عمان وساحل شرق أفريقيا: التاريخ الفعلي وتلفيقات النظام السلطاني

تصور السرديات التاريخية مدن ساحل الشرق الأفريقي بأنها جزءٌ رئيسٌ من التطور التاريخي «الطبيعي» للسلالة السلطانية الحالية التي حكمت سلطنة مسقط وعمان منذ منتصف القرن الثامن عشر، ويستدلّ على صحة هذه الرواية السلطانية بوجود المجتمعات العربية-السواحيلية، لتزخرف الرواية وتدعّم بأساطير التاريخية تنسب للعمانيين الفضل في نشأة مدن شرق أفريقيا وكأنها لم توجد قبلهم، فيعزى إليهم انتشار التجارة والإسلام سببًا لنشوء وتطور هذه المدن ومعها الحضارة السواحيلية.

ولكنّ التأريخ الدقيق، غير المدفوع بأوهام السلالة السلطانية وادعاءاتها عن ماضيها، سيدرك أفريقية هذه المدن الأفريقية، وسيرى أنّ التأثيرات الطبيعية من التجارة البحرية للمحيط الهندي هي ما أدى إلى نشأتها بدءًا من الألفية الثانية بعد الميلاد. ولا بدّ من تأريخٍ دقيقٍ كهذا لفضح أسطورة النشأة الخارجية للحضارة السواحيلية، ولفهم العلاقات العمانية التاريخية الفعلية بساحل شرق أفريقيا أيضًا، فبفهم تاريخ نشأة هذه المدن، تُفهم لحظة التلاقي الحضاري بين العمانيين والسكان المحليين، ففيه لم يكن لعاملٍ واحدٍ  – مثل «الإسلام» – أنْ يكون الدور المحوري في التطور الحضاري، وكأنه سُكِب حبرًا على صفحةٍ بيضاء.

صاغ عالم الآثار البريطاني مارك هورتون مصطلح «الممر السواحلي» في ورقة تحمل الاسم نفسه، نُشرت عام 1987، أي بعد ست سنوات من الحفريات في شانجا، في جزيرة باتي قبالة ساحل كينيا،[1] استخلصت فيها دراسته رجوع السواحيليين إلى أصل أفريقي، وتحديدًا إلى مجتمعات البانتو التي انتقلت إلى العيش في مواقع منفصلة على طول الساحل الممتد 3000 كيلومتر، من الصومال إلى موزمبيق، شرقي أفريقيا، ابتداءً بالقرون الأخيرة لما قبل الميلاد. وعبر تتبع ثلاث بضائع نفيسة (الذهب، والعاج، والصخور الكريستالية) غمرت أسواق جنوب المتوسط وأوروبا خلال القرنين العاشر والثالث عشر، يتقفى هورتون أثر هذه المنتجات ليجده في شرق أفريقيا، ويجادل بأنّ وصولها إلى المتوسط شاهدٌ على التطورات التاريخية التي حدثت خلال نفس الفترة على الشريط السواحيلي.

ويذهب إلى أنّ هذه النقلة لم تكن خارجية السبب، فالتغيرات الداخلية دفعت سكان الساحل نحو المحيط بالثروة التي جلبها، ويستدلّ بذلك على اكتشافات أثرية حديثة في 400 موقع ووثائق تاريخية عن المنطقة، يستنتج أنها ذات ثقافة واحدة وأسلوب الحياة واحد، فقد كانت نقاطًا في شبكة تبادل معقدة تمتد إلى داخل القارة، وذلك في أثناء ألفية «لم تقام فيها أي مستوطنات أجنبية على ساحل شرق أفريقيا»، مع اتصالها بشبكة التجارة في المحيط في ذلك الوقت، وإن كانت التجارة وقتها بسيطة وقائمة على التبادل المباشر مع عدد قليل من الأسر.[2]

والحفريات في شانجا تبين أن أول ثلاثة مساجد خشبية بنيت للنخبة من الذين اعتنقوا الإسلام خلال القرن التاسع، أي بعد قرن من استيطان المنقطة. وفي القرن التالي (العاشر) بُنيَ أول مسجد حجري في شانجا، ليتزامن ذلك مع ازدهار التجارة في المحيط الهندي الناتج عن إعادة توجيهها من شمال المحيط الهندي، وإلى المتوسط، عبر البحر الأحمر، بعد ثورة المستعبَدين تحت حكم العباسيين في البصرة والخليج العربي. يؤكد هورتون أن الدخول في الإسلام كان تدريجيًّا، بدءًا من النخبة في القرن التاسع، حتى انتشر في كافة الأوساط في القرن الرابع عشر. ورقة هورتون هذه مفيدة لدراسة تاريخ شرق أفريقيا لأنها توضح الأصل الأفريقي للساحل ومركزيته في هذا التاريخ، وجهود الشعوب السواحيلية خلال تلك الفترة في إعادة تخيل أنفسهم واعتماد أسلوب حياة جديد يتناسب مع الازدهار الذي جلبته طرق التجارة الجديدة التي استمرت نافذةً حتى وصول البرتغاليين في القرن السادس عشر، وتقدم المورقة تفسيرات تاريخية علمية قاطعة للتغييرات التي حدثت في المنطقة بدءًا من القرن العاشر، بما يتنافى مع الروايات العنصرية الذي تمررها الدولة السلطانية عن تاريخ العلاقات بين شرق أفريقيا وعمان، التي تختلف مع نصوص الرحالة العرب الأوئل أيضًا في رحلاتهم إلى شرق أفريقيا، والدراسات العلمية الأثرية للشريط الساحلي.

العلاقة الحالية بين من يعيش في عمان والسواحليين في شرق أفريقيا هي نتاج مسار تطور تاريخي طويل، وهي علاقةٌ ذات طرفين فاعلين، لا طرف واحد كما تقدمها الرواية السلطانية بتصويرها كعلاقة فاعلٍ ومفعول به، أحدهما صنع التاريخ والآخر موضوع صنعته، فلا يتناسب السرد التاريخي مع صورةٍ كهذه إلا بتغييب جزءٍ كبيرٍ من التاريخ الفعلي. وسيرى المراقب الفطين أنّ أكثر مسؤول في النظام السلطاني حديثًا عن هذا التاريخ هو أحمد الخليلي، مفتي النظام، فتراه يذكر في أحد محاضراته على قناة الاستقامة «التاجر اليوناني الذي كان في الإسكندرية»، ويرجح أنه يقصد كتاب «دليل بحر اريترا» (The Periplus of the Erythraean)، ويقول: «زار زنجبار في القرن الأول الميلادي وقال إنه وجد في سواحل شرق أفريقيا مستعمرات للعرب من جنوب شرق شبه الجزيرة العربية، أي عرب اليمن وعمان».[3] هذا التمديد التاريخي للوجود العماني على الساحل الأفريقي يستهدف به الخليلي صراحةً الردّ على المعتقدات الرائجة (الصائبة) حول جِدّة هذا الوجود، وليس من المستغرب أنّ واحدًا من أهم القوى الفكرية لتعزيز سلطة النظام سيحاول إكساب غطاء الشرعية على تورط آل سعيد في استعمار سواحل شرق أفريقيا واستغلالها خلال القرن التاسع عشر، بربطه بمقولات عن وجودٍ عربيٍّ عتيقٍ، في عملية مزدوجة تعزز بها الهوية العمانية، وينحّى بذكرها الأصل الأفريقي للبناء الحضاري الساحلي لشرق أفريقيا، فينكر وجود الأفارقة السود ومجتمعاتهم، وأفكارهم وخيالهم، وإحساسهم بالانتماء والملكية والمشاركة في إنشاء مدنهم وحضاراتهم، فتعمل على إزالتهم بشكل رمزي من أراضيهم.

تروي الاكتشافات الأثرية قصةً مختلفةً عما اختلقه النظام الحاكم في عمان اليوم، كما يشهد عليه بحث هورتون سابق الذكر، وتأكيدًا على الأصل الأفريقي للحضارة الساحل، يرجع علماء الآثار والتاريخ إلى الأدلة الأثرية ليستنتجوا أنّه «لم يُعثَر على مجتمع مسلم مستقر» قبل القرن الثالث عشر،[4] وأما التاجر اليوناني الذي تحدث عنه مفتي عمان، وقال إنه زار ساحل «أزانيا» في القرن الأول الميلادي، فما وجده فيها هو سكّانها الأصليين، الذين يعملون في صيد الأسماك ويستخدمون السفن.[5] وهؤلاء استوطنوا الشريط الساحلي بعد أن قدموا من داخل القارة، وتشكَّلت بينهم ثقافة ساحلية موحدة تعود آثارها إلى الألفية الأولى، حيث تميزت القرى «بعمرانٍ محلّي مصنوعٍ من التربة والقش».[6] ويثبت وحدة الثقافةِ قطعُ الفخار الأثرية المصنوعة من مواد محلية أفريقية، التي عثر عليها على طوال المستوطنات الساحلية،[7] بل والكثير من المشغولات الفخارية التي عثر عليها في ظفار وصحار في عمان، تشابه تلك التي عُثر عليها على ساحل شرق أفريقيا خلال نفس الفترة،[8] يمكن منها الاستدلال على أنّ حضارة الساحل الأفريقي بنَت مستوطناتٍ على طول الساحل العماني، وأنّ مدن شرق أفريقيا أفريقية الأصل والعمران، ظلت دون تأثيرات خارجية خلال معظم الألفية الأولى حتى بدأت التغيرات المادية في تشكيل المنطقة في بداية الألفية الثانية.

ورغم وفرة الأدلة الأثرية، يواصل النظام السلطاني في عمان تشجيعه ومعونته المالية في إنتاج ونشر روايات أبعد ما تكون عن الدقة التاريخية فيما يتعلق بتطور المدن الساحلية السواحيلية. ففي كتابٍ للباحث العماني سعيد النعماني حول الهجرات العمانية عبر التاريخ إلى شرق أفريقيا، روجت له مختلف وسائل الإعلام المحلية والجمعيات المدنية الحكومية،[9] يكرر النظرية التاريخية القائلة بأن نشأة المدن الساحلية لشرق أفريقيا بدأت مع وصول الملك سليمان بن عباد بن عبد بن الجلندى (ملك عمان) عام 696م، واستمر تطورها مع ذريته.

وهذه النظرية إن تميزت بشيء فهي كثرة التناقضات، وخاصة في ما يتعلق بمناقشة المدن وظهورها في شرق أفريقيا، ففي بداية بحثه يؤكد النعماني أن الخليفة الأموي (للدولة الإسلامية في دمشق) أرسل عشرة آلاف شخص كلّفهم بأقامة مدن الساحل الشرق الأفريقي، ثم يناقض نظريته بتأكيده أن الملك سليمان أسس مملكته هناك، ومعها بدأت إقامة المدن على طول الساحل من ماليندي إلى موزمبيق، ليتغاضى بذلك عن وجود عشرة آلاف شخص ذكرهم هو للتو، فهل كان الملك سليمان من أسسها أم الخليفة الأموي؟ والأبحاث الأثرية لم تكشف عن وجود هذه «المدن العمانية» على أيّة حال ولكنّ الترويج لسرديات كهذه يدفعه التوافق مع روايات النظام، لا الدليل التاريخي.

والدليل التاريخي يشير إلى أنّ تطور الحضارة السواحيلية في شرق أفريقيا بدأ يتبلور بدءًا من القرن التاسع الميلادي وأنها بلغت ازدهارها في القرن الرابع عشر، في تغيّراتٍ تفيد الأدلة الأثرية على «تبنّي السكان الأصليين لها، لا فرضِها من الخارج».[10] كما يقدم الرحالة العربي المسعودي أدلة من مذكرات رحلته إلى شرق أفريقيا عام 916م، سافر فيها مع بحارة عمانيين إلى كلوة ووصل إلى سوفالا في موزمبيق.[11] يذكر المسعودي أن ملك سوفالا الأفريقي، الذي يصفه بالكلمة السواحيلية «مفالما» (Mfalme)، كان يملك جيشًا قوامه 300 ألف فارس، وكان يمارس تجارة الذهب والعاج والعنبر،[12] ولا يذكر وجود أي ممالك عمانية ولا أطلالٍ لأيٍّ من ذلك على طول الخط الساحلي خلال رحلته في القرن التاسع الميلادي. وكان المسعودي هو من أطلق على المنطقة مسمى «أرض الزنج» في إشارة إلى سكانها، السود،[13] بما يتوافق مع الأبحاث الأثرية القائمة حتى يومنا هذا، ويتخالف مع السرد التاريخي للنظام السلطاني، الذي في سبيل ترسيخ هويةٍ عمانيةٍ تشرعن وجوده، يقدم صورةً معيبة وعنصرية وتفتقر للدقة عن علاقة العمانيين بمدن الساحل، التي أسسها أهل القارة في سعيٍ داخليٍّ لإعادة تخيل طريقة جديدة للحياة تتناسب مع التوجه الجديد إلى طرق التجارة الجديدة في المحيط الهندي.

وحتى انتشار الإسلام، انتشارًا كان أحد أبعاد إعادة التخيل هذه، يدعي النظام السلطاني أنّ للعمانيين الفضل فيه لما يكسبه ذلك إياه من شرعية دينية، ولذلك يتجه الخليلي عكس اتجاه الأدلة ويدعي أن العمانيين كانوا أول من أنشأ مسجدًا في شرق أفريقيا، في زنجبار، في القرن السابع الميلادي،[14]  أي قبل قرنين من تشييد أول مسجدٍ في شانجا حسب ما تكشفه الآثار. وما ينسب من فضل إلى العمانيين في قيام المساجد – ومن ثم الإسلام – في شرق أفريقيا، يُكمَّل بتعزية ازدهار الحضارة السواحيلية في القرن الثالث عشر إلى مملكة النباهنة العمانية، التي بثت القناة الرسمية للنظام السلطاني برنامجًا وثائقيًا عن «أثرها» المحوري في هذا التطور.[15]

يتناقض هذا الطرح مع المؤرخين والعلماء الذين توصلوا إلى إجماع في نتائج أبحاثهم على أن قرار تبني الإسلام من قبل الشعب السواحلي كان قرارًا محليًّا بالأساس، سبق مجيء العمانيين أو العرب. وأن انتشار الإسلام لم يواكب التطور السريع للمدن في شرق أفريقيا، بل انتشر ببطء شديد، من أعلى الهرم الى أسفله، على طول مجتمعات الساحل الشرق أفريقي من القرن التاسع حتى القرن الرابع عشر الميلادي، بما يطعن في مقولات تسبب انتشاره بالتحضر والتطور التاريخي.

فمع أنّ أول مسجد حجري (بنيَ في جزيرة بات، مقابل كينيا) بنيَ في منتصف القرن العاشر الميلادي، ولم يسبقه بقرن إلا ثلاثة مساجد خشبية صغيرة راودها النخبة،[16] فعندما زار ابن بطوطة مومباسا وكلوة عام 1331م – وهو من صاغ مفردة «السواحيلية» في إشارة إلى المدن الساحلية[17] – وصف سكان الجزء الشمالي من الساحل بأنهم «ذوو بشرة داكنة وكثير منهم زنادقة»،[18] في شهادة تاريخية لابن بطوطة تفيد بعدم انتشار الإسلام بعد بين الشعب السواحلي خلال القرن الرابع عشر الميلادي، ودلالةٍ على البطؤ الشديد لانتشار الإسلام بالمقارنة مع التطورات في العمارة والتجارة والتنظيم السياسي التي حدثت على ساحل شرق أفريقيا خلال القرون الثلاثة الأولى من الألفية الثانية، بما يخالف الرواية التاريخية للنظام السلطاني التي تنسب للعمانيين الدور في نشر الإسلام في شرق أفريقيا والحضارة التي نتجت عن ذلك في القرون اللاحقة.

من الواضح أن من صنع تاريخ مدن ساحل شرق أفريقيا هم الأفارقة أنفسهم، والحضارة السواحيلية نشأت على أراضيها، ولم تستورَد، خلال الألفية الأولى بعد الميلاد، مهما لفّق النظام السلطاني في عمان وروَّج وادعى من فضل له في تأسيس الحضارة، وعيّن لنفسه مكانةً أعلى في هرم العنصرية بإعادة إنتاج الرواية الاستعمارية الأوروبية، ومهما استدعى من حججٍ متناقضة وأدلة واهية وادعاءات لا أساس لها، فالدليل الحسّي العياني، وكلّ ما يشير إليه من عمران وثقافة على ساحل شرق أفريقيا، ينقض ذلك ويؤكد نقطة انطلاقٍ أفريقية للتاريخ الأفريقي هذا.

[1] Mark Horton, The Swahili Corridor (Scientific American, 1987), 87.

[2] السابق، 88.

[3] الخليلي, أ., 2021. الشيخ أحمد الخليلي يتحدث عن الوجود العماني في شرق أفريقيا [online] Youtube.com. Available at: https://www.youtube.com/watch?v=_V9kkNrz-zM

[4] Francois-Xavier Fauvelle, The Golden Rhinoceros: Histories of the African Middle Ages (Princeton: Princeton University Press, 2018), 146.

[5] Fleisher, J., Lane, P., LaViolette, A., Horton, M., Pollard, E., Quintana Morales, E., Vernet, T., Christie, A. and Wynne-Jones, S. When Did the Swahili Become Maritime?, American Anthropologist, 117(1), 2015, 3.

[6] السابق، 7.

[7] Elizabeth Isichei, A History of African Societies to 1870. (Cambridge: Cambridge University Press, 1997), 128.

[8] Fleisher et al, When Did the Swahili Become Maritime?, 7.

[9] النعماني، سعيد. شرق أفريقيا .. الوجود العربي/ العُماني منذ القرن السابع الميلادي – مجلة نزوى. [أونلاين] مجلة نزوى.

[10] Horton, The Swahili Corridor, 90.

[11] Freeman-Grenville, The East African Coast: Select Documents from the First to the Earlier Nineteenth Century (London: Collings, 1975), 14.

[12] السابق، 15.

[13] السابق 14.

[14] الخليلي, عن الوجود العماني في شرق أفريقيا.

[15] وثائقي: أثر التواجد العُماني في شرق أفريقيا. تلفزيون عمان [أونلاين].

[16] Horton, The Swahili Corridor, 90.

[17] Freeman-Grenville, The East African Coast, 31.

[18] السابق، 27.

Skip to content