جلبار نقّاش، «پاپي» (1939-2020)

«لم أعرف مثله مناضلًا أكثر عطاء وإقدامًا» – نور الدين بن حذر

تحكي أساطير المصريين القدامى أنّ الإنسان عندما يحضره الموت، تحطّ روحه على ضفّة النّيل لتجد في انتظارها ملاّحًا يعبر بها النّهر إلى العالم الآخر. وعندما يبلغ القارب منتصف النّهر، يمدّ الملاّح لوحًا مكتوبًا إلى المسافر طالبًا منه أن يفكّ رموزه ويقرأ حروفه، فإن كان له ذلك أوصله إلى الضفّة الأخرى حيث يبدأ العالم الآخر وإن استعصت على الرّوح قراءة الحرف، تظلّ تائهة وسط النّيل العظيم إلى الأبد. كنت أقرأ عن هذه الأسطورة وأنا أتخيّل پاپي بصدد التّفاوض مع صاحب القارب حول شروط الرّحلة، لأنّني، كما أعرف الرّجل، يستحيل عليه أن يقبل بقواعد لعبة وقوانين لم يشارك في وضعها حتّى وإن كانت قديمة قِدم الفراعنة.

ويبدو أنّ المفاوضات قد طالت أكثر من اللّزوم، إذ وصلني للتوّ أنّها بلغت نهايتها. وأعتقد جازمًا أنّ رفيقي كانت له الغلبة. فهو ليس من النّوع الذي يخسر رهاناته، وهو في كلّ الأحوال، لا يعترف بالهزيمة حتى عندما يستسلم الجميع من حوله أو يصيبهم الإعياء. بل إنّي متأكّد من أنّه حال الانتهاء من قراءة اللّوح بسهولة لا متناهية، أصرّ على كتابة لوح آخر … بمفرداته الخاصّة وأبجديته المبتدعة.

آخر اتصال لي به يعود إلى أيّام قليلة، عندما طلبت منّي عزّة أن أحدّثه عبر الهاتف، لحمله على العدول عن قراره في السّفر، والتوسّل إليه للخروج من غيبوبته العميقة. أقسَمَت لي يومها، بعد أن سحبت الهاتف من أذنه، أنّه كلّما سمع صوتي، ارتسمت ابتسامة على وجهه. وأنا لم أجرؤ على الاعتراف لها بأنّ ابتسامته تلك كانت تحلّ محلّ عبارة «برّه نــ…» في نوع من تواصل لعبة قديمة بيننا بدأت ذات يوم من سنة 1977 ببرج الرّومي، عندما تقابلنا لأوّل مرّة.

يومها، وجدت نفسي أمام أيقونات ثلاث طالما سمعت عنها وأثّثَتْ مخيّلتي، نور الدين بن خذر، رشيد بن للّونة، وجلبار نقّاش الذي لم أجرؤ وقتها على مناداته بـ «پاپي». ولا أدري كم تتطلّب الأمر من الوقت قبل أن يغمرني حنوّه، وتطفح فيّ مشاعر المودّة نحوه، ويسكُنَ ذاتي تحت تسمية «پاپي» رغم ميله إلى العراك الفكري المتواصل واختلافاتنا التي لا تنتهي. والحقيقة أنّني كنت أسجّل في ذهني كلّ كلمة يتفوّه بها، وأعيد مذاكرة كلّ حجّة يطلع بها، وأحتفظ بكلّ شاردة من «تعاليمه». فبقدر ما كان مولعًا بلعب دور المعلّم، كنت أصرّ على تقّص دور المريد المشاكس… لأنّ في السّجن يجب على المرء أن يعرف كيف يلعب مع الزّمن وبالزّمن، وكيف يراوغ الواقع العنيد، وأن يتقن اللّعب حتّى ضدّ نفسه، أحيانًا. ويحدث أيضا أن نكسر هذه اللّعبة أو نضع حدّا لها في محاولة لإيجاد أخرى أقلّ مللًا أو مواصلة الأولى مع تسجيل فاصل يشعرنا بأنّنا ما زلنا نتحكّم في قواعدها، وأنّنا لم ننخدع إلى درجة ذوبان المسافة بيننا وبين أدوارنا. وقتها، يكفي أن نتفوّه بعبارة «برّه نــ…»، السوقية والملآى حِنّيّة في نفس الوقت، لنعدّل بها أوتارنا من جديد، ونعيد ترتيب المعزوفة التي سنواصل بها قتل الوقت، وشدّ الأزر…شماتة في الأعداء ورفعًا للمعنويات.

عندما أعلمتني عزّة أنّ پاپي كان يبتسم لسماع هذياني، كنت أعرف أنّه يعزف نوتاته الأخيرة من سمفونية بدأها في مطلع شبابه. إلى حدود زمن غير بعيد، كنت أعرف كيف أستقبل… الحياة، والنّاس، والأصحاب، والبنات، والأفكار، والأمل… واليوم علّمتني الدّنيا كيف أودّع… أصحابًا، وخلاّنًا، ورفاق درب، وبعض فرح. فإلى اللّقاء، صديق الأمس القريب جدًّا، ورفيق الدّرب الطويل جدًّا. أعرف أنّك تكره النّوم، وأنّك ستواصل معاركك ليصبح المكان الذي ستحلّ به أجمل.

فتحي بن الحاج يحيى (27 ديسمبر 2020)

Skip to content