الفلسفة كسلاح ثوري (1968)

مقابلة أجرتها ماريا أنطوانييتا مع لوي ألتوسير شهر شباط/فبراير 1968.


هل يمكنك أن تتحدّث قليلًا عن تاريخك الشخصي؟ ما هو الشيء الذي جعلك مهتمًا بالفلسفة الماركسية؟ 

في عام 1984، عندما كنت في الثلاثين من عمري، أصبحت أستاذًا للفلسفة والتحقت بالحزب الشيوعي الفرنسي. الفلسفة كانت أحد اهتماماتي، وكنت أحاول أن أجعلها مهنتي. وأمّا السياسة فقد كانت شغفًا، إذ كنت أحاول أن أكون مناضلًا شيوعيًّا.

أثارت الماديّة ووظيفتها النقديّة اهتمامي بالفلسفة: من أجل المعرفة العلميّة، ضد كل طلاسم «المعرفة» الأيديولوجية المزعومة. وضدّ الاستنكار الأخلاقي للخرافات والأكاذيب، ومن أجل نقدها عقلانيًّا وبدقّة. فقد ألهمت غريزة الطبقة العاملة وذكاؤها وشجاعتها وبطولتها الثوريّة في نضالها من أجل الاشتراكية شغفي بالسياسة، وأوصلت الحرب العالمية الثانية وسنواتٌ طويلة من الأسر حياتيَ مباشرةً بالعمال والفلاحين، وعرّفتني بمناضلين شيوعيّين.

السياسة هي التي حدّدت كل شيء. ولكن ليس السياسة بشكل عام، بل: السياسة الماركسية-اللينينية.

في البدء، كان يجب أن أعثر على هذه السياسة وأفهمها، وذلك دائمًا أمرٌ صعب جدًا بالنسبة للمثقف. وكان بالصعوبة ذاتها في الخمسينيات والستينيات، وذلك لأسباب معروفة: عواقب «عبادة الشخص»، والمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، ومن ثمّ أزمة الحركة الشيوعية العالمية. وأهمّها: لم يكن من السهل مقاومة انتشار أيديولوجية «الإنسانويّة» المعاصرة، والتعدّيات الأيديولوجية البرجوازية الأخرى على الماركسية.

عندما فهمتُ السياسة الماركسية-اللينينية بشكل أفضل، بدأت بامتلاك شغفٍ للفلسفة أيضًا، لأنّني في النهاية بدأت أستوعب الأطروحة الرائعة لِماركس ولينين وغرامشي: إنّ الفلسفة هي، في الأساس، سياسية.

كل ما كنت قد كتبته، لوحدي في البداية ولاحقًا بالتعاون مع الرفاق والأصدقاء الشباب، يدور  – رغم «تجريد» مقالاتنا – حول هذه الأسئلة الملموسة.

هل بامكانك أن تكون أكثر دقّة: لِمَ الصعوبة العامة بأن تكون شيوعيًّا في الفلسفة؟

أن تكون شيوعيًا في الفلسفة هو أن تتحزَّب للفلسفة الماركسية-اللينينية، للمادية الجدليّة، وتمتهنها.

ليس سهلًا أن تصبح فيلسوفًا ماركسيًّا-لينينيًّا. فأستاذ الفلسفة – مثله مثل كلّ «مثقّف» – هو برجوازيٌّ صغير. وعندما يفتح فمه، ما يتكلم هو أيديولوجية البرجوازية الصغيرة: مواردها وحيُلها لا متناهية.

أنت تعرفين ماذا يقول لينين عن «المثقفين». فالبعض منهم – كأفراد – قد يسمَّونَ (سياسيًّا) بـ«الثوريين» والشجعان، ولكنّهم يظلّون – كجماعة – وبشكلٍ راسخ ذوي أيديولوجيّة برجوازية صغيرة. وغوركي بذاته كان، بالنسبة لِلينين الذي قيّمَ مواهبه، ثوريًّا برجوازيًّا صغيرًا. فلكي يصبحونَ «أيديولوجيي للطبقة العاملة» (لينين)، أو «مثقفين عضويين» للطبقة الكادحة (غرامشي)، على المثقفين أن يقوموا بثورة جذرية في أفكارهم: عمليّةُ إعادة تثقيف طويلةٌ ومؤلمةٌ وصعبة. صراعٌ داخلي وخارجي لا نهاية له.

لدى الكادحين «غريزةٌ طبقية» تساعدهم في طريقهم لتَبَوّئ «مواقف طبقية» بروليتاريّة. وعلى العكس من ذلك، لدى المثقفين غريزة طبقة البرجوازية الصغيرة، وهي غريزةٌ تقاوم بشراسة هذه النقلة.

إنّ الموقع الطبقيّ البروليتاري ليس مجرّد «غريزة طبقية» بروليتارية، بل هو الوعي والممارسة الذين يتّفقان مع الواقع الموضوعي للصراع الطبقي البروليتاري. فالغريزة الطبقية أمرٌ ذاتيٌّ وعفوي، والموقفُ الطبقيُّ أمرٌ موضوعيٌّ وعقلانيّ. والغريزة الطبقية للكادحين لا تحتاجُ إلّا لأنْ تتثقّف من أجل تَبَوّأ مواقعَ طبقية بروليتارية؛ أمّا الغريزة الطبقيّة للبرجوازية الصغيرة – وبالتالي للمثقفين – يجب، على العكس، أن تدفع إلى عملية ثورية. فهذا التثقيف وهذه الثورة – في التحليل الأخير – يتّحددان من خلال النضال الطبقيّ البروليتاري الذي يجري على أساس مبادئ النظرية الماركسية-اللينينية.

مثلما يقول البيان الشيوعي: معرفة هذه النظرية يمكن أن تساعد بعض المثقفين في الانتقال إلى مواقف الطبقة العاملة.

تتضمّن النظرية الماركسية-اللينينية عِلمًا (المادية التاريخية) وفلسفةً (المادية الجدلية).

وبالتالي الفلسفة الماركسية-اللينينية هي أحدُ سلاحين نظريين لا غنى عنهما بالنسبة لصراع البروليتاريا الطبقيّ. ويجب على المناضلين الشيوعيين استيعابُ مبادئ النظرية واستخدامها: علمها وفلسفتها. والثورة البروليتارية بحاجة لمناضلين هم علماء (المادية التاريخية) وفلاسفة (المادية الجدلية) في آن، للمساعدة في الدفاع عن النظرية وتطويرها.

إنّ تشكيل هؤلاء الفلاسفة تقف أمامه صعوبتان كبيرتان.

صعوبة – سياسية – أولى: الفيلسوف المهني الذي ينضمّ إلى الحزب يبقى – أيديولوجيًّا – برجوازيًّا صغيرًا. فيجب عليه أن يخوض بفكره في عملية ثورية ليتبوَّأ موقعًا طبقيًّا بروليتاريًّا في الفلسفة.

هذه الصعوبة السياسية هي «المحدِّدُ في اللحظة الأخيرة».

صعوبة – نظرية – ثانية: نحن نعلم في أي اتّجاه وأيِّ مبادئ علينا أن نعمل من أجل تعريف هذا الموقع الطبقي في الفلسفة. ولكن علينا تطوير الفلسفة الماركسية: إنّ القيام بذلك ضرورةٌ نظريّة وسياسيّة. ومع ذلك هذا العمل ضخم وصعب، إذ تخلّفت الفلسفة وراء علم التاريخ في النظرية الماركسية.

اليوم، في بلداننا، هذه هي الصعوبة «السائدة».

أنت بالتالي تميّز بين علم وفلسفة في النظرية الماركسية؟ هذا التمييز، كما تعلم، كثيرًا ما يُتنازع عليه اليوم.

أعلم. لكن ولكنّ هذا «النزاع» قصّةٌ قديمة.

لو أفرطت في تبسيط المسألة، لنا القول إنّه في تاريخ الحركة الماركسية أَعرَبَ قمعُ هذا التمييز إمّا عن انحرافٍ يمينيٍّ أو عن انحرافٍ يساريّ. والانحرافُ اليمينيّ يقمع الفلسفة: يبقى العِلم فقط (الوضعية)، وأمّا الانحراف اليساري فهو يقمع العِلم: تبقى الفلسفة فقط (الإرادية). لهذه «استثناءات» (حالات «انقلاب»)، لكنّ هذه الاستثناءات «تؤكّد» القاعدة.

لطالما قال زعماء الحركة العمالية الماركسية مِنْ ماركس وإنجلز وحتى قيادات يومنا هذا: هذه الانحرافات هي نتيجة تأثير الأيديولوجية البرجوازية على الماركسية وتغلّبها عليها. ودافعوا هم بدورهم دائمًا عن التمييز ما بين علم وفلسفة، ليس فقط لأسباب نظرية، بل لأسبابٍ سياسية مهمّة أيضًا. فكّري بما كتبه لينين في كتابيه المادية والمذهب النقدي التجريبي والشيوعية «اليسارية»: مرض طفولي؛ أسباب الكتابة واضحة وضوح الشمس.

كيف تبرّر هذا التمييز بين العلم والفلسفة في النظرية الماركسية؟

سأجاوبك من خلال صوغ عدد من الأطروحات الابتدائية والمبسّطة.

1. الالتحام بين النظرية الماركسية والحركة العمالية هو الحدث الأكثر أهميّة في كلّ تاريخ الصراع الطبقي، أي عمليًا في كل التاريخ البشري. (آثارُه الأولى: الثورات الاشتراكية).

2. تمثّل النظرية الماركسية (عِلمًا وفلسفة) ثورةً لم يسبق لها مثيل في تاريخ المعرفة البشرية.

3. أسّس ماركس علمًا جديدًا: علم التاريخ. دعيني استعير صورة مجازيّة هنا. أُسِّست العلوم التي نعرفها اليوم في عدد من «القارّات» العظيمة. فقبل ماركس، افتتحت المعرفة العلميّة اثنتين من هذه القارات: قارّة الرياضيات وقارّة الفيزياء. والأولى افتتحها اليونانيون (طاليس)، والثانية افتتاحها غاليليو. وأما ماركس فقد افتتح القارة الثالثة للمعرفة العلمية: قارة التاريخ.

4. افتتاح هذه القارة الجديدة سبّب ثورة في الفلسفة. هذا هو القانون: ترتبط الفلسفة دائمًا بالعلوم.

ولدت الفلسفة (مع أفلاطون) عند افتتاح قارة الرياضيات. وقد حُوِّلَت (مع ديكارت) عبر افتتاح قارة الفيزياء، واليوم تخوض بثورةٍ عبر افتتاح ماركس لقارّة التاريخ. وهذه الثورة تدعى المادية الجدلية.

إنّ التحولات في الفلسفة دائمًا ما تأتي كصدىً لاكتشافات علمية عظيمة. وبالتالي في جواهرها تنشأ بعد الحدث. وهذا هو سببُ تأخر الفلسفة وراء العلم في النظرية الماركسية. والأسباب الأخرى نعرفها جميعًا، لكن في الوقت الحالي هذا هو السبب السائد.

5. كجماعة، الوحيدون الذين أدركوا المدى الثوريّ لاكتشاف ماركس العلمي هم المناضلون الكادحون، وبذا تحوّلت ممارستهم السياسية عبر هذا الاكتشاف.

وهنا نتطرّق إلى أكبر فضيحة نظرية في التاريخ المعاصر.

لم يدرك معشر المثقفين – على العكس تمامًا من الكادحين – وحتى المرتبطين «مهنيًا» بذلك (المتخصصين في العلوم الإنسانية والفلاسفة) أو رفضوا إدراك نطاق الاكتشاف العلمي لماركس الذي لم يسبق له مثيل، بل أدانوه واحتقروه، وها هم يفترون عليه عند مناقشته.

مع وجود استثناءات قليلة، لا يزالون يعبثون كالهواة في الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع والإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي، إلخ إلخ، وحتى في يومنا هذا، بعد مئة سنة من صدور «رأس المال»، تمامًا كما عبث بعض علماء الفيزياء الأرسطويين بالفيزياء، لمدة خمسين سنة بعد غاليليو. ونظرياتهم هي مفارقات تاريخية أيديولوجية، تجدّد نفسها بجرعة ضخمة من التفاصيل الفكرية الصغيرة وطرق الرياضيات الحديثة جدًا.

لكن هذه الفضيحة النظرية ليست فضيحة أبدًا. بل هي أحد آثار الصراع الطبقي الأيديولوجي: إنّها أيديولوجية برجوازية، «ثقافة» برجوازية في السلطة. فالأيديولوجية البرجوازية تسيطر على نظريات معشر المثقفين – بما في ذلك العديد من المثقفين الشيوعيين الماركسيين رغم الاستثناءات. ورغم الاستثناءات، يحدث الشيء نفسه في علوم «الإنسان».

6. الوضع المخزي ذاتُه موجودٌ في الفلسفة. من فَهِمَ الثورة الفلسفية المذهلة الناجمة عن اكتشافات ماركس؟ المناضلون والقادة الكادحون فقط. وأما معشر الفلاسفة المهنيّين فلم يلاحظوا ذلك حتى. ودائمًا عندما يذكرون ماركس – مع وجود استثناءات نادرة – يكون ذلك لمهاجمته أو إدانته أو «احتوائه» أو استغلاله أو تحريفه.

ويُتعامَل مع الذين يدافعون عن المادية الجدلية، مثل لينين وإنجلز، كعديمي الأهميّة فلسفيًا. والفضيحة الحقيقية هي أن بعض الفلاسفة الماركسيين قد استسلموا لنفس «العدوى»، وذلك باسم «مكافحة الدغمائية». ولكن هنا السبب هنا واحدٌ أيضًا: تأثير الصراع الطبقي الأيديولوجي. وذلك لأنّ الأيديولوجية البرجوازية – «الثقافة» البرجوازية – في السلطة.

7. المهام المصيرية للحركة الشيوعية نظريًّا هي:

  • إدراك ومعرفة النطاق النظري الثوري لعلم وفلسفة الماركسية-اللينينية.
  • النضال ضدّ النظرة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة للعالم، التي دائمًا ما تهدّد النظرية الماركسية، وتلقّحها بعمق اليوم. والشكل العام لهذه النظرة للعالم: الاقتصادويّة (تأتي اليوم بمسمى «التكنوقراطيّة») و«مكمّلُها الروحيّ» المثالية الأخلاقية (وتأتي اليوم بمسمّى «الإنسانويّة»). لقد شكّلت الاقتصادوية والمثالية الأخلاقية المعارضَة الأساسية في النظرة البرجوازية إلى العالم منذ نشأة البرجوازية. الشكل الفلسفي الحالي لهذه النظرة إلى العالم: وضعية الجديدة و«مكمّلها الروحيّ» المذهب الذهني الوجودية-الظاهرية. والبديل الغريب عن العلوم الإنسانية: أيديولوجية تدعى بـ «البنيوية».
  • فتح أغلبية العلوم الإنسانية من أجل العلم، وأهمّها العلوم الاجتماعية التي – رغم الاستثناءات – قد احتلّت (دجلًا) قارة التاريخ، تلك القارة التي أعطانا ماركس مفاتيحها.
  • تطوير العلم والفلسفة الجديدين بما يلزم من دقّة وجرأة، وربطهما مع متطلبات واختراعات ممارسة الصراع الطبقي الثوري.

من الناحية النظريّة، الرابط الحاسم في الوقت الحالي: الفلسفة الماركسية-اللينينية.

لقد قلت أمرين متناقضين أو مختلفين ظاهريًا: ۱. الفلسفة سياسية في الأساس؛ ٢. الفلسفة مرتبطة بالعلوم. كيف يمكنك تصوّر هذه العلاقة المزدوجة؟

هنا سأعطي جوابي مرّة أخرى على شكل أطروحات مبسّطة ومؤقتة.

أولًا: المواقف الطبقية خلال المواجهة في الصراع الطبقي «تتمثّل» في مجال الأيديولوجيات العملية (الدينية والأخلاقية والقانونية والسياسية الأيديولوجيات المصطنعة) من خلال نظرات التوجُّهات المتخاصمة لهذا العالم: وهما في آخر المطاف، التوجّه المثالي (برجوازيّ) والتوجّه الماديّ (بروليتاري). الجميع كان لديه نظرة إلى العالم بشكل عفوي.

ثانيًا: تتمثّل النظرات لهذا العالم [أو النَظَرات العالمية] في مجال النظريّة (العلم + الأيديولوجيات «النظرية» التي تحيط العلم والعلماء) عبر الفلسفة. تُمثّل الفلسفة الصراع الطبقي من الناحية النظرية. ولهذا السبب، الفلسفة هي صراع (كانط سمّاها «كِفاح») وفي الأساس صراعٌ سياسي: أي صراع طبقي. الجميع ليسوا فلاسفة من تلقاء نفسهم، لكنهم قد يصبحوا كذلك.

ثالثًا: الفلسفة توجد حال وجود المجال النظري. أي بمجرّد وجود العلم (بالمعنى الدقيق للكلمة). بدون العلوم، لا وجود لفلسفة، إنّما نظراتٌ عالميّة فحسب. ويجب التمييز بين الرِهان في المعركة والرِهان في ميدان المعركة. الرِهانُ الأكبر في الصراع الفلسفي هو الصراع من أجل الهيمنة ما بين أكبر توجّهين في النظرات العالمية (المادية والمثالية). ساحة المعركة الرئيسية في هذا الصراع هي المعرفة العلمية: معها أو ضدّها. وبالتالي فإنّ المعركة الفلسفية الرئيسية تجري على الجبهة الحدوديّة ما بين ما هو علمي وما هو أيديولوجي. هناك تتصارُع الفلسفات المثالية التي تستغلّ العلوم ضدّ الفلسفات المادية التي تخدم العلوم. النضال الفلسفي هو قطاع من الصراع الطبقي بين النظرات العالميّة. في الماضي، كانت المثالية دائمًا تهيمن على الماديّة.

رابعًا: العلم الذي أسّسه ماركس قد غيّر الوضع برمته في المجال النظري. إنّه علم جديد: علم التاريخ. لذلك، وللمرة الأولى على الإطلاق، قد مكّننا من معرفة النظرات العالميّة التي تمثلها الفلسفة نظريًا؛ لقد مكنّنا من معرفة الفلسفة، فهو يوفّر لنا وسائل تحويل النظرات العالمية (الصراع الطبقي الثوري يجري وفق مبادئ النظرية الماركسية). ولذلك تحدث ثورتين في الفلسفة. تصبح المادية الميكانيكية – «المثالية في التاريخ» – مادية جدلية. يتمّ عكس توازن القوى: الآن يمكن للمادية أن تهيمن على المثالية في الفلسفة، وإذا تمّ تحقيقُ الظروف السياسية، يمكنها أن تحمل الصراع الطبقي من أجل الهيمنة بين النظرات العالمية.

تمثّل الفلسفة الماركسية-اللينينية – أو الماديّة الجدلية – الصراع الطبقي البروليتاري في النظريّة. في اتّحاد النظرية الماركسية والحركة العماليّة (الواقع النهائيّ للاتحاد ما بين النظرية والممارسة) تكفّ الفلسفة – كما أشار ماركس – عن «تفسير العالم»، وتصبح سلاحًا يُستخدم «لتغييره»: ثورة.

هل هذه هي الأسباب التي تجعلك تقول بجوهرية قراءة «رأس المال» اليوم؟

نعم. قراءة ودراسة «رأس المال» أمرٌ ضروريّ، وذلك من أجل:

  • أن نفهم ما فهمه المناضلون الكادحون لمدّة طويلة في الممارسة، بكل نطاقه وآثاره العلمية والفلسفية: الطابع الثوري للنظرية الماركسية.
  • وكي ندافع عن تلك النظرية ضدّ كل التفسيرات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، أي «التصحيحات» التي تهدّدها جديًّا اليوم: في المقام الأوّل المعارضة الاقتصادوية/الإنسانوية.
  • ومن أجل تطوير النظرية الماركسية وتطوير المفاهيم العلمية الضرورية بالنسبة لتحليل الصراع الطبقي في بلداننا وغيرها في وقتنا الحالي.

من الضروري قراءة ودراسة «رأس المال». ويجب أن أضيف أنّه من الضروري قراءة ودراسة لينين أيضًا وكلّ النصوص العظيمة – القديمة منها والجديدة – التي أهدتها تجربة الصراع الطبقي لحركة العمال الأممية. لا بدّ من دراسة الأعمال العملية لحركة العمال الثورية في واقعهم ومشاكلهم وتناقضاتهم: ماضيهم، وقبل كل شيء، تاريخهم الحالي.

في بلداننا اليوم موارد هائلة للنضال الطبقي الثوري. ولكن يجب أن نأتيها في مكانها: في الجماهير المُستَغَّلة. لن «تُكتَشفَ» بدون اتّصال وثيق مع الجماهير، وبدون أسلحة النظرية الماركسية-اللينينية. المفاهيم الأيديولوجية البرجوازية مثل «المجتمع الصناعي» و«الرأسمالية الجديدة» و«الطبقة العاملة الجديدة» و«مجتمع الوفرة» و«الاغتراب» وبقيّتها، هي مضادة للعلم والماركسية: بنيت لمحاربة الثوريين.

لذا أود أن أضيف ملاحظة أخرى؛ الأهمّ على الإطلاق.

من أجل أن نفهم ما «يُقرأ» ويُدرس في هذه الكتابات النظرية والسياسية والتاريخية، لا بدّ لنا من تجربة مباشِرة لهذين الوّاقِعَين الذين يحدّدان تلك الكتابات: واقع الممارسة النظرية (العلم، الفلسفة) في حياتها الملموسة، وواقع ممارسة الصراع الطبقي الثوري في حياتها الملموسة، باتصالٍ وثيق مع الجماهير. فإذا مكنتنا النظرية من فهم قوانين التاريخ، فليس المثقفون ولا حتى المنظّرون، بل الجماهير هم من يصنعون التاريخ. من الضروري أن نتعلّم مع النظرية – ولكن في نفس الوقت وبشكل حاسم، لا بدّ لنا أن نتعلّم مع الجماهير.

أنت تعطي قدرًا كبيرًا من الأهمية للدقّة، بما في ذلك مفردات الدقيقة، فلماذا؟

كلمة واحدة تلخص الوظيفة الرئيسية للممارسة الفلسفية: «رسم حدٍّ افاصل» بين الأفكار الصحيحة والأفكار الخاطئة. هذه كلمات لينين.

لكن هذه العبارة ذاتها تلخص إحدى العمليات الأساسية في اتجاه ممارسة الصراع الطبقي: «رسم حد فاصل» ما بين الطبقات المتخاصِمة. بين أصدقاء طبقتنا وأعداء طبقتنا.

إنها نفس العبارة: خطٌّ نظري فاصل بين الأفكار الصحيحة والأفكار الخاطئة. خطٌّ سياسي فاصل بين الشعب (الطبقة الكادحة وحلفائها) وأعداء الشعب.

تمثل الفلسفةُ الصراعَ الطبقي للشعب من ناحيته النظرية. وفي المقابل تساعد الشعب على التمييز في النظرية وفي جميع الأفكار (السياسية، الأخلاقية، الجمالية، إلخ) بين الأفكار الصحيحة والأفكار الخاطئة. من حيث المبدأ، الأفكار الحقيقية (الصحيحة) تخدم الشعب دائمًا؛ بينما الأفكار الزائفة (الخاطئة) تخدم أعداء الشعب دائمًا.

لماذا تتصارع الفلسفة حول الكلمات؟ «تتمثّلُ» وقائع الصراع الطبقي بـ «الأفكار» التي «تتمثّلُ» بدورها عبر الكلمات. وفي المنطق العلمي والفلسفي، الكلمات (المفاهيم، التصنيفات) هي «أدواتُ» المعرفة. ولكن في النضال السياسي والفكري والفلسفي، الكلمات هي الأخرى أسلحة ومتفجرات أو مهدئات وسموم. في بعض الأحيان يمكن للصراع الطبقي كلّه أن يتلخّص بالصراع من أجل كلمة واحدة ضد كلمة أخرى. تتصارع كلماتٌ معيّنة فيما بينها كالأعداء. الكلمات الأخرى تقع في حالة غموض: رِهانٌ في معركة حاسمة غير مقررة بعد.

على سبيل المثال: يناضل الشيوعيون من أجل إزالة الطبقات ومن أجل مجتمع شيوعي، فيه، يومًا ما، كل البشر أحرارٌ ومتآخون. ومع ذلك، فقد رفض التقليد الماركسي الكلاسيكي بأكمله القول بأنّ الماركسية فلسلفةٌ إنسانوية. لماذا؟ لأنّه عمليًّا، أي استنادًا إلى الحقائق، كلمة «إنسانية» تستغلّها أيديولوجيةٌ تستخدمها لأجل محاربة وقتل كلمة صحيحة ومهمّة بالنسبة للطبقة الكادحة، ألا وهي: الصراع الطبقي.

وفي مثالٍ آخر: يعْرِف الثوريون أنّ كل شيء لا يعتمد – في آخر المطاف – على التقنيات والأسلحة وما إلى ذلك، بل على المناضلين ووعيهم الطبقي وإخلاصهم وشجاعتهم. ومع ذلك، فقد رفض كامل التقليد الماركسي القول أنّ «الإنسان» هو الذي يصنع التاريخ. لماذا؟ السبب عمليًّا، أي استنادًا إلى الحقائق، هو أنّ هذا التعبير استغلته الأيديولوجية البرجوازية التي تستخدمه من أجل محاربة وقتل تعبيرٍ صحيح آخر ومهمّ بالنسبة للطبقة الكادحة: الجماهير هم من يصنعون التاريخ.

في نفس الوقت، تتصارع الفلسفة، حتى في النصوص الطويلة حيث تبلغ ذروة تجريدها وصعوبتها، حول الكلمات: ضدّ الكلمات الكاذبة، ضدّ الكلمات الغامضة، من أجل الكلمات الصحيحة. إنها تحارب على «الأظلال المختلفة الرأي».

فكما قال لينين:

وحدهم قصيرو النظر يمكنهم اعتبار النزاعات العصبوية والتفرقة الصارمة بين أظلال رأيٍّ ما، نزاعاتٍ غير ملائمة أو غير مجدية. يمكن لمصير الاشتراكية الديمقراطية الروسية أن تعتمد لسنوات عديدة على تقوية «ظلٍّ» واحد أو الآخر. (من كتاب «ما العمل؟»)

المعركة الفلسفية حول الكلمات هي جزءٌ من المعركة السياسية. تستطيع الفلسفة الماركسية-اللينينية استكمال عملها النظري المجرّد والدقيق والمنهجي فقط بشرط أنّ تتصارع حول كلٍ من الكلمات «الأكاديمية» جدًا (المفهوم، النظرية، الجدل، الاغتراب، إلخ.) وحول الكلمات البسيطة جدًا (الإنسان، الجماهير، الشعب، الصراع الطبقي).

المصدر: أرشيف الماركسيين على الإنترنت

Skip to content