المناورات السياسية في أزمة الديون الأفريقية

مقدمة: الأزمة السياسية والعودة الصامتة للاستعمار

في هذا المقال أطرح قضية هامة، هي قضية انعكاسات برامج المواءمة على القارة الأفريقية، البرامج التي يعمل بها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في سياستهما للإصلاح الاقتصادي، وعمّا تصوَّر عليه هذه السياسات والواقع التي تخفيه هذه الصور. بهذه البرامج وَصورِها تنتصر المؤسَّستان ومن يؤيدهما من الدول الكبرى في الإطالة من إخضاع القارة. فعبر هذا الإخضاع يتاح لهم الاستمرار في استغلال موارد أفريقيا الهائلة، ما يمكنّهم الآن من مواجهة التحدي الصيني، وإنكار أي دورٍ إيجابي وفعّالٍ لأفريقيا في الاقتصاد العالمي وفي الشؤون الدولية. وهذا هو جوهر ما يجري وما نُفِّذ منذ السبعينيات من استراتيجية سياسية من أجل إعادة استعمار أفريقيا وبقية دول العالم الثالث، في نطاق هذه الهجمة الحالية للرأسمالية العالمية، على يد الكُتل الإمبريالية في أمريكا الشمالية وأوروبا، ما يوضح التلاعب السياسي المفضوح بِأزمة الديون وبرامج المواءمة الهيكلية.

وتغطّى أزمة الديون الخارجية هذه وراء عبارة «الخلافات المالية الضئيلة الحِّدة»، في حين يعمل هذا الحشدُ الإمبريالي لما يسمى بـ «الدول الدائنة» في نادي لندن ونادي باريس على إبطال تعاليم السوق الكهنوتية التي تعظ بها هذه الدول الأعضاء في هذين الناديين. وعلى أساس هذه الخلفية أؤكد في هذا المقال أن الديون الخارجية قد أخرجت دخلًا صافيًا من رأس المال يبلغ 200 بليون دولار من أفريقيا، وقد ذهب معظمه إلى الغرب الرأسمالي.

هذه البلايين هي محصلة:

  1. الخسارة الكبيرة في عائدات التصدير بسبب انهيار تجارة السلع.
  2. خسارةٌ إضافية بسبب الشروط المجحفة للتجارة.
  3. قيام الشركات العالمية بإعادة الأرباح الضخمة التي تحصّلها في أفريقيا إلى بلدانها.
  4. الخسارة في الاحتياطي الخارجي بسبب التقلبات التي يتعرض لها النقد الأجنبي.

وهي أيضًا محصلة امتداد الشروط الجائرة التي تشمل كل أبعاد العلاقات الاقتصادية بين أفريقيا والغرب، بدءًا من المُؤسَّستين ومعاهدة لومي بين المجموعة الاقتصادية الأوروبية ودول أفريقيا والكاريبي، وامتدادًا إلى عمليات السحب من الصندوق الدولي للسلع، الذي أنشئ في نهاية الثمانينيات، ما يؤكد حقيقةَ سياسات المواءمة التي تتضح أصلًا في الإصرار الشديد لمؤسَّستي بريتون وودز على تحصيل الديون بشكل ابتزازي وبشروط قاسية متضاربة وتنفيذ قهري لبرامج المواءمة بين الهياكل الاقتصادية. وهذه السياسات مستمرةٌ إلى يومنا هذا رغم الدلائل الكثيرة على فشلها وضررها، وتقويضها الممنهج لاقتصاديات الدول الأفريقية ومجتمعاتها.

من الشائع تصوير أزمة الديون في أفريقيا كأزمةٍ مالية واقتصادية، وذلك ما يروّج له صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بل والمؤسَّستان تُصِرَّان على أن الأزمة حدثت أيضًا نتيجة لسوء التصرف المالي من طرف الرؤساء الأفارقة. ولكن هذا التزييف يلهينا عن الحقيقة، وهي أن أزمة الديون في أفريقيا وفي العالم الثالث أزمةٌ سياسيّةٌ في جوهرها، فهي محصلة صراع تاريخي بَيّنٍ من أجل الموارد في العالم، يضم قوى سياسية عالمية يمكن تحديدها، هي مجموعتان تتمثل في:

  1. مجموعة الدائنين: يمثلّها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والدول الرأسمالية المتقدمة، أي: المؤسسات المالية الإمبريالية، وقد تكرتلت (أي أقامت اتحادات لتخفيف حدة التنافس فيما بينها، تسمى بـ «الكارتل») في مجموعة الدول السبع، وفي نادي باريس، ونادي لندن.
  2. مجموعة المدينين: تضم أفريقيا، وحكومات أخرى في العالم الثالث.

وحينما نقول إن أزمة الديون أزمةٌ في جوهرها سياسية، فنحن نقصد ذلك بمعنيين، الأول: أنها تمثل هجومًا يستهدف سيادةَ الدول الأفريقية والدول الأخرى في العالم الثالث، وهي السيادة التي حققتها هذه الدول بعد كفاح مضنٍ مريرٍ، أي أنّها استراتيجيةٌ هادفة إلى إعادة إرساء استعمار هذه الدول عن طريق الإمبريالية العالمية. والمعنى الثاني هو: إن أزمة الديون الحالية، على عكس أزمة الديون في الثلاثينيات والتي اشتملت على دول أمريكا اللاتينية فقط، ليست حتمية. فالأزمة الحالية يمكن على الأقل تجنّب أثرها المأساوي على الدول الفقيرة، لولا المناورات غير التنافسية للتأثير على أسعار التجارة العالمية، وتدفق الموارد من جانب الدول الرأسمالية الرئيسة. والحقُّ أن تجمع هذه القوى السياسية، وإضعاف السيادة لصالح عودة الاستعمار، وتلاعب الإمبريالية بتدفق الموارد في العالم، هي الأمور التي تحدد السمة السياسية للأزمة الراهنة للديون.[1]

منذ أن بدأت أزمة الديون في أفريقيا والعالم الثالث في عام 1975 تقريبًا، تكشفت عن عمل من أعمال العدوان حربٌ دولية حول الديون صامتةٌ لا تعلن، حتى لا تثير الانزعاج أو الاحتجاجات من أجهزة الإعلام أو الجماهير. وهي فصلٌ آخر من «الاستسلام الصامت»: الغزو بدون معركة عسكرية. وأزمة الديون تحقق دوافع الحرب التقليدية وآلياتها ونتائجها، فالدوافع عادةً ما تكون إجبارَ الخصم على تغيير منهجه في العمل وأن يُستَولى على الأرض، وإلا فالخضوع والتبعية. وبالنسبة لأزمة الديون فإنها خفضت من أسعار المواد الخام، وأخرست المطالَبات بنظام اقتصادي دولي جديد، وألقي بالدول إلى أحضان الإمبريالية، وأتاحت احتلال موظفي مُؤسَّستي بريتون وودز للبنوك المركزية وَوزارات المالية والتجارة في الدول المدينة.

وفي مقابل آليات الحرب المعروفة من العنف والتخريب، نجدُ أزمة الديون قد أدّت بشكل مباشر وغير مباشر إلى آلاف الوفيات في صفوف من حاربوها بالإضرابات والمظاهرات، وفي صفوف ضحاياها عبر الجوع والأوبئة، كما أنها أصابت الملايين ممّن عطَّلتَهم بالانفعالاتِ الاجتماعية والنفسية الشديدة. وقد أحدثت أزمة الديون في الدول المدينة اختراقًا اقتصاديًّا، ما ضمن للإمبريالين تغلغل الأشكال المادية والمالية – بل وحتى الأيدولوجية – لتعاليم السوق عن المواءمة الهيكلية، والرأسمالية الجامحة للداروينية الاجتماعية متمثلة في مبدأ البقاء للأصلح، سواء بالخطف أو بالاحتيال والسرقة.

وقد تكررت آثار الحرب ونتائجها على الخاضعين المستعبَدين بشكل واضح في أزمة الديون الحالية، فالإمبرياليون يعيدون استعمار بلادنا بل يغرقونها بنفاياتهم النووية، وهذا تهديدٌ بالفناء بشكلٍ لم نشهده حتى في ظل الاستعمار القديم. ومع خفض العملات بشكل كبير، يصل إلى 1,000%، بالكاد يختلف شراؤهم للمواد الخام عن النهب الصريح (والمفارقة هي أنّ ذلك يسهّل عيشة الأجانب في بلداننا، فجناح في فندقٍ بالكاميرون سعره أدنى من حجرة في فنادق الأحياء القذرة في فرنسا).

تقفز أسعار الواردات تقفز بشكل رهيب، ومن ثم تتضخم صادرات من رأس المال، حتى وصل صافي صادرات رأس المال من أفريقيا لصندوق النقد الدولي في عام 1986، إلى بليون دولار، وأما اليوم فإعادة جدولة الديون تكلّف أفريقيا بلايين الدولارات، تمثل عبأ الديون سنويًا. فالبنك المركزي في نيجيريا، على سبيل المثال، قد أصدر تقريرًا في عام 1988 جاء فيه أن ما يخرج من رأس المال من البلاد يزيد كثيرًا على ما يدخل إليها.

في حين تسارع الشركات متعددة الجنسيات في مدّ سيطرتها وإحكام قبضتها على الاقتصاديات الأفريقية عن طريق الخصخصة ومقايضة الأسهم بالديون.

بنية أزمة الديون الأفريقية وهياكلها وأسبابها

في عام 1987 استقرت جملة الديون لدى أفريقيا عند 228 بليون دولار، أي: ما يعادل نصف ديون أمريكا اللاتينية وضعف ديون البرازيل حينها. وفيما بين 70% و80% من هذه الديون كانت لدائنين رسميين، وكان عبئها ماحقًا، فمن ثمانية بلايين دولار في عام 1985، قفزت فائدة الدين ورسوم استهلاكه إلى 19.5 بليون دولار بنهاية عام 1987. وكذلك ارتفع صافي ما تدفعه أفريقيا سنويًّا لصندوق النقد الدولي وَحده إلى بليون دولار بحلول 1986. وتُعدّ ديون أفريقيا أعلى نسبة دَيْن للإنتاج القومي الكلي في العالم، إذ بلغت 55.1% في عام 1985. كما أن الدين الكلي كَنِسبة من السلع المصدّرة والخدمات قد ازداد من 167% في عام 1982 إلى أكثر من 228% بحلول عام 1987. أما معدل خدمة الدين، أو ما يُدفع لخدمة الدين الكلي كنسبة مئوية من عائدات الصادرات السنوية التي كانت 15% عام 1980، فقد ارتفع إلى أكثر من 50% عام 1987 في دول أفريقيا الغربية والجنوبية (62% لدى غانا، و67% لدى زامبيا، و84% لغينيا الاستوائية، 20% لِبنين).

كانت الديون في أفريقيا في هذه الفترة تزيد بمعدل مخيف يتجاوز 23% سنويًّا، أي ما يتجاوز أيضًا معدل النمو في الإنتاج المحلي الكلي من الصادرات.[2]

الأسباب المفجعة للأزمة

بالرغم من أن الدعاية التي يقوم بها صندوق النقد والبنك الدولي توقع اللوم على العوامل الداخلية في الدول المدينة، فالواقع خلاف ذلك: العوامل التي يلقى عليها اللوم قديمة، وأزمة الديون لم تظهر إلّا في الثمانينيات، فما السبب؟ لا شكّ أنّ مصدرها هو ما أوقعته العوامل الخارجية من زعزعةٍ لأركان الاقتصاد، ونعني بالعوامل الخارجية للأزمة على سبيل المثال لا الحصر: انهيار أسعار السلع والصادرات، وانعكاسات الأزمات الحاصلة في الدول الرأسمالية الكبرى، وتدهور هيكل القروض الخارجية وشروط الإقراض، والتلاعب في سعر الفائدة، والأنشطة الاستغلالية للشركات متعددة الجنسيات، والممارسات الهادفة للسلب والنهب من جانب المؤسسات المالية.

وهكذا حدث الانهيار في أسعار الكاكاو والبن والشاي والنحاس والموز ومنتجات البترول، وتسبب عن هذا الانهيار خسارةٌ في النقد الأجنبي لأفريقيا بلغت 2.2 بليون دولار إضافية في فترة لا تتجاوز الثلاث سنوات (ما بين 1979 و1981). وتقول مصادر اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة: إن أفريقيا فقدت 13.5 بليون دولار إضافيةٍ خلال فترةٍ طولها ثلاث سنوات (من 1980 إلى 1983)، يضاف عليها مبلغٌ آخر صادم يبلغ 19 بليون دولار في سنةٍ واحدة تخللت عامي 1985 و1986، وجاور كل ذلك هبوطٌ في القدرة الشرائية للصادرات في أفريقيا بنسبة 25% خلال الفترة من عام 1981 إلى عام 1983.

أما فيما يتعلق بالغبن الذي تضمنته شروط الإقراض الخارجي. انتقلت ديون أفريقيا من المصادر الرسمية – التي تسمح ببعض التسهيلات – إلى البنوك التجارية الخاصة، فقد ارتفع نصيب الأخيرة هذه من الديون من 32.5% في عام 1971 إلى 39.5% في عام 1980. وَبزيادة الديون ذات أسعار الفائدة المتغيرة، ارتفع سعر الفائدة الحقيقي على ديون أفريقيا من نحو 0.7% في عام 1970 إلى 1.7% عام 1986. وكذلك ارتفع متوسط سعر الفائدة على كل أشكال القروض التي تذهب إلى أفريقيا من 4.2% عام 1971 إلى 10.1% عام 1982، ولم تقف عند ذلك بل واصلت الارتفاع منذئذٍ. وفي هذا الشأن ذكر المكتب الاقتصادي لمنظمة الوحدة الأفريقية حينها أن المبلغ المطلوب في الفترة من عام 1986 إلى عام 1990 لدفع أعباء الفائدة المرتفعة على الديون المستحقة على أفريقيا يعادل 20.4 بليون دولار.[3]

لقد أدت الممارسات الابتزازية للبنوك الدولية والمؤسسات المالية الأخرى إلى تفاقم أزمة الديون في أفريقيا. فَبِجانب شروط الإقراض المجحفة، شهدت أفريقيا تزايدَ تصدير رأس المال، وزيادة القيود الخارجية على تدفق رأس المال بينها وبقية دول العالم، والإمساك عن منح الائتمان أو انتفاء من يمنح له هذا الائتمان من دول.

أما الشركات متعددة الجنسيات فقد أفرغت القارة حتى من رؤوس الأموال المحلية، وغدت تسيطر على 80% من تجارة أفريقيا من المعادن والمواد الخام الزراعية، وتتلاعب بأسعارها لكي توقع الخسائر الكبيرة بالمنتجين المحلّيين لهذه المواد الأولية. وثمة وسائل فاضحة أخرى تدل على استغلاليّة هذه الشركات، مثل صافي الأرباح التي تعيدها إلى بلادها التي وصلت في العقدِ بين 1970 و1980 إلى 13.5 بليون دولار (وكان صافي صادرات رأس المال من نيجيريا وحدها في تلك الفترة 2.6 بليون دولار)، وفي إيجار التكنولوجيا الذي وصل في عام 1982 وحده إلى 35 بليون دولار من الدول الفقيرة إلى الدول الرأسمالية الكبرى، وكذلك في التسعير التحويلي (فواتير مكدّسة بالواردات وفواتير فقيرة في الصادرات).

وقد ساعد عدم الارتباط بالهزات في النقد الأجنبي والقروض المتاحة من المؤسَّستيْن والأجهزة الأجنبية المقرضة الأخرى على تسهيل تحويل هذه القروض إلى حسابات في البنوك الخاصة في الخارج لصالح زعماء أوغاد. وهذا أحدُ أهم أسباب عجزِ الدول المقترضة عن تحصيل عائداتٍ على هذه القروض الخارجية للوفاء بها. وقد قُدِّرت «رؤوس الأموال» التي هُرِّبَت في حسابات سرية في بنوك سويسرا بـ 56 بليون دولار في عام 1986 وحده. وأما بالنسبة لِربط العملات الأفريقية بالعملات الإمبريالية المتذبذبة مثل الدولار، فقد فرض أيضًا خسارات كبيرة في النقد الأجنبي على الدول الفقيرة.

وتشتمل الأسباب الداخلية لأزمة الديون الأفريقية على عمليات النهب المنتظمة لخزائن هذه الدول من جانب بعض الرؤساء المفلسين، ما أدى إلى خسارة تتجاوزز 30 بليون دولار. ويضاف على ذلك الاستثمارات غير الإنتاجية في إنشاء الملاعب الكبيرة، والمشروعات الأخرى التي ترتبط بالهيبة وحب المظاهر، والعقود المتضخمة المؤذية والضارة، والتحامل على الريف في برامج الحكومة، والأولويات القومية المشوهة، والعجز المزمن في الميزانيات، وتواطؤ المسؤولين مع الشركات متعددة الجنسيات والإنفاق العسكري المرتفع – وكل هذه عوامل بارزة في الأزمة. وفي الفترة بين عامي 1978 و1988 تضاعفت نفقات أفريقيا على السلاح خمس عشرة مرة، حتى أسرفت الدول الأفريقية نحو 120 بليون دولار في الأغراض العسكرية.[4]

ردود فعل المُؤسَّستين تجاه الأزمة

تتمثل ردود الفعل الرئيسة من جانب الصندوق الدولي والبنك الدولي تجاه الأزمة الأفريقية في أيديولوجية برامج المواءمة الهيكلية، وتهديد وترغيب الحكومات الأفريقية، وفرض الشروط المجحفة، ومحاولات تجميل السياسة الاستعمارية بتوظيف المنظمات الأجنبية غير الحكومية. وبالرغم من أن المسؤولين في الصندوق والبنك يعرفون أن بلادهم لا تتحمل ولا حتى 10% من السياسات القهرية التي تتضمنها برامج المواءمة الهيكلية، فإن هذه الشروط القاسية المتعارضة مع مصلحة البلد الذي تفرض عليه لا تزال تفرض كحل لأزمة الديون الأفريقية. بل وهم يعرفون أن هذه السياسات لا تثمر في أي مكان في العالم، وليس لديهم أيُّ دراسةٍ جادة عن تأثيرها في الدول المختلفة.

‌تحرص المؤسَّستان ومؤيدوهما، أولًا، على عرض برامجهما بصورة مجموعةٍ من السياسات المحايدة والفنّية والموضوعية، بل وتصوّرها وكأنها تخلو من أية مصالح أو أهداف أو أفضليات سياسية أو أيديولوجية. ولعلّ هذه أكبر الخدع الدعائية لسياسات المواءمة، فهي تهدف – على وجه الدقة – إلى إخفاء الطابع الحقيقي لبرامج الاستقرار والمواءمة الهيكلية. وهنا نرى الدور الأيديولوجي لِمؤسَّستي بريتون وود سابقًا لِدورها كمؤسسات مالية، فَرُعاتهما الكبار هي الدول الرأسمالية الكبرى، والتفويض الضمني الذي يتمتعان به هو تنفيذُ مهمةٍ أيديولوجية لإقامة نظام رأسمالي عالمي وتدعيمه، بل إن الصحف التي تصدر عنهما، مثل: صحيفة أوراق موظّفي الصندوق (IMF Staff Papers) وصحيفة المال والتنمية (Finance & Development)، تتبنى الرأسمالية كمنهج، وبرامجُ التدريب التي ينظمانها تنغمس بعمقٍ في الأيديولوجية النيوليبرالية، وهذا ما يدفع بالتوجه الاقتصادي الأيديولوجي لبرامج وسياسات الصندوق والبنك إلى رأسمالية السوق الحرة وعقيدة «دعه يعمل» (Laissez faire)، في حين تتمثل الأيديولوجية السياسية في إضعاف الدولة وفي القهر السياسي.

‌وأمّا النموذج الذي تعتمدانه فهو نموذجٌ هجينٌ للنماذج الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة بِلمسةٍ من أفكار كينز. وأهم عنصر في هذه النماذج هو الاهتمام الشديد بالأشياء والسلع أكثر من الاهتمام بالشعوب، أشياءُ مثل: الأسعار ورأس المال، والنقود والائتمان والاستثمار وصادرات السلع والواردات، والإنتاج المحلي الكلي. وهذا النموذج يلتزم بقوى السوق الحرة ويعتمد سياسة «دعه يعمل» وعقيدة «اليد الخفية للسوق» لتسيير الاقتصاد وإضعاف الحكومة، ويستند إلى الاقتصاديات الكلاسيكية في قوله بضرورة التغيير التدريجي، ويصاحبها بتركيزٍ على السلع والتوازن (بمعنى الموازنة أو الاستقرار) استقاءً من الاقتصاديات الكلاسيكية الجديدة، ويجمع كل ذلك ويتوّجِهُ بِإدارة الطلب والتركيز على الإنتاج المحلي الكلي والإنتاج القومي الكلي استلهامًا من نظرية كينز في الاقتصاد. ولا يخرج عن ذلك إلّا خليطٌ غريبٌ لمفاهيم متصارعة والتزاماتٍ في غير محلّها لا تتناسب مع الدول النامية. فقد عفي الزمن، منذ ظهورِ دولةِ الرفاهية، على مقولاتِ انفلات قوى السوق الحرة «الكلاسيكية»، وانحسارِ دور الدولة، والتدريجية والاهتمام المبالغ بالسلع والتوازن. وأمّا إدارةُ الطلب فهي ليست في موضعها في الدول النامية حيث تنحصر مشكلتها الرئيسة في نقص العرض بسبب ضعف القدرة الإنتاجية.

وأما الموقف الثاني للمؤسَّستين تجاه الأزمة فيتمثل في استخدام وسيلة الترغيب والتهديد، وذلك لتشجيع بعض الحكومات الأفريقية على أن تنضم إليها وتتعاون معهما في عدوانهما على أفريقيا. وفي سبيل ذلك يقدّمون لهذه الحكومات – من قبيل الرشوة – المزيد من القروض، رغم عجز هذه الدول عن الوفاء بديونها القائمة. وأمّا الدول التي تقاومها فتتعرّض للتشهير والأذى. وقد حدث في مؤتمر أبوجا في يوليه/تموز عام 1987 أن حثت المُؤسَّستانُ وكبارُ رعاتِهما الدولَ الأفريقية على القبول بـ «برامج المواءمة الهيكلية»، على وعدٍ زائف بمزيد من القروض وإعادة جدولة الديون بشكل أيسر. وبعد سنةٍ من انتظار ثمرات تسهيلات المؤامة الخاصة الموسعة، لم تلقى الدول المدينة إلّا الكلام اللطيف المنمق عن تقديم أموال إضافية.

تتمثل الاستراتيجية الثالثة للمؤسَّستين في استخدام طابورهما الخامس من التكنوقراط ومن يحالفهم في أفريقيا. ويندرج من ضمن هؤلاء قوى الضغط المحلية التي تعمل بقوة على القبول بالشروط الخبيثة وبرامج المؤامة الهيكلية. ويزعم هذا الطابور الخامس، بخبثٍ أو بسذاجة، أن الأفريقيين والدول المدينة الأخرى هم من يهرع إلى المُؤسَّستيْن بعد أن يفسدوا اقتصادياتهم، ويزخرفوا ادعاءهم بمقولة أن هذه المؤسسات لم تُكرِهنا على شيء.

علينا هنا أن نسأل: ما الشروط التي فرضتها على الولايات المتحدة – أكبر دولة مدينة – وديونها الخارجية تقدر بنحو 650 بليون دولار؟ وما الشروط التي فُرِضت بين 1945 و1978، عندما اضطلعت الدول الدائنة بأكثر من 70% من الائتمان الكلي للمُؤسَّستيْن؟ وما الضوابط التي فرضها صندوق النقد الدولي على الدول الرأسمالية المتقدمة خلال الاضطرابات النقدية المروعة في السبعينيات؟ من تسبب في الأزمة التي تتعرض لها الدول الأفريقية أصلًا هي السياسات الخاطئة للصندوق والبنك في الماضي، منها التصنيع لاستبدال الواردات، والاعتماد على رأس المال الأجنبي، والتلاعب في صادرات الدول الأفريقية. وعلى أية حال، أَلَم يؤسّس كلٌّ من البنك والصندوق لمعالجة التفاوت والأزمات؟!

والأمر الرابع هو أن المؤسَّستين توسّعان من استخدام شروطهما ضد الدولة المدينة لتشمل أجهزة أخرى، ولذلك تصرّ الحكومات الأجنبية والدائنون الأجانب من القطاع الخاص على القبول بشروط البنك والصندوق كـ «شهادة مقاصة» حتى قبل مناقشة إعادة جدولة الديون. بل والأسوأ من ذلك هو الواقع المرّ فيما فُرِض من شروطٍ مجحفةٍ مماثلةٍ على بند المساعدة في اتفاقية لومي 3 التي تفاخرت بها المجموعة الاقتصادية الأوروبية على أنها «مساعدات بدون قيود».

وأمّا ردُّ الفعل الخامس للؤسَّستيْن تجاه أزمة الديون في أفريقيا، فهو يكمن في محاولة جرت أخيرًا لانتقاء المنظمات غير الحكومية الأجنبية التي تؤيد الدول المدينة للتعاون معها، والغرض الواضح هو أنْ يضفي هذا التعاون طابعًا إنسانيًّا على المواءمة.[5]

الجدل حول اشتراطات المواءمة وسياساتها

ظلَّت الاشتراطات المتعارضة برامج البنك والصندوق وسياساتها محلَّ الجدل الأوسع لما تحمل، هذا وهي يجب أنْ تُنَفّذ قبل الحصول على قروض تنفيذ البرامج، ما يعني أنها واقعًا جزءٌ من سياساتها، تحت «صندوق التسهيلات الموسعة» و«البديل الجاهز» و«قروض مواءمة القطاعات» وقروض المواءمة الهيكلية. وحالما تبدأ في سحب القروض، وتفشل في تنفيذها أو تنتهكا، تُلْغى برامج الاستقرار أو المواءمة وتتوقف القروض. وقد تكررت هذه الحالة في فتراتٍ عديدة حتى في البلد الواحد.

هذه الاشتراطات والسياسات المتعارضة هي:

  1. تخفيض قيمة العملة بشكل عام في ما بين 30% و60%، بل ما يتجاوز 400% في عام واحد (وفي بعض البلدان وصلَ خفضُ قيمة العملة إلى 900%).
  2. تخفيض هائل في الإنفاق على القوة العاملة يصل إلى 20% ويتجاوزها، دونما تعويض أو إعادة توزيع.
  3. تخفيضاتٌ كبيرة في الميزانية وضغط الائتمان، مع إلغاء الدعم عن عديد من الأنشطة والخدمات والقطاعات.
  4. تحرير الصادرات والواردات مع إلغاء الرقابة على الصرف (النقدي).
  5. خصخصةُ المشروعات العامة، حتى تلك التي تحقق أرباحًا.
  6. عدم تحديد الأسعار حتى تخرج معتمدة على قوى السوق الحرة، مع إلغاء الرقابة على أسعار أخرى مثل سعر الصرف، وسعر الفائدة، والأجور والإيجارات.
  7. رفع أسعار الفائدة للحصول على أسعار حقيقية إيجابية للفائدة.

لقد ركزت المناقشات التي دارت حول هذه الشروط على أيِّ الدولِ استُهدِفَت، وعلى التطبيق الموحد وعلى حِدَّتها وعدم لائقيتها كعلاجٍ اقتصادي للأزمة. وقد خلصت هذه النقاشات إلى أنّ الدول النامية وحدها استُهدِفت، فهي لم تُطَبَّق على الدول المتقدمة التي حصلت على 70% من تسهيلات صندوق النقد الدولي في ما بين عامي 1944 و1978.[6]

وقد حدث أثناء الاضطرابات النقدية العميقة في السبعينيات في الدول الغربية أن الصندوق لم يفرض أي نظامٍ حقيقي، فهذه الشروط إذن مخصّصةٌ وموجّهة ضد الدول النامية الضعيفة. وللسبب نفسه لم يفرض لا البنك ولا الصندوق أيًّا من هذه الشروط أو برامج الاستقرار وخلافهما على الولايات المتحدة، وهي دولة مدينة تصل ديونها الخارجية إلى أكثر من ضعف ديون أفريقيا كلها.

فهاتان المؤسَّستان إذن أشبهُ بالطبيب الفاشل الذي يصف نفس العلاج لكل الأمراض وجميع المرضى، فمهما كانت أسباب مشكلات ميزان المدفوعات وأمراضها، والأزمة الاجتماعية الاقتصادية في العالم الثالث، فالوصفةُ واحدة: خفض قيمة العملة، وإلغاء الدعم وتطبيق الإجراءات المضادة للتضخم، وذلك رغم الدلائل القوية على أن هذه السياسات نادرًا ما دَاوَت أزمةَ أيّةِ دولة. ونجد مثالًا على ذلك في غانا التي ارتضت بعلاج الصندوق منذ الإطاحة بِنكروما عام 1966، ولا تزال تعمل بسياسات المُؤسَّستيْن بعد أكثر من نصف قرن من الزمن.

وقد شُجِبت قساوةُ هذه الشروط على نطاقٍ واسع، حتى أن قليلًا من النظم – العسكرية منها والمدنية – امتلكت الشجاعة الكافية لتطبيقها بالكامل. بل وحيثما نُفِّذَت استلزمَ تطبيقها فرضَ نظمٍ استبدادية عن طريق عسكرة السياسة أو عبر الإطاحة بالحكومات الاشتراكية المنتخبة. وقساوتها الفعلية أو المتوقّعة لم تعفِ الشعوب، فقد فاقمت البطالة، بسبب خفض النفقات والتضخم بعد تخفيض قيمة العملة، وأدخلت الخدمات الاجتماعية في أزمةٍ تلو الأخرى بعد إلغاء الدعم. وما يزيد الطين بلّة أن معظم هذه الآثار تضاعِف من خطورةِ المشكلات الأولية التي دفعت الدول إلى الامتثال إلى هذه الشروط أساسًا.

فكما أسلفنا إذًا، هذه الشروط خاطئة أو غير مناسبة من منظور النظريات الاقتصادية، فليس من الملائم، مثلًا، أن تحرّر الاستيراد بدلًا من تقييده، حتى نحول دون عجز ميزان المدفوعات أو عدم التوازن، ومن الخطأ أيضًا رفعُ أسعار الفائدة بدلًا من خفضها كعلاج للكساد، وأما تخفيض العُملة فهو الحل الأخير، لا الخيار الأول، في سبيل معالجة مشكلات الديون الخارجية، فالتخفيض بنسب عالية تتجاوز 50% لا يتلقى تشجيعًا بسبب آثاره المدمرة وضغط الميزانية.

‌والائتمان يفاقم من الانكماش ومن أزمة البطالة بشكلٍ كبير، ويؤدي إلى الاعتماد على تسعير السوق الحرة في نطاق جمود الهياكل، والاستجابة الضعيفة للعرض الخطأ، كما هو الحال بالنسبة للخصخصة، فمن الأجدر أن توضع عملياتٌ تجارية انتقائية مع الاستخدام العملي للقطاعين العام والخاص. ولأسباب مماثلة نجد أنّ تخفيض الإنفاق بشكل كبير يضخّم من مدى المعاناة البشرية ودرجتها، ويجبُ رفضه من وجهة النظر السياسية. والشرط السياسي أيضًا موضع اعتراض، ذلك لأنه يمتهنُ السيادة، ويعملُ كمبرّرٍ للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وكأداةٍ تحيزُ لزعزعةِ أركان الحكومات التي لا تحبّذها الدول الدائنة أو يتعارضُ زعماؤها معها.

وعلى الرغم من أن هذه الشروط قد نفذت كسياساتٍ للمواءمة في نحو أكثر من 40 دولة أفريقية تبنت البرنامج، فإنها ليست إلا جزءًا من مجموعة أكبر من السياسات، ومَدخلًا لإدارة الطلب والإطار الزمني، غيرها من السياسات. والأهداف كما تحددها مؤسسات بريتون وودز هي تحقيق توازن ميزان المدفوعات، والعمل بالأسعار الحقيقية، وميزانيات متوازنة أو القضاء على العجز في الميزانية (مثل إيقاف تمويل العجز بشكل كبير)، والسيطرة على التضخم، واستقرار الأسعار، وتوسيع نطاق الصادرات. وإنْ عدنا لِغانا كمثال، فقد تضمنت أهداف هذه البرامج إدماج الدولة أكثر فأكثر في النظام الرأسمالي العالمي، باعتبارِ الإدماج أهمّ «معايير أداء» برامج المواءمة الهيكلية. وهذه الأهداف ليست الأهداف التي حددتها الدول الأفريقية لأنفسها، التي تبلورت في خطة لاغوس للعمل منذ عام 1980 ومنظمة الوحدة الأفريقية عام 1981 (قبل أن تغير اسمها إلى الاتحاد الأفريقي)، فأهدافها طويلة الأمد للتنمية كانت:

  1. تحقيق الاكتفاء الذاتي الإقليمي في الطعام بإنتاج الغذاء محليًّا، لا الأمن الغذائي المنجَز بالمساعدات الغذائية غير الثابتة وَبِواردات الغذاء.
  2. إشباع الحاجات الملحة للطعام ومياه الشرب الآمنة، والملبس والمسكن والرعاية الصحية والتعليم والنقل.
  3. القضاء على الفقر أو التخفيف من حدته.
  4. تحقيق التكامل الإقليمي الفعال بالاعتماد على النفس.

وأمّا أهداف برامج المواءمة الهيكلية فتحوّل الاهتمام عن هذه الأهداف والغايات.

وقد ثار الجدل أيضًا حول المدخل لـ «إدارة الطلب» وتركيز سياسات المؤامة عليه، والصندوق والبنك يقولان إن تمويل العجز الكبير، والتوسع الزائد في الائتمان والتضخم المرتفع، كلها تُضر بالانتعاش ويجب التخلص منها عن طريق سياسات «إدارة الطلب» التي أوصى بها كينز. وهذه السياسات تتضمن تقليصًا كبيرًا في الميزانية والائتمان، وإلغاء الدعم، وارتفاع أسعار السوق، وخفضًا كبيرًا للعملة بشكل عام. ولكنّ اتجاه سياسات هذه البرامج نحو «إدارة الطلب على النقد» إنما هو انعكاسٌ لضعف تحليلات المؤسَّستيْن للأزمة الأفريقية وقصورها وفهمهما الخاطئ لها، فالمشكلة الأساسية للأزمة هي القدرة الإنتاجية المنخفضة العاجزة عن سد النقص في العرض. فالطلب يبدو مُفرطًا لأن العرض غير كافٍ، كما أن العجز الكبير في الميزانية أو في تمويل العجز في الدول الأفريقية يرجع إلى نقص الموارد الحكومية وعائدات النقد الأجنبي والإنتاج المحلي، وكل ذلك يرجع إلى القاعدة المنخفضة للضرائب والهبوط في حجم الصادرات والأسعار، وضآلة التكنولوجيا الإنتاجية وضعفها في أنشطة الإنتاج المحلي.

وعلاوة على ذلك فإن «إدارة الطلب» هذه تؤدي إلى الانكماش وزيادة حدة الوضع وخطورته بالنسبة للعرض المحلي، لا إلى تحسينه. وهكذا فإن أسعار الفائدة المرتفعة، التي تبلغ نحو 35% في كثير من الدول التي تتعامل مع هذه البرامج، تعيق الاستثمار ولا تشجع على الإنتاج المحلي. وللدعم الأثر نفسه على الزراعة، فالدول الغربية تستخدم الدعم في الزراعة لتنتج فائض المواد الغذائية الذي تغرق به أفريقيا، ما يضعف من الإنتاج الزراعي المحلي. وأمّا خفض الميزانية بشكل جذري وتقليل الائتمان للقطاعات فهو يقلل من نفقات الاستثمارات ويعيق الإنتاج المحلي، في حين يؤدي انخفاض العُملة، بشكلٍ عامٍّ ومستمرٍّ، إلى الصعوبة الشديدة في التخطيط لمشروعات الاستثمار وتنفيذها.[7]

وقد اتضح في المناقشات التي دارت حول المواءمة نموذج «الإطار الزمني قصير الأمد» أنّ معظم هذه البرامج التي وضعتها المُؤسَّستان تسري في البداية لمدة سنة أو سنتين، وإن تكرّرت فذلك لمدة خمس سنوات أو أكثر بقليل، وفي بعض الدول تُعلَّق بعض هذه البرامج أو تنتهي بعد ستة أشهر، ويحل محلّها برنامج آخر لمدة سنة. وهذا مبنيٌّ على أساس فهمٍ مغلوطٍ للأزمة الأفريقية يراها «ركودًا قصير الأمد» لا يحتاج إلّا لدَفْعةٍ بسيطةٍ لسنةٍ أو اثنتين لا أكثر. ولذلك أصبحت هذه البرامج مصدرًا كبيرًا لعدم الاستقرار. والأعمال الإدارية لا تستقر هي الأخرى، إذ أنها تتلقى دائمًا – حتى من أجل برنامج واحد – الكثير من المشروعات والبعثات والتقارير، أو تجري عليها عمليات التقييم بطريقة تعطل استمرارية العمل وتؤدي إلى إحساسٍ دائمٍ بأنها في وضع «إدارة الأزمة»، وهذا الوضع ليس ضروريًّا بل مرهونٌ بعدم وجود سياسةٍ ثابتةٍ ومستقرة للانتعاش مع التحول. يتعذّر في غمار هذه العمليّات تَبيُّن الطبيعية الهيكلية الجوهرية طويلة الأمد للأزمة الأفريقية على نحوٍ صحيح.

وما سبق ليست السياسات الخلافية الوحيدة التي احتواها هذا البرنامج، فمنها: السعي وراء رفع أسعار الفائدة الاسميّة لأجل زيادة المدخرات، وإلغاء الدعم بشكل قاسٍ وعنيف، واقتصار تحديد أهداف الإجراءات على إطار الدولة الواحدة، والاتجاه نحو إهمال التصنيع. ورغم انتقاد المؤسَّستين اللاذع لأسعار الفائدة السلبية الحقيقية في الدول الأفريقية، بسبب ارتفاع التضخم وانخفاض أسعار الفائدة الاسمية (مثلًا: إذا كان سعر الفائدة الاسمي 12% ومعدل التضخم 20% فإن سعر الفائدة الحقيقي سيكون 8%)، فهما تتقبلان أسعار الفائدة السلبية الحقيقية ذاتها في أمريكا اللاتينية. وهكذا، ومع معدّلٍ سنويّ للتضخم في أمريكا اللاتينية يتجاوز 2000%، يتضح أن أي سعر اسمي ملائم للفائدة لن يعطي سعرًا حقيقيًّا إيجابيًّا للفائدة.

وليس معنى هذا أن ننكر الإيجابية الحقيقية في عدم تقبل أسعار الفائدة، لكن من الأفضل خفضُ معدل التضخم بدلًا من رفع سعر الفائدة الرسمية إلى مستوى عالٍ جدًّا، لا يشجع الاستثمار. والنظرة الكلاسيكية القديمة للمدخرات القائلة بأنّها تعتمد على سعر الفائدة الحقيقية ليست صحيحة، وقد عفا عليها الزمن، فالنتائج العملية في عديد من الدول توضح أن العلاقة غير واضحة بين المدخرات وسعر الفائدة الحقيقية.

وليس من المعقول أيضًا أن نصر على الإلغاء الحثيث للدعم، ثم نزعم إننا ننتهج مسلكًا غايته تنمية الموارد البشرية وتحقيق المساواة والتوسع في الإنتاج المحلي. فمن الجليّ في مجاليّ التعليم والصحة أن الاعتماد على تسعير السوق الحرة يسدّد ضربةً مؤذية وموجعة للفقراء والضعاف، وهي منهجيّةٌ لا تدنو المساواة ولا من بعيد. وفي هذه الحالات يجب ألا يقف الدعم الفني عند إعادة توزيع الموارد لمصلحة الفقراء، فمن اللازم توفير الدوافع التي تحفزهم على المساهمة في الخدمات الاجتماعية الحديثة، وذلك لكيلا تحدث انتكاسة خطيرة تؤدي لازدياد الأمية وتقليل عدد طلّاب المدارس. فنظرًا لكون الولايات المتحدة الأمريكية تتبع سياسة توفير الدعم الزراعي المكثف، وسياسةً زراعية مشتركة تكلّف بلايين الدولارات في العام، أليس من الخداع تعاملُ المؤسَّسَتين بسياسةٍ مختلفة مع الدول الأفريقية ومطالبتها بإلغاء الدعم بحجّة أن الدول الغربية تقدر على ما تقدر عليه الدول الأفريقية؟ أليست الولايات المتحدة ذاتها تحملُ ديونًا كبيرةً؟ على كل دولة أن تمارس حقوقها السيادية لتخصيص مواردها لأولوياتها.[8]

وقد دفعت الإجراءات الدقيقة والصارمة لبرامج المواءمة الهيكلية إلى الجدل فيها وتفنيدها، مثل «غطاء الائتمان» الذي يصل إلى 30.8% أو حدّ عجز الميزانية بمقدار 3.7%. والبيانات الأساسية حول أثر هذا النوع من تحديد الأهداف بطريقة «المَعْلَم» (parameter) ليست متاحة في أفريقيا، وحتى لو اتيحت، فالواقع يقول إن وجود طيفٍ من الإجراءات الخاصة بالسياسات أسهلُ وأكثرُ مرونة من انتقاء أي هدفٍ محدَّدٍ أساسهُ التجريبي موضع شك وَريبة. فلماذا يحدد عجز الميزانية بـ 3.7% ولا بـ 3.1% أو 3.9% أو 3%؟ من الصعب من الناحية الإدارية أن تحقق هذه الأهداف الدقيقة جدًّا دون خطأ في التسديد نحو الهدف، وهي، لذلك، مآلها الفشل.

كذلك فإن فرض سياسات المواءمة على أساس كل دولة على حدة يتناقض مع التزام البنك، الذي يردده دائمًا، بتكامل أفريقيا ووحدتها (البنك الدولي – دراسة للمنظور طويل الأمد 1989)، فهذه التشظية تعزز كفّة المؤسَّسَتيْن في تعاملاتهما مع الدولة المَدينة، وذلك انطلاقًا من أيديولوجيّتهما الفردانية، التي لا تتوافق مع مجموع الدول الأفريقية. فهذه الأيديولوجية تُضْعِف تناغم السياسات والبرامج التي يستلزمها تدعيم التعاون الإقليمي وشبه الإقليمي لعملية الانتعاش والتحول الجماعي – تضعفها بِـ «توليفة» عملية من التخبط والتسعير عند تخصيص الموارد.

وقد اتضح أن برامج المواءمة الجامدة تؤدي إلى القضاء على التصنيع في أفريقيا، بتركيزها على «الجري وراء» الميزات النسبية للدول الأفريقية في المنتجات الأولوية، والدعوة لتشجيع التصدير بشكل عام، وتحرير الاستيراد لأصحاب المصانع الأجنبية، والقطاع غير الرسمي للتصنيع، وخفض قيمة العملة بشكل كبير، ما يفرض إغلاق الصناعات التي تعتمد على الاستيراد، وخصخصة المشروعات العامة التي تشجع الصناعات الوسيطة والثقيلة. ولذلك لا يمكن أن نتصور أن تنساق الدول الأفريقية إلى برامج المؤسَّستين لتعتمد على القطاع غير الرسمي من أجل التصنيع. ومن المضلل أيضًا ذلك الاحتفاء بالقطاع غير الرسمي «المنفتح» الذي أوجدته برامج المواءمة نتيجة للتخفيض الهائل في الإنفاق والإضعاف المنتظم لنشاطات القطاع الرسمي.[9]

لقد أدى تحرير الاستيراد إلى تسهيل إغراق السوق الأفريقية بالصناعات الأجنبية دون المستوى، وإحباط الآمال التي عقدت بالصناعات المحلية الوليدة. وأما التخفيض المتكرر والمفرط للعملة، فقد جعل تكاليف المواد الخام المستوردة لأجل المنتجات الوسيطة وقطع الغيار للصناعات المحلية تكاليفًا فوق الطاقة، ما أدى إلى إغلاق المصانع، وإضعاف شديدٍ للقدرة على استغلال الطاقات بنسبة تقارب من 30% بالمتوسط في أفريقيا كلها. وقد هاجمت المؤسَّستانِ الصناعاتِ الوليدة التي تشرف عليها الدولة في مجال الإسمنت والحديد والصلب وتجميع المركبات والأسمدة، على إنها مجالاتٌ تفتقر للكفاءة اللازمة لتنتج سلعًا يمكن استيرادها أصلًا بأسعار أرخص (كما لو أن رخص السلع المستوردة ليس قائمًا على دعمِ هذه الصناعات بنفس الأساليب في الدول المتقدمة). وبهذه الوسائل تعمل برامج المواءمة الجامدة، وبشكل منظم، على تقويض برامج التصنيع في الدول الأفريقية، متسترة وراء تبرير «الكفاية الثابتة المستقرة»، الأمر الذي لا يتوافق والتحول الهيكلي طويل الأمد. وهنا نأخذ بريطانيا مثالًا، فلو اعتمدت على مبدأ «الكفاية المستقرة الثابتة» لما كانت تمتلك صناعات النسيج الكبيرة، لأنها لا تنتج القطن، وما كانت الدول الصناعية لتنتج منتجات المطاط وزيت الخضروات، واليورانيوم والنحاس، ومنتجات مماثلة أخرى ليس لهذه الدول فيها أية ميزة نسبية واضحة.

الآثار السياسية لبرامج المواءمة

انبرت المؤسَّستان ومؤيدوهما للدفاع، إصرارًا على أن برامج المواءمة ضروريةٌ مهما كانت مؤلمة، وزعمًا بأنها تمضي بنجاح في رفع الصادرات، وتخفيض العجز في الميزانية والتضخم والعجز في ميزان المدفوعات، وتؤدي إلى تسعيرٍ أفضل وتخصيص أكثر كفاءة للموارد، بل ويقولون إنّ المواءمة أسفرت عن نمو اقتصادي وقصص نجاح في غانا وموريتانيا وكوت ديفوار، وإنْ انهارَ في الحالة الأخيرة خصوصًا بعدما ضاعفت الدولة من صادرات الكاكاو، وهبطت عائدات التصدير لديها بنسبة 50% في عامي 1988-1989. وقد ذكر البنك الدولي في تقريره عام 2005 أن هذه البرامج حسّنت النمو في نيجيريا وغانا وتوغو وكينيا وتونس، وفي المقابل وقع تدهور في الكاميرون وليبيريا والسودان والكونغو الديمقراطية.

وتضيف المؤسَّستان أن فشل برامج المواءمة يرجع أساسًا إلى ضعف التنفيذ، وأننا إنْ أردنا تقييمها تقييمًا سليمًا فالمنهج اللائق ليس الأسلوب «الاستاتيكي» المقارِن والعادي حيث يُقيَّم الوضع قبل وبعد العمل بالبرامج، بل أن تعقد المقارنة بين الوضع بعد البرامج وما كان يمكن أن يحدث بدونه. لكن أنّى لنا أنْ نأخذ بمنهجٍ يؤدي إلى التفكير الميتافيزيقي ويهدم المنهج الموحد في النظرية الاقتصادية، أي: منهج مقارنة الثوابت؟ فلا يوجد أيُّ طرف – ولا حتّى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مجتمَعيْن – قادرٌ على معرفة كيف سيكون الوضع في حالة عدم وجود برنامجٍ بعينه، وذلك بسبب العديد من العوامل الطارئة أو العارضة المحتملة. بدون هذه البرامج في الدول الأفريقية، فإن بعض العوامل – مثل: عدم وجود قحط، وتجارة طيبة للسلع أو ديون خارجية أفضل – كان يمكن أن تحسن بشكل كبير من أدائها وَمن وضعها الاجتماعي الاقتصادي. لكنّ الدليل الأقوى ضد حجج المؤسَّستيْن في الدفاع عن برامج المواءمة ونجاحها المزعوم، هو دليلٌ لعلّه يهدم تلك الحجج: نشر البنك الدولي نفسه وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية تقريريْن تحت عنواني الفقر وتقرير التنمية البشرية في عام 1990، وقد انتهى التقرير الأول، بعد استعراض الأداء المخيب الآمال للاقتصاد الأفريقي منذ الثمانينيات، إلى أن أفريقيا ستكون المنطقة الوحيدة في العالم ستدخل القرن الواحد والعشرين ودخلُ الفرد فيها ما زال في هبوط. فإنْ كانت مقولات المؤسَّستيْن دفاعًا عن البرامج صحيحة، فهذا الكابوس المخيف لم يكن ليحدث (ويحتوي التقرير إحصائياتٍ أخرى مقلقة سنستعرضها أدناه).

وأمّا تقرير التنمية البشرية فيصل إلى نتائج مماثلة، حيث يصور كيف عملت الأزمة الاقتصادية في الثمانينيات في كثير من الدول على تعطيل التقدم السابق في التنمية البشرية أو إحداث ردّة فيه، فقد هبطت اقتصاديات معظم الدول المتنامية في الثمانينيات باستثناء بعضها في آسيا، إذ تعاني هذه الدول انهيارًا اقتصاديًّا مستمرًا تقريبًا. ورغم جهود المواءمة القوية فهذه الدول ظلت تواجه اختلالات قاسية في نهاية الثمانينيات. ففي أفريقيا انهار دخل الفرد لأكثر من 35% بالنسبة للمنطقة ككل (و30% لو أدخلنا في الحساب المتدهور في شروط التجارة)، وقد نما الإنتاج المحلي الكلي فيما بين 1985-1987 بشكل أسرع مما كان عليه في الفترة 1980-1984، ولكن هذا النمو ظلَّ أبطأ من النمو في السكان، وهبط دخل الفرد بنفس النسبة في الدول التي تتعامل مع برامج قوية للإصلاح أو ليس لديها أيّ برامج بالمرة. وانخفض الاستثمار لأكثر من 9% في السنة، واستهلاك الفرد بنسبة 1% إلى 2% في العام. إن الفقر يزداد بأقصى سرعة إذ ازداد عدد الفقراء المدقعين بنحو الثُلثين فيما بين 1970 و1985.[10]

ثمة أثر مهم لبرامج الاستقرار والمواءمة الهيكلية أغفلته معظم التقييمات التي أدرجناها، فهي تنحصر عادةً بالآثار الاقتصادية والاجتماعية، وتتغاضى عن جانبٍ معيّن: الأثر السياسي. وهذا أثرٌ وَازِنٌ في منطقة يُقال إنّ السياسة عاملٌ كبيرٌ في تخلّفها المُلِحّ وفي أزماتها. والقضيتان الرئيستان هنا هما:

  1. أثر هذه البرامج على عملية الديمقراطية الناهضة أو الوليدة في المنطقة.
  2. أثرها على السيادة القومية الهشة لهذه الدول.

وفيما يتعلق بالأثر على التجارب الديمقراطية، فتركيزنا على المفاوضات حول هذه البرامج، وإجراءات تنفيذها ومعالجة الخلافات في شأنها، وآليات الاستجابة. وأمّا المفاوضات فمن النادر أن تُعرض للمناقشة والجدل على المستوى القومي العريض، فهي تُجرَى بشكل سري أو خفي بين مسئولي المؤسَّستين من جهة، وزمرةٍ من كبار التنفيذيين في الدول التي تستهدفها هذه البرامج من جهة أخرى (مثل: رئيس الجمهورية، وَوزراء المالية والتخطيط والتجارة، ومجموعة مختارة من كبار البيروقراطيين). وقد حدث في بعض الدول أن النقاش حول سياسات إصلاحية كبيرة – مثل: تخفيض العملة، وتحرير الاقتصاد، وإلغاء اللوائح والنظم، وارتفاع أسعار الفائدة، وخفض الإنفاق العام والخصخصة – لم يجري إلّا مع حفنة من كبار المسؤولين. ولعلّ الحال أنّه كلما كانت إجراءات سياسات المواءمة أو برامجها غير موائِمة أو غير محبّذة، تزدادُ سرية المفاوضات، رغم آثارها البعيدة المدى على مجموع السكان. أي أنّ الحديث هنا عن تفادٍ لمناقشتها على نطاق واسع في مجالس الأمة، ووسائل الإعلام، وغيرها من المنابر والمنصّات العامة.[11]

ولربما التنفيذ البيروقراطي لهذه البرامج أسوأ من عملية التفاوض، فهو بعيدٌ عن العمليات السياسية بِتعبئتها الجماهيرية ومشاركتها الشعبية للقوى الاجتماعية العريضة، ويقتصرُ التنفيذ على فعلِ صفوةٍ أو قلةٍ في قمة الهرم، ولذلك لابد وأن يبوء بالفشل. فالسريّة في المفاوضات والحصرية في اتخاذ القرار فتّتَت مقبوليّة هذه البرامج على المستوى الشعبي، ما أبرز الحاجة إلى نُظم استبدادية أو انقلابات فاشية بِغايةِ تبنّي هذه البرامج وتنفيذها. فهي إذن تشجع الإضعاف العنيف للديمقراطية الشعبية، كما تشجع هيمنة الطابع العسكري على السياسة في مجمل أفريقيا، فَلَم يحدث أن نجح أيٌّ من هذه البرامج إنْ وقعت عليه عمليةٌ انتخابيةٌ حرّة صريحة.

لهذه الأسباب تعمل برامج المُؤسَّستيْن على إضعاف المساءلة والمحاسبة السياسية والمالية في الدول الأفريقية، فطالما لا توجد مشاركة ديمقراطية في المفاوضات والتنفيذ، فلا مجال للمساءلة والمحاسبة. وهذا الوضع يضاعف من حدة مشكلة افتقار الديمقراطية في الدول الأفريقية في اتجاهين: أولهما أن الحكومات ومسؤوليها يتشجّعون على أن يلقوا بالمسؤولية عن هذه البرامج على عاتق صندوق النقد والبنك الدولي، وهذا أمر خادع لأن المسؤولين في هاتيْن المؤسَّسَتين يعملون كمشرفين ومراقبين في منشآت حساسة مثل البنوك المركزية ووزارات المالية والتخطيط والتجارة الخارجية والصناعة، وعندما توافق الحكومات في مثل هذه الظروف على مطلبٍ شعبي بتعديل بعض هذه البرامج أو استبدالها، فإنها ترضخ لضغط سادتها في واشنطن ولا تستجيب، بل وتعرض بعض الحكومات الأفريقية، بسذاجة، هذه البرامج التعسفية على أنها برامجها الوطنية، وتتخذ اللجوء إلى شعار حتمية هذه البرامج الفاشلة آليّة لرفض المساءلة المالية والسياسية.

وتلجأُ أحيانًا أخرى لآليّة أخرى هي معالجة الخلافات بشكل تعسفي، من ضمنها الأساليب القمعية الفاشستية والتدخل العسكري العنيف لكسر الجمود في عمليات المواءمة، والقتل الوحشي من جانب البوليس (أو الجيش في بعض البلدان) أثناء الاضطرابات ضد صندوق النقد الدولي، كما حدث في نيجيريا وَزامبيا والمغرب والكوت ديفوار، واعتقال معارضي إجراءات التقشف القاسية. وهذه الأعمال الوحشية التي تقوم بها الدولة لاحتواء هذه الاضطرابات توجّه الناس نحو أعمال العنف غير المُنظَّم. وفي غمار هذا كله تصبح البرامج مصدرًا أساسيًّا آخرَ للصراع العنيف والاضطراب السياسي ضد الشرعية الواهية للدولة المعنية بعد الاستقلال في أفريقيا، ويتسع نطاق الأزمة الاقتصادية في المنطقة بشكل خطير وتتحول إلى اضطراب وتفسخ اجتماعي سياسي.

أما ثاني الآثار السياسية الكبيرة للبرامج، فهو التقويض المنظّم لسيادة الدولة ما-بعد الاستعمارية وهيبتها، وثمة جوانب عديدة مفزعة لهذه الظاهرة، أولها: العمل على التقليل من شأن الدولة، بما يتشابه سياسيًّا مع إضفاء الصفة غير الرسمية على الاقتصاد. فالدولة الأفريقية، مثل مثليتها في باقي العالم الثالث، قد أصبحت مجرد «دولة مواءمة»، أي: دولة تقوم على مواءمةِ الاقتصاد القومي والسكان وتلوينهما امتثالًا لِمتطلبات السلب والنهب من جانب الدولة الدائنة، من أجل الوفاء بالديون الخارجية التي تراكمت بأساليب غير أخلاقية، وإغراق السوق بالمواد الغذائية المصنّعة والمستوردة، وتسهيل خروج أرباح الشركات متعددة الجنسيات من البلاد الأفريقية، ودخول رأس المال الأجنبي وسيطرته بلا رادعٍ أو قيد.

أصبحت المواءمة مبرّرًا مريحًا وسهلًا لهجمةٍ منظمةٍ تعمل على التهوين من شأن الدولة في أفريقيا وبقية دول العالم الثالث. فَبِذريعةِ الفشل المزعوم للأعمال العامة، وَشِعار البحث عن حل للأزمة المالية، تَفرض برامج المواءمة تقهقرًا مسعورًا على الدولة والقطاع العام في كافة أرجاء أفريقيا. وَرُغمَ تَستّر هذه الهجمة وراء مسمّى برنامج «رفع الكفاءة الاقتصادية الكليّة»، فمن الواضح أنّها جزءٌ من مهمة عُهِد بها إلى مُؤسَّستي بريتون وودز لإقامة وتدعيمِ نظام رأسمالي عالمي يتحرك فيه رأس المال الخاص والسلع في حرية تامة عبر الحدود بلا قيدٍ أو ضابطٍ من الحكومات المحلّية. فهما لا تسمحان لدول المواءمة أن تضع بنفسها برامجًا إصلاحية تساعد فيها المؤسَّستان وتطوّرها بعد التطبيق. بل العملية تبدأ باتخاذهما موقفًا «أبويًّا» سلطويًّا يقوم على أساس القبول التام أو الرفض التام. بل وبعض دول المواءمة لم تكن في حاجة إلى هذه البرامج، وطبّقتها بناءً على طلب الصندوق والبنك. وفي الحالات التي صمَّمت فيها دولٌ برامجها الخاصة للانتعاش الاقتصادي، ضربت بها المؤسَّستان عرض الحائط واستبدلتها بما تسمّيه ورقة «إطار السياسة» لهذه البرامج، ومن ثمّ تزعمان – بِخُبثٍ – أنّ دورهما في عملية المواءمة يقتصر على مساندة المبادرات الوطنية.

لقد أصبحت المُؤسَّستان، بخطىً سريعة، الرقيب الاستعماري الجديد على دول المواءمة. وفي إطار هذا الدور السلطوي، يوضع موظَّفو البنك والصندوق في المنشآت الحساسة في الدول الأفريقية لضمان استخراج حصّةٍ مناسبة من النقد الأجنبي وفاءًا لخدمة الديون الخارجية بمعدلات لا تُحتَمل، تتجاوز 40% من عائدات الصادرات السنوية. ومن هذا الموقع تُشرفان على الميزانيات الوطنية، وحصص البنوك من الائتمان، والسياسات الجمركية. بل ويشتمل نطاق الإشراف الاستعماري الجديد على ميزانيات البلاد، وحصص النقد الأجنبي، والاقتراحات الخاصة بالإنفاق، ومراجعة معدلات التعريفة ولوائحها وقواعدها، وأسعار النقد والفائدة. وإنْ وضعت الحكوماتُ الوطنية بنفسها إجراءاتٍ معدِّلة للتعريفة الجمركية، فقد وقع أن اعترض على ذلك البنك الدولي، كما حدث في نيجيريا عام 1988، وذلك لتفضيلِه معدّلاتٍ منخفضة وَمُوحَّدة للتعريفة، الأمر الذي يدفع إلى إغراق السوق المحلية بالواردات، ويقلِّص من حماية نشاطات الإنتاج المحلي، وخصوصًا الصناعات الوليدة وإنتاج المواد الغذائية.

أما على المستوى العالمي، فإن الأثر السياسي لبرامج المواءمة قد سهّل – للأسف – فرض التبعية والانقياد على الدول الأفريقية وبقية دول العالم الثالث، كما زاد من تهميشها.

وأكبرُ دليلٍ على ذلك هو تأخّر أولويةِ المطالبة بنظامٍ اقتصاديٍّ دوليٍّ جديد حتى أوائل الثمانينيات، والحق أن البنك الدولي تعمد أن يقترح «بديلًا» للنظام الاقتصادي الدولي الجديد إلى الدول الأفريقية فقط لأنها ربطت نشاطاتها الدبلوماسية بـ «الاستجداء» من أجل «الإغاثة» للديون الخارجية ومفاوضات برامج المواءمة الهيكلية، ما جعلها أسهلَ انقيادًا في الساحة الدولية، وهذا بالطبع لصالح الدول الدائنة، مما يفسّر عقدَ مفاوضات التسوية للنزاعات الإقليمية العنيفة في أفريقيا حصرًا في العواصم الغربية.[12]

وبهذه الوسائل، كان الأثر السياسي لبرامج الاستقرار والمواءمة هو الإضعاف المنظّم والتهميشي الكامل للدولة في أفريقيا، بالحطّ المباشر لسيادتها التقليدية، وإبطال المكاسب التي حققتها في اتجاه الديمقراطية الشعبية منذ استقلال «العلم».

ردود فعل الحكومات الأفريقية

تنظر الحكومات الأفريقية إلى أزمة الديون بمفاهيم مالية واقتصادية، وهي لذلك تتصرف حيالها بشكل فرديٍّ إلى حد كبير، فتقوم كل دولة بمفردها، وبانفصالٍ عن الدول الأخرى، بالتفاوض مع مؤسَّستي بريتون وودز وناديي باريس ولندن للوفاء بديونها بطريقةٍ تطرح فيها كرامتها على طاولة المفاوضات. وهذه القوة الهائلة التي تتمتع بها المؤسَّستان تنبع من قدرتهما على عزل الدول المدينة كلٌ عن الأخريات. وعلى الضفة الأخرى تجمعت الدول الدائنة واحتشدت وراء المؤسَّستيْن في مجموعة الدول السبع والناديين. والحق أن الدول الأفريقية – على عكس مثيلاتها في أمريكا اللاتينية وفي آسيا – لم تكن جادّةً أو نشطةً في احتجاجها على الشروط التي تملى عليها في حربُ الديون هذه.

ولا توجد لدينا إلّا استثناءاتٌ ثلاث للتعامل الفرداني مع الديون الجاثمة على الدول الأفريقية، أولها: برنامج أولويات أفريقيا للانتعاش الاقتصادي (أديس أبابا 1987)، ففي يوليه/تموز من عام 1985، بعد مداخلة توماس سانكارا التاريخية حول الديون، خرجت منظمة الوحدة الأفريقية بهذا البرنامج، الذي استمرّ منذ 1986 وحتى 1990، وقدرت تكاليفه بمبلغ 128.1 بليون دولار، وفَّرت منها الدول الأفريقية 82.5 بليون دولار وجُمِعت البقية (46 بليون دولار) من مصادر خارجية. وفي مايو/أيار من عام 1986، استغلت منظمة الوحدة الأفريقية برنامج الأولويات هذا لِتطالب بجلسة خاصة للأمم المتحدة لمناقشة الوضع الاقتصادي الحرج في أفريقيا. وقد أدى هذا إلى تبني برنامج الأمم المتحدة للعمل من أجل الانتعاش الاقتصادي والتنمية في أفريقيا فيما بين 1986 و1990. ومن سوء الحظ أن هذا البرنامج الذي خرجت به الأمم المتحدة ساعد في ترسيخ تقرير «التنمية المتعجلة في إفريقيا جنوب الصحراء: أجندة عمل» (المشهور باسم كاتبِه إليوت بيرج) المشبوه الذي أعده البنك الدولي بغرض إضعاف «خطة لاجوس من أجل التكامل الأفريقي»، التي وُضِعَت تحت رعاية منظمة الوحدة الأفريقية.

ولأن أجزاءً كبيرة من برنامج الأمم المتحدة لم تُنفَّذ، نظمت اللجنة الاقتصادية لأفريقيا ومنظمة الوحدة الأفريقية وبنك التنمية الأفريقي مؤتمرَ أبوجا في يونيه/حزيران من عام 1987 كجزءٍ من أعمال المتابعة التي نص عليها في البرنامج، وقد ذكر بيان أبوجا أنّ 28 دولة أفريقية تقوم بتنفيذ برامج المواءمة الهيكلية، وانتهى المؤتمر بأن ألزمت الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الأفريقية نفسها بنسبةٍ لخدمة الديون تبلغ 30%، وهي نسبة تشل الاقتصاد. ولهذا برنامج أولويات أفريقيا وبرنامج الأمم المتحدة وبيان «أبوجا» فشلت جميعًا في الخلوص إلى ضرورة المدخلات الاقتصادية الجذرية لحل أزمة الديون.

خلال شهري نوفمبر وديسمبر من عام 1987، اجتمعت منظمة الوحدة الأفريقية مرةً أخرى في أديس أبابا، واتخذت موقفا أفريقيًّا مشتركًا من أزمة الديون. وكان رد الفعل هذا ردَّ فعلٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ تجاه الأزمة، لأن المنظمة وضعت أمام الدانئين مطالبَ مشتركة، وطالبت بمؤتمر دولي حول ديون أفريقيا، وقد تضمنت مطالبها – المعتدلة نسبيًّا – تحويلَ الديون إلى مِنح أو إلغائها بالنسبة للدول الفقيرة، وتوفير فترات سماحٍ أطول لسداد الديون، وإعادة جدولة الديون لسنوات أكثر، وأسعار فائدة أقل ومعدلات يمكن تحمّلها لخدمة الديون. ورُغمَ أنّ بعض الديون الصغيرة قد ألغيت أو تحولت إلى منح بالنسبة لبعض الدول، فإن هذه المطالب التي تقدمت بها المنظمة لم يقبل بها الدائنون بعد.[13]

الرأي العام الأفريقي والأزمة

بالمقارنة بمناطق أخرى في العالم الثالث، نجد أن الرأي العام الأفريقي تجاه أزمة الديون قد هبط إلى درجة كبيرة من البلبلة والحيرة. أما في الحالات الحادة لِسياسات برامج المواءمة الهيكلية القاسية فقد كان رد الفعل من الجماهير عنيفًا بشكل غير منظم، مما أدّى إلى مصرع المئات من المتظاهرين من معارضي هذه البرامج في كافة أرجاء أفريقيا، وقد حدثت أيضًا بعض الاضطرابات في عدد من الدول الأفريقية التي تنفذ هذه البرامج التعسفية، ولكنها كلها كانت متفرّقة وغير فعّالة.

ولم تصل هذه الاحتجاجات إلى حد المقاومة السياسية المنظمة للآثار المفجعة للمؤسَّستين في أفريقيا، وذلك مع وجود منظمات ثورية لديها برامج محددة للتعبئة الجماعية في مواجهة المؤسستين والديون الأفريقية، وهي: معهد البدائل الأفريقية ومنظمة وحدة الاتحادات العمالية الأفريقية، ومقرهما مدينة أكرا، غانا. وقد نظمت كلتاهما مؤتمرين دوليين كبيرين في عام 1987 حول أزمة الديون والنتائج المفجعة لبرامج المواءمة، كما أعربتا عن التضامن الوحدوي مع الدول الأفريقية مثل بوركينا فاسو، بقيادة توماس سانكارا، في معارضة عدوان البنك والصندوق، وقد طالبتا بمفهوم سياسي لأزمة الديون وعمل جماعي من الدول الأفريقية ضد ممارسة المؤسَّستين، بتأسيس كيانِ المدينين الأفريقيين يرتبط بشعوب العالم الثالث، وسحبِ موظفي الصندوق والبنك من البنوك المركزية الأفريقية ووزارات المالية، وتحويل كل الديون الخارجية إلى مِنح، أو إلغائها أو الامتناع عن دفعها بشكل جماعي، وصياغة برامج قومية لإعادة البناء بديلة لبرامج المواءمة الهيكلية كما حدث في زامبيا، وبلورة نموذجٍ بديل للتنمية في أفريقيا يقوم على أساس الاعتماد الفعال على النفس، وتكوين تحالفات ديمقراطية عريقة للفلاحين والعمال والمرأة والطلبة لمواجهة حرب الديون.[14]

الخاتمة

انبثقتَ مفاهيم جديدة لعملية التحول ما برحت حتى ازدادت حدّةُ مواجهتِها للفلسفة الاقتصادية للنظرية القديمة الجامدة للتنمية. فبصرف النظر عن النماذج السائدة للتنمية، التي تركز على متغيرات اقتصادية مثل رأس المال والمدخرات والتجارة والتكنولوجيا الخ، تبرز الآن ثلاث متغيرات أخرى:

  1. سوسيولوجيا التنمية (أي النظرة الاجتماعية للتنمية) وهي تركز على البنية الاجتماعية والثقافية والأخلاقيات.
  2. تنمية الإنسان أو الاتجاه لرأس المال البشري وهي تركز على تنمية الموارد البشرية.
  3. التنمية السياسية، التي تركز على الديمقراطية والمسؤولية.

وهذا كلها تؤكد الطبيعية متعددة الوجوه لعملية التنمية، التي تضم كل جوانب التركيبة الاجتماعية (أو الشكل الاجتماعي) – الاقتصاد والمجتمع والدولة – ومن بينهما المجال الأيديولوجي. إنّ استمرار التخلف في أفريقيا يفرض المزيد من الاهتمام بنماذج التنمية غير الاقتصادية التي أهملت في الماضي. ومن الأمثلة على تحوّل التركيز ما ذكرهُ برنامج الأمم المتحدة للتنمية في عام 1990 تحت عنوان تقرير عن التنمية البشرية، حيث البعض تحدث عن كيف «تدفع سياسات المواءمة أفريقيا إلى التخلف»، مثلما ذكر والتر رودني في كتابه كيف ساهمت أوروبا في تخلف أفريقيا، وحيث ينصب اهتمامه على السمة الاستبدادية للدولة في أفريقيا ما بعد الاستعمار. فقد ورثت البرجوازية الصغيرة في أفريقيا بعد استقلال العلم مباشرةً جهاز البطش الوحشي لدولة الاستعمارية، الذي كانت مهمته إخضاع السكان جميعًا تحت شعار «القانون والنظام»، في دعوته للتدخل في كل شؤون الدولة، لتسهيل له عملية السلب والنهب الاستعماري. أما القاعدة العريضة للنضال ضد مؤسسات النهب الخارجي، فقد تقوضت على يد ورثة الاستعمار من الأفريقيين، فهم يسعون إلى أفرقة الامتيازات والحقوق التي اغتصبها المستعمرون، وفي غمار ذلك خانت هذه البرجوازية الصغيرة بسرعة الوعود بالتحرر من الفقر، وخذلت الآمال التي تاقت إليها الشعوب، وأخذت الجماهير تراقب وآمالها تتحطم وولاؤها يضرب، فركبت موجة الضغوط الثورية من أسفل.

القاعدة السياسية الضيقة وغير الشعبية للدولة في أفريقيا ترجع إلى التحالف الابتزازي بين البرجوازية الصغيرة في أفريقيا وبين حكم الأقلية المستورد الأجنبي لممثل الطبقة الإمبريالية (الاستبدادية) من الغرب وشركاتهم متعددة الجنسيات. وسواءً كانت الدولة مدنية أم عسكرية، فالزمرة نفسها هي التي تحكم، وهم ممثلون محليون وأجانب لطبقاتٍ مسيطرة. وخطتهم المشتركة أن يحتفظوا بالهياكل – الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية – التي تحمي وتضمن مصالحهم الاقتصادية الحيوية والقوة السياسية والامتيازات الخالصة لهم وحدهم. ففي مجموعة دول الفرانكفون (ذات الارتباطات بفرنسا) في أفريقيا، رفضت فرنسا أن تتحلل من استعمارها بشكل فعال، عبر الاحتفاظ بالإشراف على الأجهزة الحيوية في الدولة والاقتصاد بالتحالف مع قلة قليلة في البلاد. كما تحتفظ فرنسا باتفاقيات للدفاع من جانب واحد، ثم تحشد أكبر عددًا من القوات في كل أنحاء أفريقيا، وتجتذب، بما يشبه المصيدة، هذه الدول إلى «اتحاد الفرنك» CFA، ولا تزال تمتلك وتشرف مباشرة على معظم المشروعات الاقتصادية في هذه الدول، بل إن الفرنسيين لا يسمحون بإضفاء الطابع المحلي المتواضع على المشروعات الأجنبية في بقية الدول الأفريقية، إذ أنهم يخرّبون ويضعفون، وبشكل منتظم، التعاون والتكامل بين الدول والوحدوية الأفريقية (Pan Africanism) لأن ذلك يهدد سيطرتهم واستغلالهم الرهيب القاسي لهذه الدول.

والضعف النسبي لليسار الثوري في أفريقيا يدعم ويعزز من تحكم دولة ما بعد الاستعمار وطابعها الاستبدادي. فالقوى التي تجابه الدولة مثل التنظيمات العمالية والفلاحية وحركات الطلبة وتنظيمات المرأة والجمعيات التطوعية لا توجد إلّا ما ندر، وحيث وجدت فهي ضعيفةٌ جدًّا. والمعتاد أنه كلما قويت هذه التنظيمات الجماهيرية عظمت قدرتها على أن تتصرف كعناصر مقاومة أو توازن، أو مركز ثقل في مواجهةِ تجاوزاتِ الدولة وأجهزتها. وهذا الضعف النسبي يزيد من السيادة النسبية لدولة ما بعد الاستعمار في المنطقة، ولكن بإجبار الدولة على أن تصبح بؤرة معظم العدوات الاجتماعية والصراعات الطائفية، ولهذا يجب على الأفارقة أن تضغط من أجل تغير واقعها لأننا عانينا كثيرًا من مساوئ السلطة المطلقة لهذه المؤسسات الإمبريالية وممارساتها الاستبدادية.

[1] World Development Report 1996 (Washington, 1996).

[2] Economic Commission for Africa (ECA), Economic Report on Africa 1996(Addis Ababa: ECA, 1996).

[3] African Development Bank (ADB), African Development Report (Oxford: Oxford University Press, 1998), pp. 33 and 47-48.

[4] ECA, African Economic Report 1998 (Addis Ababa: ECA, 1998; available at http:// www.un.org/depts/eca [no pagination]). The figure of forty-eight states actually includes a number of island states and statelets which are more or less near Africa and conventionally included in it, but whose history, resource endowment, present economic structures, and cultures distinguish them in various ways from Africa proper. These are Cape Verde (pop. 0.4 m.), Madagascar (pop. 15.8 m.), Mauritius (pop. 1.1 m.), Sao Tome and Principe (pop. less than 100,000), and Seychelles (pop. 100,000). Seychelles and Mauritius have relatively high per capita incomes, based on tourism and also, in the case of Mauritius, on clothing exports.

[5] In the eight years leading up to 1997, thirty African countries had per capita income growth of over 1.5 percent, while only twenty-three had less, or declining incomes (ADB, op. cit., p. 3). This was markedly better than the 1980s, but starting from a lower base: many countries had still to get back to the per capita income levels of 1980, and, in any case, counting countries rather than populations distorts the picture since many of the better-performing economies were small.

[6] The average rate of return on U.S. FDI in 1997 for all countries was 12.3 percent. The average rate of return on U.S. FDI in Africa for the whole period 1990 to 1997 was 29 percent (United Nations, World Investment Report 1998: Trends and Developments (New York and Geneva: United Nations, 1998).

[7] Geoffrey Kay, Development and Underdevelopment: A Marxist Analysis (London: MacMillan, 1975), p. x.

[8] In 1997, the whole of Africa (including north Africa) attracted less than 3 percent of all the world’s foreign direct investment, and sub-Saharan Africa excluding South Africa, barely half of that—i.e., 2.7 billion dollars; and slightly over half of this went to the half-dozen oil-exporting countries (United Nations, op. cit.).

[9] Manuel Castells, The Information Age, Vol III: End of Millennium (Oxford: Blackwell Publishers, 1998), the section entitled “The dehumanization of Africa,” pp. 88-90.

[10] David Plank, “Aid, Debt and the End of Sovereignty: Mozambique and Its Donors,” Journal of Modern African Studies 31, 3 (1993),

[11] This is the title Bill Freund gives to the last chapter on Africa’s most recent period of the new edition of his definitive short history of the continent, The Making of Contemporary Africa (Boulder: Lynne Rienner, 1998).

[12] Eboe Hutchful, “From ‘Revolution’ to Monetarism: The Economics and Politics of the Adjustment Programme in Ghana,” in Bonnie Campbell and John Loxley, eds., Structural Adjustment in Africa (London: Macmillan, 1989), pp. 122-3.

[13] John Ravenhill, “A Second Decade of Adjustment: Greater Complexity, Greater Uncertainty” on Thomas Callaghy and John Ravenhill, eds., Hemmed In: Responses to Africa’s Decline (New York: Columbia, 1993), p. 47

[14] His book, A future for Africa: Beyond the politics of adjustment (London: Earthscan, 1992), Onimode mounts a powerful case against structural adjustment, capping the point we have quoted here with the observation that, “a generation of Africans has been lost and a second is under serious threat, while the marginalization of Africa has accelerated alarmingly in most spheres” (p. 1).429-30.

Skip to content