رسم 7: دعاية مناهضة للشيوعيّة في عُمان.

النفط، والإمبريالية البريطانية، وموطئ قدمها في الخليج: روايات تأسيس الدولة العمانية

الدولة العمانية الحديثة ليست صورتها التي يقدمها آلة الدعاية للنظام السلطاني والإمبريالية الغربية، ليست امتدادًا طبيعيًّا للتاريخ العماني، فلا عملية نمو «طبيعي» تاريخي شكَّلت نظام الحكم السلطاني السعيدي ، ولا استقلال لتكوّنها عن واقع التدخل الخارجي في الأحداث غيرت مجرى التاريخ العماني خلال القرن العشرين، فالآلة الدعائية تلفّق رواياتٍ تاريخية تدّعي أن الدولة السلطانية الحديثة هي «دولة وطنية مستقلة» قائمةٌ اليوم منذ أبدِ الآبدين، وتعتم على أحدِ دعّامات قيامها: المطامح الإمبراطورية البريطانية وسعيها لتلبية حاجة اقتصادها الرأسمالي من النفط.

وفي هذا الصدد تقدّم ثلاث رواياتٍ تاريخية مهيمنة متجاورة حول تكوين الدولة العمانية الحديثة، لكلٍّ منها غرضها الخاص وإن تكاملت، أولاها يقول إنّ تكوين عمان اليوم هو امتداد تاريخي طبيعي، وثانيتها تخفي التورّط البريطاني في هذا التكوين، والثالثة تحيل المطامح الإمبريالية الغربية إلى «الموقع الجغرافي» لعمان كالجاذب الوحيد، لتقدّم هذه الروايات مجتمعةً صورةً معيبةً ومغلوطةٍ عن هذا التاريخ.

فالسعي البريطاني وراء النفط كان أساسيًّا في عملية بناء دولة عمان الحديثة، وقيمته وجاذبيته تسببا في زعزعة استقرار مجتمعات البلاد وتعزيز الهيمنة الإمبراطورية البريطانية على الأراضي العمانية، خلال القرن العشرين، بتوسعة نظام وكيلهم المحلي، أي نظام سلاطين البوسعيد، وتوطيد شرعيته.

 وأما اختزال العلاقة البريطانية-السلطانية بأهمية الموقع الجغرافي العماني للإمبراطورية فتكشف زيفها أي نظرةٍ فاحصة لا تتجاهل تسلسل الأحداث إلى تاريخ التنقيب عن النفط في الثلاثينيات، والعدوان الإمبراطوري البريطاني في نهاية الخمسينيات وتمكينه توسعة سيادة النظام السلطاني نحو الداخل العماني بعد الحرب العالمية الثانية، ليفكك بذلك العماد الأول للرواية الرسمية وادعاؤها استقلالية سيادة النظام السلطاني وتعتيمها على الهيمنة البريطانية الإمبريالية وشرعنتها لها، ويفضح مقولات التماسك التاريخي لأراضي عمان وهويتها وسيادتها، فالدور البريطاني ليس عرضيًّا في نشأة النظام السلطاني فبريطانيا عمدت على تصميمه لحماية التدفق السهل للنفط من الأراضي غير الواقعة تحت سيادة السلاطين.

وقبل الخوض في طبيعة هذه العلاقة الإمبريالية التاريخية بين بريطانيا والدولة العمانية اليوم، لا بد من تعريفٍ لائق وواضح ومعقول لمفهوم «الإمبريالية»، وسنعتمد هنا تعريف سي إيه بيلي ومفاده أنّها «مجموعة النوايا والقوى المادية التي تهيئ الدول للتوغل (أو محاولة التوغل) في سيادة الدول الأخرى»، وذلك في ضوء ما عرضه الأستاذ المشارك في التاريخ العربي الحديث بجامعة هيوستن عبدالرزاق التكريتي في كتابه «ثورة الرياح الموسمية»، حيث يجدّد السرد في التاريخ العماني الحديث بدحض الروايات الاستعمارية والروايات السلطانية، ويعيد لعموم الناس مكانتهم في صناعة تاريخ تشكّل وفي محاولة لتحليل تاريخ تشكل دولة عُمان الحديثة، ومشاركتهم في أحداث السبعينيات وما تمخض عنها من تغيير جذريّ في البلاد عبر المواجهة مع القمع الوحشي للقوات الإمبراطورية البريطانية، وذلك عبر الرجوع إلى المصادر الأرشيفية والشفوية لمعالجة تأريخ الكفاح المسلح لصراع ما بين 1965 و1976، الذي خاضه وبادر به ثُوّار ظفار ضد خصومهم، النظام السلطاني والإمبريالية البريطانية، مؤكّدًا محورية هذه الفترة وأحداثها في وضع أسُس تشكّل الوضع الحالي لما يعرف اليوم بسلطنة عمان.

والحدثان الحاسمان في هذه الفترة هما: ولادة وتطور حركة ثورية تتبع النهج الماركسي-اللينيني وبِتركيز على تحرير المرأة وإقامة الاقتصاديات التعاونية، وتحول النظام السلطاني وتوسّعه من دولة أميرية في مناطق محدودة على الساحل العماني إلى دولة مَلَكية مُطلقة تشمل حدود اليوم.

ولمفهومي «الثورة» و«الاستبداد»، كما يشير التكريتي، مركزيّةٌ في تحليل هذه المرحلة، فالسرديات الرائجة – السلطاني منها والإمبريالي – تُنكر للثورة طبيعتها الحقيقية، وتضفي على تاريخ البلاد أساطير تاريخية لتشرعن النظام الحالي، فالكفاح المسلح لثورة ظفار يتوافق مع خصائص الحركة الثورية الشعبية، واستبدادية النظام الحديث حديثةٌ، لا قديمةٌ قِدَم الزمن، بل ارتبطت بشخص السلطان قابوس، حيث «لم يتمكن أيُّ حاكمٍ تاريخيًّا من احتكار العنف والسلطة السياسية» في تاريخ عمان مثله.

وفهمُ الطبيعة الحديثة لاستبدادية النظام لا يقوم دون إدراك الدور البريطاني كقوّة أساسية في التاريخ العماني الحديث وكدعامةٍ أساسية لقيام الاستبداد ونشأته، وإن كانت النفوذ البريطانية قد أخذت بالتوسع بدءًا من عام 1861 من خلال وكيلها، سلالة آل سعيد، التي كان سلطانها محصورًا وقتها في المناطق الساحلية، بغرض حماية التجارة البحرية البريطانية في البداية، فقد انبسطت أذرعها وتمددت لاحقًا إلى داخل عمان وظفار، وبقية المناطق التي لم تقع وقتها تحت سلطان آل سعيد، ليتزامن هذا التوسع  مع ما يسميه التكريتي «لعبة النفط» في عام 1937، حيث بدأ البريطانيون في استكشاف المنطقة بحثًا عن مصادر النفط، وعلى هذا الأساس، أساس تلبية الاحتياجات الإمبراطورية البريطانية من النفط، بُنيَت الدولة السلطانية لتقوم بدورها في هذه العملية كوسيطٍ محلّي، أو بالأحرى: عميلٍ عماني.

ومن غير المستغرب أنّ الفترة التي شهدت تبلور المطامح البريطانية على النفط وذروتها، أي الستينيات، كانت ذات فترة تبلور مقاومة الشعب العماني من خلال حركته الثورية لهذا التوغل وبلوغها ذروتها، وكانت عملية الصراع هذه بين الحركة الثورية والقمع البريطاني هي ما انبثق عنه إقامةُ الملكية المُطلقة القائمة حتى اليوم.

وفي ظل تغييب هذا التاريخ، تاريخ الصراع الفعلي الذي تمخض عنه الوضع الحالي، تجتر القنوات والمواقع الإخبارية العمانية والعربية والدولية الرسمية الرواية الاستعمارية المركّزة على «الموقع الجغرافي» لعمان هو العامل الرئيس والوحيد وراء المصالح البريطانية والإمبريالية أو الاستثمارات الدولية أو كلاهما، ونرى نموذجًا على ذلك في البرنامج المصري «بين السطور»، الذي قدمته أماني الخياط، بعنوان «الموقع الجغرافي لسلطنة عمان عنوان الأهمية وليس النفط»،حيث بثّ فيه لقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع السلطان الأسبق قابوس عام 2018، حيث شددت الخياط مرارًا وتكرارًا على أهمية الموقع الجغرافي (بالنسبة للبريطانيين)، على النفط.

حتى لو قبلنا جدلًا صحّة هذه الرواية، المستندة في فهمها للتاريخ على جغرافيا مسارات تدفّق الاقتصاد العالمي اليوم، وإن سلّمنا بأن هذه الرواية تنطبق على المرحلة الأولى من الإمبريالية البريطانية التاريخية وحدها، تظلُّ النظرة خاضعة إلى ميلٍ ذا تمركزٍ أوروبّي: أوليست هذه «الأهمية» المنشودة لموقع عُمان الجغرافي، أهميةٌ خاصةٌ بمصالح الغرب، وبريطانيا على وجه التحديد، لا شعب عمان أو المنطقة؟ فما الفائدة المرجوّة منها لمن يعيشون تحت قمع وفقر وتعطيل عن النمو حتى يومنا هذا؟

تكرار هذه الرواية واجترارها رغم اختزالها البلد وما فيها في «الجغرافيا السياسية» للإمبراطورية البريطانية، وتجاهل التنقيب عن النفط وما جاوره من صراعات تكشف الواقع الفعلي والمُعاش للناس، لا يخدم إلّا وحليفهم الدمية، النظام السلطاني، بل إن صناعة مثل هذه الروايات الجيوسياسية يصبّ في شرعنة حكم النظام السلطاني الحالي، كوجودٍ تاريخيٍّ ضروريّ بصلة تاريخية مباشرة مع طبيعة الأراضي العمانية وموقعها الجغرافية وكأن هذه الأخيرة هي ما ينتج النظام السياسي، وذلك لتأبيد الوضع الحالي وتمديده إلى التاريخ القديم.

وواقع هوانِ نظام السلطان وضعف سيادته يتبين في الأرشيف البريطاني وما يحتويه من اتفاقياتٍ رسمية بشأن التنقيب عن النفط وإنتاجه في عمان، ابتداءً من الثلاثينيات، حيث تتبع القصة رحلة برترام توماس الاستكشافية من ظفار إلى الدوحة وعبوره صحراء الربع الخالي في عام 1931، بتمويلٍ وتنظيمٍ بريطاني رسمي بهدف «محاولة تحديد مواقع تسرب النفط لصالح شركة النفط الأنجلو-فارسية»، وبعد ست سنوات، في عام 1937، وقّع السلطان سعيد بن تيمور معاهدتين للتنقيب عن النفط وإنتاجه مع شركة الامتيازات البترولية المحدودة البريطانية. كانت الإمبريالية البريطانية هي المحرك الوحيد وراء الحملة الاستكشافية والاتفاقيات التي تبعتها بما يتعلق بالنفط، ولصالح الاقتصاد البريطاني والاقتصاديات الغربية لا غير. وتقاسمت اتفاقيات امتياز النفط الأراضي، وإحداها فقط اختصت بالأراضي الواقعة تحت نفوذ سلطنة مسقط وعُمان على الساحل، وأما الأخرى فكانت لظفار حيث نصّت أنّها ملكٌ شخصيٌّ للسلطان نفسه، ما يدل على أن نفوذ نظام السلطاني وشرعيته لم تطلها، ولم تشمل جميع الأراضي المندرجة تحت حكمه اليوم.

لخطاب استعماري قائم على افتراض أن السيادة التاريخية للملكية السلطانية بأنها مستقلة، دون الارتباط بالدور المباشر للإمبريالية البريطانية في التغيرات في التاريخ العماني التي حدثت خلال منتصف القرن العشرين.

في مقابل هذا الواقع الذي تبيّنه الوثائق، نجد السردية الاستعمارية التي تتبناها منتجات مثل الفيلم الوثائقي لقناة الجزيرة العالمية «عُمان: التاريخ والسلطة والنفوذ»، وتصويرها حكم سلالة البوسعيد لعمان وكأنها استمرت بنفس الحدود والسيادة منذ 1749 وحتى يومنا هذا، لتناقض واقع اقتصارِ سيادة البوسعيد على بعض أراضِ عمان الحديثة وغيابها عن معظمها، ومن ثمّ تمدد سلطانها وانبساطه بموجب المصالح البريطانية ومساعيها وراء النفط في المنطقة والتأثير المباشر لتلك العملية على تطورات التاريخ العماني.

ويوضح إيان كوبين أن المزاعم التاريخية حول استقلال وسيادة سلطنة مسقط وعمان على جميع أراضي الإمامة كانت اختراعًا بريطانيًّا لإخفاء حقيقة أن الدولة السلطنة الأميرية، المتقوقعة في مسقط، كانت في ذلك الوقت مستعمرةً بريطانية بحكم الواقع، فبقية المناطق، خصوصًا الجبل الأخضر، كان وضعها خلافَ ذلك، كما يظهر في رواية مارك كيرتس عن حرب 1957-1959 في عمان، حيث بدأت الحرب على شكل انتفاضة شعبية في المناطق الخاضعة لسيادة الإمامة في داخل عمان، بعد تأكد شركة نفط بريطانية من وجود حقول نفطية، والتي انتهت بأن قامت بريطانيا بإسقاط الإمامة عبر قواتها العسكرية وإخضاعها لحكم وكيلها، سلطنة مسقط وعمان.

ورغم أن الأدلة التاريخية حول مسببات انتفاضة الجبل الأخضر كافيةٌ للكشف عن هذه الحقائق المهمة عن التاريخ العماني الحديث، فإن إنتاج المعرفة عن تاريخ عمان الحديث لا يزال يحجب الحقيقة ويصور عمان الحالية، تحت سيادة السلالة السلطانية، على أنها تاريخية وقديمة، فكما يقول التكريتي، في هذه الروايات ما تقول إنّ الدولة السلطانية الحالية «كمؤسسة حكم قديمة ذات تاريخ مستمر»، لتخلط بذلك بين العديد من المفاهيم، مثل مفهومَي الدولة والسلالة، لتصورهما كتاريخٍ واحد متوافق، ويغدو الدور البريطاني مجرد حلقةٍ قصيرةٍ في تاريخٍ طويلٍ وراسخ به أو بدونه، ويخفى دور عائلة البوسعيد كوكيل للاستعمار البريطاني، وتحول دون احتمالات محاسبة بريطانيا على جرائمها ضد الإنسانية خلال الحرب، ونهبها للثروة في عمان.

ولم يغفل ثُوّار ظفار دوافع التوسع بغرض نقل النفط إلى الساحل، ولهذا كان محطّ أنظارهم منذ البداية، فاستهدفه الهجوم الثوري الأول لإعلان الكفاح المسلح من جبهة تحرير ظفار في 9 يونيو 1965، بُعَيْدَ حرب الجبل الأخضر، شركة «ميكوم» الأمريكية للنفط وعملياتها في ظفار، ومن ثم أغلبية هجمات جيش التحرير الشعبي لجبهة التحرير للسنوات الثلاث الأولى،  حتى اضطرت الشركة إلى إيقاف عملياتها في أكتوبر 1967. وهذا الوعي السياسي للحركة الثورية الظفارية، منذ نشأتها، وإدراكها نشاط شركة النفط كذراع استعماري لمصلحة الإمبريالية الغربية، هما ما جعل الثورة الشعبية العمانية خطرًا على مطامع بريطانيا في النفط، وليس النفط في ظفار فحسب، ولكن في المنطقة بأسرها.

وردًّا على هذا الرفض الشعبي للتوغل البريطاني-السلطاني، صنعت بريطانيا، كجزء من برنامجها لمكافحة التمرد ضد الثورة، الدولة السلطانية الحديثة، التي تغطي جميع الأراضي التي تحتلها اليوم. وكان انقلاب قابوس على أبيه عام 1970 تأكيدًا على فَرْضِ بريطانيا اهتمامها بالنفط، وتغيير السلطان كان ضروريًّا لما ظهر على الابن من انسجام أكبر مع عملية توطيد المصالح البريطانية، ليبلغ مدى امتلاك بريطانيا صناعة القرار في البلاد اختيار رأس السلطة وتبديله، فكان اختيار قابوس من أجل ضمان الاستمرارية في نهب النفط والموارد الأخرى دون عائق.

عُمان المعاصِرة هي نتاجُ الصراع بين الاستعمار البريطاني الساعي لنهب النفط والقوى الشعبية التي قاومته، ما يجعلها منتجًا استعماريًّا يسهّل الرغبة الإمبراطورية البريطانية في النهب منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى سبعينياته، بما يتناقض تناقضًا صريحًا مع الروايات التي تنتجها المنظمات الاستعمارية والسلطانية والمتعاطفون معها حول الاستقلال والسيادة التاريخية لعائلة آل سعيد في حكم عمان كما هي اليوم.

تعزز مثل هذه الروايات الملفقة شرعية حقّ السلطان في العرش كقائدٍ للدولة، شرعيةٌ بُنيت إثر مخاوف بريطانيا من فقدان السيطرة تمامًا على موارد النفط في المنطقة، وتحييد وتصفية معارضتها في المناطق التي لم تخضع لنفوذ سلطنة مسقط وعمان وسيطرتها، ابتداءً بإسقاط دولة الإمامة في عمان الداخل، خلال نهاية الخمسينيات من القرن العشرين، وضم أراضيها وأراضٍ أخرى تحت السلطنة، ومن ثم مواجهة الثوار المنظّمين على النهج الماركسي اللينيني في ظفار وعمان في منتصف الستينيات، مستهدفين شركات النفط، لِتُبنى الدولة السلطانية الحديثة كوكيلٍ محلّي لضمان تدفق ثروات البلاد إلى الخارج وتحييد المعارضة الشعبية لهذا النهب. فالدولة السلطانية الحديثة ليست إلّا بناءً استعماريًّا، وضع لخدمة الاقتصاد الغربي؛ لنهب الثروة واستغلال الأرض العمانية وشعبها.

Skip to content