تاريخ منجم مغربي قديم ومستقبل الانتقال الطاقي العالمي

عندما خرجت الاحتجاجات ضد محطة جديدة للطاقة الشمسية في جنوب شرق المغرب عام 2011، رأى فيها مسؤولو الدولة وسكان الأرياف على حدٍّ سواء صورةً شبيهةً بِصراعات دائرة حول منجم كوبالت قريب.[1] وبينما انشغل المسؤولون بمحاولة ترويض المعارضة السياسية لحماية تلك المشروعات الكبرى، أثقلتْ أذهانَ السكان بواعثُ قلقٍ أخرى، إذ ارتكزت شواغلهم المحورية حول مسألة من يملك هذه الموارد، أي: الأرض التي تنهض عليها المشروعات والثروات التي تولدها. فقد أراد السكّان فرصَ العمل والتنمية الاقتصادية تلك التي وعدت بها الدعاياتُ المروجة للمشروعات. وكان لتلك الصراعات حول استخراج الفضة والكوبالت والفوسفاط، ومشاريع الطاقة المتجددة، أن أخذت بالتعاظم من ذلك العام فطالعًا، وبات أهالي الأرياف مع مرور الوقت يشيرون إلى أوجه الشبه بين الآثار الاقتصادية والإيكولوجية والسياسية لمشاريع هاذين القطاعيْن رغم اختلافهما الظاهري.[2] وما يشغلهم ليس آثارها المادية عليهم وحسب (مثل شحّ فرص العمل، وضعف الاستثمار في الاقتصاد المحلي، وتسييج الثروات المائية الضئيلة) فحديثهم لا يكتمل دون التأكيد بأنّ الديناميات السياسية لهاذين القطاعين المختلفين تعبّر عن أشكال مزمنة للقمع والتهميش. وذلك لأنّ أوجه الشبه الظاهرية بين التعدين وإنتاج الطاقة الشمسية لا تقف عند ظاهرة اختلال موازين القوة، حيث يُطلَب من سكّان الأرياف المُهمَّشين أنْ يتحملوا – مرةً أخرى – كلفة التنمية الوطنية التي ستعود فوائدها لصالح الشركات الخاصة وسلطة الدولة. الواقعُ أن هذه الاستمرارية، من الاستخراج إلى الطاقة المتجددة، تثير تساؤلاتٍ حول كيفية العمل من أجل انتقال طاقيٍّ عادلٍ، ليس للمغرب فحسب، إنّما لكافة دول العالم التي تسعى إلى زيادة مشروعاتها للطاقة المتجددة، التي تُقام عادةً في مناطق ذات تاريخ طويل من التعدين. أنّى لنا أن ندعو إلى اعتماد أشكال جديدة من الطاقة لا تعيد إنتاج نفس أوجه اللامساواة الاقتصادية والسياسية المتأصلة في الرأسمالية المسيّرة بالوقود الأحفوري؟ إن تشخيص ما علينا «تركُه» خطوةٌ ضروريةٌ لتحديد ما نريد «الوصول إليه» في هذا الانتقال. وهكذا تشخيصٌ لا يقف عندَ النقد، فلا بدّ هنا من تحديد أشكال وأنماط «السياسة الجماعية» اللازمة لإنتاج انتقال عادل.

يحتاج العمل نحو تحقيق انتقال عادل إلى الاستكشاف ورسمِ خارطةٍ مفصلةٍ تشرح كيف يحدث إنتاج الطاقة في كلّ مكانٍ معيّن. فإنْ أزحنا تركيزنا عن المستويات العليا للسياسة الوطنية أو الدولية، ما الإجراءات البيروقراطية والقانونية التي تبعث في هذه المشاريع روحًا تخدم محيطها البشريّ والحضري؟ ويمكن لهكذا خارطة أنْ توثّق كيفيات تعبئةِ الناس على المستوى المحلي بأشكال تخدمهم، وإنْ ظهر عليهم افتقارٌ مدقعٌ للقوة. هذا «التمرين» السياسي والتحليلي مهمٌّ بصورة خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ أنّ المناقشات حول الانتقال العادل في المنطقة كثيرًا ما تنعطف باتجاه الحوكمة الديمقراطية والأولوية التي تأخذها سياسات التمثيل الشعبي والشفافية وإعادة التوزيع والمحاسبة في الحراك الاجتماعي، على حساب إطار العدالة المناخية والبيئة.[3] إنّ التركيز على الانتقال الطاقي العادل بصفته سيرورةً، تتحرّك – جزئيًّا على الأقل – بالمواجهات اليومية بين السكان وأصحاب القوّة، سيساعدنا في نقلِ تشديدنا الأساسي منَ الدَمَقْرَطة بصفتها شرطًا مسبقًا لانتقالٍ عادلٍ، وإلى الدَمَقْرَطة بصفتها خطوة مهمة في هذا الانتقال.

الانتقال العادل في المغرب

في خريف 2021، أثناء التجهيز لإطلاق المحادثات المناخية بالأمم المتحدة (COP26) في جلاسجو، ابتدأ مشروعٌ بحثيٍّ عملي تعاوني بين مُؤلِّفة هذا النص وشركاءَ مغاربة، في محاولةٍ للتصدي للمطالب الراهنة الملحّة للعدالة المناخية. والهدف من هذا الجُهد هو الاستفادة من قرابة عشر سنوات من الخبرات المعنيّة بِبُعْدٍ مُحدَّدٍ من عمليّة دمقرطَة الحركة نحو انتقالٍ عادل. وهذا المشروع الجديد هدف إلى دمقرطة المعرفة حول الاستخراج والحوكمة المحلية في جنوب شرق المغرب، في محاولة لدعم الأشكال المتعددة لحراك الناس وتعبئتهم. وفي عمل شركاء المشروع ضمن شبكة أوسع من نشطاء حقوق الإنسان والمجتمع المدني، أدّوا دور الوسيط في العلاقات بين مختلف الجماعات التي تقطن محيط منجم فضة إميضر من جهة، وشركة منجم إميضر التي احتجّوا ضدّها من جهة أخرى.[4] وأسفَرَ هذا الجُهد الذي استغرق عددًا من السنوات (2012-2015) عن برنامج مسؤولية اجتماعية، تبنته الشركة الأم التي تنشط بمناجم في مناطق جنوب شرق المغرب.[5] وبينما كانت نتائجُ هذه الجهود السابقة متباينة في أفضل تقدير، فقد نهل النشطاء منها دروسًا مهمة حول طرق إحداث التأثير المرغوب بعملهم كوسطاء في هذه القضية ومناصرين للعدالة الاجتماعية، ومن بوتقة هذه الدروس أسِّستْ جمعية الارتقاء بالوساطة في المغرب، في عام 2017، وأطلقت مبادرة البحث العَمَليّ، في خريف 2021.

يطرح هذا المشروع البحثي العَمَليّ، في سبيل إنجازِ انتقالٍ عادل في المغرب، أسئلةً مهمّةً من نوعين:

1) ما القوانين والسياسات والتنظيمات البيروقراطية التي تحكم مشروعات الاستخراج الكبرى ومشروعات الطاقة المتجددة الضخمة؟

2) كيف تُسهم علاقات القوة المحيطة بالاستخراج والطاقة المتجددة، على المستوى المحلي، في تشكيل الحياة اليومية للسكان؟

سيكون من الخطأ النظر إلى سيرورةِ الأخذ والرد اليومية التي تَصيغُ، بجملتها، السياسةَ في الأرياف، وكأنها تفاعلاتٌ ضيقةُ النطاقِ محلّيةُ الأثرِ لا أكثر، فأهميتها تمتدّ إلى عدّة مستويات: من إدراكِ أشكال الحراك السياسي ذات الأهمية لسكان الأرياف، وإلى التمكين منْ تحديد مداخل التفاعل أو المقاومة التي تتيح تغيير وجهة مشروعاتٍ معيّنة. وتوسعةُ العدسة هذه يحتاجها برنامجُ الانتقال العادل في المغرب (والمنطقة ككل) بمجمله، لكيلا ينحصر تركيزه على موضوعَيّ الطاقة أو الاستخراج، ويدرك كيف يعمل السكان على إدماج هذه المشاريع في أهدافهم السياسية الأوسع. فمناطق أرياف جنوب شرق المغرب ليست مجرد طرفٍ مقابلَ الدول الغنية (أو حتى طرفٍ مقابل المراكز الحضرية في المغرب) التي تسعى للتخلص من التكلفة البيئية لانتقالها الطاقي بِرَميهِ على كاهل الجنوب العالمي، بل هي مركزٌ للممارسة السياسية الواجب أخذها في عين الاعتبار بصفتها نقطة بدءٍ لإدراكِ أفقِ الانتقال العادل في مناطق شمال أفريقيا ذات البيئة القاحلة، ولا سيما نظرًا لأهمية أرياف المغرب في المعارضة السياسية في البلاد على مدار العقد المنقضي.[6]

يستعرض هذا المقال كيف يمكن لرسم خارطة القوة، وتحليل التدابير البيروقراطية، أن يساعد في دمقرطة المعرفة في مجال الاستخراج وإنتاج الطاقة، وذلك بهدف دعم الحركات المحلية والإقليمية في مسار الانتقال العادل. وعلى عملية رسم الخارطة هذه أن تكون مشروعًا تعاونيًّا وناقدًا يُشرِك سكان مناطق الاستخراج، بغضّ النظر عن خلفياتهم وخبراتهم المعرفية أو مستوى فهمهم للغة حقوق الإنسان الخاصة بالحركات الاجتماعية العالمية. يُقَدِّم السكان رؤىً فريدةً من نوعها حول السياسة المحيطة بالاستخراج، رؤىً تبيّنُ التحليل السياقي الأوسع للحوكمة الريفية من أجل انتقالٍ عادل. والبرنامجُ المطروحُ هنا عامٌّ بنحوٍ قابلٍ للتطبيق على سياقات أخرى، فهو في حقيقة الأمر خرجَ من كنف مشاركة المؤلِّفة في أعمال الانتقال العادل في مناجم فحم جبال الأبلاش الوسطى في الولايات المتحدة الأمريكية. والمقال يبدأ بوصف السياق المعاصر للاستخراج التقليدي والطاقة المتجددة في جنوب شرق المغرب، ومن ثم يوضح منهجية رسم خارطة ذات أربع نقاط اتّصالٍ بين الماضي والحاضر، أو بالأحرى: بين التعدين وإنتاج الطاقة المتجددة، فنفسُ الأطراف ونفس المصالح المالية لها دورٌ في القطاعين، القديم والجديد، ويتجه المقال – أخيرًا – إلى توضيح الأطر القانونية والبيروقراطية الحاكمة لهذين الصنفين من المشروعات، ونظم جني الربح المحلية، والمطالبات السياسية المحيطة بمسائل التمثيل وإعادة التوزيع.

مختلف أشكال الاستخراج في جنوب شرقيّ المغرب

ما يدفع هذا التحليل وما ينتمي له من مبادرة بحثٍ عَمَليٍّ أوسعٍ، نابعٌ من السعي وراء فهم أوجه الشبه والتوازي بين مشاريع الطاقة الشمسية وأعمال التعدين التقليدية، المذكورة في مطلع هذا المقال. فبعد الإعلان عن مشروع «نور» للطاقة الشمسية في 2010 (بهدف ربطه بالشبكة العمومية في ورزازات) بصفته «قطيعةً نظيفةً مع الماضي»، احتفيَ بمحطة الطاقة الشمسية المُركّزة هناك كمشروع أساسي وكبير في خطة المغرب للطاقة الشمسية، حيث تَقَرَّر نقل البلاد من الاعتماد شبه الكامل على الوقود الأحفوري المستورَد من الخارج إلى إنتاج 52 بالمئة من طاقة المملكة من المصادر المتجددة بحلول عام 2030.[7] ورغم الاحتفاء الدولي بهذا الهدف الطموح، واعتماد الحكومة الملحوظ على التأطير البيئي لسياستها الخاصة بالطاقة، فقد تخلل دينامياته المحلية والدولية التناقضُ والتقلّب منذ بداية المشروع. فإشارةُ النشطاء والسكان والمسؤولين الحكوميين الصريحة إلى أوجه الشبه بين المظاهرات حول نقل ملكية الأراضي والاحتجاجات العمّالية والبيئية المعنيّة بمنجم الكوبالت في بوازار – الذي لا يبعد أكثر من 200 كيلومتر – تعبر عن إدراكٍ واسعٍ بأن قضية الطاقة الشمسية، رغم خطاب «الانتقال الطاقي» التجميلي المحيط بالمشروع، قضيةٌ تعود جذورها إلى تاريخ طويل من الاستخراج بمناطق الجنوب الشرقي القاحلة بالمملكة.

وهذا التاريخ الطويل للاستخراج يشهد في مناجم كمنجم الفضة في إميضر، إذ يعود ذكره إلى مؤرخي العهد الإسلامي الكلاسيكي، في حين رجّح سكّان زاكورة، أثناء مراحل البحث الأولية للمشروع، أن بعض المناجم في منطقتهم فُتِحت أيام الدولة الموحّدية (القرن الثاني عشر)، إلا أنّ المناجم الحديثة بالمنطقة بدأ عملها مع «الحماية الفرنسية» وما صاحبها من نزعة استخراجية مكثّفة نفّذها المُضاربون ورجال الصناعة والحكام الجهويين (القادة)، الذين فرضوا الحكم الفرنسي على مغاربة مناطق الجنوب الشرقي.[8] فالبحوث الأولية في الأرشيف المغربي تشير إلى أن المضاربات حول وأعمال استغلال المناجم في الجنوب الشرقي تعود إلى ما قبل فرض «الحماية الفرنسية»، وإلى ما قبل الانتصار العسكري الفرنسي الحاسم في بوغافر (إقليم تنغير حاليًا) عام 1933. وكان التعدين مرتبطًا كلّ الارتباط بالصراع حول السلطة المُخوَّلة لحاكم الإقليم، أي: باشا مراكش والقايد التهامي الكلاوي. ففي حكومة الحماية الفرنسية نشأ قسمان، قسمٌ طالب بتمكين الكلاوي من الحُكم، وآخر انحازَ إلى المصالح المالية الأوروبية التي احتاجت للنهوض بقطاع استخراجي يعتمد على القطاع الخاص بشكل كامل، ليُحسَم الصراع لصالح الرأي الثاني ويصبح منجم كوبالت بوازار – الذي تأسس في 1928 عبر تحالف بين رأس المال الفرنسي والكلاوي –  واحدًا من المناجم التي تملكها الشركة القابضة العامة الواقعة تحت سيطرة العائلة المالكة، والتي سيصبح اسمها فيما بعد «مناجم»، لتنتهي هذه المناجم (في إميضر وبوازار والبليدة) مواقعَ للاحتجاج والتعبئة الاجتماعية ابتداءً من 2010.

إنّ تعقّب تاريخ الاستخراج هذا وفهمه عنصرٌ مهمّ من عناصر مبادرة البحث العَمَلي التي بدأت في خريف 2021، لكشفه مضمون الأيديولوجيات الحاكمة القائمة منذ زمن طويل، والمستمرة في إدارة العمل الاستخراجي وإدارة الموارد الطبيعية بشكل عام. كما يكشف هذا التقصّي عن علاقات الإكراه الغاشمة المستمرة في مصادرة هذه الموارد في خدمة المصالح الأجنبية أو النخبة المغربية، فحتى المبادرات التي تبدو تقدمية (مثل مبادرات الطاقة الشمسية) يجب أن تُفهم في سياق هذا التاريخ بحكم اعتمادها على الأطر القانونية وعلاقات القوة نفسها. وسكّان المنطقة لم يُتَح لهم الاطلاع على القرارات والعقود والوثائق الأخرى التي رَسَّمت تغيير ملكية الأراضي وتصدير الثروات، إذ تقطن (أي: الوثائق) الأرشيفات الفرنسية والأرشيف المغربي المُفتَتح حديثًا، بعيدًا عن أعين من مسَّت حياتهم، ما يؤكد ضرورة إيصال هذه الوثائق إلى أصحاب هذه الثروات الأصليين في سبيل دمقرطة المعرفة المتعلقة بالاستخراج، بالإضافة إلى تسليط الضوء على التاريخ من أجل فهم المتغيرات الاجتماعية المعاصرة المرتبطة بالمشروعات الاستثمارية الكبرى. وهذه الحاجة إلى الفهم التاريخ ليست مشروطةً بنوع الموارد موضوع البحث، أكانت الكوبالت أو الفضة أو المياه المستخدمة في الإنتاج التجاري للبطيخ في وادي درعة الجاف أو الأراضي المستخدَمة لإقامة البنية التحتية الخاصة بمشاريع الطاقة الشمسية. فكلّها مسالك تاريخية مهمةٌ هي الأخرى إنْ أريد إدراكُ نقاط الاتصال بين ماضي التعدين وحاضر الطاقة المتجددة، الأمر الذي يتناوله القسم التالي بتوثيقه مختلف الأطراف والمصالح المالية الداخلة في أعمال الاستخراج والطاقة المتجددة.

أطراف ومصالح مالية متشابهة في الاستخراج التقليدي والطاقة المتجدّدة

هناك قدر كبير من البحوث الأكاديمية والناشطة التي تعقبت ترابط الشركات والمؤسسات المالية الدولية ورأس المال العالمي عبر قطاعَيْ الاستخراج والطاقة المتجددة.[9] وهذا رافد معرفي مهم وضروري لفهم كيف ولماذا يمكن لجهود الانتقال الطاقي أن تُرَسِّخ – بدلًا من أن تتحدّى – علاقات التبعية التي تعود إلى العهد الاستعماري، فما أعمق الاستمرارية بين سلاسل إنتاج سلع الوقود الأحفوري وتصديره وتلك الخاصة بالطاقات المتجددة. والشاهدُ على ذلك كونُ الضغوط الجيوسياسية نحو الانتقال الطاقي في أوروبا لا تقتصر على تحقيق أهداف خفض انبعاثات الكربون، بل تصبُّ أيضًا في مصالح مالية تُركّز على تنويع الباقات الاستثمارية واستخدام المتجدّدات كمصادر جديدة لمراكمة رأس المال،[10] وحتى التزايد المهول في مشاريع الطاقة المتجددة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعكس استمراريةً في العلاقات الجيوسياسية بين الحكومات الأوروبية وشركات الوقود الأحفوري ومنتِجيه في المنطقة. فالجهات المنتجة للوقود الأحفوري تحتل اليوم موقع القيادة والريادة في مجال الطاقة المتجددة، وذلك لما يتوفر لديها من رأس المال وخبرات فيما يتعلق البنية التحتية للطاقة، يضاف إليها حافزُ تنويع مصادر الربح. ومن أوضح التعبيرات لهذه الوضعية مبادرةُ «ديزيرتك» التي تستهدف ربط كامل جنوب حوض المتوسط – بصحاريه – بالشبكة الكهربائية الأوروبية. ورغم أن المبادرة فشلت رسميًّا، فإن منطقها الحاكم يوضح ويفسّر لنا سياسات الطاقة المتجددة المغربية وغيرها من المبادرات الإقليمية، مثل مبادرة «الهيدروجين الأخضر».[11]

كما أنّ تعقّب هذه العلاقات ورصدها يُسَلِّط الضوء على القرارات التقنية والاقتصادية التي تُشكِّل سياسات ومشروعات الطاقة المتجددة في المغرب وخارجه. فعلى سبيل المثال تلقت مشروعات الطاقة المتجددة الكبيرة إشادةً على مستوى انتفاع عموم السكان منها، بتصويرها طريقًا نحو تحقيق وفورات الحجم وتوظيف البُنية التحتية الموجودة لتوصيل الطاقة الشمسية بشبكة الطاقة العمومية. وعلى أساس ذلك بُرِّرَت خطة الطاقة الشمسية المغربية واختيارها التكنولوجي لاعتماد الطاقة الشمسية المُركّزة، رغم أنها – كتكنولوجيا إنتاج طاقة على نطاق واسع – كانت جديدة ولم تختبر جدواها المالية وقت اختيارها في ورزازات.[12] لكن اختيار الطاقة الشمسية المركّزة، بدلًا من تكنولوجيا الألواح الشمسية وبالتحديد بدلًا من الطاقة المتجددة اللامركزية، هو خيارُ ذو هدفين: مركزةُ القوة الاقتصادية والسياسية، ووفورات الحجم. فتوليد الطاقة الشمسية على مستوى الأحياء أو على المستوى الصغير، الذي يتجنّب الربط بالشبكة العمومية، يغلق الطريق أمام فرص مراكمة رأس المال، على عكس ما يقدمه نهج مشاريع الطاقة المتجددة الكبرى بالمغرب. ومراكمة رأس المال هذه يمكن أن تحدث بغض النظر عمّا إذا كانت المشاريع نفسها مربحة عند تشغيلها – فالمشاريع القائمة غير مربحة، وما زال على الدولة المغربية دعم الطاقة التي تنتجها هذه المشاريع الجديدة بغاية تمكين كهربائها من منافسة الكهرباء المُوَلَّدة من الوقود الأحفوري.[13] فالقصة هي أنّ العقود المتعددة من أجل بناء المنشآت (وبدرجة أقل تشغيلها) هي ما يخلق فرص الربح (أو لتحري الدقة: العوائد) الكثيرة تلك. وكثيرٌ من الشركات التي ربحت هذه العقود تابعةٌ لشركات وقود أحفوري، أو هي على الأقل مُمَوَّلةٌ من فائض رأسمال الخليج المنتج للنفط (لا سيما السعودية، موطن «أكوا باور» التي ربحت مناقصة مشروع «نور» في ورزازات). وهذه الشركات تمثل جهدًا للتنويع وعدم الاكتفاء باستثمارات الوقود الأحفوري، يقوم على أرضية علاقاتٍ جيوسياسية قوية صاغتها الحكومة المغربية – بنحوٍ أساسٍ – باستخدام النفط.

ومن المهم فهم تأثير هذه الحسابات الجيوسياسية على حياة الناس اليومية، وإنْ كان لتوثيق هذه السلاسل السلعية أن يؤدي إلى دمقرطة المعرفة حول تحالفات الدول والشركات من أجل مراكمة رأس المال الاستخراجي، فالتوثيق – وحده – لا يكفي، إذ أثمة سؤال أهم: كيف نترجم هذه العلاقات المعقدة ونوضحها للسكان بحيث يمكنهم فهم الصلات بين واقعهم المحلي وتلك العمليات عالمية النطاق؟ على المستوى المحلي، قد لا تبدو السلاسل السلعية العالمية مهمةً، إذ أنّ الدولة والقطاع الخاص يتعمّدان التعتيم على دوريهما وطمس الخطوط الفاصلة بين سلطتيهما. فالمخزن (أي: المؤسسات الحكومية المرتبطة بالملِك والمؤسسات الحكومية غير المنتخبة) والسلطة (وزارة الداخلية والخدمات الأمنية تحديدًا) هي من يقف عادةً في الخطوط الأمامية في مواجهة التعبئة ضدّ «مناجم» وتأمين الاستقرار للشركة، رغم أنها تُعَد رسميًا شركةَ قطاع خاص وأسهمها مطروحة في بورصة الدار البيضاء لكنّها – كما أوضحنا أعلاه – بدأت كشركة الكلاوي، القائد الجهوي من عهد الحماية الفرنسية، قبل أن تنتقل إلى يد الديوان الملكي. فعندما يتحدث السكان عن المشاريع بصفتها آتية من «سيّدنا» إشارة إلى الملك بصفته أمير المؤمنين، تصعُب التفرقة بين المخزن وشركة القطاع الخاص التابعة للملك.

ولكن من غير الواضح ما إذا كان فضحُ هذه السلال العالمية للسلع الطريقَ الأنجع لدعم جهود الانتقال العادل في مناطق الجنوب الشرقي الريفي بالمغرب، ففيما يتعلق بمناجم إميضر وبوازار ذات الملكية الخاصة، ومشاريع الطاقة الشمسية شبه الحكومية في ورزازات، ركّزت المطالب الشعبية طوال العقد الماضي على فرص العمل والاستثمار الريفي والشفافية حول تبذير الموارد (لا سيما المياه) بما يضرّ أهالي المنطقة. وهذه المطالب كانت موحّدةً تقريبًا مع اختلافِ المواقع والموارد المعنية، فالدافع وراء الاعتصام الذي استمر ثماني سنوات قرب منجم فضة إميضر، كان استغلال المياه وقلة فرص العمل بالمنجم، في حين انصبّت هموم الناس فيما يتعلق بمشاريع الطاقة الشمسية في ورزازات، على المياه وقلة فرص العمل المقدمة للأهالي هناك.[14] فاستهلاك المياه في ورزازات – حسب تقدير المسؤولين – يتراوح بين 2.5 و3 مليون متر مكعّب سنويًّا، ولكن الاستهلاك الفعلي أكبر بكثير، الأمر الذي أقرَّت به جهاتٌ رسمية، وهذا نظرًا لما يحتاجه تنظيف عواكس الطاقة الشمسية من كمٍّ ضخمٍ من المياه، في هذه البيئة الصحراوية، ناهيك عن أعطال ومشكلات تكنولوجيا التوربينات البخارية المستخدمة في محطّات الطاقة الشمسية المُركّزة في ورزازات. وأثناء البحوث الأولية في ميدلت، موقع المحطة الشمسية القادم في خطة الطاقة الشمسية المغربية، أفاد المسؤولون الحكوميون المحليون بأنّ المنشأة قيد الإنشاء ستوظّف تكنولوجيا جديدة أقل استهلاكًا للمياه، بهدف توليد 300 ميغاواط أكثر من إنتاجية محطة ورزازات بِسُدسِ استهلاكها للمياه. وإنْ أرجع البعض جزءًا من المشكلات السياسية التي صادفها رئيس الوكالة المغربية للطاقة المستدامة خلال العام الماضي في الجنوب الشرقي إلى المشاكل الجيوسياسية بعلاقات المملكة غير المستتبة مع ألمانيا، فالبعضُ الآخر أرجعها إلى بطء وتيرة العمل على الخطة الشمسية، فضلًا عن ضعف الكفاءة الاقتصادية وكثافة استغلال الموارد في محطة ورزازات.

إلّا أنّ التركيز على مشروع بعينه أو سلسلة سلعيّة بعينها، يُمكن أن يعتّم على التشابهات القائمة بين قطاعَيْ الطاقة المتجددة والاستخراجية التقليدية. ولا شكّ أنّ المقاربة الموقعيّة للانتقال الطاقي العادل ستوسّع منظورنا ليشمل كافة الموارد والاستراتيجيات اللازمة لضمان التحكم في هذه المشاريع الكبيرة، وهي سيطرةٌ ضروريةٌ أيًّا كانت المُستخرجَات. وفي المغرب تتمركز هذه الاستراتيجيات حول السيطرة على الأراضي الجماعية، ولعل هذه هي القضية الأسخن في أرياف بالمغرب (وببعض المناطق الحضرية) على مدار العقديْن الماضيَيْن. وهذا النهج الأوسع يضع الموارد المستخرَجة في سياق سياسات الموارد الأخرى، لا سيما الأرض والماء. وأما بالنسبة للأطراف الفاعلة فهي لا تقتصر على شركات الاستخراج والشركات المقاولة في الطاقة المتجددة، بل ينضمُّ إليهم المستثمرون في الصادرات الزراعية المداومون في البحث عن المياه، وأعضاء الجماعات الإثنية أو الفئات الاجتماعية الأخرى ذات المظالم التاريخية. وهذا البحثُ ليس بحثًا مكتبيًّا، فهو يتطلبُّ انخراطًا أكبر مع السكّان والطرق التي بموجبها يعبّؤون صِلاتهم بأطراف الدولة أو غيرها من السلطات. ويمكن القول إنّ الدخول في تحالفات بحثيّة وناشطة مع مجموعات متنوعة في محيط هذه المشاريع الكبرى أحد سُبلِ بناء الفهم لهذه السياسات المحلية المعقدة. ولهذا، فهذا المنهج ينأى عن الحديث حول تأثير المشروعات على «المجتمع المحلي»، لرفضه فكرة وجودِ مجتمع محلي واحدٍ، ويستهدف البحث بنشاط عن مختلف الرؤى والمواقف.

الصراع حول الأرض وسياسة الموارد في السياق القانوني والبيروقراطي

تتضح لسكّان الأريافِ عمليةُ رسم خارطة النمط الاستخراجي، بما يشمل الاستخراج التقليدي والمتجدِّدات، عندما ينتقل التركيز إلى القوانين والإجراءات البيروقراطية المستعملة في تنفيذ مشروع بعينه في منطقتهم. وحتى مع التسليم بالاختلاف الكبير في تاريخِ كلِّ مشروعٍ من هذه المشاريع الكبرى في جنوب شرق المغرب عن تاريخ أخواته – فشتّان بين منجم الكوبالت في بوازار الذي افتُتح في 1928 قبل السيطرة العسكرية الفرنسية على المنطقة، وخطاب الطاقة المتجددة المستقبلي والمعولم الذي يؤطر خطة الطاقة الشمسية – فالتعدين والطاقة المتجددة يتركّزان في المناطق نفسها ويستعينان بذاتِ القوانين والعمليات البيروقراطية اللازمة لتأمين الموارد اللازمة للاستخراج. والمقصود بالموارد ليس تلك المحسوسة فحسب، مثل الأرض والمعادن والفلزات، بل موارد أخرى منها الاستثمار الحكومي في البنية التحتية، كالطرق اللازمة لنقل المواد والموارد المستخرجة، واستخدام سلطة الدولة لضبط المعارضة الشعبية. فتاريخ التعدين من الحقبة الاستعمارية إلى الحاضر يكشف عن استمرارية مدهشة في سبل استخراج الثروة من أفقر مناطق البلاد، بأقلّ درجةٍ من إعادة الاستثمار في البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية.

تتجه الأبحاث التاريخية المعنية بالمغرب الحديث إلى التصنيف الاستعماري للبلاد بين قسمين: مركز «نافع» تلقّى الموارد و«التنمية» وطرف «غير نافع» لم يتلقى إلا الإهمال؛ مصطلحاتٌ تمثل وصفًا صريحًا ومباشرًا للرأسمالية الاستخراجية القائمة في كافة السياقات الاستعمارية. ولكن هذه الثنائية الرتيبة ليست وافية لوصفِ استثمارِ الدول الاستعمارية والمستقلة في الهوامش القروية المغربية، فالبُنية التحتية، وغيرها من الاستثمارات الاقتصادية في الطرف الريفي، استغلَّت المواردَ وَاليَد العاملةَ لصالح مجموعاتٍ سكّانية أخرى، والجنوب الشرقي المغربي كان – وما يزال – «مفيدًا»، لكنّ جوهر المسألة هو: ما فائدته؟ ومن المستفيد؟ فهمُ هذا التاريخ الخاص بالاستخراج في تقاطعه مع حوكمة الأرض، والسياسات الزراعية، وسلطة الدولة في الجنوب الشرقي يُظهر استخدام استراتيجيات مماثلة لتأمين قدرة الدولة أو الشركات على الوصول إلى الموارد بمختلف أنواعها.

ومن المهم التعرّف على أوجه الاستمرارية في القواعد والإجراءات التي تحكم كلًّا من التعدين ومشروعات الطاقة الشمسية، لما يمكّنه ذلك من توثيق مجمل الآليات المستخدَمة في الاستيلاء على الموارد، إذ أنّ بعض هذه الآليات مدفونٌ تحت جبال اللغة المعقدة للتنظيمات والإجراءات الإدارية، فلا تدركه أعين السكّان المحليين. ولتوثيق الأطر القانونية أنْ يساعد أيضًا على اكتشاف طرقٍ نافذة لرفع مطالب تزيدُ من الأدوات السياسية المتاحة لسكّان مناطق الاستخراج. وهذا الإطار القانوني والبيروقراطي الحالي الخاص بالتعدين في المغرب تأثّرَ بالتوسّع العالمي للتعدين، لا سيما الجهود الساعية لتطبيق تكنولوجيات جديدة لإحياء عملياتٍ قديمة، والسعي الحثيث لتأمين الموارد المتاحة من المعادن النادرة الضرورية جدًا لقطاع التكنولوجيا وإنتاج الطاقة المتجددة.[15] هذه السبل الجديدة لتقييم الاستخراج بارزة في قانون المناجم الجديد لعام 2015. إذ يركّز على تقديم إطار قانوني مفصّلٍ للتشجيع على المزيد من الاستثمار في استخراج المعادن – وعدم الاكتفاء بقطاع الفوسفاط المهيمن – بذريعة أن البيئة التنظيمية القائمة كانت تُثقل كاهل القطاع الاستخراجي ما منع ازدهاره.[16] الاستخراج التقليدي، إذن، ليس قطاعًا «متقادمًا»، أو سلفًا للطاقة المتجددة عفى عليه الزمن وسيضمحل في الانتقال من الوقود الأحفوري، بل الحال على النقيض من ذلك: تزداد أهمية الاستخراج في دعم الحاجة المتنامية للمعادن المفتاحية لإنتاج الطاقة المتجددة. كما أنّ المجمّعات الضخمة الداخلة ضمن خطة الطاقة الشمسية تتطلبّ مواد بناء قياسية ومُدخلات كثيفة البصمة الكربونية، مثل توسعة نُظُم الطرق المعبّدة والبنية التحتية الخاصة بكهرباء الضغط العالي.

سارت جهود تنمية قطاع التعدين وقطاع الطاقة المتجددة في المغرب بالتوازي مع استراتيجية التنمية الزراعية للمملكة على مدار العقد الماضي (خطة المغرب الأخضر)، ومفادُ الفلسفة الحاكمة للخطة كان إعداد خريطةٍ لكل منطقة زراعية-بيئية في البلاد لإيجاد طرقٍ جديدة لتعزيز الصادرات الزراعية فيما يخدم المصالح التجارية الكبرى، وعلى حساب صغار المزارعين.[17] وفي الجنوب الشرقي، أدّت خطة المغرب الأخضر إلى الدفع بنمو مزارع تجارية كبرى تنتج التمر والتفاح والبطيخ، تتنافس مع بعضها البعض، ومع مشاريع التعدين والطاقة المتجددة، على موارد المائية والأرض؛ تنافسٌ ضيّقَ على السكان قدرتهمْ على الدفاع عن حقهم في الأرض وعلى ضمان قوت يومهم محدودةٌ. وذلك يوجب على الباحثين العاملين في توثيق التدابير القانونية والبيروقراطية الكامنة وراء السياسات الاستخراجية، ألا يكتفوا بالنظر في موجة التشريعات الجديدة والمنشآت الاستثمارية في القطاعات الجديدة – مثل الطاقة الشمسية أو المعادن النادرة – لكيلا تغيب عن حساباتهم السياساتُ الزراعية، القديم منها والجديد، ناهيك عن الأطر القانونية القديمة والمبهمة المعنية بالأراضي والمياه. فها هنا تتبين الفائدة المعاصرة التي تستحصلها الأطراف النافذة من السلطة التقديرية الواسعة التي منحتها السياسات الاستعمارية لسلطات الدولة لتيسير تصدير الثروات، لتستعين بها اليوم لتأمين الأراضي والموارد الأخرى بسرعة ودونما ضجيج.[18]

ومن ثمّ فالطبيعة المميزة لكل شكل من أشكال الاستخراج لا تمنعُ الأطر البيروقراطية المشتركة الحاكمة للأرض، والمياه، واستخراج الموارد الطبيعية، من سحب جميع هذه الموارد وإدخالها في الديناميات السياسية نفسها. لكن مثلما استخدمِتْ الأطر القانونية المعنية بالأرض والمياه في نهبِ السكان المحليين، يتساءل النشطاء عمّا إذا كانت ثمة مداخل نافذةٌ للمواطنين لتحدي طرقِ تنفيذ هذه المشاريع الاستخراجية على الأرض. وهذا الأمر يتطلّب عملية تنظيم مستدامة، ودمقرطةً للمعرفة المتاحة حول كيفية استخدام الأنظمة القانونية لأجل المعارضة السياسية. وهذا في سياقٍ حيث من الصعب مناوَأَةُ حقّ الدولة أو الشركات في استخدام الموارد تحت الأرضية، فكما هو الحال في أغلب دول العالم (باستثناءِ الولايات المتحدة، بتعقيداتٍ خاصةٍ بالأمم الأولى) تعطي الدولة المغربية نفسها السيادة والملكية على باطن الأرض. فبينما أعطت الدولة الاستعمارية الفرنسية لنفسها السيادة على المياه في المغرب، الحال اليوم هو أنّ حقوق المياه معقدة وخاضعة لعددٍ من القوانين الوضعية والإسلامية – شكليًّا – والعرفية. ولئن كانت التعبئات الاجتماعية، مثل احتلال منجم فضة إميضر، بسبب شحّ المياه وتلوثها، فالادعاءات السيادية على الموارد الطبيعية والثروة المستخرَجة من الأرض لم تدخل بقوة في الحركات الاجتماعية في المغرب.

وكانت الأراضي الجماعية موقعَ نزاعٍ أيضًا فيما يخصّ مشاريع الاستخراج، فمحطّة الطاقة الشمسية في ورزازات – مثلًا – استخدمت قوانينَ استعمارية لمصادرة الأراضي الجماعات السلالية لتحصل على مساحة 3000 هكتار المخصصة لها،[19] وهذا الإطار القانوني مستخدم للتحكيم في نقل ملكية الأراضي الجماعية في المغرب، ولكن – على منوال  خطّة المغرب الأخضر ونظام المناجم لعام 2015 – صدر قانونٌ متعلّق بالأراضي السلالية في 2019 لتسهيل الاستثمارات وتمليك الأراضي بدعوى ضعف الانتفاع لأغراض التنمية الوطنية.[20] والنقاشات حول المشكلات المزمنة المرتبطة بالأراضي الجماعية في المغرب طالت ودارت على مرّ العقود، فمن الصعب تحديد أصحاب الحقوق في هذه الأراضي، إلّا أنّ أنصار الخصخصة يزعمون أنّ الملكية الجماعية تنفر الاستثمار، لتكون هذه القضايا ذرائعًا لإصدار قانون 2019، المزعوم ترشيده إدارة الأراضي الجماعية، على أن البحوث الأولية تكشف عن خوفٍ مستشرٍ من أنّ القانون الجديد لن يؤدي إلا إلى تسريع عجلة انتقال ملكية الأراضي إلى المشاريع الاستثمارية الكبرى، وفرض منطق السوق على الأرض التي لم تكن يومًا للبيع.

إن توثيق أيُّ الأجسام القانونية والإدارية تحكم مشروعًا بعينه، عمليةٌ تتطلب التبحّر في مجالات قانونية مختلفة، بعضها مرتبط مباشرة بالموارد المنجَّمة، وبعضها الآخر معنيٌّ بموارد أخرى متعددة، وهياكل الإدارة المحلية، والضرائب، والميزانية؛ كُلُّها مجالاتٌ تُعدُّ جافةً وصعبةَ الولوج حتى على الباحثين والنشطاء المخضرمين إذا لم يستحلّوا بالخبرات القانونية والمالية، ولا تأسر المخيّلة الشعبية مثلما تفعل التعبئة الاجتماعية، بل وقد يبدو توفيرُ مواد توعوية وتثقيفية للناس حول قضايا قانونية معقدة أمرًا لا نفع فيه، لكن الخبرات التنظيمية حول الاستخراج في أمريكا اللاتينية ومناطق أخرى تشير إلى عكس ذلك: هذه الآليات القانونية والبيروقراطية قد تتيح منافذًا للمقاومة الشعبية أو المشاركة المدنية في قرارات المشاريع.[21] وزيادة تنظيم المجتمع المدني في المغرب حول إلغاء المركزية، والشفافية، وسيادة القانون – لا سيما مجموعة من «المراصد» بالأرياف والعواصم الجهوية الأصغر – يُظهر إمكاناتٍ مماثلة. ودمقرطة المعرفة بالأطر القانونية والبيروقراطية أمرٌ مهم لذاته، لكنه قد يُمثّل أيضًا أداةً لإعمال المطالبات الخاصة بالتعويض أو المحاسبة، حتى لو كانت هذه الفرص ضئيلة وحتى إذا كان التغيير سيتحقق على أطرٍ زمنيّةٍ طويلة.

أهميّة الضرائب، أو بالأحرى: أهميةُ التعويض

يمكننا سحبُ هذا التحليل على توثيق الإجراءات والممارسات المتعلّقة بتوزيع عائدات التعدين والطاقة المتجددة، حيث ركزت النقاشات العامة، حول تكاليف مشروع الطاقة الشمسية في ورزازات ومناجم الجنوب الشرقي وفوائدهم، على كيف تؤثر أعمال المشاريع على السكان من ثلاثة أوجه مهمة: الأثر البيئي، والتوظيف، وغيرها من الآثار المباشرة التي تحمل الشركة أو المقاول مسؤوليتها، ليؤديَ هذا التركيز الثلاثي إلى تضييق أفق النقاش حتى اقتصرت على الأعمال المباشرة وبرامج المسؤولية الاجتماعية في كل موقع، ولا اختلاف هنا بين مشاريع التعدين والطاقة المتجددة. ففي حالة «نور»، استجابت الوكالة المغربية للطاقة الشمسية (مازن) للاضطرابات بادئةً بتدابير ارتجالية، قبل أن تنتقل إلى برنامج رسميٍّ لتنمية المجتمع أدارته جمعية «أغريسود» الفرنسية المسؤولة عن تنسيق مبادرات التنمية الزراعية في الجماعة المحيطة بالمحطة. لكن مع مرور الوقت، ومع تغير اسم «مازن» من الوكالة المغربية للطاقة الشمسية إلى الوكالة المغربية للطاقة المستدامة (حدث التغيير في ،2016 وصاحبهُ انتقال تركيز الوكالة إلى التمويل ونقل التكنولوجيا)، أبعدت «مازن» نفسها تدريجيًّا من المشاركة المباشرة في برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات. ففي ورزازات، كلّفت «أكوا باور» السعودية – وهي الشركة المقاولة الرئيسة – بإدارة العلاقات بالمجتمع ومبادرات المسؤولية الاجتماعية. والخلاف السياسي المحيط بمازن في 2021 – المرتبط بالتأخر في تنفيذ خطة الطاقة الشمسية، ومشاكل التمويل المرتبطة بجائحة كوفيد-19، وبعض المشكلات الخاصة بكفاءة التشغيل والعمليات – أدى بدوره إلى كتمِ مبادرات المسؤولية الاجتماعية في إطار خطة الطاقة الشمسية. وأما في حالة «مناجم»، فالاضطرابات المحيطة بمنجمَي بوازار وإميضر – وكما يُظهر البحث الأوّلي: في مناجم أخرى ضمن ممتلكات الشركة – نشبت بتزامنٍ مع اضطرابات ورزازات حول الطاقة الشمسية تقريبًا. وأحد أوجه استجابة الشركة ووزارة الداخلية المسؤولة عن تأمين الموقع لصالح النظام الاجتماعي العام كان برنامج مسؤولية اجتماعية ذو مسارين: المسار الأول كان برنامج طوارئ (2012-2013) استهدف تخفيف التوترات مع جماعة إميضر، ومثّل محاولةً من الشركة لإبعاد الأنظار عن اعتصام جبل ألبان، أما الثاني فكان خطة استراتيجية (2013-2016) أوسع اشتملت على جميع مناجم الشركة في جنوب شرقيّ المغرب، وعملية تقييم الاحتياجات لكلِّ جماعة، لتسفر هذه العملية عن قائمة مشروعات تَعَيَّن على مجالس الوصاية مسايرتها في التمويل، الذي تستحصله عادةً من الوزارات المعنيّة بالمشروع المعيّن (وبشكل خاص: وزارتي التعليم والصحة العامة). وتبيّن من النقاش مع المشاركين في لجنة التنسيق والحكومات المحلية عن تجربةٍ لها محاسن وعليها مآخذ، وإحساسٌ بأنهم تعلموا الكثير من عملية التواصل مع الشركة والسلطات الحكومية.

ولكنّ هذه المبادرات – بموجب التعريف – شكَّلت جميعًا تدخّلاتٍ محدودةً وغير إلزامية، كما هي الحال مع برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات، فلم تشمل أي حوار بُنيويٍّ أو ممنهجٍ حول علاقة الاستخراج بالتنمية الريفية طويلة الأجل، أو العلاقات بين السكان والدولة والقطاع الخاص. ولعلّ العمليات اليومية للحكومة المحلية ونظم العوائد موقعٌ أنجع لرفع مطالبات باسترجاع الثروة، واستدامة الاستثمار، وإشراك السكان في تخصيص الموارد. فها هنا تكمن شروخٌ مهمة بين السياسات والتطبيق، ويعادلها أهميةً المشهدُ المتغيّر للإصلاحات نحو اللامركزية التي أجريت على النظام المالي المركزي تاريخيًّا في المغرب. ففي المراحل الأولى من «مشروع الجهوية المتقدمة»، الذي بدأهُ الملك محمد السادس لدى توليه السلطة في عام 1999، وجّهت العوائد الضريبية المتأتية من الاستخراج بأكملها إلى الحكومات الجهوية، لا الجماعات أو الأقاليم، ليتغيّر ذلك مع قانون المناجم لعام 2015، حتى صار 50 بالمئة من العوائد الضريبية المتأتية من إنتاج التعدين يذهب إلى الجهات و50 بالمئة إلى الجماعات، ولكنّ المعلومات المتوفرة حول هذا التغيير ناقصة، إذ يسود ارتباك بين السكان وبعض مسؤولي الجماعات حول أيٍّ من فصول قانون المناجم الجديد دخل حيز التنفيذ وأيها لم يدخل، وإن كان قد دخل، فمتى؟ لكن نظام التخصيص الجديد هذا يثير أسئلة ويفتح أبوابَ جديدة لتقييم كيف ترتبط مختلف المشاريع بخطط التنمية الاقتصادية المحلية، وتقديم الخدمات، والنقاشات الأوسع حول حجم الثروات المستخرجة من بعض أفقر الجماعات في البلاد.

ففي عديدٍ من المناطق الأضاحي، مثل حقول فحم الأبلاش في الولايات المتحدة، أدّت نُظم الضرائب الميسّرة على العوائد والممتلكات المقدّمة لشركات التعدين في إحدى القطاعات إلى حالةِ ارتهانٍ للمسار، حيث تَتْبع أشكال الاستخراج الجديدة مسار الأشكال السالفة لما يتيحه من نُظُم عوائد وربح مُصَمَّمة لموارد أخرى.[22] والنتيجة على المدى الطويل هي شحّ الاستثمار في البنية التحتية أو التنويع، بسبب القواعد الضريبية المتناقصة أو ضعف القدرة أو الإرادة لدى المسؤولين المحليين، بل وحتى لدى بعض النشطاء، فيما يخصّ المطالبة بإجراءات إعادة توزيع لضخ موارد خاضعة للمحاسبة والشفافية إلى مناطق الاستخراج، فقد يبدو بعيدَ المنالِ أنْ يُطالبَ بالتعويض على عقود – بل قرون – من الاستخراج والاستلاب المنفذة لصالح الغير.

والمشاريع البحثية التي تتناول أفق الارتهان للمسار واحتمالاته في السياق المغربي حديثةُ العهد، لكنّ توثيق نظم العوائد، لصالح السكان، فيما يخص المشروعات لهي خطوةٌ مهمةٌ نحو دمقرطة المعرفة حول العلاقة بين الثروة المستخرَجة وما يوجّه منها إلى الناس في هيئة عوائد أو استثمارات حكومية. وفي البداية تَمَثَّل هذا البحث في صيغة عمل وصفي بحت في المغرب، من توثيق لمستويات الإنتاج على مرّ الوقت والضرائب المدفوعة والأرباح المخصصة للجماعات التي أقيمت عندها مشاريع، لكنَّ فيضًا من الأدبيات الأكاديمية انبثق مؤخرًا حول آثار التبعية للموارد على النمو الاقتصادي والشفافية الحكومية ومقاييس الرفاه الأخرى، تؤشر بتوفر طرقٍ جديدة لتوثيق أثر الاستخراج على السكان والاقتصادات السياسية الجهوية.[23] وإنْ لم يقدّم الوصف الإمبريقي لآثار الثروة والتأثير الاقتصادي للاستخراج، في حد ذاته، صورةً بنيويةً حول الاستلاب التاريخي المرتبط بالنمط الاستخراجي، فقد يتيح أداةً إضافية في عتاد تنظيم الحراك والمطالبة بالحقوق. وهذا البحث التطبيقي يساعد في البناء انطلاقًا من استراتيجيات نشطاء المجتمع المدني الخاصة بالمشاركة في السياسات المحلية ومنازعتها بِغَاية محاسبة الدولة وإلزامها بوعودها حول سيادة القانون ونقل مسؤولية التوزيع المالي إلى الجماعات المحلية. وبينما من الصحيح أنّ أدوات السيد لا يمكن أنْ تهدم منزله أبدًا، فإنّ فهم هذه الأطر الإدارية واستخدامها يمكن أن يوسع من مساحة المشاركة الشعبية وتقديم المطالب فيما يتعلق بمشروعات الاستخراج والطاقة.

قد يكون إشراك الخبراء الماليين والقانونيين ضروريًّا لكي يفهم النشطاء والباحثون هذه التنظيمات، لكن استراتيجيات التثقيف الشعبي ضرورية لتوضيحها للسواد الأعظم من الناس. فإضافة إلى توثيق الإجراءات الرسمية لتخصيص العوائد، فالأمر يشمل احتسابَ النفقات المباشرة والعينية المرتبطة بالاستخراج أو مشاريع الاستثمار التي تحمل عاتقها الحكومات المحلية، والثروة المُوَلَّدة والمُصدَّرة، والثروة العائدة على هيئة عوائد ضريبية، وتوظيف، وغيرها من الآثار المضاعفة (الإيجابي منها والسلبي). هذا النشاط نشاطٌ سياسيٌّ للغاية يدخل فيه تحديد كيفية احتساب العوامل الخارجية أو خدمات النظام البيئي التي تحاول أنْ تُقدِّر كميًّا قِيَمًا يعتبرها الكثيرون غير قابلة للعد، بمن فيهم الرعاة التاريخيين لهذه الموارد. كما أن الأشكال المختلفة لحسابِ التكلفة والفوائد في أماكن أخرى وفيما يخص موارد أخرى، تكشف عن اختلافٍ شديدٍ في التحليل عند إجرائه على المستوى الوطني، عوضًا عن المستويين المحلي أو الجهوي الواقعين في قلب النهج الذي ندعو إليه.[24] فالمناجم التي قد تمثّل جزءًا صغيرًا نسبيًا من اقتصاد الدولة، قد تكون لها آثار تغييرية كبيرةٌ على السياقات الاجتماعية-البيئية الجهوية أو المحلية وعلاقات القوة فيها.  ويكثر رمي المهتمّين بمراعاة الآثار التغييرية هذه بتهمة ضيق الأفق، والانشغال بمطالب غير عقلانية لجماعاتٍ جاهلةٍ من الواجب عليها تحمّل الكلفة الحتمية لانتقالٍ ضروريّ. ولكنّ الانتقال العادل لا يقف ببساطة على الإقرار بهذه المطالب أو تحسين توزيع مزايا الطاقة المتجددة وفوائدها، فلا بديل عن التعويض على الموجات السابقة من الاستلاب والحرمان من الاستثمار، وعلى إعادة التفكير في الأسباب الكامنة وراء مطالبة هذه المناطق، مرةً أخرى، بتحمّل عبء إمداد المستهلكين الأثرياء بالخدمات في أماكن أخرى.

التعبئة الاجتماعية والمطالب السياسية المشتركة بين الاستخراج والطاقة المتجددة

بالنسبة لِدُعاة الانتقال العادل لعلّ أحد أول المؤشرات على استنساخ الطاقة المتجددة لأوجه اللامساواة التاريخية الخاصة بالتعدين يكمن في التشابه في حركات التعبئة الاجتماعية حول القطاعين. ففي جنوب شرق المغرب، تواترت مقارناتٌ صريحة بين احتجاجاتِ مشروع «نور» ومناجم المنطقة، على لسان كلٍّ من المحتجِّيْن والمسؤولين، ولكن تحليلًا بنيويًّا لهذه التشابهات لن يكتمل إنْ لم يتجاوز ملاحظةَ حالة التهميش والنهب السرمديّة التي يعاني منها سكان الأرياف إثرَ المقاربات المهيمنة لإنتاج الطاقة المتجددة، فأهميتها الفعلية لا تنفي واقع عجزها عن إيضاح أسباب تجدّد تاريخ النهبِ وتكراره، ولا تغيّر من كونها لا تتسع لفاعليّةِ سكّان الأرياف أو علاقتهم الملتبسة والمتذبذبة بالاستخراج أو إنتاج الطاقة.

لِنَوعيْ الاستخراج (الطاقة المتجددة والتعدين) أن يعمّقا اللامساواة بطرقٍ متعددة. وفي هذا السياقِ يركّز مشروع البحث العملي في جنوب شرق المغرب الذي بدأ في خريف 2021 على: 1) عملية تطبيع وترسيخ اقتصادٍ سياسيٍّ جهويٍّ متّكلٍ على تصدير الثروة في ظل أدنى حدٍّ من إعادة الاستثمار، و2) الخطابات المهيمنة الذاهبة إلى ضرورة أن «يضحي» المهمَّشونَ بمواردهم ورفاههم لصالح التنمية الوطنية أو الانتقال نحو الطاقة منخفضة الكربون. وفي الوقت نفسه، لا بدَّ لأي تحليلٍ واقعيٍّ ألا يفترض أنّ الاستخراج هو المحرّك الوحيد – أو حتى الأهم – للسياسة المحلية والجهوية، فكلا النوعينِ مرتبطان بفسيفساء معقدة من المطالب السياسية التي تتجاوز التعدين والطاقة، والحياة السياسية في الأرياف – مثلها في أيّ مكان – متعددة الأبعاد، حيث يحتسبُ الناس هذه المشاريعَ – من كلا النوعين – في إطار مطامح وأولويات مختلفة، بل ومتنافسة في أحيان كثيرة. وتوثيق هذه المطالب المتنوعة يوضح كيف ولماذا تجري تعبئة سكان الأرياف بالنحوِ المألوف، ولماذا يستجيبون بأشكالَ أخرى للتعبير السياسي، إلى جانب التعبئة الصريحة.

في إدراك السياق الأوسع لسياساتِ الاستخراج إقرارٌ بالطبيعة الساطية أحيانًا لقوّة الدولة أو الشركات، دون أنْ يستلزم ذلك التسليم بنتيجةٍ حتميةٍ لمصادفةِ الاستخراج. ففاعليةُ السكّان لا تُمارَس بالمقاومة والاستجابة فقط، بل بالتداولِ أيضًا مع وجودِ المشاريع الكبرى بل وتوظيف هذه الوجود في صياغة مشاريعهم السياسية الخاصة. ويتسع إدراك هذه المقاربة ليشتمل على إمكانية وجودِ اختلافاتٍ داخلية داخل أطراف الدولة والشركات، ويتعامل بجدية مع عوالمهم «الأخلاقية»،[25] فقلة مِن قاطني مناطق الاستخراج في المغرب وما حولها يتحدثُ عن أطرافٍ ومؤسساتٍ بأنها «جيدة» أو «سيئة» حصرًا، ما يعكس الضرورات المتنافسة والتعقيدات الأخلاقية المرتبطة بهذه المشاريع. وهذه التعقيدات تؤدي إلى «تعدُّد الفاعليّات» في أوساط السكان والعمال، إذ قد لا تتصل انتقاداتهم أو أهدافهم بسهولة مع الحركات الاجتماعية (إنْ اتّصَلت أصلًا).[26]

إنّ الاستجابات الشعبية للاستخراج متنوّعة بدورها هي الأخرى: من حركات المقاومة المنظمة إلى التشظي الاجتماعي الذي ينتج النزاعات العنيفة.[27] وفي جنوب شرق المغرب، أثار اعتصام إميضر مخيال الكثير من المغاربة والمراقبين الدوليين، نظرًا إلى ما احتواه من مزيجٍ متقنٍ وضاربٍ في عمق ثقافة المكان، وَظّفَ الأمثال الشعبية والخطابات المعولمة للمقاومة. وقد رأى نشطاء الحركات الاجتماعية والمراقبون فيها ما رأوه في احتجاجات منجم كوبالت بوازار واحتجاجات محطة «نور»، رغم أنّها ليست إلّا غيضًا من فيضٍ من الاستجابات الشعبية، إذ أنّ بعضها لم تلحظه عيون من هم غير ملمّينَ بممارسة السياسات الريفية في جنوب الشرق المغربي.

إنّ انغراس الاستخراج في المطالب الأوسع حول الأرض والتحكم في الموارد والتمثيل السياسي يلفت أنظارنا لعدة أشكالٍ من الممارسة السياسية، لا سيما في المناطق حيث الحركات الاجتماعية أو المقاومة الصريحة ليست بارزةً.[28] فحتى الإخفاقات – في مشاريع الاستخراج أو التعبئة الاجتماعية – يمكن أن «تنتج سياسة»، بتمكينها السكان من بناء تحالفات أو خبراتٍ، أو بتغذيتها مشاريعهم السياسية المتنوعة،[29] فرغم فكِّ اعتصام إميضر في 2020 – على سبيل المثال – فليس من المعقول أنْ يوصف هذا الجهد الذي دام قرابة عقدٍ كاملٍ بالإخفاق، فقد كان شكلًا من أشكال التعبير السياسي الذي غيّر حركةَ السياسيات المحلية والجماعية حول المنجم، والشاهدُ على ذلك هو تبدّلُ الكوادر القدامى بمسؤولين منتَخَبين أصغر سنًا خلال انتخابات الجماعات في الدورتين الأخيرتين. ويضافُ على ذلك أنّ عملَ السكّان قد يجري بموجب نطاقات زمنية وطموحاتٍ تختلف عن تلك الخاصة بحركات العدالة المناخية، فمثلما يمكن للاستخراج أن يفعّلَ «عنفًا بطيئًا»، فالحراك البيئي للفقراء – وغيره من استجاباتهم السياسية – قد يتحرّك على امتداد فترات زمنية مطولة.[30]

كما أن هذا النهج يتفادى الحكم المسبق حول ما على السكان فعله إزاء الاستخراج. ولعلّهم يختارون الموازنة بين الانتقادات في كفة، والرغبة في التنمية والوظائف التي قد يجلبها مشروع طويل الأجل وفي روابط عاطفيّةٍ مع الناس والهويّات المتّصلة بالتعدين في كفةٍ أخرى.[31] وإنْ كان البحث الأوّلي حول النزاعات على الموارد في أرياف المغرب يشير إلى أنّ التعدين والطاقة المتجددة يعمّقان منَ اللامساواة، فَللناس توظيفُ هذه الخلافات في تخيّلِ وتجربة أشكال جديدة من سياسةِ الحوكمة الريفية أو مقاربتها، وهذا المخيال الجديد يمكن اعتباره «سياسة مشاعية طارئة»، تشمل أشكالًا لا-حراكية من الفاعلية السياسية.[32] بعبارةٍ أخرى، على دُعاةِ الانتقال العادل الإنصات إلى الناس وفهم أهدافهم المتنوّعة وإدراك أشكال العمل المفضلة لديهم، بدلًا من استخدامِ إطارٍ مسبقٍ للتحليل يحبّذُ الحركات الاجتماعية المنظمة.

حتى المقاومة قد لا تتوافق مع الخطابات البيئية السائدة، إذ أنّ بعض الجماعات تعتمد على ممارسات عرفية، أو قد تبدو غير سياسية، في التعبير عن مطالبهم السياسية.[33] وهذه التعبئة الاجتماعية اللا-حراكية قد تمثل مجموعةَ نُهُج للتفاعل مع الاستخراج، أنجعَ وأقرب ثقافيًّا للناس، تُدرِك علاقتهم المعقدة بالمشاريع الكبرى – فَقِلة ترفضها رفضًا تامًّا، والكثرة تحاول أنْ تعيد تصور ما تفعله هذه المشاريع، وكيف تعمل، ولمن تقدّم فوائدها. ويشير تاريخ فريق المشروع في البحث والنشاط بالجنوب الشرقي إلى أنّ خطابات العدالة البيئية لا تستهوي الكثير من سكان المنطقة، وقوةُ التحليل الذي يجريه الفريق تكمن في تعاطيه مع أشكالٍ متنوّعة للفاعلية السياسية تستهدف التقليل من تجريدية الانتقال العادل – ليُنظر إليه كمصادفة عينيّةٍ  وواضحة المكان ليست بحاجةٍ لمحاكاة حركات العدالة البيئية الأخرى أو تقليدها لأجل النهوض بالانتقال العادل. ولا بدّ من القول هنا إنّ هذا الإطار ليس بديلًا عن الحركات الاجتماعية الرسمية وليس حجّةً ضدّها، بل هو يمثّل إقرارًا متّسعًا وناقدًا لضرورة تنوع أشكال الممارسة السياسية.

خاتمة

نظرًا لما يظهر من قوّةٍ ساطيةٍ في يدِ الدولة والشركات، والمؤسسات المالية الدولية، قد يبدو من السذاجة أن يُعمل بموجب الإجراءات والقوانين على المستويين المحليّ أو الجهويّ للتأثير على مصادفة الاستخراج. فهذا النهج، إنْ انتُهِج لوحده، لن يؤدي إلى انتقال طاقي أو اقتصادي عادل للمغاربة – أو للناس في أي مكان – الذين نهبتم موجاتٌ متعاقبة وشرسةٌ من السياسات الاستخراجية. إلا أن هذا النهج يمثل خطوة مهمة للانخراط مع السكان الذين يعيشون الواقعَ المعقد للاستخراج كمصدرٍ للنهبِ والتنمية معًا. إن دمقرطة المعرفة حول الاستخراج، كنمط للحوكمة يشمل التعدين والطاقة المتجددة معًا، سبيلٌ للإقرار بالناس الذين يعيشون الاستخراج بصفتهم شركاء متساوين في الحركات الاجتماعية، سواء أتبنًّوا أطر المقاومة أو العدالة المناخية أم لا. وبالنسبة إلى الباحثين والنشطاء على حدّ سواء، فإنّ الإقرار بمختلف أشكال الممارسة السياسية يعني الالتزام بالتفاعلِ الناقد مع الأطر الخطابية التي يعتمدها الناس أنفسهم. ولفهم تاريخ المكان وديناميّاته الاجتماعية بما يتجاوز عمليات الاستخراج، أنْ يلغي مركزية الاستخراج بصفته القوة السياسية الوحيدة التي تُشكّل حياة الناس. ففاعليتهم تنبسط بالتوازي مع علاقات القوة المختلة التي تُميّز الشركات ومؤسسات الدولة وتعطيها اليد العليا في هذه التفاعلات.

إلا أنّ تطوير استراتيجيات الانتقال العادل ذات المرجعية المكانية ليست عملية مقتصرةً على التفاعل الممتدّ مع السكان المحليين بما يلائمهم، فهكذا نهجٌ يتيحُ أيضًا أرضيةً للتضامن مع الحركات والاستراتيجيات الأخرى ذات المرجعية المكانية، حيث يمكن استخدام نماذج التفاعل الناجحة وتكييفها لسياقاتٍ جديدةٍ، لتعزّز بعضها بعضًا. وعلى ضوء ما ذكر، فإن ما أنتجه النشطاء وسكّان جنوب شرق المغرب من نقدٍ صارمٍ واستراتيجياتٍ تراكمية ورؤىً بعيدةٍ، لا بدّ لإدراك جوهريّته بالنسبة لجهودِ الانتقال العادل في المغرب وشمال أفريقيا، ومن ثمّ: بالنسبة لحركة العدالة المناخية.

المصدر: المعهد الدولي

[1] Rignall, K. (2016) ‘Solar power, state power, and the politics of energy transition in pre-Saharan Morocco’, Environment and Planning A 48: 540–557.

[2] Bogaert, K. (2016) ‘Imider vs. COP22: Understanding climate justice from Morocco’s peripheries’, Jadaliyya, 21 November. Available at: http://www.jadaliyya.com/pages/index/25517/imider-vs.-cop22_understanding-climate-justice-fro; El Kahlaoui, S. and Bogaert, K. (2019) ‘Politiser le regard sur les marges: Le cas du mouvement “sur la voie 96” d’Imider’, L’Année du Maghreb 21: 181–191; Hamouchene, H. (2016) ‘The Ouarzazate solar plant in Morocco: Triumphal “green” capitalism and the privatization of nature’, Jadaliyya,23 March. Available at: http://www.jadaliyya.com/Details/33115/The-Ouarzazate-Solar-Plant-in-Morocco-Triumphal-%60Green%60-Capitalism-and-the-Privatization-of-Nature; Aoui, A., El Amrani, M.A., and Rignall, K. (2020) ‘Global aspirations and local realities of solar energy in Morocco’, Middle East Research and Information Project, 6 October

[3] Sowers, J. (2018) ‘Environmental activism in the Middle East and North Africa’,in H. Verhoeven (ed.) Environmental Politics in the Middle East: Local struggles, global connections. London, UK: C. Hurst & Co. pp. 27–53.

[4] Benidir, M. (2021) ‘Brokerage, compensation and reproduction of the discharge: Community reparation and development of mining areas in south-eastern Morocco’, International Development Policy 13(1). Available at: https://doi.org/10.4000/poldev.4476 (تم الاطلاع في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2021).

[5] الشركة الأمّ «مناجم» أسهمها مطروحة في بورصة الدار البيضاء وهي بدورها شركة تابعة للقابضة الملكية «المدى».

[6] Bogaert, K. (2015) ‘The revolt of small towns: The meaning of Morocco’s history and the geography of social protests’, Review of African Political Economy 42(143): 124–140.

[7] Aoui, El Amrani, and Rignall. (2020) ‘Global aspirations and local realities of solar energy in Morocco’.

[8] Bouimezgane, O. (2016) ‘Développement des zones minières et le mouvement des habitants : Cas du sud/est’, MA thesis. Agadir, Morocco: Université Ibnou Zohr; Oubenal, M. (In press) ‘Emergence de l’agriculture d’exportation et transformation socio-économique dans le Sous’.

[9] Blondeel, M. M.J. Bradshaw, G. Bridge, and C. Kuzemko. (2021) ‘The geopolitics of energy system transformation: A review’, Geography Compass (15)7. Available at https://doi.org/10.1111/gec3.12580; Huber, M. T. and McCarthy, J. (2017) ‘Beyond the subterranean energy regime? Fuel, land use and the production of space’, Transactions of the Institute of British Geographers 42: 655–668.

[10] Carafa, L., Frisari, G., and Vidican, G. (2016) ‘Electricity transition in the Middle East and North Africa: A de-risking governance approach’, Journal of Cleaner Production 128: 34–47.

[11] Cantoni, R. and Rignall (2017) ‘Kingdom of the sun: A critical, multiscalar analysis of Morocco’s solar energy strategy’, Energy Research and Social Science 51: 20–31. See also Hamouchene, H. (2021) ‘Green hydrogen: The new scramble for North Africa’, Al Jazeera, 20 November. Available at: https://www.aljazeera.com/opinions/2021/11/20/green-hydrogen-the-new-scramble-for-north-africa

(تم الاطلاع في 1 ديسمبر/كانون الأول 2021).

[12] Cantoni and Rignall (2017) ‘Kingdom of the sun’.

[13] Daumas, L. (2019) ‘Le secteur de l’énergie renouvelable au Maroc concentration aux mains du secteur privé’, Committee for the Abolition of Illegitimate Debt (CADTM). Available at: https://www.cadtm.org/Le-secteur-de-l-energie.

(تم الاطلاع في 1 ديسمبر/كانون الأول 2021).

Escribano, G. (2019) ‘The geopolitics of renewable and electricity cooperation between Morocco and Spain’, Mediterranean Politics 24(5): 674–681.

[14] Aoui, El Amrani, and Rignall. (2020) ‘Global aspirations and local realities of solar energy in Morocco’.

[15] Poonia, G. (2021) ‘How the rise of copper reveals clean energy’s dark side’, The Guardian, 9 November. Available at: https://www.theguardian.com/us-news/2021/nov/09/copper-mining-reveals-clean-energy-dark-side.

(تم الاطلاع في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2021).

[16] El Attilah, A., Souhassou, M., and El Morjani, Z. (2018) ‘Le cadre législatif de l’exploration et la recherche minière au Maroc entre le Dahir de 1951 et la loi 33 -13’, International Review of Economics, Management and Law Research 1(1). Available at: https://revues.imist.ma/index.php/IREMLR/article/view/12679

(تم الاطلاع في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2021).

[17] Akesbi, N. (2011) ‘Le Plan Maroc Vert : Une analyse critique’, in A. Akesbi, N. Akesbi, K. Askour, W. Benaabedlaali, N. El Aoui, A. El Houmaidi, S. Hamchane et al. (eds.) Questions d’Èconomie Marocaine. Rabat: Presses Univérsitaires du Maroc.pp. 9–48.

[18] Rignall, K. (2021) An Elusive Common: Land, politics, and agrarian rurality in a Moroccan oasis. Ithaca, NY: Cornell University Press.

[19] Rignall (2016) ‘Solar power, state power, and the politics of energy transition in pre-Saharan Morocco’.

[20] Aoui, El Amrani, and Rignall (2020) ‘Global aspirations and local realities of solar energy in Morocco’; Blagley, D. and Rignall, K. (In press) ‘Land tenure in Morocco: Colonial legacies, contemporary struggles’, in H. Chitonge and R. Harvey (eds.) Land Tenure and Reform in Africa: Addressing challenges and complexities. Cham, Switzerland: Springer Nature.

[21] Veltmeyer, H., and Petras, J. (eds.) (2014) The New Extractivism: A post-neoliberal development model or imperialism of the twenty-first century? London: Zed Books.

[22] Rignall, K, L. Shade, C. Starr, and L. Tarus (In press) ‘The role of land in a just transition’, in S. Scott and K. Engle (eds.) A Just Transition in Appalachia. Lexington: University Press of Kentucky.

[23] لمدخلٍ في ذلك:

Sachs, J. D., and Warner, A. M. (2001) ‘The curse of natural resources’, European Economic Review 45(4): 893–906; Van der Ploeg, F. (2011) ‘Natural resources: Curse or blessing?’ Journal of Economic Literature 49(2): 366–420.

[24] انظر على سبيل المثال:

Stratford. D., and Walker, A. (2017) ‘Coal mining and the resource curse in the eastern United States’, Journal of Regional Science 57(4): 568–590.

[25] High, M. and Smith, J. (2019) ‘Introduction: The ethical constitution of energy dilemmas’, Journal of the Royal Anthropological Institute 25(S1: Special Issue: Energy and Ethics?): 9–28; Li, F. (2016) ‘In defense of water: Modern mining, grassroots movements, and corporate strategies in Peru’, Journal of Latin American and Caribbean Anthropology 21(1): 109–129.

[26] Rolston, J. S. (2013) ‘Specters of syndromes and everyday lives of energy workers in Wyoming’, in S. Strauss, S. Rupp, and T. Love (eds.) Cultures of Energy: Anthropological perspectives on power. San Francisco: Left Coast Press. pp. 584–592.

[27] Jacka, J. K. (2018) ‘The anthropology of mining: The social and environmental impacts of resource extraction in the mineral age’, Annual Review of Anthropology 47: 61–77; Zilliox, S., and Smith, J. M. (2018) ‘Colorado’s fracking debates: Citizen science, conflict and collaboration’, Science as Culture 27(2): 221–241.

[28] Gaventa, J. (2019) ‘Power and powerlessness in an Appalachian valley – revisited’, Journal of Peasant Studies 46(3): 440–456.

[29] Powell, D. (2017) Landscapes of Power: Politics of energy in the Navajo Nation. Durham: Duke University Press.

[30] Martinez-Alier, J. (2002) The Environmentalism of the Poor: A study of ecological conflicts and valuation. Cheltenham, UK: Edward Elgar; Nixon, R. (2011) Slow Violence and the Environmentalism of the Poor. Cambridge, MA: Harvard University Press.

[31] Bell, S.E. and R. York. (2010) “Community economic identity: The coal industry and ideology construction in West Virginia.” Rural Sociology 75:113-143; Filer, C. and M. Macintyre. (2006) ‘Grass roots and deep holes: Community responses to mining in Melanesia.” The Contemporary Pacific 18(2): 215-231. Bell and York (2010).

[32] Bayat, A. (2013) Life as Politics: How ordinary people change the Middle East. Stanford: Stanford University Press; Rignall (2021) An Elusive Common.

[33] Rignall (2021) An Elusive Common.

 

Skip to content