فانون ومبمبي في فلسطين: المقاومة كمشروع بيو-سياسي أصلاني

«إذا كانت حياتي في الواقع تساوي قيمة حياة المستعمِر، لم يعد بإمكان نظرته أن تثير الخوف فيّ أو تثبيتي في مكاني على الفور، ولم يعد صوته يحجّرني. لم أعد أشعر بالقلق في وجوده. في الواقع ، فليذهب إلى الجحيم. ليست المسألة أن وجوده لم يعد يزعجني وحسب، بل إني أستعد بالفعل لاستفزازه في مثل هذه الطريقة التي لن تترك له أي حل سوى الفرار». – فرانز فانون، معذبو الأرض

لا يزال شبح فانون يطارد المستعمرين؛ اسمه بمثابة شبح المقاومة المستمرة ضد الاستعمار. واليوم، يحتفل العالم بوقف إطلاق النار الذي فرضته المقاومة الفلسطينية في غزة. أفكّر في نفسي: كيف نقرأ فانون في فلسطين.

شخّص فانون، وهو منظر لعلم النفس في سياق الاستعمار، كيف يكون العنف ضمن العلاقة بين المُستعمِر والمستَعمَر يتمظهر في تعبيرات خفية عن الهيمنة والمقاومة في الأنشطة اليومية.

يدور إرث فانون الأكثر ديمومة حول دعوته الظاهرة للعنف في سياق النضال ضد الاستعمار، حيث يُقابل الفعل الاستعماري نفسه بمقاومة المستعمَرين. هذا المشهد المناهض للاستعمار شكلته بعض التأثيرات النفسية: مجموعة كبيرة من مشاعر الثأر والكراهية التي يوجهها المستَعمَر نحو المستعمِرين. مع مرور الوقت، تنتج هذه المشاعر اليأس والعجز والعزلة، مما يؤدي إلى، وبوصف هالكن، إلى خلق «شخص تم حرمانه من ذاتيته، وعزله عن نفسه، وتحويله إلى أداة تدمير». هذه تُختصر بـ«الأحلام العضلية» للموضوع الاستعماري، والتي ورد ذكرها في «حول العنف»، الفصل الأول من كتاب «معذبو الأرض» لفانون، مثلًا: مظاهر الشوق لمواجهة المستعمر جسديًا وهزيمته.

المقاومة الفلسطينية قوة سياسية-بيولوجية خُلقت لتناهض الاحتلال؛ النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي يمتلك إحساس بالهدف له نظائر تاريخية في الجزائر والمقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، من حيث براعة تكتيكات المقاومة. كما يجادل أشيل مبمبي في كتابه «Necropolitics»:

الموت ليس مجرد فعل فردي يخصني وحدي، بل إنه دائمًا يسير جنبًا إلى جنب مع موت الآخر. كيف يختلف عن الموت الذي تسببه دبابة أو صاروخ، في سياق يتم فيه حساب تكلفة بقائي من حيث قدرتي واستعدادي لقتل شخص آخر؟ في منطق «الاستشهاد»، تتحد إرادة الموت مع الرغبة في أخذ العدو معك، أي بإغلاق الباب على إمكانية الحياة للجميع. هذا المنطق يبدو مخالفًا للآخر، وهو الرغبة في فرض الموت على الآخرين مع الحفاظ على حياة المرء.

ينظر المُستَعمَر إلى حياته على أنها سلاح يمكن استخدامه ضد الاستعمار. يمكن فهم هذا القرار على أنه شكل من أشكال السياسة-البيولوجية، حيث يستخدم السكان المضطهدون حياتهم لتدمير الظروف المعيشية المريحة للسكان المستعمِرين. فتصبح الحياة موجهة نحو إنتاج الموت: موت المحتلون، موت الغرباء. كما يذكرنا فانون، «إن عنف النظام الاستعماري والعنف المضاد للتوازن بين السكان الأصليين يستجيبون لبعضهم البعض في تجانس متبادل غير عادي».

في «عن العنف»، يخبرنا فانون أنه «لا يمكن تحدي الجمود الذي يُدان به الفرد المستعمَر إلا إذا قرر وضع نهاية لتاريخ الاستعمار وتاريخ النهب من أجل إحياء تاريخ الأمة، تاريخ إنهاء الاستعمار». السياق الاستعماري موجه نحو السيطرة على الهيئات الأخرى، على وجه الخصوص: العلاقات بين أجساد الفلسطينيين والمحتلين.

يستحضر فانون في فلسطين روحًا تأكيدية وتمكينية تؤدي حتمًا إلى دراسة كيف أن الأصلانية الفلسطينية، بغض النظر عن مدى توسطها من قبل أنظمة الهيمنة والسيطرة، هي بمثابة شكل من أشكال المقاومة. ولذلك، تصبح المقاومة الفلسطينية مشروعًا مناهضًا للاستعمار بكونه يتمسك بهويته المقاومة أصلًا. أي تصبح المقاومة مرادف الهوية، وهنا يصبح كل شخص مشروع مقاوم.

في هذا السياق الإقليمي من خيبة الأمل والخسارة والخيانة، تصبح المقاومة الفلسطينية استراتيجية بيوسياسية وشكل مشروع من النضال المناهض للاستعمار. قراءة كتابات فانون في مجملها، ولا سيما نظرية فانون عن العنف باعتباره سلاح في النضال ضد الاستعمار، يمكن أن نستنتج بسهولة أن فانون لم يكن بإمكانه كتابة نص أفضل لوصف آخر الحرب الاستعمارية المستمرة في فلسطين. وكأن عن العنف تصف واقعنا أكثر من مئات الكتابات المستوردة التي لا تحلل أصلانية المقاومة الفلسطينية في المجتمع.

في محاولة لسحب الشرعية عن المقاومة الفلسطينية، يجادل البعض، كمور أنه يجب نبذ العنف، «من كل الأطراف»، كوسيلة للتغيير إذا سادت ظروف معينة تفضي إلى مناقشة عقلانية. يؤكد فانون أن هذه الظروف لن تحدث أبدًا وبالتالي فإن العنف هو وسيلة العمل الوحيدة المتاحة للمضطهدين لتحرير أنفسهم وتفعيل تغيير مبدع حقًا في المجتمع على أساس كرامة الإنسان وقيمة الإنسان بغض النظر عن العرق أو اللون. في مقدمته لفانون يقدم سارتر نظرة ثاقبة على إبداع العنف الذي يدعم تحليل فانون للثورة المناهضة للاستعمار. يجب التأكيد هنا على ثلاث نقاط. أولًا، بالنسبة لفانون: العنف رد فعل على العنف القائم بالفعل من قبل المستوطنين. والنقطة الثانية هي أن فانون تصور عنفه من منظور عملية إبداعية لا يمكن أن تستمر من خلال العمل دون عنف. يقول فانون: «إنهاء الاستعمار هو دائمًا عملية عنيفة»، وذلك على مستويين: تدمير الاستعمار، وهنا يعرّف الاستعمار كظاهرة ولدت واستمرت في العنف؛ وإنشاء مجتمع جديد متحرر الاستعمار يكون فيه الإنسان ذو إرادة سياسية. لذلك فإن العنف في هذا السياق هو «حدس الجماهير المستعمرة إن تحريرهم يجب، ولا يمكن إلا، أن يتحقق بالقوة». النقطة الثالثة التي يجب أخذها في عين الاعتبار هي أن عنف فانون ذو قيمة، لأنه يركز على إعادة خلق الإنسان. العنف ليس غاية في حد ذاته ولذلك فلا يمكن تمجيده بل احترامه لكونه وسيلة من الوسائل التي من خلالها يعيد السكان الأصليين خلق نفسهم دون عنف الاستعمار.

كنضال ثوري، وكحركة تحرر وطني وكمقاومة شعبية: حركة المقاومة الفلسطينية عملية عنيفة سواء كانت تستخدم السلاح أم تنبذه. وذلك لأنها مشروع بيو-سياسي يهدف في أساسه إلى إعادة خلق المجتمع الأصلاني وتوزيعه في مواجهة مباشرة للمستوطن، وكما لأن الفلسطيني يُصف بالعنيف انطلاقًا من الصور التنميطية الاستشراقية التي حللها إداورد سعيد. إذا، المقاومة على أشكالها تُفهم كعنف بيو-سياسي يهدف إلى «استبدال» المستوطن الذي لا ينتمي إلى المكان أساسًا.

لذلك، حين نتحدث عن المقاومة والاحتلال وموازين القوى، من الضروري الانتباه إلى أن خطاب «عدم اتزان القوى» ساقط حتمًا لكونه لا يعكس حقيقة واقع أن للقوى هذه أهدافًا مختلفة، وأن التأييد للمقاومة لا يجب أن ينطلق من موقع الضعف، بل من موقع الإيمان أن من يسعى إلى خلق عوالم متحررة لا يمكن له أن يتساوى مع المحتل الذي يسعى إلى تدمير حيواتنا، بكل بساطة.


نُشِر هذا المقال أولًا في مدونة إسلام الخطيب على موقع «Medium».

Skip to content