لأجل نظام جديد: حول طريقٍ علينا هجره

قبل مدّة كتبت نصًّا قررت ألا أنشره عن معتقلٍ أعرفه ينتظر الإعدام، عن طريق حياته القصير الذي حُدِّد له قبلَ ولادته، وعن أيّ خيارات توفرت له (أو بالأحرى: عن عدمها)، ولم أكن أدري وقتها أنّه سينتهي في قبره المجهول يوم 12 مارس من هذا العام. إنّ الناظر من بعيد (أو للأمانة: حتى من قريبٍ) في «سجّله» سيسهل عليه عدم الاكتراث لِدمائه المهدورة، دماءُ شابٍّ قصّته لا تُدرك وحقّه – وحقّ العشرات من أمثاله – لن يُسترد إلا بعملية نقد وتفكيك منظومتنا الاجتماعية التي لن أقول إنها خذلته، فهي من حددت له طريقًا مريعة وعاقبته على اختياراتٍ لم تُتِح له غيرها.

نحن أبناء هذه المنظومة، التي عيّنت لكلٍّ منّا طرقًا ونهايات، بضعنا أتاحت له مخارج ومنافذ على مقاسه، والبعض الآخر كانت 2011 مخرجه الوحيد، كانت الثورة هي السبيل الوحيد لإصلاح أوضاعه، ولكنّ أفق 2011 أوصلتنا جميعًا إلى ظلامٍ حالك فتركت شقًّا منا وقد انطفأت فيه شعلة الأمل في حياةٍ غير بتراء، وشقٌّ آخر ما زال متعلّقًا بتلك الأفق رغم مقاومته لمآلاتها المحتومة، يقتادهم إليها مثلما اقتاد أكثر من 80 رجلًا إلى مصير واحد، لِتُغيَّبَ بعد ذلك جثامينهم مثلما غُيِّبَت سيَرهم قبل ذك.

وبدلًا من أنْ يدفع ذلك المعارضة «السعودية» لمراجعة الذات، اتّخذت المجزرة – مثلها مثل أيّ حدث – فرصةً لتلبّس أقنعة الثقة والمعرفة والعزيمة أمام «الجمهور»، رغمَ أنّ هذه اللحظة شاهدٌ آخرٌ على ضعفهم – وضعفنا جميعًا – أمام بطشِ الدولة، وجهلنا بِسُبل التقدم، ومذكّرٌ بضرورةِ مراجعةِ موقعنا وطريقنا ووجهتنا.

مشينا حتى الآن على ما توفّر من الطرق، فاختارتْ طريقُنا صُحْبتنا وأدوات عملنا، فلزِمناها، وتعسّر علينا العمل بغيرها، فباتت هي طريق الواقع، رغم ما اتضح لنا من بؤس نهايتها ومنافاتها لمقاصدنا (بل ومبادئنا في بعض الأحيان).

لن أخوض هنا في الجانب البشع للعمل السياسي المُعارِض، مثل تعاون البعض مع الخارجية الأمريكية وغيرها من الحكومات (مع «أملٍ» بألا نكون بيادق في أيديهم) وتساهل آخرين في مسألة العقوبات (مع توهّمٍ بقدرتنا على تقييدها)، فهذا الجانب وإنْ كان دليلًا على مآلاته، فالمصداق هو جانبه الحسن: ما ينتجه في مصلحة القائمين به.

وفي الوقت الراهن لا أرى جانبًا أفضل وأكثر إثمارًا من العمل الحقوقي، وإنْ كنت لا أدري إنْ كان هذا الإثمار حصيلة فعاليّته أو الكثرة العددية للعاملين فيه، فهو يستحقّ المراجعة ولو فقط لأنه العقيدة المهيمنة التي تظهر للناس – أفرادًا ومنظّماتٍ وتياراتٍ وأحزابٍ – كالطريقة الطبيعية للمعارضة السياسية، وأحد الشواهد على سطوتها هو أنّ حتى من لا يؤمنون بها يتستّرون بستارها لكسب الشرعية والشعبية، والشاهد الآخر – والأهم هنا – هو أنّ من ينوي المبادرة بالعمل السياسي يبدأ مشواره عادةً بتقديم نفسه بالصفة الشهيرة: «ناشط حقوقي»، أي أنّه – وإنْ لم يعمل ضمن هذا الإطار المهنيّ – يفكّر بالسياسة عبر الطريقة الحقوقية.


لعلّ المدّة التي قضيتها في العمل في مجال حقوق الإنسان (بالمعنى الدقيق، لا الشائع، للعبارة) قصيرة، فهي لم تتجاوز الأربع سنوات وقت كتابة هذا النص (وخبرتي فيه محدودة بجانب التحرير والنشر في الغالب)، وللصدق لم أدخل هذا المجال إيمانًا بمبادئ عمله أو بنجاعته لإنجاز التغيير المرجو؛ فقط رأيت فيه وسيلة دفاعٍ ضرورية مرحليًّا، ويمكنني القول إنّي عملت مع منظمة ملتزمة حقّ التزامٍ بمبادئ هذه العقيدة، وهذا الالتزام يكشف إشكالات الطريقة بنحوٍ مختلفٍ عما تكشفه الأخبار الواردة عن المنظمات الحقوقية الكبرى أحيانًا (تواطؤ العفو الدولية والناتو في أفغانستان مثلًا، وأغلب أعمال هيومن رايتس ووتش).

عند النظر لنموذجٍ صارمِ الالتزام، متفادٍ بوعيٍ المنزلقات الأخلاقية للعمل، ينكشف ما لا يقبل الردّ لأمزجة الأشخاص وأهوائهم، وما يتعذر تعزيته إلى مصادر التمويل؛ ما يتضح هو إشكالات العمل وحدوده إنْ أقيم على أكمل وجه.

نقطة بدء «الناشط الحقوقي» من عالم الجنوب (وأدرج ضمن هذا التصنيف كافةَ أتباع الطريقة من أفرادٍ وجماعاتٍ، مؤمنين كانوا أم انتهازيين) هي، إنْ لخصناها تلخيصًا مجحفًا بعض الشيء (وبعض الشيء لا أكثر): إطلاق المناشدات الدولية، التي تستهدف الإعلام الدولي أو منظمات حقوق الإنسان الدولية أو آليات الأمم المتحدة، أو كلّها مجتمعةً، بقصد الضغط على الدولة للاستجابة لمطلبٍ ما أو الكفِّ عن انتهاكاتٍ ما.

وكلّ هذه المنظّمات والآليّات تأثيرها على السلطة السعودية ليس مباشرًا، بل مقيّدٌ بتوجّهات قباطنة المؤسسات الدولية (أي: الطبقات الحاكمة للدول الغربية) وشواغلهم في لحظةٍ محددة.

وفي ذلك يعنينا إشكالان، إشكالٌ عامٌّ وإشكالٌ خاصٌّ بسياقنا:

في سير هذه العملية السياسية – بشكلٍ عام – إشكالٌ متأصّلٍ لا مهرب لـ «الناشط الحقوقي» من عالم الجنوب منه: إنّه يلتزم تأديةَ دورٍ جانبيٍّ في لعبةٍ أكبر منه، وأفق عمله وإمكاناتها خاضعةٌ بنحوٍ شبه مطلقٍ للحسابات المتغيّرة لأصحاب القوّة الفعليين (الطبقات الحاكمة سالفة الذكر). ولا بدّ من تمييزٍ هنا: لا سبيل بالطبع لبناء القوّة المستقلّة للطبقات الكادحة والجماعات المهمشة في هذه العمليّة، إذ لا دورَ لهم فيها سوى انتظار الفرج، ولكنّ للساعين نحو الاستقواء بالتبعية، السبيل أمامهم سالكة، بل ومن لا يتفكّر في موقعه في اللعبة سينزلق ويجد نفسه في تلك الحالة (حالة الاستقواء بالتبعية) دون قصدٍ أو سعي.

وأمّا في سياقنا نحن تحديدًا، فنجدُ إشكالًا آخر: نحن نواجه السلطة داخل معسكرها، معسكر النظام الدولي القائم (الذي نعمل «في أمانه» ونتوسّله للحد من انتهاكاتها)، وقوّتها متأتية من دورها الحيوي فيه. فمهما اشتدّ الخلاف بين حلفاء المعسكر الواحد، فلن يتيح لنا ذلك المجال لبناء معسكرنا داخل معسكرهم، فكاملُ قدراتنا فيه تخريبية، والعمليات التخريبية قد تضرّ بقدرات العدوّ الدفاعية والهجومية لحظيًّا، لكنها لا تعبّئ ولا تهيّئ قوّةً قادرةً على هزيمته، والمجزرة الأخيرة شاهدٌ (آخر) على واقع ذلك.

الطريق هذه مغلقةٌ أمام إرادتنا الحرّة، ونفوذ إرادتنا فيها لا تتم إلا بوساطة الآخرين وبِقَيدِ تقديرهم وخطوطهم الحمراء والخضراء، ولهذا فتدفّق العمل يزداد عندما يسعى أصحاب القوّة لتصحيح علاقة التبعية، وبدقيق العبارة: نفاذيّة الطريق (وليس نفوذنا) تزداد عندما يتجاوز آل سعود خطوط أسيادهم الحمراء (وليس خطوطنا نحن) بغرض الضغط عليهم للامتثال لها، وحالما يتذكر الكلب حاجته إلى ذيله، تغلق الأبواب (أوليس أحد أغراض المجزرة الأخيرة أنْ تؤكد السلطة السعودية «سيادتها» الهزلية أمام أسيادها في الغرب؟).

ولهذا لا بدّ أيضًا من الاعتراف بأنّ مقولة أنّ العمل الحقوقيّ يركّز على فئاتٍ معينةٍ دون سواها فيها شيءٌ من الصحة، صحّةٌ قد يحاول المِهنيّون الحقوقيون نفيها (لأنفسهم قبل الآخرين) بتعزيتها إلى منطق الطريقة (حجّة أولويّات العمل ومردودها المزعوم انتفاع الجميع منه)، ولكن واقع الحال يفيد بأنّ السبب ليس منطق الطريقة، بل منطق أصحاب القوّة وأوليّاتهم وتقديرهم، والدافع ليس توجّهاتنا وميولنا الشخصية، بل ما يتاح لنا فعله.

ومع ذلك لا أنكر هنا جاذبية هذه الطريق، فمنافذها واضحةُ المعالم، وقواعد اللعبة فيها مسنونة ومشروحة، وخبراؤها «على قفا من يشيل»، وهي آمنة، وهذا الأمر يميّزها عن كافة الطرق الأخرى، ولكنّ قواعد اللعبة هذه هي ما يعيق تقدّمنا، وهؤلاء الخبراء ليسوا خبراءنا، وهذا الأمان أمانٌ في كنف حلفاء العدوِّ، أمانٌ مشروطٌ ومؤقت.

نحن أمام تحدٍّ واضحٍ، وبالتالي مهمّةٍ واضحة؛ نقاط قوّةِ خصمنا ونقاط ضعفه واضحة، وقدراته مألوفةٌ ومختبرة، ونحن – مثله – نقاطُ ضعفنا واضحة، ولكننا – عكسه – نقاط قوّتنا لم نستكشفها بعد، لاقتصار جلّ عملنا على ميدانٍ واحد، هو معسكر العدو، رغم أن مهمّة المرحلة هي بناء قوّتنا المستقلة، معسكرنا نحن.

ومن المحال بناء هذا المعسكر إنْ كانت الطريقة مغلقةً أمامَ من حدد لهم مجتمعنا حياةً بتراء، مغلقةٌ لا لآمالهم فقط، بل لحياتهم، وسِيَرهم، وواقعهم، وتاريخهم؛ تاريخٌ يعتَّمُ عليه بذريعة العمل لأجل مستقبلٍ مشرق، إشراقًا سيبقي هذه السِيَر – وذاك الواقع – في ظلاله لا محالة.


أمامنا دولةٌ وراءها دعمٌ دوليٌّ وإنْ اهتزّ أحيانًا فلن يتزحزح، وإنْ لم يكن المنطق الإيجابيّ لتوجيهها الحياة الاجتماعية والفردية ودعايتها وخطابها مقنعًا للناس اليوم، فالمنطق السلبيّ لسطوتها الأمنية وقدرتها على استدامة التشظية الاجتماعية والعجز الحركي في الداخل يعطيانها المهلة اللازمة لتجربة استراتيجيات مختلفة وخطاباتٍ مختلفة حتى تعثر على ما سيستردّ لها شرعيتها وثباتها.

ونحن لسنا مثلها، فلا طاقات ولا ثروات لدينا يمكننا توجيهها في كل الطرق الممكنة لنرى أيّها سـ «يلْقح». إنْ اخترنا توجيه طاقاتنا إلى طريق معيّنة، فنحن محكومون به.

حتى الآن قسّمتْ معارضةُ المهجَر – بشكلٍ عامٍّ – خطط العمل (ولعله من الأصح القول: خطّة العمل الوحيدة) في الداخل إلى خطوتين: إما المظاهرات الفردية والمظاهرات الجماهيرية. والمظاهرات الفردية تُعتَبر الخطوة الأولى وما قبل الأخيرة في آنٍ، وأما الجماهيرية فهي الخطوة الأخيرة في سبيل «إسقاط النظام»، رغم كثرة – وتكاثر – الشواهد على عجزها عن تحقيق ذلك (ويمكننا نهل الدرسِ من عقدٍ كاملٍ من انتفاضات عربية «أسقطت» أنظمتها).

مسألة ما قبل هاتين الخطوتين، وما بعدهما وبينهما وسواهما، احتلّها موضوع «الوعي» وبناؤه: قبل المظاهرة الفردية يُبنى الوعي، وإثر المظاهرة الفردية يبنى الوعي، وقبل المظاهرة الجماهيرية يبنى الوعي، وإثر المظاهرة الجماهيرية يبنى الوعي، وكلّ ذلك سيصبُّ طبيعيًّا في المجرى التاريخي نحو الديمقراطية. ففي رواج الامتعاض من «صنم الوعي» ما هو صائب، ولكن الجواب الرائج كان تخطّي هذه المسألة تمامًا، واعتماد استفراغ دعوات التظاهر على مدار الساعة منهجًا للعمل، فكم من «حراكٍ» أطلقَ من الخارج في السنوات الأخيرة لم يجد له ناصرًا أو معينًا. وعقر هذا المنهج البديل يرجع إلى انتمائه إلى نفس المخطط العام لعملية التغيير مع منهج خصومه (عبّاد صنم الوعي):

مظاهرات فرديّة/صغيرة -> كسر حاجز الخوف -> مظاهرات جماهيرية -> سقوط النظام

فكون إحداهما يرى علاقةً سببيةً مباشرةً بين مراحل العملية والآخر يرى ضرورةَ مرحلةٍ فاصلة (مرحلة بناء الوعي) بينها لا يعني اختلافَ المخطط العام، فكلاهما يستندان إلى ما يضمره من اعتقادٍ بمُتَّجهٍ تاريخيٍّ تُحقِّق به الشعوب طبيعَتها أو تتحول بموجبه إلى نموذج المجتمع الطبيعي، إذْ أنّ الجماهير حبلى بروح هذا المجتمع الجديد وحركتها – بحدّ ذاتها – ستفضي إلى ولادته، وعجز هذا المخطط العام عن إحداث التغيير لم يثني المؤمنين به عن الالتزام به، بل حثّهم على انتظار اللحظة المؤاتية لوضعه قيد التنفيذ، ولهذا فكلّ الأحداث تُنتَهز لهذا الغرض.

الحال هي أنّ هذا الطريق خيّم عليه اليأس، اليأس من جدوى المضي فيه قدمًا، اليأس من نيل منتهاه، اليأس من رفاقه، واليأس يفرز من الأمراض ما يفرز، حتى لا يعود للمرء ما يعقل به واقعه. لا بدّ من البحث عن طريقٍ جديد، مخططٍ آخرَ للعمل، وهو مسعىً لن يدرك إلا بِهجرِ أمرين: العلاقة الفوقية التي تربط «المعارضة» في الخارج و«الجمهور» في الداخل (وتقسيم الناس بين معارضةٍ وجمهور؟)، وارتهاننا إلى لحظة 2011 كنقطةٍ مرجعيّة أو كذروة طموحنا.

إنّ الطريقة الحالية تفترض علاقةً معينةً بين «المعارضة» و«الجمهور»، مؤسسةٌ على هرميةٍ واضحةٍ بين المنقذ والضحية، أو لعلها – في أفضل الأحوال – علاقةُ المرشد بالرعيّة، يعطي فيها المعارِض لجمهورِه الدروسَ والعِبر حول آخر الأحداث السياسية، ويرجعون إليه لفهم شؤون سياستهم الكبرى، فتُتَجاهَل في هذه العلاقة الشؤون «الصغرى» المعنية بالخطوات الأولية لبناء الحواضن المقاوِمة، وأولى هذه الخطوات تجربة الأوجه المختلفة للاحتكاك بالمجتمع بتنوّعها واستفسار أفراده حول معارفهم الاجتماعية اليومية، أي معرفتهم بمحيطهم ومنافذه وسدوده وأيُّ علاقاتٍ تربط أفراده بعضهم ببعضٍ، وبالآخرين، وبالدولة، واستحثاث التفكير فيها وفي طرق العمل مع الطرق المتاحة وفي كيفية الخروج من السدود القائمة باستقلالية (عن المُستفسِر)، بدلَ الاتّكال على من هم في الخارج ليعلّموا الفرد في الداخل دورَه في المجتمع وما يقع عليه من واجبات (وما إلى ذلك من المواعظ التي يغلب عليها الطابع الأخلاقي).

وما سيرشد هذا البحث هو تحديد الهدف، وأعني بالتحديد البحث عن هدفٍ آخرَ عمّا قصدته لحظة 2011: «إسقاط النظام». لم يكن من قبيل المصادفة أنّ الشعار الذي حكم المرحلة لم يؤشر على كيفية مواجهة النظام أو ما سيتلو إسقاطه المأمول، فالأفق التي سيّرت حركة الانتفاضة هيمنت عليها القناعة الليبرالية بمسارٍ طبيعيٍّ للتاريخ نحو الديمقراطية، والمأمول كان انضمامنا إلى منزلة دول أوروبا الغربية في النظام العالمي القائم، ولهذا فليس من المستغرب أنّ البُعد الترغيبيّ للثورة المضادة تلخص في توفير مداخل ومساحة لنمط العيش الغرب أوروبي هذا لشرائح الطبقة الوسطى (والسؤال هنا هو: إنْ كانت دول أوروبا الغربية تحتلّ منزلتها هذه على حسابنا، فعلى حساب من سننضم إليها نحن؟ شعوب المرّيخ؟). ما نتج من واقع ترهيب الأغلبية (الكادحة) وترغيب الأقلّية (الطبقات الوسطى) لم يكنْ نفيًا لأفق الانتفاضة، بل نتيجتها الطبيعية.

ومع أنّ شعار نفسه سقط و«كثرت سكاكينه» على أساس نقطة صمته عما سيتلو إسقاط النظام على وجه التحديد، فلا بدّ من تقييم منصفٍ لما مثّله من انتفاضاتٍ حرّكتها آمالُ الثورة وسيّرتها أفقُ الثورة المضادة، بدلَ الانقسام بين التنصّل الكامل من تلك اللحظة واعتناقها جملةً وتفصيلًا، فالتنصل والاعتناق ينمّان عن يأسيْن، يأسٌ من إمكانية انتفاضة مستقلة (يأس من الناس)، ويأسٌ من إمكانية أفقٍ مستقلة (يأس من الفكر)، نظلّ بأيٍّ منهما مرهونين بلحظة 2011. ما سيرشد هذا البحث هو، إذن، تعريف النظام المستهدف تحقيقه، والنظام، لكونهِ في الأصل مشروعًا سياسيًّا، لا يمكن تعريفه بإجراءاته (مثل: «برلمان منتخب» أو «فصل السلطات» أو «سيادة القانون» أو غيرها)، بل الإجراءات الملازمة تعرّف وتُعرَف وفق مقاصد المشروع هذا، فمن الواجب علينا تفادي – بل ورفض ومحاربة – التسليم بهذا الإجراءات والأُطُر كأمور واقعية وقابلة للتطبيق أو حتى متوافقة مع آمال حركة الانتفاضة العربية.

إنّ مهمّة الساعة هي البحث والتنقيب (العملي والنظري) عن خامة هذا النظام الجديد بما يتوافق مع آمال الانتفاضة ويتخالف مع الأفق الرجعية التي اقتادتها نحو موتها.

Skip to content