اليسار التونسي في ضوء انقلاب قيس سعيّد: هل يعيد التاريخ نفسه من جديد في تونس؟

بقلم:

/ محور:

دعم قسم من اليسار التونسي («التجمع الاشتراكي الديمقراطي» و«الحزب الشيوعي التونسي») تنحية بورقيبة من طرف زين العابدين بن علي عام 1987، واستمر هذا الدعم حتى انتهاء محاكمة قيادات الحركة الإسلامية وكوادر حركة النهضة عام 1991. وبعدها مباشرة – وحتى قبلها مع تزوير الانتخابات – نكث بن علي وعوده، وشدد قبضة القمع، ما أثار امتعاض اليسار الداعم له، لكنّ الامتعاض لا يُسقط الاستبداد أبدًا. لم ينقذ شرف اليسار آنذاك إلا حزب العمال الشيوعي، والوطنيين الديمقراطيين، وبقايا أبناء حركة «آفاق»، وكانت الكلفة غالية: المحاكمات والسجن والحرمان من الشغل.

أشار حمة الهمامي – مٌحِقًّا – إلى هذه السابقة التاريخية في مقارنة مع انقلاب قيس سعيد بقول:

إن ذلك حدث من قبل عام 1987 عندما انقلب زين العابدين بن علي، على الحبيب بورقيبة وكان عدد التونسيين الذين خرجوا للاحتفال ببن علي يفوق مئات المرات عدد من خرجوا يوم الأحد الماضي، مستطردًا «الجميع يعرف كيف كان حكم بن علي».

بعد أكثر من ثلاثين سنة على هذه الأحداث، وانقضاء عشر سنوات على الثورة التي أسقطت بن علي، يتكرر – بشكل مأساوي – مشهد أقرب إلى ما حدث سنة 1987: انقلاب قيس سعيّد في يوليوز 2021 بِمُبرر حماية الدولة من أخطار تهددها. مركزَ قيس السلطات بين يدي الرئاسة التي تشكل أحد أجهزة الدولة الضامنة للاستقرار السياسي، وبوتقة سلطة البرجوازية، قراراتٌ تمهد طريق سريعًا نحو الاستبداد وإدامة مجتمع الاستغلال الرأسمالي للطبقة العاملة وصغار منتجي الغذاء.

دعم العديد من التنظيمات المنتسبة لصف اليسارِ الانقلابَ، باعتباره استجابةً لتطلعات الشعب، وثمة مِن اليسار مَنْ أفتى بتجريم معارضة الرئيس في الظرف الراهن بمبرر صعوبة المرحلة! وجعل بعضٌ آخر الدفاعَ عن الدستور مرجعية رفضِه لانقلاب قيس.

مرد هذا الدعم اليساري لقيس سعيّد عاملان جوهريان:

  1. عدم الثقة في قوة الطبقة العاملة المتخلفة حاليًّا عما يجري، وبالتالي لا يتراءى دورها التاريخي في ميزان الصراع الدائر حاليًّا، لأسباب عديدة منها: نقابة عمالية تحت سطوة البيروقراطية (الاتحاد العام التونسي للشغل) وطبقة عمالية خاملة سياسيًّا، وغياب معبر سياسي يضم طلائع النضال المنغرسة حقيقة في صفوف العمال . . . إلخ.
  2. التراث الذي تستند عليه قوى اليسار التونسي، الذي يمكن وصفه بِغَير البروليتاري، وبالتالي لا يشغله المنظور الطبقي لتقييم الصراع واستنتاج التكتيكات المناسبة، ويسقط البوصلة العمّالية من حساباته. فمعظمها مفتقر إلى وضوح برنامجي وسياسي يرى الصراع الدائر حاليًّا في بُعده المحلي والأممي، والأهم أن لا انغراسَ لِهذه القوى في صفوف الطبقة العاملة، وسهّل هذا بدوره انزلاق هذه القوى إلى دعم قيس مباشرة أو مداورة.

يسار مُتَشظٍّ وغير عُمّالي

ورد تشبيه طريف لليسار التونسي في ورقة بحثية للمولدي قسومي، نشرها في ملف تحت عنوان «خارطة اليسار العربي»، حيث كتب:

يختزل اليسار التونسي كل التكوينات التي أنتجها اليسار في العالم طيلة ما يزيد عن قرنين من الزمن (نقصد منذ مشاركة اليسار في الثورة الفرنسية ومناداته بالعدالة الاجتماعية والجمهورية المساواتية). ولكن ما يثير الانتباه أننا نجد في صلب اليسار التونسي حالة تزامن غريب بين كل تلك النماذج والتجارب التي لم يكن بالإمكان أن توجد إلا في صيغة التعاقب.

لكن معضلة معظم اليسار التونسي الرئيسية هي أُصوله غير العمالية. منذ حلّ بورقيبة الحزب الشيوعي التونسي سنة 1962، ساهم السياق الإقليمي في إضفاء سمات مشتركة بين اليسار التونسي ويسار عموم المنطقة العربية والمغاربية. إنها الطبيعة غير الطبقية/العمالية، أي كونه يسارًا قوميًّا وطنيًّا وطلابيًّا، تغلب فيه النزعة القُطرية، ويغيب المنظور الأممي الذي استُعيضَ عنه بمنطق معسكراتي، منطق جعل الجبهة الشعبية تزور دمشق في موقف داعم لبشار الأسد. انتقده الراحل سلامة كيلة وفسر موقف الدعم هذا بقوله إن اليسار التونسي «غارق في الوضع التونسي».

فتحت السيرورة الثورية بالمنطقة أفقا رحبًا للتغيير الثوري يقطع مع المنظور المحصور داخل بلد واحد، الذي يمثل إحدى ثوابت اليسار التونسي البرنامجية (على غرار بقية يسار المنطقة). ولكن يبدو أن هذه السمة لا زالت إحدى ثوابته، بدليل عدم استحضار دروس التجربة المصرية ودعم أقسام من اليسار هناك لانقلاب السيسي سنة 2013.

غياب الاستقلالية السياسية لدى أقسام اليسار التونسي ليست جديدة، ويظهر هذا في تاريخ تحالفات هذه الأقسام مع مختلف الأجنحة السياسية البرجوازية قبل الثورة وبعدها:

  • دعم زين العابدين بن علي بعد وصوله إلى السلطة في نوفمبر 1987.
  • تحالف اليسار (وضمنه حزب العمال الشيوعي) مع الإسلاميين في حركة 18 أكتوبر قبل الثورة.
  • تحالف في إطار جبهة الانقاذ جمع بين قوة اليسار (بما فيها مكونات الجبهة الشعبية وغيرها من الأحزاب اليسارية) ولقوى الليبرالية والديمقراطية بهدف إسقاط الائتلاف الحاكم الذي تقوده حركة النهضة.

قيس سعيّد: الانقلاب حفاظًا على هيبة الدولة

لقد كان إنجلز على حق حين عرّف جهاز الدولة على أنه «عصابة من الرجال المسلحين»، وقد أغنى التراث الماركسي الحياة السياسية بأدوات تغيير وفهم الطبيعة الطبقية للدولة الرأسمالية. ولكن اليساريين قلما استندوا إلى هذه الذخيرة النظرية الثورية، لا سيما في المحطات التاريخية حيث تتصادم الطبقات، فتغيب البوصلة الماركسية عن ناظرهم كلما علا غبار الصراع الطبقي.

ليس مرد هذا البُعد عن التراث الماركسي جهل قوى اليسار أو كسلها، بل هو نتاج جذورها الطبقية ورؤيتها السياسية المحكومة بمنظورات وطنية/قومية، فمعظم قوى اليسار التونسي قومية وبعثية وناصرية الأصول.

لم يتقادم تعريف إنجلز أعلاه، بل أخذ كامل معناه في السيرورة الثورية طويلة الأمد، حين هزت انتفاضات شعبية انظمة الاستبداد، واسقطت بعضًا من أعتى طغاة منطقتنا، في سبيل التغيير الاجتماعي والسياسي. لجأت الطبقة السائدة وأنظمتها إلى «زمرة الرجال المسلحين» في أكثر من بلد لحشد قوى الثورة المضادة والقضاء على الثورات، بالسلاح أو بالوجه الأخر للثورة المضادة، أي: الانتخابات البرجوازية. التي اعتلت فيها الأصولية الدينية سُدة الحكم.

يتربع قيس سعيّد، على جهاز الدولة مستعينًا في انقلابه بزمرة الرجال المسلحين. لقد قام قيس بالانقلاب كي يعيد إلى الدولة البرجوازية هيبتها وصلابتها تجاه من يشكلون عليها خطرًا داهمًا، أي الطبقات الاجتماعية المتضررة من الوضع المعيشي، في ظل انتشار الوباء وتأزم الأوضاع. وشرائح التونسيين العريضة هذه يهابها الحكام، ويخشون انفلاتها من عقالها بعد فشل حركة النهضة في ردعها، بل نالت الأخيرة حقدها وأججت غضبها. وليس الوضع مقتصرًا على تونس، بل له ارتدادات إقليمية، ستكون مشابهة لما جرى سنة 2011، إن تزحزح الوضع الحالي، وخرج ملايين التونسيين إلى الشوارع، قد يشعل فتيل انتفاضةٍ عارمة في عموم المنطقة. ولهذا حظي الانقلاب التونسي بمباركة الإمارات ومصر، فضلًا عن دعم ظاهر أو خفي من القوى الإمبريالية العالمية.

استجاب قيس سعيّد، لـ «تطلعات» من هم فوق، وقطع طريق تدفق الغضب الشعبي، بالتضحية بحزب النهضة أحد أهم فصائل الثورة المضادة في تونس. وكان الانقلاب إجراءً لكبح «تطلعات» من هم تحت.

فلا الطبقة العاملة قادرة على أخذ زمام المبادرة، ولا جهاز الدولة «حكومة النهضة» قادر على التحكم في الوضع. المعادلة هنا هي: الفرصة الآن لِقيس بعد فشل النهضة.

تسير الأحداث، إذن، في اتجاه عكس ما يقول قسم من اليسار التونسي تمامًا: «قيس سعيّد جاء استجابةً لنداء الجماهير»، يا لها من حكمة سياسية تلك التي ترفع الأعداء إلى مصافِ الأصدقاء!

عرضًا، يمكن تفسير رفض بعض من اليسار اعتبار ما فعله رئيس تونس انقلابًا بكون قيس لا ينحدر من بنيةٍ عسكرية، ومنتخبٌ قبل قيامه بالانقلاب، عكس عبد الفتاح السيسي عضو المجلس العسكري الذي حكم بعد إسقاط مبارك، المخلوع أيضًا من قِبل المجلس العسكري خشية تَجَذُّر الثورة. وكان السيسي وزير دفاع حكومة مرسي، وانقلب عليه . . . ولم يجر انتخابه رئيسًا إلا بعد الانقلاب، وبطريقة غير ديمقراطية: استبعاد جميع المرشحين، وترشحه وحده . . . لكن بالعودة إلى انقلاب 30 يونيو 2013، وما تبعه من تهليلٍ، نرى مسوغات أنصار السيسي للترشح الى الرئاسة وتوليه الحكم هي ذات ما يقوله أنصار قيس اليوم مع فارق البزة العسكرية. فكشفت الأيام وهْمَ داعمي انقلاب السيسي، كما ستكشف وهم داعمي انقلاب قيس سعيّد عاجلًا أم آجلًا.

وهناك حجة أخرى، تونس لم تشهد الاعتقالات الجماعية وتكميم الأفواه كما هو الحال في مصر تحت حكم السيسي. ولكن هذه مجرد بداية، والسيسي بدوره لم يقم بذلك حين انقلابه، بل احتاج الأمر وقتًا لتصليب قواعد حكمه وطالب بتفويض شعبي لبدء القمع. وبدايةُ هذا في تونس هو تصريح قيس: «سنحاسب كل من يتطاول على رئيس الدولة»!

إذا كان التونسيون قد ثاروا نهاية عام 2010 فذلك لإسقاط رئيس الدولة، وليس فقط التطاول عليه.

اليسار التونسي والانقلاب

تُجْمِع قوى اليسار التونسي على اعتبار التيار الإسلامي أشرس الأعداء السياسيين، الذي يحظى بتمويل خليجي سخي، وبدعم أقسام من البرجوازية التونسية التي تأمل أن يعيد الاستقرار ويقمع الحركات والتنسيقيات المناضلة التي تعج بها البلاد منذ 2011.

يعود هذا إلى المناخ السياسي لما بعد ثورة 2011، كما إلى ما قبلها ببعيد. وانحصر وجود اليسار التونسي قبل الثورة في الحقل النقابي والحقوقي، وشكل إسقاط بن علي فرصة لتقدم اليسار ببرنامج للتغير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ولكن حركة النهضة الإسلامية اكتسحت الساحة (بعد تواري النقابة العمالية) مدعومةً من الرجعية الإقليمية خاصة قطر، ومن تكتيك الإمبريالية الأمريكية القائمة على إشراك قوى الإسلام السياسي في صيغة انتقال سلمي للسلطة. وَضَع هذا اليسار التونسي في عزلة خانقةٍ وبين شقّي رُحى قطبي الثورة المضادة: أحزاب النظام القديم والقوى الإسلامية.

معضلة اليسار التونسي الكبرى هي اعتبارهُ جناحَ الثورة المضادة الآخر (بقايا البِنْعليّة وأطراف برجوازية أخرى)، حليفًا استراتيجيًّا ضد الاسلاميين، وحتى حليفًا بدونِ التزام قواعد التحالف معه (الحذر من الحليف، وعدم إضفاء فضائل أيديولوجية عليه، ما يخدع الجماهير بصدد حقيقته الطبقية)، كما وقع سنة 2013 عندما أسست أحزاب يسارية (ضمنها الجبهة الشعبية) إلى جانب «نداء تونس»، جبهةَ الإنقاذ الوطني، وكان ضمن أهدافها: «تصحيح مسار الثورة واستكمال صياغة الدستور»!

كان هذا أحد أبرز الأسباب الضاغطة التي دفعت أقسام من اليسار التونسي إلى الارتماء في أحضان الرئيس ودعم «تصحيح مسار الثورة»، والحالُ أنه دعم تصحيح مسار الثورة المضادة.

وهي ذات المبررات للقوى اليسارية في مصر: «ما كان يوحد ذلك التحالف كان الكراهية المشتركة للإخوان المسلمين والرغبة في التخلُّص من حكمهم بأيِّ ثمن، بما في ذلك القبول بديكتاتورية عسكرية تصور بعضهم أنها ستكون مؤقتة».

بالنظر إلى غياب الانتماء البروليتاري الصريح لليسار التونسي باستخلاص الدروس التاريخية للطبقة العاملة حول الاحداث، فإنه يجرد نفسه من عناء فهم ما يجري: «لا يهمّنا النقاش الشكلي العقيم حول الدستور والقوانين وتوصيف ما حصل بالانقلاب من عدمه . . .». هذا الموقف، له مستتبعات سياسية ليس أقلّها ترك الجماهير فريسةَ الخداعِ الدستوري الذي استند عليه انقلاب الرئيس قيس، وبالتالي دعمًا ضمنيًّا للانقلاب.

وجاء في بيان جماعة حزب النهج الشيوعي: «إنّ ما أقدم عليه رئيس الجمهورية يمثل استجابة جزئيّةً وهشّةً لِتطلعات الشعب تتطلب منا أقصى درجات اليقظة والتعبئة من أجل فتح أفق جديد للنضال الثوري التحرري في بلادنا»، وبهذا يفقد الحزب أي استقلال طبقي، ويدعم الانقلاب تحت غطاء «تطلعات الشعب»، التطلعات، التي لم يستطع أي من القوى اليسارية طيلة عقدٍ من السيرورة الثورية أن يكون مُمثلًا لها.

ويبقى موقف حزب العمال التونسي متفردًا في هذه الجوقة الداعمة (صراحةً أو ضمنًا للانقلاب)، وكان منظوره سليمًا مقارنة بباقي الطيف اليساري، حيث أصدر الحزب بيانًا بعنوان «تصحيح مسار الثورة لا يكون بالانقلابات وبالحكم الفردي المطلق»، أكد فيه أن «التغيير المنشود لا يمكن أن يكون بمساندة انقلاب قيس ولا بالتحالف مع حركة النهضة»، و«جدد الدعوة إلى إسقاط منظومة الحكم برمتها، رئاسةً وبرلمانًا وحكومةً».

إنه الموقف السليم الوحيد الذي كان نشازًا في سيمفونية اليسار التونسي، لكنه مشوبٌ ببعض النواقص أهمّها وضع المبررات الدستورية في مقدمة رفض الانقلاب، الذي اعتبره الحزب «من الناحية القانونية خرقًا واضحًا للدستور»، وعدم استحضار كون ما قام به قيس سعيد ليس إلا تتويجًا لمحاولات قديمة لترسيخ سلطة تنفيذية قوية (محاولات القايد باجي السبسي) حيث ورد في بيان الحزب أن ما قام به قيس «يدشن مسار انقلاب باتجاه إعادة إرساء نظام الحكم الفردي المطلق من جديد».

من نقاط قصور موقف حزب العمال أيضًا وصفه دعم المؤسسة العسكرية لانقلاب قيس بـ «إقحامها في صراع أجنحة المنظومة»، وكأن المؤسسة العسكرية ليست بذاتها أداةً من أدوات القمع في يد المنظومة.

ولمواجهة الانقلاب دعا الحزب «كل القوى الديمقراطية والتقدمية، أحزابًا ومنظمات وجمعيات وفعاليات وشخصيات إلى التعجيل بالالتقاء حول آلية للتشاور من أجل صياغة تصور موحد لمواجهة هذه التطورات»، وهي دعوة إن كانت سليمة من حيث المبدأ، إلا أن طابعها العام يذكرنا مرة أخرى بسابقة جبهة الإنقاذ التونسية سنة 2013.

إن أي صيغة تحالف إلى جانب استحضار شروطها (نقد من ندعوهم للتحالف والحذر منهم)، تستدعي في الجهة المقابلة دعوة الطبقة العاملة للاحتشاد في مواقع العمل والدفع بنقابتها من أجل مواجهة مخططات الثورة المضادة بقطبيها الحداثي/الليبرالي والرجعي الديني، وليس الركض وراء سراب التوافق.

لقد أظهر مسار الثورة التونسية (وعموم المنطقة) درسًا تاريخيًّا أكدته الثورات والثورات المضادة طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين: إما ديكتاتورية برجوازية أو ديكتاتورية عمالية مستندة على مفقري المدن والقرى، وكل الصيغ الوسيطة تتلاشى تحت وقع الصراع الطبقي الحاد. هذا الدرس غائب تمامًا عن بيان حزب العمال، فموقفه السليم إجمالًا من انقلاب قيس سعيد مُقيّد بمنظور مراحلي يترجم «الديمقراطية الشعبية» التي يطالب إلى صيغة سياسية قوامها «الدولة المدنية والسلطة بيد الشعب»، دون توضيح الطبيعة الطبقية لتلك الدولة المدنية.

الطبقة العاملة التونسية

درجت بيانات التيارات والأحزاب اليسارية لحظة الانقلاب على الاستعانة بمفاهيم عامة لا ملامح طبقية لها، مثل «الطبقات الشعبية». عوض الاستعانة بمفاهيم عمالية لا يخلو منها التراث الماركسي، بل ازدادت غنىً. ليس هذا إلا موقفًا طبقيًّا صريحًا من تفادي الأدوات الثورية في سبيل فهم الدور التاريخي للطبقة العاملة خلال العملية الثورية، فلا حسم للسلطة السياسية إلا تحت إمرة العمال، وبقيادة حزب عمالي اشتراكي ثوري، وهذا ما لا تقدره تلك القوى، التي تغض الطرف عن هذا الدور، نظرًا إلى الضعف السياسي الحالي للعمال، الطبقة غير المرئية.

وبالعودة إلى تاريخ الثورة التونسية، لقد كان الاتحاد العام التونسي القطب الرئيس في الصراع سنة 2010 حين أعلن الإضراب العام المتنقل الذي بلغ العاصمة في يناير 2011، وفرّ على إثره بن علي.

تسير قيادة نقابة الاتحاد العام التونسي للشغل على نفس النهج الذي اتبعته غالبية القوى اليسارية في بياناتها، حيث جاء في ديباجة بيان النقابة بعد انقلاب سعيّد أن: «التدابير الاستثنائية التي اتّخذها رئيس الجمهورية وفق الفصل 80 من الدستور توقّيًا من الخطر الداهم وسعيًا إلى إرجاع السير العادي لدواليب الدولة». هكذا ترى البيروقراطية النقابية التونسية، ما يعتمل في أعماق المجتمع، فبدل التدخل المباشر في الصراع للذود عن مصالح الطبقة العاملة التاريخية، بالتعبئة والدعوة إلى الاضراب العام من أجل ضمان حقوق الأُجراء وانتزاع مكاسب سياسية واجتماعية واقتصادية فهي تدعم صراحة «إرجاع السير العادي لدواليب الدولة».

سير الدولة العادي، لا يكون إلا بالسحق المبين للأُجراء في دوامة الاستغلال الرأسمالي لصالح قلة من رجال الأعمال المترفين، وهذا تدركه جيدًا قيادة النقابة إلا أنها تتوارى عنه بالمزيد من تضليل الأجراء، للحفاظ على مكاسبها البيروقراطية، وما كان فوزها بجائزة نوبل للسلام – المثيرة دومًا للريبة – غير هديةٍ من البرجوازية نظير خدمة سياسية جليلة.

والطبقة العاملة هي عصب كل تغيير ثوري، فعلى الثوار الحاملين لمشعل الثورة الاشتراكية في تونس وعموم المنطقة، أن يتوجهوا صوب القوة الحقيقية القادرة على قلب الأوضاع رأسًا على عقب، أي طبقة الأجراء، واستنهاض هممها الثورية.

سيدعم الإمبرياليون والأنظمة العربية والبرجوازيون انقلاب قيس سعيّد، وسيكدّون في أن يحقق مراميه الأصيلة بسحق المسار الثوري، ويبقى واجب الثوريين أن يرفضوا هذا الانقلاب ويشهروا به وبمستتبعاته وأن يعملوا حقًا على رفع الراية الماركسية الثورية عاليًا.

إن رفض الصراع الطبقي لا يعني انتفاءه في الواقع، والعجز على استجلاء مظاهره الخفية والحادة لا يعني أنه لم يعد القانون الحاكم لتطور المجتمع. وإن غياب مفاهيم مثل «الطبقة العاملة» و«الصراع الطبقي» من بيانات اليسار التونسي يعبر عن مدى تغلغل الأيديولوجية النيوليبرالية في أعماق وعي هذه التيارات، وهو ما انتقده بِحدة الجغرافي الماركسي ديفيد هارفي في كتابه «الليبرالية الجديدة (موجز تاريخي)» بقول:

يشير تاريخ الليبرالية المتجذرة برمته، والتحول اللاحق إلى الليبرالية الجديدة، إلى الدور الحاسم الذي يلعبه الصراع الطبقي في كبح أو استعادة سلطة النخبة الطبقية. وعلى الرغم من أنه بقي متنكرًا بطريقة فعالة وراء أقنعة شتى، فقد عشنا جيلًا كاملًا من التخطيط الاستراتيجي المحنك، قامت به النخب الحاكمة لاستعادة أو تعزيز، أو (كما في الصين وروسيا) تشكيل سلطة طبقية طاغية. ويوضح التحول الأبعد إلى الفكر المحافظ الجديد المدى الذي تبدي النخب الاقتصادية استعدادها للذهاب إليه، والاستراتيجيات الاستبدادية المستعدة لاستخدامها حفاظًا على سلطتها – وقد حدث كل ذلك خلال عقود كانت فيها مؤسسات الطبقة العاملة في انحدار مطرد، واقتنع العديد من التقدميين أن الطبقة فئة لا معنى لها، أو على الأقل مفهوم بائد. في الحقيقة، يبدو أن المفكرين التقدمين بألوانهم كافة استسلموا للتفكير الليبرالي الجديد، الذي تشدد إحدى مقولاته الأساس على أن الطبقة فئة وهمية زائفة لا وجود لها إلا في مخيلة الاشتراكيين والشيوعيين المتخفين . . . لذلك يبقى الدرس الأول الذي ينبغي علينا تعلمه هو أنه إذا كانت الأمور تبدو كصراع طبقي، وإذا كانت تفعل فعل الحرب الطبقية، فعلينا ألا نخجل من تسميتها باسمها. وعلى جماهير الشعب إما أن تذعن إلى المسار التاريخي والجغرافي كما حددته سلطة الطبقة العليا الطاغية والمتزايدة باطراد، أو الاستجابة لها ومواجهتها بمواقف وتعابير طبقية.

إلى البروليتاريا دُر.

Skip to content