الحبيب القزدغلي: واجب مؤرخ اليوم أن يبحث، ويجمع، ويحفظ بصمات تراث اليسار

تمهيد

يمر قرن على بعث أول نواة لحركة شيوعية في تونس، ما يزال تاريخها مجالًا بحثيًّا غير مكتمل بذاته لدى المختصّين في تاريخ تونس المعاصر ولم ينل ما يكفي من الاهتمام من حيث المعالجة والتأويل، سواء من خلال الوقوف على أبرز محطاتها الزمنية أو على المدونة الفكرية التي أنتجتها، فحتى وثائق الحركات اليسارية مثل «الكرّاس الأصفر» الصادر في الستينيات والذي تناولت فيه حركة برسبكتيف «الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي» موضوعًا للدرس، أو مقال محمد حرمل الصادر سنة 1968 حول طريق التطور اللّا رأسمالي، لا يُذكَران إلّا للنقد والتشهير وليس للنقاش الهادئ، وتعميق النظر فيهما. لقد بقيت أغلب المحطّات الهامة في تاريخ اليسار التونسي مُهمَلة في الحقول المعرفية أو على المستوى الإعلامي، الأمر الذي يدفعنا إلى التأمل في تاريخها وحاضرها ونقدها ونقد نقدها، في واقع سياسي مأزوم ووضع اجتماعي متردّي. يسعى هذا الحوار الذي أجراه أسامة سليم مع الحبيب القزدغلي إلى النبش في تاريخ اليسار والبحث عن أرضية جديدة للمّ شتاته، ليغدو طرفًا جديًّا في الساحة السياسية. فأيّ أفق للحركة اليسارية في تونس؟ وأي شروط لعودة اليسار كقوة سياسية جديّة كمدافع عن الحريّات الفردية والمسائل النسوية؟ كل هذه أسئلة نحاول إثارتها مع المؤرخ الجامعي والناشط السياسي حبيب القزدغلي، ونبحث عن صلات وصل لها مع التنظيمات اليسارية الحالية.

قرن يمرّ على تأسس الحركة الشيوعية في تونس، كانت البلاد التونسية تعيش حينها تحت وطأة الاستعمار وفي عالم خرج لتوه من حرب عالمية، وأمام عداء أوروبي للشيوعية مستفحل. كيف كانت سياقات تأسيس الحركة الشيوعية في تونس؟

تأسّست الحركة الشيوعية في تونس خلال سنة 1921، ولم يكن ظهورها في ذلك التاريخ اعتباطيًّا، فهو مرتبط بالتحولات التي شهدها اليسار العالمي إثر الحرب العالمية الأولى وما أحدثته ثورة أكتوبر الروسية (1917) من نقلة، وبما تلاها من نقاشات وصراعات حول مصير الدولة الاشتراكية الأولى التي ظهرت في العالم حيث استندت أطراف داخلية في روسيا إلى قوى خارجية من أجل إجهاض الثورة البلشفية، وردًّا على ذلك تجمع عدد من الأحزاب في منظمة أممية جديدة في مارس 1919 تحت اسم «الأممية الثالثة» (الأممية الشيوعية). وفي فرنسا انعكست تلك التطورات عبر انعقاد مؤتمر الحزب الاشتراكي الفرنسي في أواخر ديسمبر 1920 بمدينة تور. وبرز في تلك الظروف التاريخية نقاش قوي وساخن في صفوف الاشتراكيين الفرنسيين حول الانتماء إلى الأممية الثانية أو إلى الأممية الثالثة. ولم تكن تونس بمعزل عن ذاك النقاش، حيث كانت توجد بها جامعة اشتراكية تم تأسيسها سنة 1908 على يد ألبير كاتون وهو طالب تونسي يهودي يدرس الطب بمدينة ليون في فرنسا حيث انخرط في صفوف الطلبة الاشتراكيين.

إذن فالفكر الاشتراكي والممارسة النقابية كان لهما حضور وإن كان متواضعا في تونس قبل سنة 1921، كذلك كان للتيار الاشتراكي الفوضوي موطئ قدم في تونس منذ 1888 عن طريق طبيب إيطالي قدم لتونس خلال موجات الهجرة الإيطالية لتونس حينها، حيث كان العمال الإيطاليين يمثلون فيها يد عاملة منتشرة بكثرة وتتعرض لاستغلال كبير من قِبل الشركات الاستعمارية ومن طرف أصحاب رؤوس الأموال الأوروبيين، فبرزت في صفوفهم حركات اشتراكية انتصرت للنزعة الفوضوية وساهم هؤلاء الإيطاليين في إصدار عدة جرائد باللغة الإيطالية في مرحلة أولى وباللغة الفرنسية في مرحلة ثانية. وهكذا ساهمت تلك المبادرات وهي أوروبية الأصل في انتشار الفكر الاشتراكي والنقابي في بلادنا، فعلى سبيل المثال: كانت تونس من أول البلدان في المنطقة التي شهدت محاولات متكررة للاحتفال بعيد العمال في غرة ماي / أيار وتعود تلك المساعي إلى الدكتور كونفرتي الاشتراكي الفوضوي الذي اشتهر أيضا بنشر الطب الاجتماعي في صفوف العمال لحمايتهم من الأمراض، وكان أيضا من مؤسسي المستشفى الإيطالي «سبيطار الطليان» أو ما يعرف الآن بمستشفى الحبيب ثامر. 

ولا يعتبر قدوم الدكتور كونفرتي إلى تونس استثناءً فالعداء للفكر الاشتراكي والشيوعي كان منتشرًا في أوروبا، وأمام ملاحقة أنصاره ومحاكمتهم كانت تونس ملاذًا آمنًا للبعض من المناضلين مثل جول مونتال الذي قدم إلى تونس إثر العفو عنه بعد أن قضى مدة طويلة ملاحقًا ومحكومًا عليه غيابيًّا بسبب مشاركته في أحداث «كمونة باريس» سنة 1870، لذلك أصبح الفكر الاشتراكي مألوفًا، على الأقل في تونس العاصمة وبعض المدن والمراكز العمالية بداية من القرن العشرين. ونفس الأمر كان بالنسبة للعمل النقابي والإضرابات. ورغم هذا الزخم والحضور الاشتراكي في تونس، لم تكن مواقف الاشتراكيين واضحة تجاه الاستعمار بمنظورٍ تحرريٍّ، حيث كان موقف أغلبهم ضد المظاهر البشعة للاستعمار من قتل وتهجير واستغلال، غير أنهم لم يكونوا ضده بشكل مطلق حيث اعتبروا الاستعمار نوعًا من أنواع نشر القيم الأوروبية الجديدة في أفريقيا وآسيا، فذهبوا إلى أن الاستعمار يساهم في نشر التمدّن والتعليم وقيم الحضارَة الغربية خارج الفضاء الأوروبي. لكن الأمر سيتغير بعد تأسيس النواة الشيوعية الأولى سنة 1920 إذ اعتبر التيار الجديد (الشيوعي) الذي ظهر إثر ثورة أكتوبر الروسية أن مقاومة الاستعمار والدعوة إلى استقلال الشعوب المولّى عليها من المبادئ الأساسية للحركة الجديدة، وهو ما جعل أغلبية منخرطي الجامعة الاشتراكية في تونس تساند اللائحة المعروضة في مؤتمر تور (ديسمبر 1920) والمطالبة بالانخراط الفوري في الأممية الشيوعية الثالثة.

وهنا تبرز أهمية بعث النواة الأولى للحزب شيوعي في تونس، بتاريخ 27 مارس 1921 بمدينة فيريفيل (منزل بورقيبة حاليًّا)، حيث ضمّت في صفوفها مناضلين تونسيين مسلمين مثل محمد نعمان ويهود مثل أنريكو كوستا، وتميزت بمشاركة العناصر النسائية مثل السيدة رامبو وهي معلمة تونسية. ومباشرة بعد عقد هذا المؤتمر صدرت صحف باللغة العربية تدافع عن الفكرة الشيوعية مثل صحيفة «حبيب الأمة» وهي أول جريدة شيوعية باللغة العربية في تونس، إضافة إلى جرائد أخرى مثل «البصير»، «النصير»، «المهزوم» و«المهضوم»، إلخ…، ورغم أن هذه العناوين كثيرًا ما كانت تضطر إلى الاحتجاب بسرعة بسبب الأحكام بالسجن والمصادرة والخطايا المالية فقد شكل بعث النواة الأولى للحزب الشيوعي حدثًا مفصليًّا في تاريخ اليسار التونسي وأدى إلى عدة تبعات نجد لها رجع صدى إلى يومنا هذا. 

بعيدًا عن العوامل الخارجية، لم يكن تأسيس نواة الحزب الشيوعي بمعزل عن العوامل المحلية، حيث أن سنة 1921 كانت مليئة بالتغيرات في تونس، إذ شهدت تلك الفترة ميلاد أعرق الفرق الرياضية مثل النادي الإفريقي والترجي الرياضي والاتحاد الرياضي التونسي أو الحزب الحر الدستوري وجامعة عموم العملة التونسية، ونحن نقف الآن بعد مئة سنة من تأسيس النواة الأولى للحزب الشيوعي لتقييم الحركة الشيوعية، أي تغيرات منذ ذلك الحين إلى الآن؟

هناك ولا شك تغييرات عديدة بين الأمس واليوم، فالتأسيس تم في فترة كانت فيها تونس قابعة تحت الاستعمار، ولم يكن أحد يتصور حينئذ أنه بالإمكان التخلص منه بسرعة، أما اليوم فتونس هي دولة مستقلة منذ سنة 1956 وشهدت خلال هذه المدة تطورات سياسية عديدة لعل أهمها ثورة الحرية والكرامة في سنة 2011، وطبيعي أن يكون لكل مرحلة زمنية خصوصيتها التاريخية، مثلًا، مسألة الاستقلال كانت حاضرة بقوة في بداية عمل الحزب الشيوعي التونسي حيث أن عبارات وشعارات مثل «الجهاد الثوري من أجل الاستقلال» أو «طرد المستعمر» أو «من أجل الاستقلال الذي سيجلب السعادة إلى العملة والرخاء للفلاحين» كانت حاضرة بقوة في ملصقات الحزب وبياناته وصحفه. أنا أتحدث كمؤرخ هنا من خلال الوثائق التاريخية التي نعثر عليها في الأرشيفات العمومية والخاصة. ففي مرحلة لاحقة، وتحديدًا خلال فترة النصف الثاني من ثلاثينات القرن العشرين، وقع تغيير في سلم الأولويات، فلم يعد الاستقلال على رأس مطالب الحزب الشيوعي وتم تعويضه بأولوية تكوين جبهة شعبية مدافعة عن الديمقراطية، والسبب في ذلك يعود إلى تصاعد المد الفاشي الإيطالي ثم النازي في ألمانيا الذي أصبح يهدد باكتساح العديد من الدول الأوروبية. لابد من التذكير هنا أنه لما نشأت الأممية الشيوعية كانت عبارة عن حزب عالمي هدفه رفع الحصار على الدول الخاضعة للاستعمار، وكانت تساند الحركات والدول التي تطالب بالاستقلال، ولكن مع صعود هتلر للحكم سنة 1933 وما رافق سياسته من مظاهر عنصرية جعلت الأحزاب الشيوعية الأوروبية خاصة تغير من معادلتها، ولم تعد مسألتا الوصول إلى السلطة بالنسبة للدول الأوروبية ونيل الاستقلال بالنسبة للدول الأفرو-آسيوية هدفًا رئيسيًّا، إذ وقع في تلك المرحلة التراجع بل والتخلي عن تلك المطالب وتعويضها بأولوية تكوين الجبهات الشعبية لمناهضة الفاشية التي أُعطِيت الأهمية القصوى في سلّم الأولويات، فقد تقرر هذا التوجّه خلال المؤتمر السابع للأممية الشيوعية لسنة 1935. فشعار الاستقلال الذي كان واضحًا كمطلب مطروح تحقيقه منذ البدايات منذ 1921 إلى حدود سنة 1935، تم التغاضي عنه ضمن تغيير في الأولويات وليس تراجعًا عنه.

المؤسف أن هذا التحول التكتيكي تم توظيفه من طرف الخصوم السياسيين للحزب الشيوعي التونسي الذين أشاعوا منذ ذلك الحين القول إنه كان ضد مطلب الاستقلال. وهنا لا بد من تناول الأحداث بهدوء المؤرخ وبمناهج هذا العلم الذي يبحث عن الحقيقة، ففي الحزب الدستوري نفسه سنة 1921 حدث خلاف في صفوفه بين شقين، فهناك من كانوا يعتبرون أن عبد العزيز الثعالبي قد ذهب أشواطَ بعيدة وأصبح راديكاليًّا في تقييمه للوضع السياسي في تونس مما أدى إلى حدوث انقسام في صفوف الحزب الدستوري وانشقّ عنه عدد من القيادات وأسسوا الحزب الإصلاحي بقيادة حسن القلاتي. وبعد الحرب العالمية الثانية كذلك طرحت إشكالية العلاقة مع الدولة المُسْتعمِرة، فالحركة الشيوعية مثلًا، قدّمت مقترح «الاتحاد الفرنسي»، وبما أن الشيوعيين الفرنسيين كانوا مشاركين في الحكم بعد الحرب العالمية الثانية – وما يعنيه ذلك من علاقات أكثر عدلًا ومساواة مع المستعمرات السابقة – وكان المقترح إلغاء معاهدة الحماية تمامًا والإعلان بصفة طوعية الانضمام لـ «الاتحاد الفرنسي» المشابه للكومنولث، هذا المقترح أحدث نقاشات داخل الحزب الشيوعي التونسي نفسه وأدى لاحقًا إلى طرد علي جراد، الكاتب العام للحزب الشيوعي، من صفوف حزبه في المؤتمر الثالث المنعقد في سنة 1948 واتهامه بـ «التعصب القومي» ولن يعود إلى صفوف الحزب إلا خلال سنة 1957 بعد قام أن هذا الأخير بنقد صريح وعلني لأخطائه في الفترات السابقة.

في كل هذه المراحل المذكورة كانت الأسماء التونسية محدودة وقليلة سواء في قاعدة الحزب أو على مستوى هياكل أخذ القرار، ولكن بعد الاستقلال نلاحظ تعزيزًا للحزب بأسماء تونسية، أو ما يطلق عليه المؤرخ عبداللجليل بوقرة «تونسة الحزب الشيوعي»، ولكن استغرقت هذه التونسة سنوات طويلة، خسر إثرها الحزب قاعدته الشعبية وإمكانية بناء تنظيم واسع ومهيكل ؟

صحيح أن مسار «تونسة الحركة الشيوعية» كان طويلًا ومعقدًّا وأحيانًا متناقضًا، ولكن ما يمكن تسجيله أن الهاجس كان دائمًا موجودًا، يخفت تارة ويظهر بقوة في مراحل أخرى. ودور المؤرخ ليس إصدار الأحكام بل محاولة فهم أسباب ذلك. فمثل هذه الحركات اليسارية أسّسها مناضلون أجانب في البداية، مثل روبر لوزون، فهو مناضل فرنسي ولا يتكلم اللغة العربية لكنه سخّر ماله لتوفير مطبعة اتخذ لها مقرا في سوقي بلخير بقلب حي الحلفاوين الشعبي وشرع في إصدار الصحف باللغة العربية كما نشر ملزومات الشاعر الشعبي عبد الرحمان الكافي، فهذا المناضل الشيوعي حمل معه إلى تونس تجربته السابقة في فرنسا. وظروف الاستعمار أوجدت مثل هؤلاء المناضلين الأجانب في تونس، لكنهم رفضوا أن يكونوا أدوات للاستعمار وأن يساهموا في تكريس نظرته.

وقد تواصلت تونسة الحركة الشيوعية لنفسها. وفي فترة الاستقلال وفي الوقت الذي اضمحلت فيه عديد التنظيمات اليسارية والاشتراكية وحتى اليمينية، بقي الحزب الشيوعي التونسي متماسكًا مثله مثل الحزب الدستوري وحافظ على وجوده رغم التضييقات التي أصبح عرضة لها من حكومة الاستقلال التي كانت تتطيّر من كل نقد ولو كان إنشائيًّا ومن أجل الإصلاح، كما أن الحزب عرف في بداية فترة الاستقلال حركة نقدية داخله قام بها عدد من أعضائه المثقفين مثل عبد الحميد بن مصطفى، نورالدين بو عروج، والحبيب عطيّة. هؤلاء انتقدوا بعض مظاهر السياسة المتبعة من قيادة الحزب في الفترة الاستعمارية، وهو الأمر الذي لم يقبل في مرحلة أولى حيث تمّ فصل العديد منهم أو تجميدهم، فالفكرة التي كانت سائدة أن الحزب الشيوعي لا يخطئ، مثل ما تم الترويج لذلك، ولكن من حسن الحظ فإنه سرعان ما تم التراجع عن هذا التوجه الجامد فبعد أشهر قليلة من انعقاد المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي في شهر ماي 1956 تخلّت «القيادة» وقبلت التنازل عن كبريائها ووافقت على بعث لجنة مشتركة متكونة على حدا السواء من المناضلين الذين سبق أن تم تجميدهم، ومن ممثلين عن «القيادة»، وأعلنوا جميعا الشروع في الإعداد لمؤتمر استثنائي التام في نهاية شهر ديسمبر 1957. لقد كان من نتائج هذه العملية المشتركة عودة «المجمّدين» إلى سالف نشاطهم وإلغاء العقوبات وردّ الاعتبار للمناضل علي جراد بعد تسع سنوات من طرده، كما تمّ إصدار نقد ذاتي علني للسياسات الخاطئة التي تمّ اعتمادها وهذا يدل على وجود محاولات جدية على طريق تونسة الحزب ومراجعة القرارات السابقة والنقد الذاتي.

ومثل هذه الحركية، رغم أنها كانت تتمّ في حزب معارض فإنها لم تكسبه تأثير جماهيري واسع، لكن حظي نشاطه بمتابعة طيف واسع من المثقفين. فالكاتب والمفكر ألبير ميمّي الذي كان يدرّس مع أساتذة شيوعيين في معهد كارنو كان يتابع تلك النقاشات قد سجل في مذكراته أنه «لا يمكن أن يكون الأمين العام للحزب الشيوعي من أصل يهودي في بلد أغلبية سكانه يدينون بالدين الإسلامي» ويضيف «قد يكون هذا شكل من أشكال العنصرية ولكنها عنصرية أقبلها»، ونفس هذا الموقف استدل عليه بول صباغ.

واستمرت محاولات التونسة والانخراط في الواقع المحلي وفي السياق الجديد لما بعد الاستعمار والسعي لعدم الوقوع في المواقع الانعزالية عبر سلوك اتخاذ مواقف معارضة ولكن إنشائية، أي معارضة تنتقد السلبي وتسجل الإيجابي وتدعّمه، وتواصل هذا من 1957 إلى 1962، والنقد لم يتعلق فقط بأداء الحزب وسياسته بل امتد للسلطة حيث انتقدوا بوادر المشروع السلطوي الذي كان يلوح في الأفق، غير أن السلطة كانت ترد بقوة وتحول دون توسع نشاط الحزب الشيوعي وتسعى إلى الحد من توسع تأثيره، فمنعت بعض القائمات من الترشّح في بعض الدوائر الانتخابية، وحاصرت القائمات التي استطاعت الوصول إلى مرحلة الحملة الانتخابية وأجبرتها على الانسحاب مثل القائمة التي ترأسها محمد النافع في دائرة سوق الاربعاء خلال الانتخابات التشريعية الأولى (8 نوفمبر 1959)، إضافة إلى حرص الحزب على إصدار جريدة أسبوعية «الطليعة»، وعمل على التشارك مع المناضل الدستوري سليمان بن سليمان الذي سبق رفته من حزبه في مارس 1950، وتمّ إصدار الجريدة التقدمية «منبر التقدم»، لكن هذا النشاط العلني على محدوديته وقع إيقافه إثر المحاولة الانقلابية ضد الرئيس الحبيب بورقيبة، ورغم التنديد الشديد بالانقلاب الذي أعلنه الحزب الشيوعي ضد المحاولة الانقلابية، عمدت السلطة في مرحلة أولى، إيقاف الصحيفتين في شهر ديسمبر 1962، وتم في مرحلة ثانية، تحجير نشاط الحزب الشيوعي التونسي بدية من جانفي 1963 لتدخل البلاد بذلك في عهد الحزب الواحد والزعيم الأوحد.

ولكن لا نشاط يذكر لليسار خلال الستينيات، في المقابل تعتبر فترة السبعينات من أهم المراحل الزمنية التي عاش فيها اليسار التونسي زخمًا، بين ازدهار حركة العامل التونسي وانتشار أطروحاتها وتكوين قاعدة شعبية له حتى محاكمة أغلب أعضاءها وانتقالها إلى العمل السري والمنفى، حيث سجن ثلاثة وثمانين ناشطًا في العامل التونسي وخرجوا لاحقًا بعفو من طرف بورقيبة. عانى اليسار خلال تلك الفترة حالة من الركود، حيث كانت مشاركته محدودة في احتجاجات 1978 ولم يشارك على مستوى تنظيمي إذ أن المشاركات كانت فردية، وحتى سنة 1981 تاريخ حصول الحزب الشيوعي على تأشيرة وخروج أغلب سجناء العامل التونسي من السجن، بقي اليسار التونسي مغيّبًا في تاريخ تونس السياسي إذ ليس له ذكر كبير أو يرد فقط في مسألة الأفق الوطني، كيف نفهم هذا الغياب في الوقت الذي كانت تونس تعيش فيه على وقع تغيّرات اجتماعية وسياسية هامة؟

لا بد من التنسيب وتفادي تسليط الأحكام، ففي عشرية الستينيات من القرن الماضي، كان الحزب الحاكم نفسه يقول إن برنامجه اشتراكي، ووصل به الأمر إلى تغيير اسمه ليصبح الحزب الاشتراكي الدستوري، ولا يزال المخيال العام يحتفظ بالفكرة أن تونس في ذلك الزمن كانت تتّبع «سياسة التعاضد» وهي تجسيد للاشتراكية، أما اليسار التونسي خارج السلطة فقد أعلن جزؤه الشيوعي (الحزب الشيوعي التونسي) عن «المساندة النقدية» لهذه السياسة، أما اليسار الراديكالي ممثلًا في منظمة برسبكتيف فقد انتقد نقدًا لاذعًا هذه السياسة واعتبرها «رأسمالية الدولة». ورغم التغيير الحاصل بداية من 1970 في التوجه الاقتصادي فقد حافظت الحكومة التونسية على طابعها التسلّطي والرافض لمشاركة الأحزاب في الحياة السياسية وهو ما جعل الشباب الجامعي المسيّس يتعرض لحملات القمع والمحاكمات بداية من 1968، وتواصل الأمر في سبعينيات القرن الماضي وطال هذه المرة النقابيين الذي طالبوا بدورهم باستقلالية منظمتهم في جانفي 1978. وفي سنة 1981 تمت محاولات للانفتاح من طرف السلطة استجابة للسياق المحلي الذي كانت تعيشه تونس حيث فشلت في اخضاع الحركة النقابية التي ظلت صامدة رغم محاولات تدجينها واعتقال زعمائها في جانفي 1978، ثم وقع «زلزال» أحداث قفصه في جانفي 1980 عندما اغتنمت مجموعة مسلحة مدعومة من نظام القذافي الجو الخانق السائد في البلاد وقامت بمحاولة السيطرة على منطقة قفصة وهو ما أدى إلى حدوث أزمة سياسية تسبّبت في مرض الوزير الأول الهادي نويرة، رئيس الوزراء حينها، وتردّي الوضع الصحي للرئيس الحبيب بورقيبة فكان توجه السلط نحو الانفتاح في المجال السياسي.

وبعد سنة من وقوع تلك الأزمة سمِح للاتحاد العام التونسي للشغل بتنظيم مؤتمره في مدينة قفصة في ماي 1981 وعادت القيادة النقابية إلى نشاطها على مراحل، كانت بدايتها انتخاب الطيب البكوش كاتبًا عامًّا للاتحاد ثم وقع رفع الاستثناء عن الحبيب عاشور. تمّ هذا على المستوى النقابي، أما على المستوى السياسي فقد أطلِق سراح العديد من المناضلين اليساريين الذين تمت محاكمتهم في سبعينيات القرن الماضي، كما سمِح للحزب الشيوعي التونسي بإصدار جريدة «الطريق الجديد» في بداية جويليه 1981، ثمّ رفِع بعد أسبوعين، الحظر على نشاط الحزب الشيوعي إثر قرار منع تواصل مدة ثمانية عشر سنة. هذا يعني أن جزءًا من اليسار على الأقل أصبح ينشط في العلنية، هناك من ساند هذا التوجه، وحتى يساريين سابقين التحقوا بالحزب الشيوعي أو شاركوه خوض الانتخابات، وهناك أيضًا يساريين اعتبروا أن العلنية غير مقبولة في ظل نظام قمعي. وهناك جزء آخر ممن انتمى إلى اليسار الراديكالي (منظمة العامل التونسي سابقًا) مثل محمد نجيب الشابي الذين قبلوا بالسياق الجديد وأسسوا لاحقًا جريدة «الموقف» التي صدرت خلال سنة 1983، وفي تلك المرحلة أيضًا ناضل اليسار غير المنتمي للحزب الشيوعي ليكون له وجود علني عبر تأسيس حزب التجمع الاشتراكي الذي لم تعترف به السلطة في البداية ولكن تحصل على تأشيرة قانونية في سنة 1987، وتحول التجمع الاشتراكي بعد سنوات إلى الحزب الديمقراطي التقدمي.

إن هذه التحولات على محدوديتها تعني أن الأمور تحركت داخل أواسط اليسار العقلاني والبراغماتي، في حين بقيت عدة تنظيمات يسارية راديكالية (الشعلة – الوطد – البوكت، الخ…) تنشط في السرية وتعتبر أن هذا المسار العلني هو مسرحية ولعبة وتطبيع مع النظام، وبطبيعة الحال وإلى اليوم هناك حركات تعلن انتماءها لليسار، وبالرغم من الزخم الديمقراطي الموجود في البلاد منذ سنة 2011، فهي ما تزال تعتبر أن النضال الثوري لا يكون إلا سريًّا وهدفها المنشود هو الإطاحة بالنظام، في المقابل يعتبر اليسار العقلاني أن التغيير لفائدة العمال ومجموع الشعب يجب أن يكون بالوسائل العلنية المعلومة لأن النضال السري يُفْرَضُ عليك ولا تختاره. والشيء نفسه حدث في سنة 1987 إثر التغيير الذي وقع في رأس هرم السلطة، فكانت هناك مواقف رافضة لذاك التغيير وحدثت نقاشات في أواسط اليسار حوله، وهذا دليل على حيوية اليسار في بعض الأحيان، مما يعني أن اليسار هو جسم حي فيه تيارات مختلفة تقترب من بعضها البعض في عدة مناسبات وحول العديد من المبادرات، مثل مجموعة المئة والخمسين (بعد 1987)، وكان هناك أيضًا تجربة المبادرة الديمقراطية التي ضمّت، إلى جانب حركة التجديد، عديد الشخصيات التي انتمت في السابق إلى اليسار الراديكالي واتفقت على ترشيح الأستاذ محمد علي الحلواني في الانتخابات الرئاسية لسنة 2004، ونفس المحاولة أعيدت في الانتخابات الرئاسية لسنة 2009 عبر ترشيح الأستاذ أحمد براهيم. كانت بحقّ محاولات جدية رغم انعدام توازن القوى بين السلطة ومعارضيها، سعى من خلالها اليسار العقلاني إلى كسر جدار الصّمت، إذ لم يكن الهدف منها أخذ السلطة وإنما كانت محاولات لكسر ذاك الحزام. وقد أخذ هذا الاجتهاد طابعا مكتملًا في مراحل، وأقل اكتمال في مراحل أخرى.

نسعى من خلال إحياء مئوية الحركة الشيوعية في البلاد التونسية إلى استعراض كل التجارب على اختلافها والتعريف بها وبمسيرات الأفراد الذي خاضوها. ونريد من هذا الإحياء العلمي والأكاديمي كذلك التعرف على مختلف المحاولات كتجارب تاريخية وقعت بتونس، حتى وإن كانت مصدر خلاف، فهي، في كل الأحوال، تتعلق بالوضع بتونس فمن الضروري أن ننفض الغبار عليها وأن تعرفها الأجيال الحالية والقادمة بصفتها مجهودات تونسية وقعت على هذه الأرض طيلة المائة سنة، ونفتتح بالتالي مائة سنة أخرى قادمة، ومن الأكيد أننا لن نكون حاضرين إلى نهايتها، غير أن واجب مؤرخ اليوم أن يبحث، ويجمع، ويحفظ بصمات تراث اليسار في تعدّده وثرائه لإنقاذ هذه الذاكرة من النسيان.

 إذن يمكن تمثّل الثورة باعتبارها نقطة فاصلة في تاريخ اليسار حيث خرج إلى العلنية في نشاطه تنظيميًّا وهيكليًّا وأصبحت الأصوات مرتفعة، إضافة إلى ذلك حصلت محاولات للمّ شتات اليسار مثلما حدث في انتخابات سنة 2011 مع الائتلاف الانتخابي للقطب الحداثي الديمقراطي، أو الجبهة الشعبية بعدها بسنيتن، ورغم ذلك كانت النتائج محدودة وعكس المتوقع، كيف يمكن قراءة أداء اليسار بعد الثورة، وليس فقط اليسار الكلاسيكي أو الحزب الشيوعي بل حركات اليسار في مجملها؟

 نعم أحدثت ثورة الحرية والكرامة في سنة 2011 تغييرًا جذريًّا في المفاهيم القديمة التي سادت قبل ذلك التاريخ، فإلى جانب تمكن معظم المكونات اليسارية من خوض تجربة النشاط العلني طرحت من جديد فكرة التحالفات والتقارب بين أحزاب ومجموعات. لقد مثّل تكوين القطب الحداثي الديمقراطي أول تجسيد لهذا التوجه بعد الثورة، ولكنه كان تجربة محدودة ولم تشمل إلّا جزءًا من مكونات اليسار، فالأصل في فكرة القطب أن يكون مجمّعًا لأوسع القوى المعارضة الجدية التي كانت لها مصداقية بصمودها وبنضالاتها في الفترة التي سبقت سنة 2011، وكان هدفها الأساسي المعلن عند انطلاقتها خلال أحد الاجتماعات الكبرى الأولى بقصر الرياضة بالمنزه، هو أن تضم المعارضات الجدية، وعُنِي بها في ذلك الوقت: حركة التجديد، الحزب الديمقراطي التقدمي، حزب التكتل. تلك كانت الفكرة الأساسية للقطب، لكن، ولسوء الحظ، ظهر من جديد منطق الزعامات وطغت على الساحة أمراض الأنا، فلم يشارك في القطب لا حزب التكتل ولا الحزب الديمقراطي التقدمي. وبالرغم من تجمع حول حركة التجديد، عدة قوى تقدمية، مثل بعض الجمعيات، إلا أنه كان تجمعًا منقوصًا وهو ما يفسر نتائجه المحدودة نسبيًّا التي تحصل عليها في الانتخابات التأسيسية (2011).

هذه التجربة أكدت وجود أرضية يمكن أن يتجمع عليها اليسار، ولكن اليسار لن يستطيع لوحده الوصول الى تغيير جذري لموازين القوى يمكنه من الوصول للسلطة. والقضية اليوم بعد مرور عشر سنوات، ليست تجميع اليسار، ولكن توحيد جهوده مع قوى أخرى من خارج فضاء اليسار، وتجربة الجبهة الشعبية رغم أهميتها فقد أثبتت بدورها هذه الخلاصة وتلك القناعة، فالمطلوب ليس تجميع شتات اليسار وإنما توجه هذا اليسار الديمقراطي والاجتماعي والوطني والعقلاني إلى رسم معالم تحالفات واسعة تشمل كافة القوى الوطنية والديمقراطية، ومن المؤكد أن تجربة الجبهة الشعبية وحصولها على 15 مقعد في البرلمان السابق (2014- 2019) ليست هينة، لكن لسوء الحظ، عوض أن تتّسع كما كان الأمر في تجربة القطب عندما كان في رصيدهم خمسة نوّاب في بداية العهدة (في المجلس التأسيسي 2011-2014)، أصبحوا 10 نوّاب في ظرف ثلاث سنوات فقط، في حين أن تجربة الجبهة الشعبية وإن كنا لا نستطيع تقييمها الآن لقرب المسافة الزمنية وعدم اطلاعنا على جوهر الخلافات التي حدثت بين أعضائها، فإن النتيجة التي تحصلت عليها في الانتخابات الموالية في سنة 2019 دلّت على حجم الخسارة حيث أصبحت ممثلة بنائب وحيد وهو منجي الرحوي. كما ظهرت نتائج هذا الانقسام في الانتخابات الرئاسية إذ قدّمت الجبهة الشعبية مرشحين.

كل هذا يعني أننا أمام فترات تقدم وأخرى تقهقر وتراجع وعلينا، أي على المؤرخ، ألا يعطي دروسًا لأحد، وإنما أن يطرح كل هذه المعطيات ويعرضها ويطلع الجميع، وخاصة المناضلين المنتمين لليسار، على كل جوانبها المشرقة والسلبية معا ومن دون تقديم أحكام، لأن دور المؤرخ ينطلق من الوثائق، الذكريات، الشهادات، لتأتي بعد ذلك مرحلة الاستقراء والتأويل والنقد للماضي دون ترذيل ولا تضخيم، فالمهم هو استجلاء معالم الطريق للحاضر والمستقبل. وبيّنت الوقائع أن في البلاد التونسية ما يزال يوجد هناك اتجاهين بارزين: الاتجاه الأول حداثي إصلاحي وعقلاني، أخذ في الظهور في أواسط القرن التاسع عشر وتشكل في مظاهر وتفريعات متنوعة ومختلفة، وكان اليسار التونسي مكونًا من مكونات هذا القطب الواسع، وهناك اتجاه ثاني محافظ، رافض للتغيرات التي شهدها المجتمع دون أن يكون له تعبيرة سياسية مخصوصة حتى قام بتوفيرها الإسلام السياسي منذ مطلع سبعينات القرن الماضي عبر إعلانه المشاركة في الحياة السياسية ببعث حزب سياسي مرتبط بقوى إقليمية تدعمه وتوفر له الإمكانيات المادية الضخمة.

ومحصلة القول، إذا أراد اليسار التونسي أن يكون فاعلًا في المجتمع، ومن العاملين على الإسهام في نحت مستقبل البلاد، عليه التخلي عن الاكتفاء برفع رايته الخاصة، وأن يبحث عن التحالفات الضرورية مع غيره من القوى التي يتقاطع معها في عدّة قضايا مصيرية تهمّ مستقبل كل من يتقاسمون معه الحدّ أدنى من الاتفاق في القضايا المصيرية، فالقوى الحداثية هي أيضا متشظية، وهي حاليًّا ظاهرة سلبية تعد من المشتركة بين اليسار والقوى الحداثية على حدّ سواء. فعليها جميعًا بالتقارب والتماسك. غير أن هنالك عديد الآراء تؤكد أن على اليسار فقط أن يتّحد، وهو قول لا أعتبره صحيحًا، فاليسار وإن اتّحد فأقصى ما يمكن أن يحصل عليه: 15 نائب، وهي حصيلة في النهاية ضعيفة لا يمكن أن تصل به إلى الحكم إلا إذا تحالف مع من يراه الأقرب إليه. لا نتحدث هنا عن الاندماج فالأمر ليس قضية اندماج إننا نطرح هنا على اليسار التفكير في مختلف تجاربه السابقة، وفي علاقاته، وأن يفكر مليًّا في إمكانيات التحالف أكثر من هدر طاقاته في حرب المواقع. ومن الطبيعي أن يحافظ على هويته ونرجو أن تكون هوية أكثر وحدويةً وأكثر تماسكًا، هذا أولًا، وثانيًا نرجو أن يختار القرب من القوى التي يمكن له أن يتقاطع معها.

لكن بالنسبة للتقاطع يبقى صعبًا أيضا وليس فقط مع الأطراف التقدمية الأخرى بل حتى مع مكونات اليسار نفسه، هناك عدة مسائل خلافية وأعود هنا إلى مسألة الحقوق والحريات الفردية في أواسط اليسار، إذ ليس هناك إجماع حولها حتى من داخل الأطراف المكونة للجبهة الشعبية على سبيل المثال، هناك انقسام حتى صلب اليسار نفسه وهو انقسام غير مفهوم ومواقفهم غير واضحة، البعض يعتبر أن الدفاع عن الحريات الفردية تمثل تهديدًا لرصيدها الانتخابي في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة وهناك تنظيمات ليست مقتنعة بمسألة الحريات الفردية.

نعم، اليسار التونسي يجمع بين مكوناته اتفاق يكاد يكون هلاميًا على المبادئ العامة وعلى بعض القيم، لكن في مستوى التطبيق اليومي يمكن ملاحظة، في بعض الأحيان، اختلافات في البرنامج وفي السلوكيات اليومية (تجربة 18 أكتوبر 2005)، أو الموقف بعد الثورة بين من كانوا ينادون بإجراء انتخابات رئاسية مباشرة مع إدخال تحويرات في دستور 1959 وبين من كانوا يطالبون بمجلس تأسيسي يقوم بالإعلان عن دستور جديد إلخ…، شخصيًا أرى أنه لا بدّ من أن نفصل بين الفكر والممارسة السياسية لليسار، والذي نتحدث عنه هنا هو الجانب السياسي أي الحزبي، وهناك مقتضيات تتعلق باليسار كمشهد اجتماعي، لكن هناك قضايا أوسع مجتمعيًّا، لنأخذ مثلا قضية حرية الضمير، فهي ليست قضية يسار فقط، بل اليسار طرف فيها، والحريات الفردية كذلك، بل لم يطرح اليسار هذه مسألة بل كانت سابقة له، إذ كانت من العلامات المميزة لفكر عهد الأنوار وطرحت من طرف الفلاسفة في إطار مكانة الفرد في المجتمع.

فهذه المبادئ وغيرها ليست أفكارا نابعة من اليسار بل اليسار هو التحق بها – يقول صالح الزغيدي «إننا نحن الورثة لفكر الأنوار»، فاليسار هو وراث لفكر الأنوار في إنكلترا وفرنسا، وهي حركات واسعة، بمعنى أنها اقترنت بالحداثة وبالثورة الصناعية واقترنت بنمو التفكير الذي قاده فلاسفة ومفكرون على غرار فولتير، وهو ما يحتم اليوم على اليسار المشاركة النشيطة في الدفاع عن الحريات الفردية، ولكن لا تعتبر تلك المعارك قضية يسارية بالمعنى الضيق، فهي قضية مجتمعية والتفاعل فيها يكون مع الجميع، فقضية الميراث الآن أصبحت مطروحة كمظهر من مظاهر الحداثة التونسية عكس سنوات الخمسينات (صدور مجلة الأحوال الشخصية في سنة 1956)، حيث كانت أقل تجليًّا وتجسدت حينها قضايا أخرى تخصّ الزواج والطلاق ومنع تعدد الزوجات، ولا تزال هناك قضايا مطروحة، ولكن لا يزال هناك أيضا جزء من المجتمع رافض لها، وهو أمر طبيعي، لكن الآن أصبح موضوع المساواة بين المرأة والرجل في الميراث ناضجًا ومناسبًا في السياق الحالي، لأن الحياة اليومية تبين أن لا فرق بين الرجل والمرأة في الإدارة والمسؤولية والوظائف السامية، لم تكن تلك المسألة مطروحة إطلاقا في سنة 1956، والآن أصبحت ممارسة يومية، ولذا على اليسار أن يكون جزءًا من الدفاع عن الحريات الفردية لا أن يحاول إبرازها على أنها فكرة يسارية بل هي بالأساس قضية مجتمعية. نستطيع أن نكون معارضين للفكر اليساري سياسيًّا لكن يمكن أن نتقاطع مع اليسار في طرحه مبدأ المساواة في جميع المستويات وهو ما يمكن أن نجد له حلولًا عمليةً تمكّننا من تحقيق الهدف وترجمته في الممارسة على المستوى الاجتماعي.

الحديث عن الحريات الفردية يقودنا إلى نقطة أخرى لا تقل أهمية، هي القضايا النسوية في اليسار التونسي، والنضالات النسائية داخل التنظيمات اليسارية، سواء قبل أو بعد الثورة، بقيت الحلقة الأضعف ضمن أولويات اليسار، ويتجلى هذا في عدم ترؤس النساء لقائمات انتخابية خلال سنوات 2011، 2014 و2019 سوى بشكل محدود، أي حضور محدود في أدبيات اليسار وتنظيماته عمومًا وفي تونس خصوصًا؟

موضوع الحركة النسوية داخل التنظيمات الاشتراكية والشيوعية مر بمراحل عديدة بدوره، فقد تم تبني قضية تحرر المرأة في مؤتمر الأممية الاشتراكية الثانية في كوبنهاغن سنة 1908، حين تقدمت المناضلة الألمانية كلارا زيتكين بلائحة لتبني يوم 8 مارس كعيد وطني للمرأة تذكيرًا بمعاناة النساء في مصانع شيكاغو في أمريكا، ورغم أن قضية المرأة تطورت نظريًا في أدبيات اليسار إلا أنه واقعيًّا لم تواكب نفس التطور، ناضل اليسار مع القوى الأخرى من أجل حق المرأة في التصويت، ولم تنل هذا الحق في فرنسا إلا في سنة 1945. ولكن رغم ذلك ظل اليسار متردّدًا في موضوع المرأة، حيث كانت الفكرة لدى العديد من مكوناته تتلخص في أن تحرير المرأة لن يتمّ إلا عبر الثورة الاشتراكية، لذلك لم تكن قضية المرأة قضية محورية أو أساسية، ولكن في تونس كان الأمر مختلفا قليلًا، إذ أنّ أغلب المنظمات النسائية هي منظمات قريبة من الحزب الشيوعي التونسي مثل «إتحاد الفتيات» أو «إتحاد نساء القطر التونسي»، ولكنها كانت في المجمل منظمات تهتم بالمرأة عمومًا، وليس فقط المرأة اليسارية. تواصلت النقاشات حول دور المرأة في صفوف اليسار التونسي حتى تأسيس «نادي الطاهر الحداد» خلال أواخر السبعينيات.

ولكن من الملاحظ أن النواة المؤسِّسة للحركة النسوية الجدية كانت متكوّنة من نساء تعرضن لخيبة أمل تجاه تنظيماتهم السياسية، وقد تابعت المرحومة إلهام المرزوقي في دراستها المنشورة كل ردهات الحركة النسائية الجديدة. لقد تفاعلت الناشطات اليساريات من واقعهن من أجل تأسيس حركة نسوية مستقلة عن الأحزاب والتنظيمات اليسارية ومستقلة كذلك عن السلطة، وقد رفعن إلى جانب المطالب العادية للنساء مطالب أخرى مثل الديمقراطية والحريات الفردية، ليتم تتويج نضالهن بإصدار مجلة «نساء» ولاحقًا «الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات». إن بروز تنظيمات نسوية كان نتاج لتجارب الناشِطات اليسارية داخل أحزابهن وضمن السياق السياسي حينها، فعلى سبيل المثال، كانت مهام النساء داخل الحزب مهام تقليدية حسب هويتهن المفترضة، مثل الرقن وتوزيع المناشير. ولكن التجارب اللاحقة التي خاضتها «الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات»، على سبيل المثال، كانت مهمّة رغم تهميشها قبل الثورة ومحاولة عزلها ومحاصرتها، إلا أن دورها كان رياديًّا في إثارة الكثير من القضايا، مثل: المساواة في الميراث، وتحرر المرأة التونسية في المستوى الفردي، ومناهضة العنف الجسدي ضدها.

ماذا عن مرحلة ما بعد الثورة، كيف كان حضور النساء في التنظيمات اليسارية؟

حين قدّم القطب الحداثي الديمقراطي قائماته لخوض الانتخابات التأسيسية في سنة 2011، تم في إعدادها احترم مبدأ التناصف في الدوائر الانتخابية الثلاث وثلاثين، ولكن عدد النساء اللاتي فزن بمقاعد في المجلس التأسيسي اثنتان فقط، وهما: سلمى بكار ونادية شعبان، من جملة خمسة مقاعد تحصل عليها هذا التحالف. فهذه الحصيلة رغم سلبيتها، تكشف عن اهتمام بعض التنظيمات اليسارية بمسألة مشاركة المرأة في الشأن العام، والشأن السياسي خصوصًا، على النقيض من الإسلام السياسي متمثلًا في حركة النهضة التي كان عدد النساء النائبات أكبر بكثير، لكن يعود هذا إلى قوة انتشار هذا التيار، إذ أن المترشحات كن وراء الرجال في ترتيب القائمات، غير أن نجاح نسبة هامة من أعضاء تلك القائمات فسح المجال لظهور المرأة ضمن تصوّر «أبوي». هذا الأمر دفع عديد الأطراف، في اليسار، إلى الاعتقاد أنّ «تمكين المرأة» من ترأس قائمة انتخابية قد لا يفيدهم ولا ينفعهم انتخابيًّا مما جعل نسب بروز الناشطات اليسارية في المشهد السياسي محدودة وحال دون ترشّح عديد النساء الناشطات والمناضلات على رأس القائمات الانتخابية، هذا يجعل عديد مكونات اليسار قد تعاطت مع المسألة النسائية بشعبوية متخلية عن مبادئها من أجل استحقاق انتخابي فشلت فيه سلفًا. وهذا للأسف جزء من تاريخ اليسار.

ختاما، بعد مرور مئة سنة على اليسار، أين ترى اليسار في المستقبل؟ ما هو تقييمك له وما هي نظرتك لليسار التونسي؟

 البحث في كل المجالات يبقى نسبيًّا، نحن مازلنا في مرحلة استكمال تجميع الوثائق وهي إحدى أهم المحطات التي نريدها أن تتم بهذه المناسبة، ولا بدّ هنا من التذكير بالمشروع التقدمي الذي يقوم به مخبر التراث بكلية الآداب بمنوبة، ونعتبر التراث اليساري تراثًا تونسيًّا. لكن، وككل تراث، عندما نريد تجميعه في الحاضر لا نجد كل عناصره، لذلك سجلنا عدة شهادات حية لمسيرات أجيال من المناضلات والمناضلين، وسعينا أن تشمل أغلب جهات البلاد التونسية، وقد وصلت إلى حدود ثلاثين شهادة، وأصبحت الآن ملكًا مشاعًا يمكن للباحثين في تاريخ اليسار والمهتمّين من استعمالها في الدراساتهم والبحوث الجامعية وغيرها، وفي شتى مجالات الإبداع الأدبي والفني لمن رغب: الكتب، الروايات، السيناريوهات، اللوحات، إلخ، وهناك أيضًا وثائق تاريخية مجهولة لا نعرفها، لم نتعرف عليها إلا الآن عندما قمنا بحملة لتجميع الوثائق في مختلف المؤسسات الأرشيفية العمومية والخاصة، إذ أن عديد الحركات اليسارية كانت تمارس نشاطاتها في إطار السرية وبالتالي فهي تُعدِم وثائقها حتى لا تكون حجة عليها.

وإلى جانب الكتاب الجماعي الذي هو بصدد الإعداد لنشره حيث جمعت فيه أكثر من عشرين مساهمة، وتزامن إحياء مئوية الحركة الشيوعية مع صدور كتاب للسيد الحبيب رمضان احتوى على تراجم لمئات المناضلات والمناضلين الشيوعيين الذي انخرطوا في هذه الحركة خلال فترة امتدت من 1921 إلى 1963، ونرجو أن يكون لهذا الكتاب دور كبير في المستهمة في إثراء ذاكرة الحركة الشيوعية بتونس. كما تزامن هذا الاحياء مع بروز سلسلة «منتدى التجديد» ضمن منشورات «دار نيرفانا للنشر» حيث صدرت باكورة إنتاج المنتدى بعنوان «كتابات على الطريق» للأستاذ هشام سكيك، رئيس تحرير صحيفة «الطريق الجديد» سابقًا، ضمنه مجموعة هامة من مقالاته المنشورة على صفحات الجريدة المذكورة، ثم تلاه كتاب «أوراق من تاريخنا» لحبيب القزدغلي، جمع فيه عدّة مقالات نشرها في «الطريق الجديد» وتناولت صفحات من تاريخ الحزب الشيوعي التونسي. وأخيرًا سجل البحث الجامعي مناقشة أول أطروحة جامعية حول تاريخ النساء الشيوعيات في تونس من 1921 إلى 1963 قدمتها الطالبة ايليز أباصاد في اطرا الاشراف المزدوج. ولا شك أن يكون لهذا الاحياء الأكاديمي لقرن من النشاط الشيوعي امتداداته على المستوى المعرفي والسياسي والإعلامي ويزيد في تعميق معرفتنا بمكون من مكونات تراثنا السياسي الثري والمتعدّد.

Skip to content