مأساة انعتاق المرأة (1906)

مقدّمة الهامش:

نقدّم هذا النص للناشطة السياسية والكاتبة الأناركية إيما غولدمان. ولدت غولدمان عام 1869م في الإمبراطورية الروسية، وهاجرت إلى الولايات المتّحدة الأمريكية ونشطت في التنظيمات العمّالية، وكتبت حول مختلف الموضوعات السياسية والاجتماعية، مثل الفلسفة الأناركية والحريات الجنسية، وَسُجِنت وَهُجِّرَت من جرّاء نشاطاتها، بما فيها توزيعها منشورات للنساء تتضمن معلومات حول تنظيم النسل.

يقف هذا النص شاهدًا على الخلافات التي جرت في «الموجة النسوية الأولى»، حيث تصف غولدمان في هذا النص الحالة العامة بـ «المأساة»، وتقول أنّ الحل لربّما يستلزمَ «الانعتاق من الانعتاق»، وذلك لرفضها التوجه السائد في الحركة النسوية الذي ركّز على الحق في التصويت دونَ غيره من قضايا «انعتاقِ المرأة»، لكن منطلقها لم يكن رفضَ أسس الانعتاق بل ضرورة تعميق تلك الأسس، فكما تشير في نصٍ عنوانه «كفاحُ النسوية لم يذهب سدىً» نُشِر عام 1926م، أي بعد الإقرار في الحق بالتصويت:

لم يمر وقتٌ طويل منذ كانت القيادات النسويّة تمطئنُنا بأن عقيدتهن ستطهّر السياسة، وتلغي الحروب، وتنهي كافة الشرور الاجتماعية، وتخلق علاقاتٍ جديدة تمامًا بين الجنسين، لكن اليوم لا توجد نسوية ذكية تخوض في مثل هذا الكلام التافه، فقد تعلَّمن أولًا أنّ التعسَّف العتيق هذا لن ينهيه الإدلاءُ بالأصوات.

والأهم من ذلك أنهن تعلَّمن أن الانعتاق الاقتصادي والاجتماعي للنساء مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بالنضال العام لأجل الانعتاق الإنساني — أي أنّ الاستقلال التام للرجل والمرأة على حدٍّ سواء لن يأتي إلّا مع التغيير الكامل لِبُنيتِنا الاجتماعية الحاضرة…

لهذا النص إشكالاتُه التي لا يختلف فيها عن الكثير من النصوص التي كتبت في تلك الفترة، لكن هذه المقدمة البسيطة ليست محلّ النقاش فيها، وهي لا تنقص من أهميته.

  بداية النص  

أبدأ مقالتي باعتراف: بصرف النظر عن كل النظريات السياسية والاقتصادية التي تتعامل مع الاختلافات الأساسية بين مختلف فئات الجنس البشري، وبصرف النظر عن الفوارق الطبقية والعرقية، وبصرف النظر عن كل الحدود المصطنعة بين حقوق المرأة وحقوق الرجل، فأنا أؤمن بوجود نقطة تلتقي عندها كل هذه الاختلافات وتنمو لتصبح كُلًّا واحدًا متكاملًا.

ولست هنا أنوي تقديم اتفاقية سلام. إنَّ الخصومة الاجتماعية العامة التي استولت على مجمل حياتنا العامة اليوم، والتي أتت عبر قوّة مصالح متعارضة ومتناقضة، ستتحطم حين تصبح إعادةُ تنظيم حياتنا الاجتماعية، وفق مبادئ العدالة الاقتصادية، واقعًا.

إنَّ السلام والتناغم بين الجنسين والأفراد لا يعتمد بالضرورة على المساواة السطحية للبشر، ولا يستدعي إلغاء السمات والخصوصيات الفردية. المشكلة التي تواجهنا اليوم، التي سيحلها المستقبل الأقرب، هي: كيف يكون الواحد نفسَه ومع ذلك في اتحادٍ مع الآخرين؟ كيف يشعر شعورًا حقًّا بكلِّ البشر وأن يحافظ على خصاله الغريزية؟ يبدو هذا الأمر بالنسبة لي الأساس الممكن أن يتقابل عليه الجموع والفرد، الديموقراطي الحقيقي والفردانية الحقيقية، الرجل والمرأة، دون خصومةٍ أو تعارض. يجب ألّا يكون الشعار أنْ نسامِح بعضنا بعضًا، بل أن نفهم بعضنا البعض. لم ترق لي أبدًا تلك الجملة المستشهد بها كثيرًا للمدام دو ستال، «أن نفهم كلَّ شيء يعني أن نغفر كلَّ شيء»، ففيها رائحة كرسيِّ الاعتراف الكنسي. أنْ يغفر الواحد لصاحبه يوحي بفكرة فوقية ريائية. يكفي أنْ يفهم الواحد كينونته. هذا الاعتراف يشكل، جزئيًّا، الجانب الأساسي لآرائي حول انعتاق المرأة وأثره على كامل الجنس.

يجب أنْ يتيح الانعتاق لها إمكانية أنْ تصبح إنسانًا بالمعنى الأحق: كل ما يتوق إلى التأكيد والنشاط في داخلها يجب أن يَبْلُغَ تعبيره، وأن تُكسَر كلُّ الحواجز الاصطناعية، وأن تُخلى الطرق المتجهة نحو حريّةٍ أكبر من كلِّ أثرٍ من آثار قرون التبعية والعبودية.

كان هذا هو الهدف الأصلي لحركة انعتاق المرأة. ولكن النتائج المنجزة حتى هذا اليوم عزلت المرأة واختطفت منها ينابيع السعادة الجوهرية لها. فهذا الانعتاق الخارجي المحض جعل المرأة الحديثة كائنًا اصطناعيًّا يذكّر الواحد بمنتجات فن الشِجارة الفرنسية، تلك الأشجار والشجيرات ذات الطابع العربي على شكل أهرامٍ وعجلاتٍ وأكاليل – كلُّ الأشكال سوى تلك التي يبلغها تعبيرها الداخلي لِخصالها. لنا أنْ نجد هذه النبتات المزروعة اصطناعيًّا من جنس الأنثى بأعداد كبيرة، بالخصوص فيما يسمى المجال الفكري لحياتنا.

الحرية والمساواة للمرأة! يا لتلك الآمال والطموحات التي أحيتها هذه الكلمات حين نطقت بها بادئًا بعضُ أنبل أرواح تلك الأيام وأشجعها. كانت الشمس بكامل وهجها وجلالها ستشرق على عالمٍ جديد. وكانت المرأة في هذا العالم ستضحي حُرَّةً في إدارة مصيرها، وهو هدفٌ يستحقّ بالتأكيد حماسةً وشجاعةً وثباتًا عظيمًا وجهدًا دؤوبًا من جموع الرائدات الهائل، اللاتي خاطرن بكلِّ شيءٍ ضد عالمٍ من الإجحاف والجهل.

آمالي تتحرك تجاه ذاك الهدف أيضًا، ولكنّي أصرُّ أنَّ انعتاق المرأة، كما يُفسَّر ويطبّق في الممارسة اليوم، أخفق في بلوغ ذاك الهدف العظيم. إنَّ المرأة الآن تواجهها ضرورةُ الانعتاق من الانعتاق، إنْ كانت حقًّا ترغب بالانعتاق. وقد يبدو هذا القول متناقضًا، لكنه مع ذلك قولٌ بالغٌ في الصحة.

ما الذي حققته عبر انعتاقها؟ مساواةٌ في التصويت في بضع ولايات. هل طهّر ذلك حياتنا السياسية مثلما توقّع بعض مناصرينا من ذوي النوايا الحسنة؟ كلّا بالتأكيد. بالمصادفة، حان الأوان حقًّا ليكفّ أصحابُ الفهم الرصين البيّن عن الحديث عن الفساد في السياسة بنبرةِ المدارس الداخلية. لا علاقة للفساد في السياسة بأخلاق أو انحلال أخلاق مختلف الشخصيات السياسية، بل سببهُ مادّيٌ بالجملة. إنَّ السياسة انعكاسٌ للعالم التجاري والصناعي، وشعاراتها هي: «أن تأخذ لهو أبركُ من أن تعطي»، و«اشتري برخصٍ وبِعْ بربح»، و«يدٌ قذرة تنظِّفُ الأخرى». لا توجد آمالٌ حتى للمرأة – بحقّها في التصويت – في تطهير السياسة إطلاقًا.

أتى الانعتاق للنساء بالمساواة الاقتصادية مع الرجال، أي أنها يمكن لها أنْ تختار مِهنتها وحِرفتها، ولكن لأن تدريبها الجسدي الماضي والحاضر لم يُجهّزها بالقوة الضرورية للتنافس مع الرجال، ما أكثر أنْ تُجبَر على استنفاد كل طاقاتها وتبديد حيويتها وإجهاد كلِّ عصبٍ من أعصابِ جسدها فقط كي تصل بنفسها إلى قيمة السوق. وقليلٌ جدًا تنجحن في ذلك، فالواقع هو أنَّ النساء من الأطباء والمحاميات والمهندِسات المعماريات، وحتى العاديّات، لا يُقابَلن بالثقة نفسها التي يتلقاها أقرانهن الرجال ولا بنفس الأجر حتى. وأولئك اللاتي يصلن إلى تلك المساواة المغرية، يصلن عمومًا على حساب صحتهن الجسدية والنفسية. ولكن بالنسبة للسواد الأعظم من الفتيات والنساء العاملات، ما مقدار الاستقلال المكتسب حين تُستَبدل ضِيقةُ المنزل وانعدام الحريّة فيه مقابلَ ضيقة وانعدام الحرية في المصنع أو الورشة الاستغلالية أو المتجر الكبير أو المكتب؟ أضف عليها الأعباء التي تثقل بها العديد من النساء: العناية بـ «منزلٍ سعيد» بارد، موحِش، فوضوي، ومُنْفِر – لا، وبعد يومِ عملٍ طويل أيضًا. يا لعظمة هذا الاستقلال! ليس من المستغرب إذن أنَّ مئاتٍ من الفتيات مستعداتٌ جدًا للقبول بأول عرض زواج، لسئمهن وتعبهن من هذا الاستقلال المكبَّلِ بالمكتب أو آلة الخياطة أو الآلة الكاتبة. إنّهن مستعداتٌ للزواج بقدر ما تستعد له فتيات الطبقة الوسطى التوّاقات للتخلص من الاتكال على الأبوين. استقلالٌ مزعومٌ كهذا، نتيجتُه الوحيدة هي الحصول على أدنى درجات الكفاية، ليس استقلالًا جذابًا، ولا مثاليًا لدرجة أن نتوقع أنْ تضحي المرأة بكل شيءٍ لأجله. إنّ استقلالنا المهلل هذا ليس، على أيّة حال، إلا عملية تبليدٍ وخنقٍ بطيئة لطبيعة المرأة: غريزة الحب وغريزة الأمومة الخاصتين بها.

ولكنّ موقع الفتاة العاملة، رغم كلِّ ذلك، أكثرُ طبيعيّةً وإنسانيّةً من أختها في القطاعات المهنية العالية، وإنْ كانت هذه الأخيرة هي الأوفر حظًا في الظاهر. على المعلِّمات والطبيبات والمحاميات والمهندسات (وهلم جرًّا) تقديم مظهرٍ وقورٍ وَقويمٍ ولبقٍ، يخفي وَراءهُ حياةً داخلية لا تزداد إلّا فراغًا وَموتًا.

إنَّ ضيق التصور الحاضر لاستقلالية المرأة وانعتاقها، وَالبُؤس من حبٍّ لرجلٍ ليس قرينها اجتماعيًّا، وَالخوف من حبٍّ سيخطف منها حريّتها واستقلاليتها، والرُعبُ من أنّ المآل الوحيدَ لحبِّ الأمومة أو متعتها هو عرقلة هذه المرأة عن ممارسة مهنتها بكمال، كلُّ ذلك يتضافر ليجعل من المرأة الحديثة المُنْعَتِقة عذراءَ إجبارًا، في مقابلها تجري الحياة، بحزنها الكاشف ومتعتها الخلابة، دون أن تمسَّ روحها.

إنّ منظورَ الانعتاق، كما يفهمه أغلب معتنقاتِه ودعاته، منظورٌ أضيق من أن يتيحَ البهجة والنشوة المنفتحة الأفق، التي يحتويها ذلك الشعور الحقيقي لِتلك المرأة الحقيقية، الحبيبة، الأم، في الحريّة.

والمصير المأساوي للمرأة المُعِيلة لذاتها، أو الحرة اقتصاديًّا، ليس في تعدُّد تجاربها، بل في قِلَّتها. فهي وإنْ كانت تتجاوز أخواتها من الأجيال السابقة في معرفة العالم والطبيعة الإنسانية، فهي تغرقُ في الإحساس بأنّها تفتقرُ جوهر الحياة، ذاك الجوهر الوحيد الممكن أن يثري الروح الإنسانية، الذي دونه أصبحت أغلبُ النساء محض آلات.

حتميّةُ قدوم وضعٍ كهذا توقعته أوائل من أدركن، في مجال الأخلاق، أنّ بقايا زمن الاستعلاء الرجالي الحاسم ما زالت متشبّثةً في زمننا الحاضر، وهي بقايا ما تزال تُعتبَر مفيدة. والأهم من ذلك أنَّ عددًا معتبرًا من المُنْعَتِقات عاجزاتٌ عن التعايش بدونها. فكل حركة تهدف لتدمير المؤسسات الحالية واستبدالها بمؤسساتٍ أكثر تقدّمًا وكمالًا لديها تابعوها الذين يناصرون، نظريًّا، أكثر الأفكار الجذريّة تطرفًا، ولا يختلفون، في الواقع، أي في ممارستهم الفعلية، عن أيِّ تافه آخر: يدّعون الاحترام ويسعون لِإرضاء خصومهم. فلدينا، مثلًا، اشتراكيّون، بل وفوضويّون حتى، يؤيدون فكرة أنَّ المِلكيّة ليست إلّا نهبًا، ولكن يثورونَ سخطًا إنْ استدان أحدٌ منهم بضعة قروش.

وهذه الشخصياتُ التافهة نفسها نجدها في حركة انعتاق المرأة أيضًا، مثل كتّابُ الصحافة الصفراء والأدباء الرديئين الذين رسموا صور المرأة المُنْعَتِقة، تُسرّحُ شعر المواطن الصالح وتكون شريكته البليدة. فقد صوَّرت جورج ساند كلُّ عضواتِ حركة حقوق النساء بهيئةِ النساء اللاتي لا تأبهن للأخلاق مطلقًا، ولا شيء مقدّسٌ لدين، ولا تكننّ أي احترامٍ للعلاقة المثالية بين الرجال والمرأة، وباختصار: الانعتاقُ لا يمثل إلّا حياةً طائشة ليس فيها إلّا الشهوة والخطيئة، لا تأبهُ للمجتمع والدين والأخلاق. كانت مُناصِرات حقوق المرأة ساخطاتٍ جدًا على هذا التصوير السلبي لهن. ولافتقارهن حس الدعابة، استنفدن كل طاقاتهن ليثبتن أنهن لسن أبدًا بسوء هذه الصورة المرسومة، بل العكس تمامًا. بالطبع، ما دامت المرأة عبدةً للرجل، لها أن تكون صالحةً ونقية، ولكن طالما أنها أضحت الآن مُنْعَتِقة ومستقلة، فعليها برهنةُ صلاحها، وتبيان أنَّ قوتها سيكون لها أثرٌ مُطَهِّر على كلّ المؤسسات في المجتمع. والحق يقال، إنَّ الحركة لأجل حقوق المرأة كسرت كثيرًا من القيود القديمة، ولكنها بدّلتها بتأسيس قيودٍ جديدة. فهذه الحركة العظيمة للانعتاق الحقيقي لم تقابل جنس النساء العظيم، الممكن لهن أنْ يتصدّين لمسألة الحرية. إنَّ نظرتهن الطهورية الضيقة نفت الرجل، بصفته مزعجًا وبصفته شخصيّةً مريبة، إلى خارج حياتهن اليومية. لا يمكن التسامح مع الرجل مهما كانت التكلفة، لربما باستثناء كونه أبًا لطفل، إذ أنَّ الطفل لا يمكن أن ينضج جيدًا في هذه الحياة دونَ أب. وهذه الطهورية المتحجرة، لحسن الحظ، لن تقوىَ أبدًا على قتل التوق الفطري نحو الأمومة. ولكنَّ حريّة المرأة مِتحالفة بقربٍ مع حريّة الرجل، ويبدو أنَّ العديد من الأخوات المُنْعَتِقات غفلن حقيقةَ أنَّ طفلًا وُلِد في حريّة يحتاج إلى حبِّ وإخلاص كلِّ إنسانٍ معنيٍّ به، الرجل والمرأة على حدٍّ سواء. ولسوء الحظ، كان هذا الفهم الضيق للعلاقات الإنسانية هو ما أدخل هذه المأساة الكبيرة في حياة الرجل والمرأة الحديثيْن.

قبل خمسة عشر عامًا تقريبًا ظهر عملٌ من قلم الكاتبة النرويجية المبدعة، لورا مارهولم، عنوانه «المرأة، دراسة في الشخصية» (Woman, a Character Study). كانت من أول من لفتن النظر إلى فراغ الفهم الحالي لانعتاقِ المرأة وضيقه، وإلى أثره المأساوي على الحياة الداخلية للمرأة. تتحدث في عملها عن مصير عددٍ من النساء الموهوبات من ذوات الشهرة العالمية: العبقرية إليونورا دوزي، وعالِمة الرياضيات والكاتبة صوفيا كوفاليفسكايا، والفنانة وشاعِرة الطبيعة ماري باشكيرزيف، الاتي وافتهن المنية في شبابهن. في كلِّ وصفٍ من أوصاف حياة هذه النساء ذوات العقليات الاستثنائية، يَجري طريقٌ واضحُ المعالم من توقٍ لم يُلبّى إلى حياةٍ كاملة وممتلئة ومتكاملة وجميلة، ومن الاضطراب والوحدة الناتجة عن انعدامها. فمن خلال هذه الرسومات النفسانية البديعة، لا يمكن للواحد إلّا أنْ يرى أنَّه كلما ازداد نمو المرأة الذهني، تقلُّ إمكانيّة مقابلتها شريكًا ملائمًا يرى فيها ما يتجاوز الجنس، يرى الإنسانة، والصديقة، والرفيقة، والفردانية القوية التي لا يمكن، بل ولا يجب أنْ تفقد أي خصلةٍ من خصالها.

الرجل العادي، باكتفائه الذاتي، وباستعلائه الأبوي السخيف تجاه جنس الأنثى، ليس إلّا استحالةً للمرأة، كما تُصوِّرُها لورا مارهولم في «دراسة في الشخصية». وبالمثل، يستحيلُ لها رجلٌ لا يرى فيها سوى ذهنها وعبقريتها، ويفشل في إحياءِ طبيعة المرأة لديها.

يُعتبر الذكاء المثري والروح الحسنة عادةً خصلتانِ ضروريتان لشخصيةٍ عميقة وجميلة، وأما في حالة المرأة الحديثة، فهذه الخصال تعمل كعائقٍ أمام التأكيد التام لكيانها. فلأكثر من مئة عام، استُنْكِرَ الشكل القديم للزواج، المستند إلى الإنجيل، «حتى يفصل الموت بيننا»، بصفته مؤسسةً تمثل سيادةَ الرجل على المرأة، تمثل خضوعها التام لنزواته وأوامره والاعتماد التام على اسمه ودعمه. فقد أُثبِتَ قطعًا، مرارًا وتكرارًا، أنَّ العلاقة الزوجية قيّدَت المرأة في وظيفةِ خادمة الرجل وحامِلة أبنائه. ومع ذلك نجد العديد من النساء المُنعَتِقات تفضلن الزواج بكل نواقصه على ضيقة الحياة من غير زواج – ضيقةٌ لا تطاق بسبب سلاسل الإجحاف الأخلاقي والاجتماعي التي تُشَنِّج طبيعتها وتقيّدها.

لعلّ سبب التضارب هذا من طرف العديد من النساء المتقدمات يكمن في حقيقةِ أنَّهن لم يفهمن يومًا معنى الانعتاق فهمًا حقيقيًّا. فقد اعتقدن أنَّ كل ما احتجنه هو الاستقلال من الطغيان الخارجي، وأما الطغاة الباطنيون، مثل الأعراف الأخلاقية والاجتماعية، وهي أكثرُ أذىً على الحياة والنمو، فقد تُرِكت تحت فرض أنّ منتهاها تحصيلٌ حاصل، وهو حقًّا كذلك، فها هي انتهت متناغمةً مع عقول أنشط المؤمنات بانعتاق المرأة وقلوبهن، مثلما انتهت سابقًا مع عقول وقلوب أسلافنا.

هؤلاء الطغاة الباطنيون، سواءً كانوا على شكل الرأي العام أو ما ستقوله الأم أو الأخ أو الأب أو الخالة أو العمة أو أيِّ قريبٍ كان، ماذا ستقول الآنسة غرندي، والسيد كومستوك، وربُّ العمل، ومجلس التعليم؟، كلُّ هؤلاء المتطفِّلون، والمحققون الأخلاقيون، وسجّانو الروح البشرية، ماذا سيقولون؟ حتى تتعلم المرأة أن تقاومهم جميعًا، أنْ تقفَ بحزمٍ على رجليها وتؤكّد حريّتها من غير قيود، أنْ تنصت لصوت طبيعتها، سواءً كانت تنادي لأعظم كنزٍ في هذه الحياة: حبُّ رجل، أو أمجدِ امتياز: الحق في ولادة طفل، لا يمكن أنْ تسمي نفسها مُنْعَتِقة. كم من النساء المُنْعَتِقات تحملن الشجاعة الكافية للإقرار بأنَّ صوتَ الحب ينادي، نابضًا بشغفٍ في صدورٍ تطالِبُ بأنْ تعطى حقّها فيه.

يحاول الروائي الفرنسي جان ريبراغ في إحدى رواياته، «الجمال الجديد» (New Beauty)، تصوير المرأة المثالية الجميلة المُنْعَتِقة. وهذه الصورة المثالية تتجسد في فتاةٍ يافعة، تعملُ طبيبةً. تتحدث بوضوحٍ وحكمة حول كيفية إطعام الرُضّع، إنّها طيبة وتوفر الأدوية بالمجان للأمهات الفقيرات. وتتحدث مع شابٍّ من عمرها حول الأوضاع الصحية المستقبلية وكيفية القضاء على البكتيريا العصوية والجراثيم باستخدام الجدران والأراضي المصنوعة من الحجارة وترك السجادات والستائر. إنّها، بالطبع، ترتدي ملابسًا بسيطة وعملية، وغالبًا سوداء. والشابُّ الذي انبهر في أول لقاء من حكمة صديقته المُنْعَتِقة، يتعلم تدريجيًّا أن يفهمها، وأدرك في يومٍ سعيدٍ أنّه واقعٌ في حبها. إنّهما صغيران في السن وهي لطيفةٌ وجميلة، وإن كانت دائمًا متزمتة في لباسها، فمظهرها تنعّمه ياقتها وأكمامها ناصعة البياض. قد يتوقع القرّاء أنْ يصرّح الشاب بحبه لها، ولكنه ليس شابًّا يلتزم بالسخافات الرومانسية. فالشِعر والشغف بالحب يغطّيان وجهيهما المتورّدين خجلًا في مقابل الجمال الصافي لملامح هذه الآنسة. يُصْمِتُ صوتَ طبيعته ويظل مهذّبًا. وهي الأخرى دائمًا دقيقة، ودائمًا عقلانيّة، ودائمًا حَسَنةُ التصرف. أخشى أنّهما إنْ اقترنا، سيقع الشاب في خطر الموت تجمُّدًا. عليَّ أن أعترف أنّي لا أرى شيئًا جميلًا في هذا الجمال الجديد، فهو باردٌ كما الجدران والأراضي الحجرية التي تحلم بها. أفضّلُ بالتأكيد أغاني حب العصور الرومانسية. أفضل دون خوان ومادام فينوس. أفضل الهرب بالسلّم والحبل في ليلةٍ يضيئها القمر، تتبعها شتائمُ أبٍ وصيحاتُ أمٍّ وتعليقاتٌ أخلاقية من الجيران، بدلًا من صِحّة الفعل واللباقة التي تقاس بالياردة. فحين لا يعرف الحب كيف يعطي ويأخذ دون قيود، فهو ليس حبًّا، بل مُعَامَلةٌ لا تفشل أبدًا في تأكيد أهمية الموجب والسالب.

يقع أكبر عيبٍ في الانعتاق المعاصر في تصلّبِه الاصطناعي واحترامه الضيق، فهذا العيبُ ينتج فراغًا في روح المرأة لا يدعها تشرب من ينبوع الحياة. فقد أَشَرْتُ ذات مرّة إلى ما يظهر لي كعلاقة أعمق بين الأم المضيفة قديمة الطراز، الساعية دائمًا لإسعاد أطفالها وراحة من تحب، والمرأة الجديدة حقًّا، وبين الأخيرة هذه وأختها المُنْعَتِقة العاديّة. أعلنَت المؤمنات بالانعتاق البسيط النقي أنّني وثنية، وأن لا حلَّ مناسب لي إلّا أن أُصلَب. لم تدعهن غيرتهن العمياء أنْ يرين أنّ مقارنتي بين القديم والجديد لم يكن قصدها إلّا إثبات أنَّ عددًا لا بأس به من جدّاتنا جرت في عروقهن دماءٌ أكثر وَفُكاهة وحنكة أكبر، ولا شكّ أنّهن أكثرُ تطبُّعًا بالطبيعة وَرِقّة القلب والبساطة من غالبية النساء المهنيّات المُنْعتِقات اللاتي يملأن الجامعات وقاعات التعليم ومختلف المكاتب. لا يعني ذلك أن نتمنى العودة إلى الماضي، ولا يعني أن تُحكَم المرأة بمجالها القديم: المطبخ والحضانة.

الخلاص يقع في مسيرة حثيثة نحو مستقبلٍ أنصع وأوضح. نحن بحاجة إلى النمو، دونَ معيقات، متجاوِزاتٍ تقاليدنا وعاداتنا القديمة. لقد خطت الحركة لأجل انعتاقِ المرأة الخطوة الأولى في هذا الاتجاه. ومن المأمول أن تجمع قواها لتخطو خطوةً أخرى. فالحقُّ في التصويت والمساواة في الحقوق المدنية كلُّها مطالبٌ جيدة جدًا، ولكن الانعتاق الحقيقي لا يبدأ لا في صندوق الاقتراع ولا في المحاكم، بل يبدأ في روح المرأة. يُخبرنا التاريخ أنَّ أيّ طبقةٍ مضطهَدة لم تحصل على انعتاقها الحقيقي من أسيادها إلّا من خلال جهودها الذاتية. فمن الضروري أن تتعلم المرأة هذا الدرس، أن تدرك أنَّ ما تبلغه من حريّة يعادل ما تبلغه من قوّةٍ لتحقيق هذه الحرية. من الأهم بكثيرٍ إذن أن تبدأ بتجديدٍ داخليٍّ لقطع السلاسل التي تكبلها بِثقل الإجحاف والتقاليد والأعراف. إنَّ طلب المساواة في مختلف الحقوق في كلّ مجالٍ من مجالات الحياة مطلبٌ عادلٌ ومنصف، ولكنَّ أكثر الحقوق حيويّةً هو الحقُّ في أنْ تُحِبَّ وأنْ تُحَب. حقًّا، لو صار الانعتاقُ الجزئي انعتاقًا كاملًا حقيقيًّا للمرأة، لاستغنى عن تلك الفكرة السخيفة القائلة أنَّكِ إن أُحْبِبْتِ، إنْ أصبحتِ عشيقةً وأُمًّا، فذلك مرادفٌ لأن تصبحي عبدةً وتابِعة. ولاستغنى عن فكرة ثنائية الجنسين السخيفة، أو أنَّ الرجل والمرأة يمثِّلان عالَميْن متخاصميْن.

الصِغَر يفرّق، والرحابة تُوحِّد. فلنكن رَحْباتٍ وكبيرات. لا نغض الطرف عن الأشياء المهمة لأنَّ التوافه تواجهنا. لن يعترف تصوّرٌ حقيقيٌّ للعلاقة بين الجنسين بغالِبٍ ومغلوب، فهي لا تعرف إلّا شيئًا واحدًا عظيمًا: أن يمنح الواحد نفسه دون حدود من أجل أن يجد نفسه أثرى وأعمق وأفضل. ذاك وحده يمكن أن يملأ الفراغ ويبدل مأساة انعتاق المرأة بالبهجة، بهجةٍ لا حدود لها.

Skip to content