الأيديولوجية العقائدية لدى قياداته.[11] وهذه ردّة فعل على الإرثُ المثقل للتشكُّل التاريخي للقارة، وهي بلا شك ردّة فعلٍ ستشجع على التقدم. ولكن بالمثل، وللسبب الأساسي نفسه، فالنسوية في الغرب، وهدفها مهاجمةُ بعض جذور الاستبداد الذكوري على الأقل، تنبع من المنطق نفسه، ومن مفهوم آخر للسلطة الاجتماعية. وبقدرٍ ما، يقع الغرب اليوم في طليعة التقدُّمات الجديدة لتحرير المجتمع. وأما مسألة ما إذا كانت هذه التقدُّمات توحي باختراقاتٍ نحو «ما بعد الرأسمالية» أو ما إذا كانت «قابلة للاحتواء» («الاستعادة») من طرف المنظومة الاجتماعية، فهي تطرح مسائل جديدة. وفي المدى المتوسط على الأقل يبدو أنَّ نقاطَ القوّة في موقع مركزي رأسمالي هي أن مثل هذه الحركات من غير المرجح أن تهز قواعد الإدارة الرأسمالية للمجتمع.

ما زال مستقبل «الحركات الجديدة» غير مؤكد، ومن الممكن إنّها ستضمحل في الأزمة الحالية، فهل لمعيار موضوعي أن يُعرَّف لتشجيع هذه الحركات على اتخاذ وجهةٍ وطنية شعبية؟ أعتقدُ أن ذلك ممكن وسأضع التعليقات الابتدائية التالية حول ذلك:

شروط استعادة الديمقراطية

أولًا: المهمة الرئيسة هي إعادة التسييس الديمقراطي للجماهير، فقد سبق وتطلَّعت الجماهير لاستقلالٍ يُستردّ، ولكن حالما أنجز الهدف، خارت قوى الخطاب التي استند إليه التحرير الوطني. فهل تكون إعادة التسييس هذه «لا-حزبية» أو حتى «ضد-حزبية»، بحكم أنَّ الأحزاب خسرت قيمتها من جرّاء سلوكها بعد الاستقلال؟ السؤال مفتوح، لكنّي مصدومٌ شخصيًّا بعض الشيء مما يبدو لي درجةً من «الأبوية» (paternalism) وراء أنشطة العديد من «المنظمات غير الحكومية» العصرية.

ثانيًّا: يجب أن تستند إعادة تسييس الشعب إلى تعزيز قدرتهم على التنظيم الذاتي والتنمية الذاتية والدفاع الذاتي، ولا شك أنّ هدف التنمية الذاتية، عبر مختلف أشكال التعاون والإدارة التشاركية والإدارة الشعبية، سيبعثُ بصراعٍ مع الدولة؛ صراعٌ صريح إنْ كانت الدولة دولةً استعمارية جديدة، وضامرٌ إنْ كانت الدولة في طور الشروع بِبرنامجٍ وطني شعبي، إذ يظل المجتمع الوطني الشعبي هدفَ الصراع الطبقي الموضوعي. وعبر هذه الأعمال، هل لنا أنْ نطالب، مثلًا، بتحويلِ الأنشطة الموصوفة وصفًا غير دقيق بـ «غير الرسمية» إلى «اقتصاد شعبي»؟

هذه الأنشطة – تحت الشروط الحالية – مدمجةٌ تمامًا في المنظومة الرأسمالية العالمية، وتلبّي وظيفةً محددة هي ضمانُ إعادة إنتاج القوة العاملة بأدنى التكاليف، أو توفير تعهيدٍ منخفض التكلفة للمُدخلات. فهي إذن ملحقٌ ضروري لضمان ربحية الاستغلال الرأسمالي، وتحويلُ هذه الأنشطة إلى «اقتصادي شعبي» لن يكون إلّا خداعًا وتدليسًا إن لم يُتصدَّى لتضاربُ المصالح هذا صراحةً.

ثالثًا: يعود نوع العمل المتوخّى هنا لإثارة أسئلة العلاقات بين «الحركة» وأحزاب اليسار التاريخي والشعبوية، التي تأسست في الكفاح لأجل الاستقلال، أو الكفاح ضد النظام الاستعماري الجديد. ولا يبدو لي من اللائق ولا حتى من المقنع أنْ نخلط بين هذه الأحزاب – مهما كانت «أخطاؤها» وحدودها التاريخية – والمسؤولين عن الإدارة الاستعمارية الجديدة. يتجدد سؤال العلاقة بين «الحركة» والقوى الجديدة التي تضافرت في زمنٍ أو في آخر حول برنامج وطني تقدّمي، وهنا أعني، بالطبع، تنظيمات الجنود التقدميين والمناهضين للإمبريالية التي بدأت معها التغيّرات التي استجابت للطموح الشعبية، حتى وإنْ دشَّنَ التغيّرات هذه انقلاباتٌ عسكرية (مصر، ليبيا، غانا زمن راولينغ، بوركينا فاسو زمن سانكارا، إلخ).

رابعًا: يتضمن التحليل الاستراتيجي لإعادة التسييس الديمقراطي معاودة طرق باب ما لا يقل عن ثلاثة مواضيع جدلية واسعة لها أهمية نظرية:

  • الجدل حول دور الإنتلجنسيا الثورية بصفتها حافزًا اجتماعيًّا قادرًا على صياغة خطّةٍ بديلة ملموسة وقادرًا على النهوض بالنضالات الساعية لتطبيقها؛[12]
  • الجدل حول المحتوى الثقافي لهذه الخطة البديلة – منظورها المائل للكونية جوهريٌّ في رأيي، وعلاقتها بالإرث الثقافي الوطني، إلخ؛
  • الجدل حول التطلُّعات الطويلة الأمد: الاشتراكية أم الرأسمالية؟ مع أنّ الموضة في هذه الأيام هي إنكار مشروعية هذا الجدل، فأنا أعتقد أنّه لا غنى عنه. وهنا أكتفي بالإشارة إليه، فقد ناقشت التفاصيل في كتاباتي الأخرى.

خامسًا: يحمل التاريخ الحالي أمثلةً أوليّة لهذا الاتجاه، وهنا أفكّر بتجربةِ بوركينا فاسو أيام توماس سانكارا، وحتى بتجاربَ أخرى تعرّضت لتعسُّفٍ أكبر من الإعلام الغربي المهيمن (القذّافيّة مثلًا!). لا شكّ أنَّ خطواتهم الأولى عجزت عن حلّ القضايا الأساسية للعلاقة بين السلطات وأحزاب اليسار الجذري، والعلاقة بِالشعبوية، والجنود، إلخ، لكنّ النقاش حول هذه الافتراضات يجب أن يُفتَح.

سادسًا: لست أطرح هنا خلطةً سحرية أحمل أسرارها لتستبدل الحوار الديمقراطي الضروري بين كل عناصر الحركة، فكل ما في الأمر أنني أقول هنا: إن كان الاستقطاب يفرض «تنمية بديلة»، فالخيارات تنقسم بين القبول بـ «الثروة» (wealth) كعِماد التطلّعات الواجب التشجيع عليها، أو استبدالها بـ «الرفاه» (welfare). كيف؟ أولًا بالعودة إلى الشيخ ماركس، فَنَقدُه للسوق («الاستلاب السلعي») أبعد من أنْ يكون «مستهلكًا»، وقد انتعش هذا النقد بعد أن أعادت اكتشافه الحركة المعاصرة.

في التحليل الأخير لا يمكن مناقشة قضية الديمقراطية دون الرجوع إلى المفاهيم الفلسفية الكامنة وراء التفسيرات المتنوعة للديمقراطية. وموضات الآراء المعاصرة، التي تغلب عليها عمومًا الطبعة التطورّية والبرغماتية الأنجلو-أمريكية، تُفقِرُ النقاش بمعالجتها الديمقراطية بصفتها سلسلةً من الحقوق والممارسات المُعَرَّفة تعريفًا ضَيِّقًا، بانفصالٍ عن التَطَلُّعات الاجتماعية المتوخاة، وترى أنّ هذه الديمقراطية تحقق بدورها الاستقرار في المجتمع، بِتركها «التطوّر» في يد «القوى الموضوعية» المشتغلة بمعزلٍ عن الإرادة البشرية. بل وحتى في تحليل هذه القوى الموضوعية، يقع التركيز على التَقدُّم التقني والعِلمي ويُخفى الواقع الاجتماعي الكامن وراء «قوى السوق» على نحوٍ ممنهج. وأخيرًا، يُنظَر إلى التحوّل الديمقراطي للمجتمع بصفته عمومًا نتيجةً للتطوّر، ولذلك يُستهان بالدور الوظيفي للسيرورة الثورية في التاريخ.

قولي هنا بعيدٌ تمام البعد عن هذا النوع من الأقوال، فَتحليلُ الاستلاب الاقتصادوي الذي قدَّمته الماركسية تحليلٌ مركزيٌّ، في رأيي، لأي فهمٍ علمي وَواقعي لآليات إعادة الإنتاج الرأسمالي، وهو التحليل الوحيد الذي يضع الديمقراطية في سياقها الحقيقي، ويدرك دورها المحقِّق للاستقرار. وإلى جانب ماركس ومدرسة فرانكفورت وكارل بولاني،[13] أعتقد أنه من المستحيل تفسيرُ العالم خارج هذا المرجع التحليلي، فالوسيلة هذه تقود بالضرورة إلى استصلاح الوظيفة الحاسمة للتحول النوعي وبلورة إمكاناتٍ لا يمكن تصوّرها دونَ الثورة.

والعالم المعاصر، وفق هذا المنظور، واستشرافُ مستقبلِ تجاوزِه، كلاهما منتجا الثورات الثلاث الكِبار (والوحيدة) للعالم الحديث: الفرنسية والروسية والصينية. وإلى جانب إيمانويل والرستين،[14] أُوَلّي للانقطاع الذي دشَّنته الثورة الفرنسية أهميةً نوعية، فهذا الانقطاع يعوّض بنظامِ شرعنةٍ علمانية للعمل السياسي والاجتماعي عن الشرعنة الدينية القديمة الملائمة لما أسميه بالأيديولوجيات الخراجية. وبهذا المعنى، دشَّن ذاك الانقطاعُ التطوُّراتِ اللاحقة، سواءً الديمقراطية البرجوازية، أو الاشتراكية. وشعارُ كومونة باريس في 1871 «لا الله، ولا القيصر، ولا الأطربون» (Ni Dieu, ni César, ni tribun) لم يكن محض صدفة، فقد نبع من شعار 1789 «حرية، مساواة، أخوة» (Liberté, Égalité, Fraternité) وكان امتدادًا له. إنَّ التشديد على الجانب الأيديولوجي للثورة الفرنسية يتحدّى مفهوم الثورة البرجوازية بحد ذاته.

كانت الثورات الثلاث سالفة الذكر هي اللحظات الكبرى التي ما تزال تقولِب منظورنا للعالم المعاصر، وَمُستقبَله الممكن والمنشود. ولا يسعنا، للأسف، في فصلٍ حول الديمقراطية في أفريقيا، الخوضُ بعمقٍ تاريخي في هذه اللحظات – وأقول للأسف لكثرة ما يمكن استسقاؤه من دراسةٍ تاريخية كهذه مما له أهميةٌ حتى في يومنا هذه (وَالورقة المكتوبة لصالح مجلس تنمية البحوث الاجتماعية في أفريقيا المذكورة في السطور الأولى لهذا الفصل تحتوي شرحًا أكمل). وإنْ سعينا للعثور على مثل هذه اللحظات الماضية السابقة في التاريخ فعلينا العودة بحوالي 1,500 إلى 2,500 سنة، أي إلى عصر الثورات الأيديولوجية الكبرى التي عبَّر تبلوُر المجتمع الخراجي عن نفسه من خلالها، في بقعتنا من العالم، تحت الأشكال المتتالية للهلينية، والمسيحية، والإسلام، وفي غيرها تحت أشكالِ الكونفوشيوسية والبوذية. وقد مثَّلت هذه الأشكال على المستوى الأيديولوجي – وهو لحظةٌ مسيطرة في المجتمعات ما-قبل الرأسمالية – تحوُّلًا نوعيًّا مهولًا يعادل ما أتت به هذه الثورات الحديثة الثلاث في عصرنا. ومن الجدير بالذكر أيضًا أن تلك الثورات القديمة لم تقف عند إجراء تعديلاتٍ بسيطة لمقتضيات التطور الاجتماعي، بإعلانها مثلًا كونيّةً لم تستلزمها المجتمعات الخراجية الإقليمية ضرورةً.[15] وقد كان للتغيّرات التي جرت في غضون ذلك أهميّةٌ محليّة وصغيرة واقعًا، أثارها التعديل المتواصل لمختلف مجالات النشاط الاجتماعي على قيود «التطوّر».

القوى «مؤيّدة للديمقراطية» – أي ديمقراطية؟

يختلف تَصوّرُ قضية الديمقراطية، الممكن شرحه في هذا الإطار التحليلي، اختلافًا كبيرًا عن التصوّر الذي يتبع الفلسفة التطوّرية الأنجلو-أمريكية، فالديمقراطية في رأينا مُزَعْزِعٌ خَلَّاق للاستقرار، وَهي الوسيلة التي عبرها تَواصِلُ المفاهيمُ «السابقة لزمانها» تَقَدُّمَها وتَواصل حثّها العمل الاجتماعي على التقدّم.

تكمن أحدُ نقاط قوّة الهجمة الحالية لبعض الدوائر الحكومية والمؤسسات الرجعية الغربية، «المؤيّدة للديمقراطية» ظاهريًا، في تمكّنها من إخفاء هذا الميل الكامن في الديمقراطية نحو زعزعة الاستقرار. وأستدلُّ من ذلك على أنّ هذه الهجمة ليست هجمةً مؤيِّدة للديمقراطية، بل هجمةً ضد الاشتراكية. فقضيّةُ الديمقراطية إذن – في شكلها البائس كوسيلةٍ لاستقرار الأوضاع في مجتمعٍ مُستلِب – تُعَبَّأ كسلاحٍ تكتيكي، وهي تُوظَّف – مثل كل الأسلحة التكتيكية – بدرجةٍ من الدجل، فكيف لنا أن نفسّر وقوفَ الإعلام الغربي، بدفاعه الشغوف عن حريّة التعبير في بلدان «الاشتراكية الحقيقية»، إلى صفّ «حريّة» الإسلاميين الأفغان في الدعوة إلى إغلاق المدارس (ابتداءً بمدارس الفتيات بالطبع) التي تجرَّأ أُجراءُ موسكو من العلمانيّين سيئي الذِكر على فتحها؟ وكيف لنا أن نفسر تجاهُل الإعلام تدخُّل الفِرق المظلّية الغربية لإنقاذ مستبدّي أفريقيا عندما تتقطّع بهم السُبل؟ وكيف لنا أن نفسّر كون المدافعين الدؤوبين عن الحرّيات النقابية في بولندا، يتجاهلون حقيقةَ أنّ ما تسمّى بِسياسات التكيّف الهيكلي، المفروضة على العالم الثالث، تسعى لتفكيك النقابات؟

الطرق المختصرة للتقدم*

أودّ اختتام هذا الفصل بالحديث عن بعض أفكار زميلي يوران هيدين، وقوله: «لا طرقٌ مختصرة للتقدم»، وإشارته إلى حاجتنا الابتدائية إلى تأسيس برجوازية وطنية في أفريقيا لتطوير القوى المنتجة، وتمهيد الطريق للنمو الاقتصادي، والاختلاف الطبقي، والصراع الطبقي، والمزيد من التطور الديمقراطي، مثلما في الغرب. ومن أجل هذا النقاش، سأتّفق بنسبة 50 بالمئة وأختلف بنسبة 50 بالمئة.

مشكلة الفكر الاجتماعي – ولن أسمّيه العلم الاجتماعي، فمسمّى الفكر الاجتماعي كافٍ – هي ما يقع في استخدام اللغة الشائعة العادية من خطرٍ كبيرٍ لا يغيب، خطرُ استخدام كلمات بمعانٍ مختلفة، تُفهَم من خلفيات مختلفة. ولذلك فالفكر الاجتماعي لن ينفكّ مليئًا بسوء الفهم، واحتمال وقوع سوء الفهم أقلُّ في حقل العلوم الطبيعية حيث اللغة أكثر دقّة بكثير والاتفاقُ على التعاريف أشدُّ صرامة بكثير. وكلمةُ «طريق مختصرة» لطيفةٌ جدًّا، وقد يصح القول بعدم وجود طرقٍ مختصرة، وهي في رأيي الشخصي، في السياق الذي استخدم فيه هيدين هذه المفردة، صحيحة. فَهذا القول بعدم وجود طريق مختصرة، اليوم، يوحي بالحاجة الموضوعية لتطوير القوى المنتجة، لأنّك لن تقدر على فعل شيءٍ – ناهيك عن بناء ديمقراطية حقيقية – دون تطوير القوى المنتجة. ومن هذه الحقيقة تنبثقُ عدة قيود، منها الحاجة إلى الاستيراد مثلًا. وعلى هذا النحو، حقًّا «لا طرق مختصرة».

لمدة سبعين عامًا، وحتى في هذا المنعطف التاريخي، كان لدينا في جدول أعمال التاريخ الأفريقي رحلةٌ طويلةٌ جدًا مع الثورات المستندة إلى رفض آثار الاستقطاب العالمي التي قاستها شعوب أطراف المنظومة. وقد استدللنا من تجاربنا في هذه الرحلة على أنَّ بناء اشتراكيّةٍ حقيقية – الأمرُ الذي تَخَيّلنا أنه على جدول الأعمال – لا يمكن تحقيقُه في الوقت الحاضر، وما يزال البديل القائم في جدول الأعمال هو ما أسميته بالثورة الوطنية الشعبية. وبهذا المعنى لا توجد «طرق مختصرة»، لكن الخطر في استخدام هذه المفردة هو أنّ بعض اليمينيين – المنتمين لمدرسة التحديث – سيستدلّون من مفهوم «لا طرق مختصرة» أمرًا مختلفًا تمامًا، فَهُم بالفعل يقولون إنَّ الرأسمالية الموجودة حقًّا، أي الرأسمالية المعاصرة العابرة للقوميات، هي موضوعيًّا الطريق الوحيدة لتطوير القوى المنتجة، وأنَّ علينا العمل في ضمن تلك القيود. وهذا القول ليس صحيحًا أبدًا حسب اعتقادي، ذلك لأنَّ التاريخ على أي حال مليءٌ بالطرق المختصرة. وَبناءُ الحركات الشعبية القوية، بهذا المعنى، لهو اختصار، بل لعلّ التاريخ ليس مكوّنًا إلّا من الاختصارات، أو هي أساسه.

حينما خلقَ الله سبحانه وتعالى هذا النوع لعلّه قرر في حكمته أنّ الجنس البشري يجب أنْ يمنح امتياز إيجاد الاختصارات، لو كان البشر أذكياءَ بما فيه الكفاية. وللمعلومية، إنْ لم توجد طرقٌ مختصرة في التاريخ، وقد كانت الحضارة في مصر قد بدأت 3,000 سنةً قبل الميلاد، وقضت 3,000 سنة تبني الأهرام، لقضى السويديّون المعاصرون، الذين بدأوا بالتطور قبل ما لا يزيد عن 1,000 سنة، 2,000 سنةٍ في بناء الأهرام قبل أن يتمكنوا من تجاوز تلك المرحلة. لكن لحسن حظهم، وجد الأوروبيون طرقًا مختصرة، لربما لأن الله لم يُرِد للتاريخ أن يكون مملًّا ومكرّرًا لذاك الحد.

بل والسويد، وطنُ يوران هيدين، مليئة بالاختصارات الجيدة في نظري، تكرَّرَت مرّتين على الأقل في تاريخها وأتقنتها بإبداع. فحينما انتقل السويديون من مجتمعٍ بدائيٍّ جدًا إلى مَلَكية مطلقة متطورة دون المرور بكل مرحلةٍ من مراحل الإقطاع الأوروبي، كان ذلك حقًّا اختصارًا، حتّى وإنْ لم يُقصد بِصفته كذلك. ولننظر أيضًا إلى الطبقة العاملة السويدية في نهاية القرن التاسع عشر وفي مطلع القرن العشرين، فرغم تأخرهم على التحول الصناعي في بلدٍ متخلّف، نجحت هذه الطبقة في تنظيم قوّة مستقلّةٍ جبّارة. فلنتخيّل لو قيلَ لهم إنه لا يوجد اختصارات، وأنّ عليهم اتباع خطى الإنجليز أبكرُ البلدان الصناعية، وأنَّ عليهم إذن الانتظار لعقودٍ عدّة قبل أن يقدروا على تشغيل حركةٍ عمّالية مستقلة . . . لن تكون السويد بهذه الدرجة من النماءِ اليوم لو اتّبعوا وصفة «لا طرق مختصرة» هذه.

توجد طرقٌ مختصرة حقًّا، لكن توجد طرقٌ مسدودة أيضًا، ولذا فالسؤال الواجب مناقشته هو ما إذا كان ما يُعتَمد اليوم في أفريقيا من طرق مختصرة هي حقًّا طرقٌ مختصرة أم طرقٌ مسدودة.

هل البرجوازية الوطنية ممكنة في أفريقيا؟

أود الخوض الآن في موضوع البرجوازية الوطنية الذي تناولته بإيجازٍ أعلاه، لأنّ هذا المفهوم لربما هو الآخر يشوبه الغموض وقد يؤدي لسوء فهم، وقد يبعث بجدالاتٍ عقيمة. ولذلك علينا أن نوضح ما نعنيه بهذا المفهوم؛ أودّ أن أوضح ما أعنيه بالبرجوازية الوطنية ولماذا أعتقد أنّها ليست مرحلةً أولى ضرورية أو حتى ممكنة، فهي ليست مرحلةً ممكنة في العديد من البلدان الأفريقية، ولذلك علينا أن نجد اختصارًا.

وحينما أتحدث عن البرجوازية الوطنية أعني شيئًا يجب فهمه على أساس التجربة التاريخية للغرب، وأظن أنّنا يمكننا الحديث عن برجوازية وطنية بصفتها مُنتَجًا تاريخيًّا، حينما تتقن برجوازية، ودولتها (وهما لا تنفصلان إلّا في الأيديولوجية الليبرالية) سيرورات المراكمة الداخلية، ليس في اقتصادٍ مغلق (autarchy)، وليس بمعزل عن بقية العالم، إنما بطريقةٍ تتيح إتقان العلاقات المتضمنة في سيرورات المراكمة الوطنية في منظومة عالمية. وينطوي على ذلك أولًا: إتقان شروط إعادة إنتاج القوة العاملة (ولا يقتصر ذلك على مسألة القانون والنظام، بل القدرة على تطوير الزراعة والصناعة، بدرجةٍ من التناغم، حتى تُنتَج الأطعمة الأساسية والأدوات الأساسية لضمان مستوى أجورٍ مقبول في وقتٍ محدد، وهكذا دواليك)، وثانيًا: إتقان سيرورة مَرْكَزَة الفائض بمنظومة مالية وضريبية وطنية متكاملة، وإعادة توجيه هذا الفائض – بالطبع – مع احترام المِلكية الخاصة وكل قواعد اللعبة التي تلعبها البرجوازية الوطنية، وثالثًا: إتقان التكنولوجيا المنتجة في ضمن هذا الإطار، والقدرة على استيعاب التكنولوجيا لإعادة إنتاجها محلّيًّا، وتطويرها في آخر المطاف، ورابعًا: إتقان السوق مما يعني امتلاك أدوات سياسةٍ وطنية للانعزال النسبي، وللتصدير الحثيث إن اقتضى الأمر. هذا هو ما يتضمنه إتقان المراكمة الوطنية، ليس في اقتصادٍ مُغلَق بالطبع، بل – في العديد من الحالات – في علاقةٍ عدوانية مع بقية العالم (بما في ذلك الاستعمار). هذه هي الشروط الأربعة اللازمة لنشأة برجوازية وطنية.

ولأنّ المنظومة العالمية اليوم تُعمّق السيرورات العابرة للقوميات، فهي تؤدي إلى مرحلةٍ نوعية جديدة من التاريخ، ومن الواضح في هذا الفصل أنني أتفق مع وجهة النظر هذه، إلّا أنَّ على المرء أن يفهم بوضوح أن المرحلة الجديدة تأتي تاريخيًّا بعد أنْ بَنَت البرجوازية الوطنية في الغرب أصلًا، داخل بلدانها، القدرة على التشارك الحقيقي في المنظومة العالمية. فالآن السؤال يتعلق بما إذا يمكن للدول الأفريقية أن تصير شريكاتٍ حقيقية على هذا النمط في المنظومة العالمية، بعد أن تطوَّرت في المقام الأول داخل بلدانها وداخل أسواقها المحلّية أو الإقليمية؟ أقول بصراحة إن الجواب هو لا. ليس ذلك ممكنًا، إلّا في حالاتٍ قلّة، وبسبب كل تلك العوامل الداخلية والخارجية التي ذكرتها، باجتماعِ التاريخ الداخلي، والاستعمار، والإمبريالية، وَطُرق عمل المنظومة العالمية، إلخ، فكلّ تلك الشروط تقلّل جدًا من احتمال ظهور وتبلور أي برجوازية وطنية تتصف بالصفات الأربع آنفة الذكر في أغلب البلدان الأفريقية تحت الشروط الراهنة.

بعض البلدان حاولت ذلك، وبعضها ستعيد الكرة، فَمحاولات البرجوازية الوطنية شغلت 150 عامًا من تاريخ مصر على سبيل المثال، منذ محمد علي في بداية القرن التاسع عشر وحتى عبد الناصر، وَقد تتابعت المحاولات طول هذا التاريخ الطويل – محاولةُ الخديوي إسماعيل وبعده البرجوازية الليبرالية الوفدية آنفة الذكر. وقد اقتادها تضافُر عوامل داخلية وخارجية في كل مرة، بعد نجاحاتٍ صغيرة وإنجازاتٍ قليلة، أو تنميةٍ إن صح التعبير، إلى «الارتداد الكومبرادوري» للبرجوازية (recompradorization). ولكنّ سيرورة التحول الكومبرادوري هذه ليست تكرارًا بالطبع، لأنّها تشتغل ضمن إطار منظومةٍ عالمية تتغيّر هي نفسها من حقبةٍ لأخرى، فالتحول الكومبرادوري اليوم ليس التحول الكومبرادوري للأمس، وذلك لأنَّ المنظومة العالمية اليوم أكثرُ تطوُّرًا بكثير. بل وأقول إنّنا اليوم نمرّ بالارتداد الكومبرادوري على مستوى عالمي ونطاقٍ أوسع يشمل العالم الثالث بأكمله، فحتى في البلدان الكبيرة مثل البرازيل والمكسيك، بقدرتها العالية نسبيًّا على تنمية برجوازية وطنية، ها هي تمر بهذه العملية.

سنحصلُ على مفتاحٍ لأحد أبواب فهم إخفاق السياسات التنموية المستندة إلى هذا التصوّر البرجوازي إن فهمنا أسباب استحالة تبلور برجوازية وطنية في أغلب البلدان الأفريقية. لا أحد يغفلُ وجود علاقاتِ إنتاج رأسمالية في العالم الثالث، ففي بعضِ البلدان الأفريقية توجد بالفعل برجوازية محلية، لكن هذه الطبقة ليست قادرة على إتقان عملية التراكم الوطني، وليست قادرةً على ربطِها بالمتَّجه العالمي بطريقةٍ تسمح لها أن تكون شريكًا حقيقيًّا ومتساويًا، فكل ما يمكنها فعله هو التكيُّف المستمر مع المنظومة العالمية دون المشاركة في صناعتها.

كانت حقبة باندونج مستندة تحديدًا إلى فكرة أنّ البلدان الآسيوية والأفريقية حديثة الاستقلال يمكنها المساهمة في المنظومة العالمية استنادًا إلى ما يسمى بالمزايا النسبية، مع القبول بالتخصص والتقسيم العالميين للعمل، وبتدفّقات رؤوس الأموال، الخاصة والعامة، والإتقان المتزامن لتلك العلاقات مع بقية العالم. والبلدان التي حاولت تحقيق فكرة باندونج، والتوفيق بين هاذين الهدفين المتضادين بعض الشيء، هي البلدان التي سمَّت نفسها «اشتراكية»، ولم تكن التسمية محض مصادفة، فلأجل تحقيق هذه الأهداف انبغى على هذه البلدان الاتكال على قوىً ليست القوى البرجوازية في مجتمعاتها؛ كان عليها الاتكال على القوى الشعبية التي كانت إلى درجة كبيرة نتاج حركات التحرر الوطني، ونتاجَ درجة تعمّقها الراديكالي، والحاجة لأن تتحالف البرجوازية المُحتمَلة مع قطاعاتٍ أخرى من الشعب، مع الفلّاحين، ومع الطبقة العاملة في البلدان شبه الصناعية، ومع قطاعاتٍ كبيرة من البرجوازية الصغيرة، وهلم جرًّا. ولكن هذه التحالفات تُدمَّر اليوم، كنتيجةٍ متزامنة لتناقضاتها وَحدودها الداخلية، وللاتجاهات والقوى الجديدة المشتغلة على مستوىً عالمي – وأَشملُ في ذلك البُعد الثقافي، والتأثير الضخم للأنساق الغربية للاستهلاك المنقولة عبر الإعلام، وأشملُ حقيقةَ أنَّ الثورة التكنولوجية الجارية هي ثورة موفّرة لرأس المال (capital-saving)، وبالتالي تخلق الشروط لقواعد تجارية أسوأ للبلدان المتخلِّفة التي ما زالت مُقْدِمةً على التخصّص (أي مثل أغلب البلدان الأفريقية) في الصادرات الزراعية والمعدنية أساسًا. ومزيجٌ من كل هذه العوامل يفسّر السبب المحدد وراء عملية الارتداد الكومبرادوري الجارية.

فك الارتباط مرة أخرى – «البديل الوطني الشعبي»

إن صحّ هذا التحليل، فعليا النظر في طريق مختصرةٍ أخرى اسمّيها البديل الوطني الشعبي نحو التنمية الاقتصادية والديمقراطية. علينا أنْ نسأل أنفسنا أولًا كيف نجد أولئك الفاعلين الاجتماعيين المحتملين لهذا البديل، وما القوى السياسية الممكن أنْ توحّدهم؟ وما الأهداف المحتملة لما سنسمّيه بالفترة الانتقالية، الانتقالة طويلة الأمد، المرحلة التاريخية، التي على المرء فيها أنْ يمزج التغيرات الاجتماعية الداخلية مع القدرة على إتقان العلاقات الخارجية، وأنْ يحافظ رغم ذلك على درجةٍ من البعد عن الاتجاهات العالمية.

هذا ما اسمّيه بِفك الارتباط، مستخدمًا، مثل هيدين، مفردةً خطيرةً جدًّا، فهو يستخدم مفردةً خطيرة حين يتحدث عن «لا طرق مختصرة». وأنا لا استخدم مفردة «فك الارتباط» كرديفٍ للاقتصاد المغلق، رغم أنّ العديد من نقّادي خلطوهما منذ البداية، بل كل ما أقوله هو أن البديل الوطني المنشود يتعارض مع ذاتِ منطق التوسع العالمي للرأسمالية. وهو ليس متناقضًا مع الرأسمالية بصورة مجرّدة، فهو يستند، لِحدٍّ بعيد، إلى علاقاتِ إنتاج تظلُّ علاقاتِ إنتاجٍ رأسمالية، وبالتالي يشتغل ضمن مجتمعٍ طبقي ويتصف بالعديد من صفاته، بما في ذلك الاستغلال، حتى لو رددت الحكومات الأفريقية في خطابها أنه لا يوجد طبقاتٌ أو استغلال.

لم تحبّذ الحكومات الأفريقية عمومًا مفهومِي لـ «فك الارتباط»، فَللطبقات الحاكمة في أفريقيا مصلحةٌ واضحة في إغناء أنفسها عبر عقد الاتفاقيات مع الشركات الدولية وفي التحكم بأموال الجهات المانِحة. فإن تبيَّن أن «فكّ الارتباط عن قصد» أمرٌ مستحيل التحقيق، فقد نتعرض لفك الارتباط عبر النبذ، أو «فك الارتباط غيابيًّا» – صيغةٌ اقترحها هيدين في نقاشاتنا – كنتيجةٍ لحقيقةِ أنَّ دوائر الأعمال التجارية الغربية والجهات المانحة في طور فقد اهتمامها بأفريقيا وإدارة أنظارها نحو أوروبا الشرقية. وتظل المسألة المفتوحة هي حول ما إذا كان فك الارتباط غيابيًّا سيأتي بانحلالٍ سلبيٍّ أشد للتخلّف في أفريقيا، أو سيقدم فرصًا جديدة لأفريقيا للتنمية النشطة من تلقاء نفسها، وبهامشٍ أكبر من الاستقلال النسبي لإنجاز التغيرات الداخلية، بدرجةٍ من البعد عن المنظومة العالمية.

وهذا الاستغلال النشط للفرص التي تترتب على «فك الارتباط غيابيًّا» قد يعيد ما أسميّته ثورةً وطنية شعبية إلى جدول أعمال البلدان الأفريقية، فالمبادرات السياسية النشطة مطلوبةٌ لتقوية الأسواق الداخلية للمنتجات الزراعية والأطعمة الموجهة للاستهلاك العام أساسيًّا، ولإنتاج البضائع الرأسمالية البسيطة ومن ثم الأكثر تعقيدًا (آليات الإنتاج، النقل، إلخ.) للاستخدام داخل البلاد ثانويًّا، بدلًا من أسواق التصدير الدولي. ولن نقدر على حثّ الإنتاج لأجل التصدير أولًا داخل منطقتنا للتجارة التفضيلية ومن ثم ما وراء ذلك، إلّا إنْ اؤتُمِن هذا النوع من التنمية المحلية السياسية-الاقتصادية للإنتاج وللأسواق في البلدان الأفريقية، وحتّى لو لم يتأسس تمامًا. قد تكون هذه هي البداية لتنمية أفريقية حقيقية.

لكن «السوق» نفسه لن يولّد تركيزًا لا ينصبُّ على أسواق التصدير الدولية، ولن يحقِّقَ تركيزًا على بناء الأسواق المحلية الداخلية للإنتاج الداخلي لمستلزمات الاستهلاك العام داخل البلدان الأفريقية، وداخل القارة الأفريقية عمومًا، فهذا الأمر يقتضي قراراتٍ سياسية مستحيلة بدون منظومةٍ ديمقراطية مفتوحة للحركات الوطنية الشعبية، والعكس بالعكس: لعلّه لن يمكن تحقيق ديمقراطية مستقرة وتمثيلية دون هذا النوع من التنمية الاقتصادية الداخلية. وفي هذا القول عمليةُ سببيةٍ دائرية ترتبط فيها التنميتان الاقتصادية والديمقراطية مع بعضمها البعض بطرقٍ ليست دائمًا متناغمة، لكنها ديالكتيكية.

تحقيقًا لمصلحة الديمقراطية والتنمية الاقتصادية، يجب أن يكون هدفنا توسيع هامشَ الاستقلالية الاقتصادية هذا للبلدان الأفريقية، والنضال لأجل منظومةٍ عالمية جديدة تتضمن هامشًا أكبر لاستقلال مختلف الشركاء، وأنا أعتقد أن اليسار في الشمال يحمل مسؤوليةً في فهم هذا الخيار والترويج إليه، ويجب أنْ يتحمّل مسؤولية أكبر في هذا النضال، وهذا يتجاوز بكثير المنظور الاعتيادي المتّصف بالأبوية، والذي عادةً ما يتلخص في أعمال خيرية لشعوب أفريقيا، ولا أكثر.

المصدر: African Perspectives on Development.

* هذا الفصل (الذي ترجمه من الفرنسية مايكل وولفرز) هو مساهمتي في مناظرةٍ حول قضية الديمقراطية بدأت في صفحات مجلة مجلس تنمية البحوث الاجتماعية في أفريقيا، التنمية الأفريقية، العدد 1، 1988 (أنظر مساهمة بيتر أنيانغ إنيونغو، وأنظر بالمثل في سلسلة منتدى العالم الثالث توطئتي لكتاب حرّره بيتر أنيانغ إنيونغو (1986) النضالات الشعبية للديمقراطية في أفريقيا، طوكيو: جامعة الأمم المتحدة ولندن: زيد؛ والتنمية الأفريقية، العدد 3، 1988، مساهمة ثانديكا مكانداواير ورد بيتر أنيانغ إنيونغو). قدِّم هذا الفصل بدايةً كورقة في منتدى العالم الثالث، دكار، سينيغال.

[1] أمين، سمير (1987)، ما بعد الرأسمالية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. أنظر، بالمثل، مقالتيّ حول القضايا المتعلقة بولادة الاشتراكية، في المستقبل العربي، العدد 114، 1988، والعدد 126، 1989.

[2] Amin, Samir (1990), Delinking: Towards a Polycentric World. London: Zed Books.

[3] Amin, Samir (1989), Eurocentrism. New York: Monthly Review Press, and London: Zed Books.

[4] Sandbrook, Richard with Judith Barker (1985), The Politics of Africa’s Economic Stagnation. Cambridge University Press.

[5] Erman, Adolf and Hermann Ranke (1983), La Civilization egyptienne (translated from German). Paris: Payot. p. 201-202.

[6] Amin, Samir (1980), Class and Nation, Historically and in the Current Crisis. New York: Monthly Review Press, and London: Heinemann.

[7] Etiemble, Rene (1988-9), L’Europe chinoise. Paris: Gallimard.

[8] Amin, Samir (1989), Eurocentrism. New York: Monthly Review Press, and London: Zed Books.

[9] S. Amin, Class and Nation. op. cit.

[10] Ntalaja, Nzongola (1987), Revolution and Counter-Revolution in Africa: essays in contemporary politics. London: Institute for African Alternatives.

[11] Gonzales Casanova, Pablo (1988), ‘El Estado y la Politica en America Latina’. United Nations University/ Third World Forum, mimeo.

[12] أمين، سمير (1988)، “الإنتلجنتسيا”، في قضايا فكرية (القاهرة)، العدد 2. ص 282-290.

[13] Polanyi, Karl (1987), La tiberta in na societa complessa. Turin: Boringheri.

[14] Amin, Samir (1990), ‘The end of national liberation’ in S. Amin, G. Arrighi, A. G. Frank, 1. Wallerstein, Transforming the Revolution. New York: Monthly Review Press.

[15]   Amin, Samir (1989), Eurocentrism. Op. cit.

* الجزء الخاتم لهذا الفصل مستند إلى تسجيلِ شريطٍ حرفي من نقاشات ورشة عمل «بحثًا عن نماذج جديدة لدراسة التنمية الأفريقية» في نيروبي في تموز/يوليو 1989.

أمين، سمير (1989)، نحو نظرية للثقافة. بيروت: معهد الإنماء العربي.

Amin, Samir (1989), ‘L’Europe et les rapports Nord-Sud’. L’Evrnement europcen, No. 7, pp. 7-10

Skip to content