مكان المرأة (1952)

مقدمة الهامش:

تتحدث الكاتبة والناشطة النسوية الأمريكية سلمى جيمس عن التغيرات التي أحدثتها النساء في مكانتهن الاجتماعية في بداية خمسينات القرن العشرين. استند أسلوب البحث في هذا النص إلى محادثاتِ جيمس مع جاراتها من ربّات المنازل وزميلاتها في العمل، مُقدِّمًا حياة النساء من منظورٍ سياسي جديد وقتها، مما ساهم في جعله أحد النصوص الكلاسيكية النسوية. ساهمت جيمس في السبعينات في حملة «أجور مقابل العمل المنزلي» النسوية، وهي اليوم أحد مُنسِّقات «إضراب النساء العالمي».

نشرت جيمس النص أولًا باسمٍ وهمي، هو ماري برانت. تكتب جيمس في مقدمة 2012 لهذا النص عن ذلك: «أسميتُ نفسي ماري برانت (Marie Brandt) لأنّي يهوديّة وأردت أن أوضح أنّي لا أحملُ ضغينةً ضدّ الألمانيين بسبب هلتر. لكنَّ أحمقًا في المكتب المركزي في ديترويت حذف الدال من الاسم، محوّلًا إياه إلى صيغته الأنغلو-سكسونية (Marie Brant). أزعجني ذلك لكنّي لم أعبر عن ذلك حتى الآن»، خوفًا من القمع السياسي للحقبة المكارثية وتأكيدًا على هويتها اليهودية، وفعلًا تعرضت لاحقًا للفصل من العمل بسبب نشاطها السياسي.

اخترنا هذا النص لأنه لا يتحدث عن فترة بروز «الحركة» إلى السطح، بل عن المقاومة اليومية للنساء والفتيات بهدف تغيير أوضاعهن في أحيائهن ومدنهن، في علاقاتهن الشخصية والحميمية والأسرية، في علاقتهن بالعمل في المنزل وخارجه، وهي نضالاتٌ مُنفَرِدة وصغيرة، لربما يصح القول إنّها ولَّدَت ما يسمى بـ «الموجة النسوية الثانية» التي هزت البلاد في سعيها للتقدم بهذه الانتصارات على المستوى الشخصي والمحلي وتوسيعها وتعميقها ومأسستها على المستوى الوطني.

رغم أن النص يبين ما لم يتجاوزه جزءٌ كبير من الأدبيات النسوية وقتها من التسليم بأن كل امرأة «تريد أن تكون أمًا» و«تحتاج رجلًا تشارك معه حياتها»، فتفاصيل نصّ سلمى جيمس عن هؤلاء الشابّات الاتي لم يعدن يسلّمن بالمنظومة الأخلاقية التي عُلِّمنَ اتباعها، ويسعين لتأسيس منظومة أخلاقية جديدة، ونحو درجة أكبر من الاستقلالية وتقرير المصير، نحو الحق في اختيار مكانهن في المجتمع، تبين الجذور الاجتماعية المُتجاهَلة للحركات الاجتماعية النسوية تاريخًا وحاضرًا.

 بداية النص

اليوم أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى، المجلات والصحف مليئة بالمقالات المتعلقة بالنساء.

بعضها لا تناقش إلّا ما تقوم به النساء المترفات وزيجات شخصيات ومشاهير الطبقة العليا. وبعضها الآخر يناقش حقيقةَ وجود نسبة طلاقٍ عالية وإيجاد إجابةٍ ما لذلك، أو تناقش المجلات موضوع ملايين النساء اللاتي يدخلن المصانع، أو أرقَ ربّات المنازل. هذه المقالات لا تناقِش معنى هذا الأرق، ولا يمكنها إلّا محاولة جعل النساء يشعرن أنّهن في وضعٍ أفضل من أيِّ وقتٍ مضى.

تناشدُ الصحافةُ النساءَ بأنَّ تكنَّ سعيدات.

ليس في هذه المقالات أبدًا أبدًا ما يشير إلى إنَّ وضع النساء إن كان أفضلَ من أي وقتٍ مضى فذلك لأن النساء أنفسهن أحدثن هذا التغيير، وليس فيها ما يشير إلى طموح النساء المستمرة إلى التغيير، وأنّهن هنَّ من سَيُحدثن هذا التغيير.

طريقُ تجاهل هؤلاء الكتّاب دورَ النساء في صناعة التاريخ هي تجاهل الحياة اليومية لملايين نساء، وتجاهُل أفعالهن وأفكارهن.

إنّ الحياة اليومية للنساء هي ما يبيّن ما ترغب به النساء وما لا يرغبن به.

العديد من كتّابِ هذه المقالات نساء، ولكنّهن نساءٌ يسعين وراءَ سيرةٍ مهنيّة ولسنَ جزءً من النساء العاملات وَربّات المنازل في هذه البلاد. يدرك هؤلاء الكتّاب أنّهن/م إنْ كتبن الحقائق، ستكون هذه الحقائق سلاحًا للنساء في نضالهن لأجل حياةٍ أفضل لأنفسهن ولأسرهن.

وبالتالي لن يتصدين للضغوطات اليومية التي تواجهها النساء. لن يتصدين لحقيقةِ أنَّ تعامل النساء مع هذه الضغوطات بطرقهن الخاصة يكسبهن إدراكًا بقوّتهن وقوّة النساء الأخريات. ويتجنبن القول إنَّ النساء، لشعورهن بقوّتهن وتَخَلّصهن من العلاقات القديمة، يعددن أنفسهن وأزواجهن لعلاقةٍ أجدد وأفضل.

كاتبتا هذا الكتيّب رأين ذلك في حياتهن الخاصة وحياة نساءٍ لا يعرفنهن. كتبنا هذا الكتيّب كبدايةٍ للتعبير عمّا تشعرُ به المرأة العادية وتفكّر فيه وتعيشه.

المرأة العازِبة

تعمل الكثير من النساء قبل الزواج، ويعلمن أنّهن أكثر من قادرات على الاعتناء بأنفسهن، فهنَّ مستقلاتٌ كثيرًا مقارنةً بالفتيات العازبات قبل عشرين عامًا، وإن كانت الواحدة منهن ترغب بالزواج، فهي تقول إنَّ زيجتها ستكون مختلفة، فهي تقول إنّها لن تقبل بأن تُصبح مُستعبدَةً في المنزل مثلما كانت أمها، وإحدى الصديقات تقول لي إنّها تختلف عن أمّها لأن لديها سقف توقعاتٍ مرتفع في الزواج: «كانَ سقفها منخفضًا. أنا مختلفة. سقفي مرتفع».

تريد النساء أن يكون لهن دورٌ في اتخاذ القرارات، وترغب الكثيراتُ منهن بالابتعاد عن الصعوبات الداخلة في الاقتصار على مصدر دخل واحد للأسرة، فيفضلن الاستمرار بالعمل حتى لو لفترةٍ بسيطة بعد الزواج حتى يتمكنَّ، على الأقل، من الحصول على بعض الأشياء التي يرغبن بها ويحتجنها.

أحد أكبر المشاكل التي تواجهها الشابّة العازِبة، عدى عن كيفية إعالة نفسها، هو تحديد موقفها من الأخلاق التي تعلمتها. وفي عملية حلِّ هذه المشكلة، أسست الفتيات العازِبات تشكيلةً جديدة كاملة من الأخلاق، فعلى الرغمَ من أنَّ العديد من الفتيات لا يرين فيما يفعلنه تلك الانتفاضة ضد كامل المنظومة الأخلاقية التي عُلِّمنَ اتباعها، فالواقع يقول بذلك. العديد من النساء تدخلن في علاقاتٍ قبل الزواج، ولا يُنْظَرُ لهنَّ كنساءٍ ساقطات أو نساءٍ فاسدات، فالوضع ليس كما كان عليه قبل عدة سنوات،حيث كانت المرأة تخرج مع الرجل خلسة ولا تخبر أحدًا بذلك، وقد أخبرتني أحد الفتيات أنَّ كل صديقةٍ لها قامت بعلاقةٍ جنسية مع حبيبها، وأنها تتحدث معهن عن ذلك علانيةً، فهنَّ يشعرن بأنّ ذلك حقٌّ لهن، وهنَّ على أتم الاستعداد لِمعارضةِ سلطة المدارس، وآبائهن وأمّهاتهن، ومعارضة حتى أولئك الرجال الذين لن يقبلوا بهن. فسواءً أَوافقَ المجتمع على ذلك أم لا، تقوم هؤلاء الفتيات بما تقوم به صديقاتهن مُصِرَّاتٍ على قبول الناس بذلك، وقوَّتهُن تكمن في كثرة البنات اللاتي يشعرن ويتصرفن على النحو نفسه.

«هيه! لا تذعروني!»

تفكّر المرأة العازبة مرّتين قبل الزواج والتنازل عن الحريّة التي تتمتع بها قبله. فعندها كانت تخرج وتشتري الملابس متى ما احتاجت، إن لم تكن حريتها يومًا معادلةً لحرية الرجال، فهي تظلُّ مستقلّة. قالت لي امرأة شابّة ذات عشرين عامًا أنّها كادت أن تتزوج مرّتين وأنها مسرورةٌ لأنّها لم تتم ذلك، فتقول: «أعرف حقًا كم وضعي جيّد حين أسمع النساء المتزوجات يتحدثن عن أزواجهن. أنا أفعلُ ما أريد الآن»، وحين تسمع النساء المتزوجات يتحدثن، تقول، «هيه! لا تذعروني! ستشيّبن رأسي».

ولكّن كل امرأة ترغب بمنزلٍ وأسرة، وهذه البنت نفسها تتحدث دائمًا عن الإنجاب وعن حبيبها، ففي هذه الأيام تشعر الشابّة أن الوقت السعيد والحميمية التي تتمتع بها مع حبيبها لا يجب أن تنتهي مع الزواج، بل يجب أن تجعل من الزواج تجربةً حقيقية. من الواضح إذن أنّ هؤلاء الفتيات لا يرفضن الرجال أو الزواج، بل يرفضن ماهيةَ الزواج اليوم.

المرأة المتزوجة

حالما تتزوج المرأة تجد أنّ عليها أن تستقر وتقبل بالمسؤولية، أمرٌ طالما دُرِّبَت عليه النساء. تُدرِك أنَّ أحد وظائفها هي جعل المنزل الذي تعيش فيه هي وزوجها مكانًا يمكنهما دعوةُ أصدقائهما له، ويمكنهما الاستراحة فيه بعد يومِ عملٍ شاق. وَعلى الرغم من أنَّ المرأة تعمل، فالزواج دائمًا يحمل فرض أن المسؤولية الرئيسة بالاعتناء بالمنزل تقع على عاتق المرأة، ووظيفة الإعالة الرئيسة تقع على عاتق الرجل. فعلى الرجل أنْ يذهب إلى العمل لِيُعيلكِ أنتِ والأبناء، وعليكِ ضمانُ أنَّ المنزل سيُنظَّف والأطفال سيُعتنى بهم والوَجَبات سَتُطبَخ والملابس ستُغسَّل، إلخ. يبدو هذا الأمرُ منصفًا بادئ الأمر، ولكنّكِ سرعان ما تجدين أنَّ وظيفة البقاء في المنزل والعناية به ليست كما تُصوَّر في الأفلام. العملُ المنزلي وظيفةٌ لا تنتهي، وتتصف بالرتابة والتكرار. بعد فترة لا يعود القيام بأشغالِ المنزل، مثل كيّ الملابس أو الاستيقاظ باكرًا لإعداد وجباتِ الغذاء أو الفطور، أمرًا ترغبين بالقيام به. يصبح أمرًا يجبُ عليك القيام به.

الأبناء

يحاول بعض الأزواج تفادي تقسيم العمل هذا منذ البداية. فعلى سبيل المثال، حين تعملُ المرأة، يشاركها الرجل أعمالَ المنزل حين يعودان من العمل، وقد كان زوجُ إحدى النساء يقوم بالأعمال المنزلية أكثر منها. وذلك قبل أن أصبح لديهما أبناء.

ولكنّ أيَّ تفاهمٍ عن تشارك العمل يختفي حالما يدخل الأطفال القصة. فحالما يحدث ذلك، تنكشف الحقيقة اللا-إنسانية لواقع الترتيب القائم على عملِ الرجل خارج المنزل وعمل المرأة داخله. فحالما تستقيل المرأة من عملها لأجل الإنجاب، يشعر الرجل أنّه ليس عليه مساعدتها بأي شيء. فما كان تقسيمًا في زواجهما حين بدء الزواج يصبح الآن انشقاقًا. وبدلًا من أن يوحّدهما الطفل، يزداد الشرخ فتُلصق المرأة بالمنزل ويغرّى الرجل بوظيفته. ولكن بالنسبة للكثير من النساء العامِلات المتطلِّعات للاستقالة من أجل الأطفال، فمجيؤهم يحوّل العمل خارجَ المنزل إلى حكمٍ مؤبد: بعد شهرٍ أو اثنين من الإنجاب، تعود المرأة إلى العمل.

قِلّةٌ من الرجال يهتمون بتفاصيل الاعتناء بالطفل، فهم يشعرون أنّ تغيير حفاظات الأطفال أو تحميمهم ليس من وظيفة الرجال. حتى أنَّ بعض الرجال يشعرون أنّ على زوجاتهم بالبقاء في المنزل مع الأطفال، وفي الآن نفسه يعتقدون أنّ لا سبب يدفعهم هم أنفسهم للبقاء معهن في المنزل، فتراهم يسرحون وَيمرحون، إنْ سمحت لهم زوجاتهم، وهم يعلمون أنَّ زوجاتهم عالقاتٌ في المنزل يعتنين بالأطفال على الدوام. وفي حين للرجل أن يخرج بصحبة أصدقائه متى ما أراد، فعلى المرأة في كثيرٍ من الحالات أن تحارب لأجل الحق في الخروج مع صاحباتها. أخبرتني امرأةٌ أنّها كانت حاملًا، وأنّها ندمت على ذلك منذ بلغ طفلها شهرهُ الرابع، فقد كان زوجها مسرورًا، حسب ما قالت، لأنه يعلم أنّها إن كانت عالقةً طفلٍ في المنزل، يمكنه الخروج وقتما يشاء. لكن عدد النساء اللاتي يقبلن بمثل هذا الهراء من أزواجهن في تضاؤل، فالنساء يحاربن، بكل ما لديهن من قوة، ضد تحميلهن كامل مسؤولية الاعتناء بالمنزل والأطفال، ويرفضن البقاء في المنزل وتقييدَهن به في حين يسرح أزواجهن ويمرحون وكأنَّ شيئًا لم يكن. إن كانت المرأة ستبقى في المنزل، فسيبقى زوجها معها.

الأسرة مقسّمة

تحاول النساء التصدي للانقسام الذي خُلِق بين الأب والأبناء، وبين الأم والأب. فالامتياز الذي يمنحه المجتمع للرجل، لم تعد النساء تسمح له بالتمتع به، فهو امتيازٌ يسببُ له ولها المعاناة، فالرجال لا يعرفونَ إلّا القليل عن أبنائهم، وليسوا مُقَرَّبين منهم، ولا يعرفون القيمة الكامنة في أنْ يقدّم الواحد إلى الطفلِ وقته وجهده. وهذا العطاءُ الذي تمارسه المرأة هو ما يجعلها أقرب لأبنائها مما يمكنْ لأبٍ أن يكون، فالرجال يشعرون أنَّ إعالة الطفل هي كل ما عليهم القيام به للحصول على حبِّ أطفالهم واحترامِ زوجاتهم، ويشعرونَ أنَّ لا شيء سوى ذلك يجب أن يُطلَب منهم، ولكن كلما قلَّ المطلوب منهم كلّما قل ما يكسبونه في المقابل.

ليس من السهل على المرأة الاعتياد على كونها أُمًّا، فأنتِ تعلمين، من جهة، أنكِ تتحملين كامل مسؤولية هذا الطفل، وإنْ توقف الزوج عن إعالته، فعليكِ تولي ذلك. عليكِ تربيته. فلا أحد غيرك سيقوم بذلك. وكيفما كانت شخصيته حين يكبر، فأنتِ السبب. وحالما تَلدِينَ، عليكِ أن تُنْجِحي زواجك. فالأمرُ لم يعد متعلّقًا بك وحدك بل بشخصٍ آخر، لم يطلب أن يُولَد، وسيعاني إن انهارَ زواجكِ. وكثيرٌ من الزيجات التي كانت ستنتهي في أوضاعٍ أخرى، تبقيها المرأة متماسكةً لتتجنب عيش طفلها بِأُسرةٍ مشتتة.

حياةُ المرأة كلّها تتمحور حول أبنائها. تفكر فيهم أولًا. وتجد أنّهم الأشخاصُ الوحيدون في حياتها الذين يحتاجونها حقًا. وإن لم يكن لديها شيءٌ سواهم، تعيشُ لأجلهم. فهي تُنظّمُ عَملها حتى تتمكن من توفير أفضل عناية لهم. وجدول أيّامها يظهر فيه أنّ وقتها ليس لها بل لأبنائها. فما أكثر ما تُؤثِر فيه نفسها عليهم وعلى حاجاتهم، فهي تجاهد لتعيش في منزلٍ فيه لهم السَعَة والأمان، بل وتضطر أحيانًا لمُعاركةِ زوجها لأجل شيءٍ تعتقد أنّهم يحتاجونه وهو ليسَ مُستعدًا لمنحهم إياه. وهي، بالأحرى، تخطط مشوار حياتها وفقًا لعمرهم.

من السهل على رجلٍ أن يقول إنَّ هذا ولده، ولكن فيما يتعلق بالهموم الحقيقية: وقتُ المرض أو المشاغبة، لحظةُ توفير المأكل، أو الخلود إلى النوم، فكل هذه الأمور تقع على عاتق المرأة. فحتى مسائل بسيطة مثل ما إذا كان حذاؤه أو ملابسه مناسبةً له لا يعرف أغلبُ الآباء أي شيءٍ عنها. وهذا لا يعني أن هذا الوضع مُرْضٍ للآباء. فالأمر وما فيه هو أنَّه حتى لو لم ترضيهم فَهُم ضعاف الحيلة أمام الظروف، فهم يخرجون إلى أعمالهم صباحًا والأطفالُ نائمون ويعودون ليلًا وقد اقترب مَعادُ نومهم، وذلك من جرّاء أنّ حياتهم تدور حول كسبِ لقمة العيش وما يدخل في ذلك من مشاكل. ولِقلّة الوقت الذي يقضونه مع الأطفال، ليس لديهم أدنى فكرة عن حاجاتهم، وليس الجسدية منها فحسب، بل حتى للانضباط والحبّ والأمان أيضًا. فهذا الانقسام المفتعل بين المنزل والمصنع يخلق انقسامًا بين الأب وأبنائه. من الجليِّ افتراقَ طريق حياة الأب والأم يسبب المعاناة للأطفال. وما أكثر الحالات التي يستخدم فيها الأبوان الأطفالَ كسلاحٍ ضد بعضهما البعض. ويضيع الأطفال حيرةً وسط هذا الصراع، ويسارعون الهروب منه، رفضًا في أنْ يصبحوا جزءًا من هذه الحرب الأُسَرية المستمرة، وينفصلون عنها حالما يبلغون العمر الذي يقدرون عنده على الخروج.

يعود الأطفال إلى المنزل

إنّ العمل الداخل في تربية طفل يدمّر أغلب المتعة الكامنة في وجود هذا الطفل في حياتك إن كنت من عليهـ/ـا القيام بهذا العمل. فأن تقضي كامل وقتك مع الأطفال يومًا بعد يوم وأسبوعًا بعد أسبوع، وتنظّفي وراءهم، وتحافظي على نظافتهم، وتقلقي حول ما إذا كانوا قد يتسكعون في الشوارع أو قد يصابون ببرد، ليس ضغطًا مجهدًا وفظيعًا فقط، فأنت من جرّاء ذلك لا تعودين تجدينَ في الطفل إلا العمل والقلق الداخل في تربيته. يختزل الطفل في العمل، وتختفي كل المتعة، فتشعرين أنَّ كلّ مرحلةٍ عمرية يبلغها لا تعني نموّه، بل تزايد أعمالك. وترينَ فيه معيقًا لإتمامك أشغالك وحصولك على وقت فراغ. فيبدو الطفل «عقبةً في طريقك» بدلًا من أن يكون جزءًا من حياتك. فحالما تعتقدين أنّك انتهيت من تنظيف المنزل، يعود الأطفال إلى المنزل، ويبدأ الروتين نفسه مرّةً أخرى: طَبَعاتُ أصابعٍ على الجدار، وأحذيةٌ متسخة، وألعابٌ مبعثرة.

لا تدركين حتى حجم الحاجز الذي تخلقه تربية الطفل حتى يصلَ أخيرًا إلى سن المراهقة، حين تخفّ أعباءُ تربيته ويزدادُ وقتك وتزدادُ فُرَصكِ لتقدّريه كشخص. ولكن الأوان قد فات، فالطفلُ حينها قد ابتعد عنك ولا يمكنك رؤيته ومعرفته وتقديره.

إنْ لم تتمكن المرأة من إفهام زوجها ذلك (وهي أمورٌ يصعب عليه فهمها لأنّ الرجل لا يمر بها)، فعليها حرفيًا أنْ تجبره على إعطائها وقت فراغٍ لها بعيدًا عن الأطفال. ولكن ذلك لا يحلّ شيئًا وإن خفَّف التوتر لفترة. وبعض الرجال لا يريدون لزوجاتهم الحصول على أدنى قدرٍ من الحرية، فهم إمّا لا يثقون بهن أو يحملون أفكارًا قديمة تقول إنّ النساء لسن بحاجة للحرية أو يجب ألّا يكون لديهن حرية. وحينها لا ملجأ لديك سوى عند جاراتكِ، فللكثيرات من النساء، لا أحد في حياتهن يتفهّم وضعهن سوى الجارات، لأنّهن نساء أيضًا ويعانين من المشاكل نفسها. ومقابل نقودٍ قليلة أو وعدٍ بردِّ الجميل، قد تكون إحداهن مستعدة للاعتناء بطفلك في ظهيرة يوم ما. ولكن ذلك لا يتيح لك حرية حقيقيّة، فهذا البُعد قد يسبب لك القلق حول ما إذا كانَ أطفالك يتلقون عنايةً جيدة أم لا، بل وتشعرين بالذنب أحيانًا لأنكِ تركتيهم بادئ الأمر، فلا أحد أبدًا يَدَعُكِ تنسين أنك يجب أن تكوني في المنزل مع أبنائك، فأنتِ لن تتحررين منهم حقًا إن كنتِ أمًّا، ولن تكوني حرة حين تكونين معهم أيضًا. ما أسرع أن تكتشف المرأة لن تحصل على ما ابتغته من من إنجاب الأطفال. فَوضعُها، وَوضعُ زوجها ووضع أبنائها، يضع الأبناء في صراعٍ مباشرٍ معها.

حين يكون لدى المرأة أطفال، تتكبل بنوعين من الأصفاد: المنزل، ومن تهتمُّ بهم من أطفال. فَلَن تفهمينَ حقًا ما يعنيه أن تكوني ربة منزل حتى تنجبين.

المنزل

ربة المنزل وحيدةٌ في كل ما تقوم به. فكلّ أعمال المنزل عليكِ القيام بها بنفسك، ولا وقت للتخالط بالآخرين إلّا حين تستضيفينَ زوّارًا أو حين تزورين إحداهن أو أحدهم. من الشائع الاعتقادَ أنّ تزاوُرَ النساءِ ليسَ إلا لتضييع الوقت، ولكن الواقع هو أنّه لولا هذه الزيارات المتقطّعة ستصاب هؤلاء النساء بالجنون نتيجة الملل والوحدة في هذه العُزلة. فمخالطةُ الناس أمرٌ لطيف. أمّا أن تقومين بِالعمل نفسه، يوميًا بعد يومًا، يصل لدرجةِ أنّكِ «حتى لو مُتِّ، ستستيقظين صباحًا لتري المنزل أمامك لتنظفيه». وأحيانًا يصلُ بكِ المللُ إلى درجةٍ تُشْعِرُك بالحاجة بالقيام بأيّ شيء، فإحداهنّ تغير ترتيب الأثاث كلّ أسبوعين، وأخريات تشترين شيئًا جديدًا للمنزل أو لأنفسهن، وذلك من بين مليون خطة لكسر تلك الرتابة البليدة. وحتى وإنْ كانت مسلسلات الراديو الصباحية تساعد على تمرير الوقت فَلا شيء يمحو العزلة والملل.

والأفظع في أعمال المنزل هو ذاك الشعور بأنّ لا نهاية له. فَحين يعمل الرجل في المصنع، قد يعمل ساعاتٍ طويلة وصعبة، لكنه، في وقتٍ معين، يسجل خروجه وينتهي عمله لذاك اليوم على الأقل. ويأتي يوم الجمعة أو عشية السبت، وعنده يومٌ أو يومان دون عمل. أما عملكِ في المنزل فلا ينتهي أبدًا، والأمر لا يقتصر الأمر على كثرة الأعمال، فالحال أنّكِ حالما توشكينَ الانتهاء يأتي أحدهم ليقلبَ الأمورَ رأسًا على عقب، فبعد أربع أو ست ساعات من التنظيف الكامل للبيت، يعود الأطفال ويحوّلونه إلى مكبّ نفاياتٍ خلال بضع دقائق، أو يوسّخ زوجك كل مِنْفضات السجائر في المنزل، أو تمطر السماءُ بعد تنظيفكِ النوافذ. لربما تقدرينَ على التحكم بأطفالك، أو أن تحثي زوجك على توخي الحرص، لكن هذه الحلول لا تكفي. فَبِسبب هيئة الأسرة، ليس لدى زوجكِ ولا أولادك أدنى فكرة عن مقدار الجهد والعمل الشاق الذي يتطلبه تنظيف المنزل. وبسبب هيئة الأسرة، ليس لديك أدنى قدرة على التحكم بساعاتِ العمل، أو نوع العمل الذي عليك القيام به، أو مقدار العمل الذي تنفذيه. وهي أمورٌ ترغبُ النساءُ بالتحكم بها.

بقية الأسرة ليست جزءً من المنزل. فَأنتِ تجعلين من المنزل ما هو عليه: فُسحَةً للراحة، مكانًا قابلًا للعيش، وجذّابًا، ومريحًا، ونظيفًا، وأنتِ، وحدكِ، من لا يمكن لها أبدًا الاستمتاعُ بكلّ ما فيه، فَعينُكِ دائمًا على ما عليك تنفيذه. وتنظيفكِ مخلّفات باقي الأسرة تبدو وظيفةً لا منتهية. فأنّى لكِ أن تسترخي في المكان الذي تبذلين فيه أكثر وقتك وطاقتك وقدرتك.

أغلبُ النساء لا يملكن صوتًا حتى في القرارات الحقيقية المتعلقة بالمنزل. فرغمَ ما يتاح لهنّ من قدرة على الاجتهاد صغار الأمور، فالزوج يقرر كبارها، إمّا مباشرة أو يُشعرِ الجميع بِضغطه تجاه قرارٍ معين. والنساء يشعرنَ أنّه يجب أن يملكن صوتًا في المنزل، وها هن اليوم يشاركن في القرارات المتعلقة بالمنزل أكثر من أي وقتٍ مضى، ولكنهن اضطررن لخوض نضالٍ طويل للحصول على الإقرار بحقهن في ذلك.

«أنتِ رئيسة نفسك»

يقولون إنَّ المرأة رئيسة نفسها. لا أحد يفرض عليها وتيرةً معيَّنةً للعمل، ولا أحد يفرض عليها مقدارًا معيّنًا للعمل، ولا مُشرِفَ يقف فوقَ رأسها طوال اليوم، فَلها أن تجلس متى ما أرادت، أو أن تدخن السيجارة، أو تأكل حين تجوع.

لكنّ ربّة المنزل لديها رئيسٌ من نوعٍ آخر تمامًا. رئيسها الأول هو عملُ زوجِها. كل ما على المرأة القيام به يعتمد على وظيفة زوجها. مهما كان أجرُ زوجها، فهو ما ستقتات عليه الأسرة: هل ستشتري ملابسًا، أم ستضطر لخيطها؟ هل سترسل الملابس إلى المغسلة أم ستغسلها باليد؟ هل ستعيش الأسرة في شقة مكتظة أم بيتٍ رحبٍ يتّسع للأسرة؟ هل تملك غسّالة ملابس أم تغسل الملابس باليد؟ كل هذه الأمور يحددها نوع وظيفة زوجها.

تحدد الساعات التي يعملها زوجها كامل جدولها وكيف ستعيش، وأين ستقوم بعملها. فأحد المشاكل الكبيرة لدى المرأة هي أنْ يعمل زوجها ليلًا، إذ يختفي جدول الأعمال: وقتما ينتهي العمل المنزلي، يستيقظ زوجها وتعم المنزل الفوضى مرةً أخرى. وإن كان لديهما أطفال فذلك ينتج جدولين يجب العمل وفقهما، وعليها أن تحافظ على هدوء الأطفال طوال النهار، وهو أقربُ للاستحالة.

وحتى مدى سهولة أو صعوبة وظيفة زوجها له أثرٌ على حياتها، فلن يساعدها رجلٌ يعمل عملًا شاقًا في أيٍّ من الأعمال المنزلية، وسيعود إلى المنزل أضيقَ خلقًا وأعسر عشرةً من قرينه ذو الوظيفة السهلة، وعلى المرأة أن تتعلم كيف تحافظ على هدوء أعصابها أكثر، إنْ أرادت بعضًا من السلام في المنزل، وعليها أن تضبط الأطفال بِحدّة أكثر أيضًا.

بل وحتى مكان عيشها يحدده عمل زوجها. فمكانُ عيشكِ سيحدده أيّ منطقةٍ هي الأسهل وصولًا إلى عمله في المدينة. وإن لم يعثر على وظيفةٍ في تخصصه في هذه المدينة فعليكِ أن تنسي كل أصدقائك وكل روابطك الأسرية وتذهبين إلى حيث يمكنه العثور عليها.

الأطفال ومتطلبات الاعتناء بهم هي المحدِّد الثاني لكيفية قضاء المرأة حياتها. ولا يوجد شيء أبدًا أكثر تطلُّبًا من الأطفال الرُضَّع. عندما يريدون شيئًا، فهم يريدونه في تلك اللحظة ذاتها بلا أي تأخير.

ولكن أكثر الرؤساء وحشية هو ذاك الرئيسُ الذي يجبر المرأة على نسيان الراحة: العمل نفسه. العمل لا ينظر لك كإنسان. إنّه حاضرٌ سواءً أكنت مرتاحةً أم منهكة، ومهما كانت خططك لذاك اليوم، فهو يهيمن على كلّ لحظة فراغٍ لديك، سواءً في المنزل أو خارجه. فتقضينَ أيّامكَ في محاولة الانتهاء من عملٍ لا نهاية له. ترغبين القيام بما عليك من أعمال في أقل وقت ممكن حتى يتاح لكِ وقتٍ فراغٍ لنفسك، وعندما تظنين أنّ أعمالكِ انتهت، تكتشفين أمورًا أخرى عليك القيام بها. وأحيانًا تيأس النساء وتتركن المنزل دونَ عناية لبضعة أيام وبضعة ساعات. ولكن لا أحد سواهن سيزعجه ذلك، وسيعملن بعد ذلك بضعف المجهود للتعويض عن الوقت الضائع. دائمًا ما تقومين بالواجب، ولا اعتبار للرغبات.

أغلبُ النساء لديهن حسٌّ كبيرٌ بالمسؤولية. فبصفتهن أمهات وزوجات، تشعر النساء أنَّ عليهن القيام بأعمالهن بأفضل ما يمكن. وتريد الواحدة أن تكون فخورةً بمنزلها وأطفالها. ولا يوجد مكانٌ آخر يمكن لها عرض إمكانيّاتها فيه. فإنْ كانت المرأة مدبّرةً جيدة، تحصل على احترام النساء الأخريات، وذلك مهمٌّ لكل امرأة.

لا حاجةَ إذن لمشرفٍ أو لقائدةٍ في المنزل، فطريقة عيش المرأة والعمل الذي عليها القيام به هو ما يبقيها منصاعة. إن طريقة العيش هذه هي ما يعلمها الانضباط. تتعلم متى تتكلم ومتى تصمت. تتعلم أن تقوم بكل شيء لوحدها. إنْ انبعث طارئٌ يجب تنفيذه وزوجها لا يريد تنفيذه، تقوم به بنفسها. تقولُ امرأة لديها أربعة أطفال إنّها صبغت كامل الجدار الخارجي للمنزل، لأنها لا تريد خمس سنواتٍ أخرى من الوعود.

الأمر يتطلب خبرة

كلما يحصل زوج المرأة على علاوة، تقول لنفسها: الآن سألتقط أنفاسي. هذه الدولارات القليلة الإضافية ستغير أحوالنا. ولكن وقت حصوله على تلك العلاوة، ترتفع الأسعار لِتنسفها، أو يمرض الزوج ويخسر أجر ذاك اليوم، أو تبرز «حاجيات إضافية». ولكن حتى لو مرّت الأمور بسلاسة، وقتها ستشترين الأشياء التي احتجتها منذ فترة ولم تتحملي تكاليفها، وبالتالي تعودين إلى خط البداية. تعيش كل أسر العمّال تقريبًا كلَّ يومٍ بيومه. لا توجد فرصة لتدخر شيئًا لوقت الحاجة. فإنْ خسرت الأسرة أجرًا واحدًا، قد تشكل تلك نكسة تستمر أسابيع عدة. وفي كل ذلك الوقت على الزوجة أن تدير الأزمة بطريقةٍ أو بأخرى. والشيء نفسه يحدث حين يدخل الرجل العامل في إضراب، فلعدة أسابيع وأحيانًا لشهورٍ عدة، عليها أن تدبّر أمورَ الأسرة بالموارد القليلة التي تملك. لدى زوجات عمّال المناجم نظام ادّخارِ طعامٍ وملابس للوقت الذي يعمل فيه أزواجهم باستمرار. وبهذه الطريقة، حين يحدث إضراب يمكنهن العيش على الأقل لفترة بسيطة على ما ادخروا من مأكل وملبس. الأمر يتطلب الكثير من الخبرة والتدريب لتتعلم كل الحيل، والمرأة هي الوحيدة التي تحتل المكان الذي يتيح تعلم هذه «الحيل». ففي حالات الطوارئ، تقومين بالاقتصاد في أمورٍ لم تعتقدي أن الاقتصاد فيها ممكن، وبطريقةٍ ما تدبّرين أمورك.

على المرأة أن تسيّر الأمور مهما كان دَخلُ زوجها. لا تهم كثرة أو قلّة ما يأتي به إلى المنزل. عليها أن تقرر متى تخيط الملابس ومتى يمكن لها تحمل تكلفة شرائها. تجد وصفاتٍ لطبخ وجباتٍ اقتصادية حسنة المظهر والمذاق في الوقت نفسه. طريقةُ عيش الأسرة – ما إذا كانت ستضطر للتأخر عن سداد الفواتير، أو كان لديها ما يكفي من الطعام – كلها تعتمد على مقدار ما يعطيها زوجها وكيف تتصرف به. رغم أنّ أغلبَ الأزواج يدركون أنَّ الأسعار مرتفعة، فهم لا يعلمون حقًّا ما يتطلبه تسيير أمور أسرة. لأن المرأة عليها العيش على مقدارٍ ضئيلٍ جدًا، فهي فقط تعلم كيف تدير أموال المنزل.

كل هذه الخبرة تجهّز المرأة لتدبّر أمورها حين تعيش وحدها. فالمرأة التي يهجرها زوجها ستكونُ في حالٍ صعبٍ جدًا، بالخصوص إنْ كان لديها أطفال، والمحظوظاتٌ فقط لديهن أقرباء يساعدنها في البداية. ولكنها عمومًا عليها أن تصبح أمًّا وأبًا للأطفال. ولا مناص من العمل. وتتخذ مسؤولية كلٍّ من الرجل والمرأة. فتعيل أسرتها بما تحصل عليه من أجر، وهو عادةً أقلُّ مما يحصل عليه الرجل. يقل وقتها مع أطفالها، وأحيانًا يجب فصلها عنهم كي تتمكن من العمل. ولكن الواحدة منهن تدبر أمورها وتربّي أبناءها وتبدأ حياةً جديدة لنفسها، ولا تبقى في المنزل وتكتفي بالنحيب. صديقتي لديها جارةٌ هجرها زوجها وتركها مع ابنها، وترك عليهما كمًّا من الديون. باعت هذه المرأة كل أثاثها، وبما حصلت عليه من مال ذهبت إلى بورتو ريكو لترى أمّها. إن تلقاها ستندهش. لو بكت، فلن تعلم عن ذلك. قالت، إنّها لن تجلس وتنتظر عودته كالحمقاء. لم تقم بشيءٍ كهذا من قبل لكن عندما حان الوقت، كانت تعرف ما يجب عليها فعله تحديدًا.

يعيش كلٌّ منهما حياةً منفصلة

تبقى المرأة وحدها في المنزل طوال اليوم. تنتظر زوجها ليعود إلى المنزل لتخبره عن الأشياء التي حدثت في ذلك اليوم، شيءٌ فعله أو قاله الأطفال يبين روعتهم، أو تعبها خلال ذاك اليوم. تريد أن تسمع منه ما مر به ذاك اليوم وتأخذ رأيه حيال شراء هذا الشيء أو ذاك للمنزل. ولكن حياته ليست في المنزل. حين يعود الرجل إلى المنزل من عمله، لا يريد القيام بأي شيء. بل وأحيانًا لا يريد الكلام حتى. تنتظرين طوال اليوم شخصًا تتحدثين معه، وحين يعود زوجكِ إلى المنزل يمسك بالجريدة ويتصرف وكأنّه لا يعرفك حتى. حين تظل امرأة في المنزل طوال اليوم، ترغب بالخروج لمشاهدةِ عرضٍ ما أو للتجول بالسيارة بعد ظهيرة يومِ الأحد. ولكن أثناء أيام الأسبوع يعود زوجكِ إلى المنزل مُنهارًا وحتى في أيام نهاية الأسبوع يريد أحيانًا البقاء في المنزل للاسترخاء. ظلَّ بعيدًا عن العمل لأغلب ساعات النهار، والآن هي فرصته للجلوس والاسترخاء. تحتاجُ النساء إلى الصحبة ويدركن أنَّ الرجال لا يفهمون شيئًا في ذلك.

إن لم يكن هنالك تفاهمٌ بين الرجال والنساء حول عملهم وحاجاتهم الإنسانية، ليس من المفاجئ أن العديد من الزيجات لا تنجح في تحقيق حياةِ جنسية سعيدة، المرحلة الأرقّ في العلاقة. أزواجهن، الأناس المفترض أن يكونوا الأقرب لهن، هم الأبعد عن هؤلاء النساء. يعيش كلٌّ منهما حياةً منفصلة.

تعرف النساء بعضهن البعض

إن لم يكن للنساء التواصل مع أزواجهن، يتجهن إلى غيرهن من النساء. لأن النساء يعشن حيواتٍ متشابهة، فهن يعرفن ويفهمن بعضهن البعض. تصبح بعض نساء الحي مقرّباتٍ جدًا من بعضهن البعض. تساعد نساء الحي بعضهن البعض إن احتجن مساعدة، وعلى تمرير الوقت أيضًا. يتحدثن عن أمورٍ لا يحلمن بالحديث عنها مع أزواجهن، حتى لو كان الزواج سيستمع. من يمكن لها أن تحدث رجلًا عمّا تريد إصلاحه في المنزل أو ما تريد شراءه للأطفال؟ أشياءٌ مثل المشاكل بينك وبين زوجكِ أو المشاكل المالية كلّها «ملكٌ مشاع». تناقش النساء كل الأمور التي تؤثر على حيواتهن – ما إذا كنَّ يردن أبناءً أم لا، وإن نعم فما العدد، كيف تقتصد في شراء الملابس والأدوات المنزلية والطعام، أي المحلّات لديها أسعارٌ أقل، أيها أفضل طرق تنظيم النسل، المشاكل الجنسية، والذهاب إلى العمل. في هذه النقاشات تُحلُّ العديد من الأشياء. تتكون لدى النساء آراءٌ جديدة نتيجة الاستماع لحديث نساءٍ أخريات. تُقصي النساء إحداهن من المجموعة لأنها لا تقوم بما هو متوقعٌ منها. الأمّ التي تهمل طفلها أو لا تهتم بمنزلها، دون عذر، لن تمنحها النساء الأخريات وقتَهن أو ثقتهن.

بعض الناس يسمّون هذا ثرثرةً ونميمة ولكنه أكثر بذلك بكثير. تكسر النساء به عزلة المنزل عبر تأسيس روابط قوية مع النساء الأخريات. إنّها الحياة الجماعية الوحيدة الممكن لربّة المنزل أن تحصل عليها، وبالتالي فهي تستثمر فيها قدر ما أمكن. إنَّ وجود هذه الروابط مع ربّات المنازل الأخريات هو بحد ذاته إدانةٌ لعلاقة المرأة مع زوجها، مع عملها، ومع بقية المجتمع. تجتمع النساء، ويتحدثن مع بعضهن البعض، و، على نحوٍ ما، يعشن مع بعضهن البعض. ليس لديهن من يلجأن سوى بعضهن البعض. هنا المكان الوحيد الممكن لهن فيه أنْ يقررن من سيعاشرن، أين سيجلسن، وماذا سيفعلن. لا يوجد أحد يقف في طريقهن.

أفضل وقتٍ في الأسبوع في حيّي هو يوم الجمعة. كلٌّ منا تنفذ أغلب أعمالها المنزلية يوم الجمعة حتى يصبح لديها أشغالٌ أقل في يومي نهاية الأسبوع. بعد نهاية الظهيرة، تخرج إحدانا لشراء بعض البيرة ونجلس ونتبادل أطراف الحديث ونسترخي ونقارن ملاحظاتنا. وقتها تصل رغبتنا في الصحبة إلى أقصاها وكلّنا نشعر براحة شديدة حين ينتهي العمل. هنالك شعورٌ بالقرابة والتمازح لا تحصلين عليه في أي مكان إلّا مع هؤلاء الناس الذين يعرفونك ويقبلونك بما أنت عليه.

هذا هو تنظيم النساء. بخبرتهن في تدبير الأمور وبمساعدة النساء الأخريات في مجموعتهن، يعلمن ما يجب القيام به إنْ أردن الدخول في نشاط. اجتمعت النساء في مشروعِ إسكانٍ في سان فرانسيسكو لوقف ارتفاع الأسعار. رأين أنَّ الحكومة لا تقوم بما يكفي، وأخذن زمام الأمور. عقدن اجتماعاتٍ ونظّمن مظاهراتٍ ووزعن منشورات. لم تنظمها أيُّ منهما منفردة. بعد العيش مع جاراتهن في مشروع الإسكان لفترة طويلة، عرفت كلٌّ منهن الأخريات معرفةً وثيقة؛ كلٌّ منهن تعرف نقاط ضعف وقوّة الأخرى. خطَّت النساء قوائم أسعارٍ لكلٍّ متجر في البلدة واشترين فقط من المتاجر ذات أقل الأسعار. كلُّ المدينة عرفت عن «مكتب ماما لإدارة الأسعار»1 إشارةً إلى «مكتب إدارة الأسعار»: الوزارة الحكومية التي كان من المفترض أن تدير الأسعار أثناء الحرب العالمية الثانية وكان في الصحف عدّة مقالاتٍ عنه.

هنالك حالاتٌ عدة دخلت فيها ربّات المنازل في نشاطاتٍ لم يُنشَر عنها في الصحف. وضعت النساء حواجز وأغلقن الشوارع حتى يصبح لدى أبنائهن مكانٌ للعب. لا تتمكن الشرطة بقنابلها المسيلة للدموع من طردهن من المكان. وتناقلت النساء فيما بينهن أنه، في يومٍ معين، لن تشتري أيٌّ منهن لحمًا. يقومن باعتراض طريق نساءٍ أخريات ويقلن لهن: «لا تشتري لحمًا في يوم كذا». تعرفُ النساء بعضهن بما فيه الكفاية لتحدثن امرأةً لا يعرفنها البتة، وهن واثقاتٌ أنها ستفهمهن. دخلت زوجات عمّال المناجم في إضراب احتجاجًا على بيع الشركة منازلهم ومرّة أخرى احتجاجًا على انتشار الرماد في أجواء بلدات التعدين. حصلن على دعم أزواجهن في كلا الحالتين، ورفض أزواجهن قطع صفوف الاعتصام.2صف الاعتصام: شكل من أشكال الاحتجاج، خاصةً في الإضرابات العمّالية، يتجمع فيه المحتجّون ويشكلون صفًّا أمام مكان العمل أو المبنى، عادةً لثني العمال الآخرين عن دخول المبنى. يُستَخدم تعبير «رفض قطع صف الاعتصام» كتعبيرٍ مجازي عن التضامن مع أصحاب قضية معينة.

تتصرف النساء كمجموعة لأنّهن يعاملن كذلك. يعشن وفق طريقة الحياة نفسها عمومًا، مهما كان اختلاف وضعهن الفردي.

علاقة جديدة

التنظيم الأعم على الإطلاق للنساء هي النشاطات التي تدخل فيها النساء في منازلهن. كلُّ امرأةٍ في منزلها تُحدِثُ ثورة. هنالك بعضُ النساء لا يقلن الكثير لا لأزواجهن ولا لغيرهن من النساء، ولكن حين يأتي وقتُ الجد تفعل هؤلاء النساء ما يعلمن أنه صواب. تجادلُ نساءٌ أخريات أزواجهن لأجل الأشياء التي يشعرن أنها يجب أن تكون لديهن. هذه الجدالات لها معنىً لدى المرأة. ما تقوم به هنا ليس محض جدالٍ مع زوجها. إنّها تبيّن له – والأهم من ذلك، تبيّن لنفسها – أنّ لديها أفكارًا وَرَغباتٍ خاصة بها. تُخبِر النساءُ الرجالَ باستمرار إنَّهم لا يمكن أن يستمروا بطرقهم القديمة. إنّ روح الاستقلال واحترام الذات هذه هي التي يقدّره الرجال في النساء، حتى حين تكون موجَّهةً ضدهم أنفسهم. إنّهم يقّدرون امرأةً يمكنها الوقوف بنفسها ولا تجعل الرجل يتسيّد عليها. إنَّ امرأةً لا ترضخ لزوجها تكسبُ احترام النساء الأخريات وتكسب احترامَ زوجها أيضًا.

ترفض النساء أكثرَ فأكثر أن يُجعَلن آلاتٍ لرعاية الأطفال وتجهيز الزوج للذهاب للعمل. إنّهن يطالبن من أزواجِهن بالمزيد في العلاقة. إن لم يتغير الرجل، فيفضلن إنهاء الزيجة بدلًا من الاستمرار في العيش مع هذا الغريب. إنَّ الطلاق أمرٌ مقبول اليوم لأن النساء جعلنه مقبولًا. من الواضح أنَّ سبب ذلك ليس المشاكل الفردية مع الرجل هذا حصرًا. حالات الطلاق أكثر من أن تكون المسألة مسألةُ مشاكل فردية. حين تطلق المرأة، رغم أن ذلك يأخذ شكل صراعٍ مع رجلٍ واحد، فهو فعلٌ يعارض كامل طريق الحياة المفروض على الرجال والنساء اتباعه في يومنا هذا.

تحارب النساء ذلك الدور الذي يلعبه الرجال في المنزل. ولا علاقة لهذا الشيء بمقدار مساعدة الزوج زوجته أو حسن تربيته للأطفال. مهما حاولَ الزوج فهم مشاكل المرأة، ومهما انسجما، تحاربُ النساء الطريقة التي أجبِرْنَ على اتباعها وترغبن بتأسيس طريقة حياةٍ جديدة.

المرأة العاملة

إنَّ العمل خارج المنزل أحدُ الطرق التي تبين بها النساء رفضهن لدورهن في المجتمع. اليوم تعملُ نساء كثيراتٌ لم يسبق أن تَوظَّفن من قبل. عبر ذهابهن للعمل، غيّرَت النساء علاقاتهن مع أزواجهن وأطفالهن. وفي طور ذلك أوجدْنَ لأنفسهن مشاكلَ جديدة تتطلب الحل، وطُرُقًا جديدة لحلّها.

وسّعت النساء خبراتهن حتى عرفن ما تفكر به وتفعله مجموعاتٌ كبيرة من الناس. عدد النساء الربات منازل حصرًا اليوم في تضاؤل. أغلبُ النساء يتخذن عملًا ما مؤقتًا أو دائمًا. بعضُ النساء لا يذهبن للعمل إلا لبضعة أشهر في السنة، وأخريات عملهن دائم. في أي حال، لديهن صورةٌ من العالم لم يمتلكنها من قبل.

بعضُ النساء اللاتي عملن معي قلن لي إنّ سبب عملهن هو أنه لا يمكن لهن العيش على راتب زوجهن وحده. وهذا الأمر ينطبق خصوصًا على الأسر حيث الرجل وظيفته غير حِرفية والأجر ضئيل، ولكنه ينطبق بازدياد على الجميع. إلى جانب ارتفاع تكلفة المعيشة، هنالك سببٌ آخر وراء صعوبة العيش على راتبٍ واحد: تطلبُ النساء أكثر بكثير مما كنَّ يطلبن سابقًا. لا يرغبن بالعيش بشعور الإفلاس البغيض الذي عشنه أثناء الكساد الكبير.3الكساد الكبير: أزمة اقتصادية حدثت في عام 1929 ومرورًا بعقد الثلاثينيات وبداية عقد الأربعينيات، وتعتبر أكبر وأشهر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين.

لا يرغبن بغسيل الملابس بالأيدي في حين بإمكانهن، بمقدارٍ أكثر بقليل من النقود، أنْ يحصلن على أحدث المعدات في منازلهن. كلُّ شيءٍ الآن حديث وترغب النساء بالعمل بأحدث الأجهزة. كلُ ما يمكنك القيام به بأجرٍ واحد هو البقاء على قيد الحياة.

حين تعيش على ميزانية صغيرة، المرأة هي من عليها تحمّل عبئ ذلك. عليها أن تمشي مسافاتٍ طويلة للتسوق. وحين يُهدَّد تَوَفُّر أساسيات الكفاف، عادةً ما تكون هي أول من يَتجاهَل حاجاته.

أحد أكبر الحاجات المالية التي لدى المرأة اليوم هي امتلاكُ بعض الاستقلال المالي. لا ترغب النساء بالحاجة لمراجعة أزواجهن كلما رغبن بإنفاق أي قدرٍ كان من النقود مهما صغر. يرغبن بأموالٍ خاصةٍ بهن. أنْ تتمكنين من تحمل تكلفة ستائر جديدة حتى إنْ كانت الستائر القديمة ما تزال في حالة جيدة ولكنك سئمت من النظر إليها، لهي رفاهية أغلبُ النساء لا يمكنهن تحمل تكلفتها ولكن كلهن يرغبن بها. الراتب الذي يقدمه لك زوجك، رغمَ أنَّك تبذلين لأجله جهدًا معادلًا للذي يبذله هو، ليس حقًّا حقيقةً ملكًا لك، حتى وإنْ سَلَّمه لك لأجل حاجاتِ الأسرة. تلك الحاجات التي تملكها النساء لا يمكن أن يلبيها أبدًا المال الذي يعودُ به الرجال العامِل إلى المنزل.

تملكُ المرأة التي تذهب للعمل في المصنع شعورًا بالاستقلال ليس ماليًّا فحسب، بل فيما يتعلق باتخاذ القرار في المنزل أيضًا. إنْ كنتِ تساعدين في إعالة الأسرة، لديكِ حقٌّ أكبر ليس فقط في تقرير كيفية استخدام نقود الأسرة بل الآن لديكِ دورٌ أكبر في مسائل أخرى تطرأ في الأسرة كان لزوجكِ القرار الوحيد فيها سابقًا. أحدُ الرجال وصل من الاستغراب من الحقوق التي اتخذتها زوجته منذ بدأت بالعمل إلى أنّه نهاها عن العمل وأمرها بالبقاء في المنزل. يقول إنّهما ينسجمان على نحوٍ أفضل على ذلك النحو.

ولا تشعر النساء بالاستقلال في اتخاذ القرار فحسب. حين تعمل المرأة فهي تعلم أنّها لا تحتاج لأن تتغاضى عن تجاوزاتِ زوجها. فإنْ تجاوز حدوده في الشراب، أو بالدخول في علاقاتٍ غرامية، فستنهض وتتركه أسرع مما كانت ستفعل قبل ذلك. إنها تعلم اليوم أنّها، إن احتاجت لذلك، بإمكانها أن تعيل نفسها بنفسها.

أحد الأشياء التي تدفع النساء إلى الوظائف هو الملل والوحدة التي سيعشنها لو بقين في المنزل. ترغب النساء بمعايشة الآخرين. مقارنةً بزوجها، تعيش المرأة حياةً معزولة، وحدها في المنزل. عشرتها الوحيدة في المنزل هي الراديو والهاتف. في المصنع، يمكنك على الأقل العمل مع الآخرين والهرب من الملل والوحدة المتأصِّلة في الحياة المنزلية.

أكثرُ ما تندم عليه المرأة حين تذهب إلى العمل هو ترك أطفالها. من الصحيح أنّكِ ترغبين بتركهم لفترةٍ ما، ولكنك لا تريدين أن تتركينهم مع أيٍّ كان. في أغلب الأوقات أنتِ لا تعرفين جودة تلكَ الرعاية التي يتلقونها. وإنْ كانوا كَبِروا بعض الشيء، لا تعلمين من يجالسون وماذا يفعلون في وقت الفراغ.  إن كان طفلك يذهب إلى روضة أطفال، بإمكانك سؤال المُعَلِّمة عن طفلك وسلوكه ونشاطاته، ولكنها في أغلب الحالات ستكتفي بالقول: «كل شيء على ما يرام». أنتِ لا تعلمين حقًّا كيف يعامَل الطفل وما نوع العناية التي يتلقاها. دائمًا ما تأملين أن كل شيء على ما يرام مع طفلك ولكن حين تعملين، لا يمكنكِ أن تتطمأني تمامًا.

هنالك أيضًا مشكلة المكان الذي تتركين فيه الطفل حين تذهبين للعمل. تضطر العديد من النساء المنفصلات عن أزواجهن ولديهن أطفالٌ صغار، لإرسالهم لشخصٍ أو مؤسسة تعتني بهم. تفتقد هؤلاء النساء أطفالهن الذين يكبرونَ دون حضور أمهاتهن، ولا صوتَ لديهن في كيفية تربية أطفالهن. تفضل نساءٌ أخريات الاعتماد على جيرانٍ تعرفنهن بدلًا من حضانة أطفال لا يعلمن عنها شيئًا. السبب الذي يدفع العديد من النساء لألّا يعملن أبدًا هو عدم وجودِ شخصٍ يُتَّكل عليه للاعتناء بأطفالهن.

أينما أرادت أن تكون

تريد النساء القدرة على التقرير فيما إذا كن يرغبن بالعمل أم لا. إنْ طلب رجلٌ من امرأة أن تعمل فعادةً ما ترفض ذلك. أحد الأسباب هو أنّها تشعر أنّها إذا عملت حين يطلب منها ذلك، سيعتاد عندها على هذا الوضع وقد يتوقف هو عن العمل بانتظام، أي أنّه سيعتقد أنّها هي من يجب أن تعيله. أحد معارفي من النساء اضطرت للتوقف عن العمل لأن زوجها كان يعتقد أنّه يمكن له أن يذهب ويقامر بالمال الذي تجنيه. ومن ناحية أخرى، إن طلب منها زوجها ألّا تعمل، لا يعني ذلك أنها ستبقى في المنزل. حين تذهب امرأة إلى العمل لا يكون ذلك دائمًا بموافقة زوجها. العديد من الرجال يمتعضون من عمل زوجاتهن، ويستخدمون واقعَ أنَّ الأطفال يجب أن يبقون مع أمهم كعذر. ويقولون أيضًا إنّهم ليسوا قادرين على مساعدة زوجاتهم في الرعاية بالأطفال وتدبير المنزل والتسوق. وآخرون يجعلون من عملها أمرًا لا يطاق عبر إلقاء تلك الأعباء كلها على زوجاتهم حتى يُجبرنَ على الاستقالة.

على النساء محاربة أولئك الرجال الذين يعتقدون أنَّ مكانَ المرأة هو المنزل، وأنه المكان الذي يجب أن تكون فيه المرأة. هؤلاء الرجال هم الذين لا يرغبون بأن يكون لزوجاتهم أي استقلالية البتة، ويرغبون أن يكونوا الوحيدين ذوي الدخل في الأسرة حتى يكون لهم وحدهم القرار في المنزل. حين تذهب امرأة إلى العمل، إنّهم يعلمون أنّ اعتبارها وأهليّتها كإنسانٍ مستقل سيزدادان. بينت هذه النساء لهؤلاء الرجال أن مكان المرأة هو أينما أرادت أن تكون.

أولئك النساء اللاتي يرغبن بالاستمرار في العمل وأزواجهن لا يرغبون بذلك، لا يخبرن أزواجهن بما يقاسونه من صعوباتٍ في العمل، بل يكتمن ذلك. إحدى النساء العاملات في صَفِّنا في العمل عليها أن تحارب لتحافظ على عملها. لديها فتاةٌ ذات أربعة عشر عامًا، وتقول إن ليس لدي ما يبقيني في المنزل. ومع ذلك فزوجها، وهو ذو وظيفةٍ مرموقة ذات أجرٍ عالٍ، دائمًا ما يطلب منها الاستقالة. لا تبين له أبدًا كم هي مجهدة حين تعود إلى المنزل ولا يسعها أن تطلب منه المساعدة في أمور المنزل، فَلَو قامت بذلك سيجبرها على الاستقالة. هنالكَ اختلافٌ في المشاعر تجاه عملِ النساء بين أولئك النساء اللاتي يعملن حاجةً لذلك واللاتي يعملن رغبةً في ذلك. إنْ كانت المرأة تعمل رغبةً في ذلك فليس عليها أن تصبر على متطلبات الشركة وبإمكانها أن تقول لربّ العمل فليذهب للجحيم هو وَوَظيفته، كما تقول أحد جاراتي. حين تسأم من العمل تعلم أنّه بإمكانها الاستقالة، وحتى وإن لم تستقل فواقع أنّها يمكنها ذلك، بحد ذاته، يزيد من استقلاليّتها عن الشركة.

أما من هن بحاجة إلى العمل، المرأة العازبة التي تعيل نفسها – وأبويها أيضًا في بعض الحالات – أو المرأة المطلقة التي تعيل أبناءها، عليهن الحفاظ على وظيفتهن مهما كان شعورهن تجاه الوظيفة ومهما كانت رغباتهن. وحين تسأم هؤلاء النساء من العمل، يذهبن إلى العمل وكأن شيئًا لم يكن. لا خيار لديهن. تَستغلُّ الشركة ذلك عادةً استغلالًا تامًا وتعلم أنّها يمكنها أن تتكل على هؤلاء النساء للعمل يوم السبت والعمل بوقتٍ إضافي. حين تدفعين عشرة أو خمسة عشر دولار4أي ما بين 96.66 و144.99 دولار أسبوعيًا وفق قيمة دولار 2019. في الأسبوع للحضانة وحدها، فكل قرشٍ له قيمة.

عملُ المصانع للنساء عملٌ سهلٌ أحيانًا، أي أنّه ليس عسيرًا جسديًّا. ولكن يماثل كل الأعمال الصناعية، إنّه مُضْجر، روتيني، وَرَتيب. في بعض الصناعات، العمل صعبٌ جسديًّا. تشعرين بكلِّ عضلةٍ تحرّكينها في يوم العمل. ولكن الأمر المهم، مهما كان نوع العمل الذي تعملينه، هو الناس الذين تعملين معهم. إنْ كان العمل سهلًا ولكن مُضْجِر، فالنساء الأخريات هن من يساعدنك على تمرير الوقت. وإن كان العمل صعبًا، فالشيء الوحيد الذي يبقيك مستمرة هو النساء الأخريات اللاتي يقمن بالعمل نفسه الذي تقومين به ويقاسين معكِ ما تقاسينه. إنَّ الناس الذين تعملين معهن هن من تهتمين بهن.

العملُ في المصنع مليءٌ بالأحداث. لربما تلقي إحداهن نكتةً مضحكة أو تمازح الأخرى، أو لربما تدخلين في شجارٍ مع المشرف أو مع الفتاة القائدة. هنالك دائمًا نقاشٌ ما حول شيءٍ ما، وكلُّ شيءٍ يُتحدَّث عنه: المشاكل الجنسية أو العلاقات الحميمية الحالية، العمل المنزلي وكيفية تربية الأطفال، الرقصات الجديدة أو أحدث الموضات، ضبط الأسعار والإسكان، طرق كسب أو خسارة الوزن. مهما كان الموضوع الذي تودين الحديث عنه، هنالك دائمًا أذنٌ تصغي إليه. تضع الفتيات اعتبارًا لمشاعر واهتماماتِ بعضهن البعض.

على عكس الشركة، تهتم الفتيات ببعضهن البعض. حين لا تحضر إحداهن، تفتقدها بقية الفتيات وعادةً ما تهاتفها إحداهن لتسألها عما جرى. إن كان لدى فتاةٍ ما مشكلةٌ جسيمة، تبدأ مجموعةُ صديقاتها المباشرة بجمع أموالهن لشراء شيءٍ ما لها أو إعطاءها مالًا لتدفع تكاليف فواتيرها الزائدة. تمنح الفتيات بعضهن البعض من وقتهن ومالهن بأريحية. إن كانت إحداهن مريضةً يومًا ما، تعمل الفتيات الأخريات أو بعض الصديقات المقرّبات بضعف سرعتهن المعتادة ليعوضن عن العمل الذي كانت لتقوم به حتى لا تخسرَ ساعات عمل. لا تهتم الشركة أبدًا بالفرد. إنّ الشركة ورؤساءها يتوقّعون نفس المقدار من العمل في كلِّ يوم مهما كانت الأوضاع. إنَّ الفتيات هن من يهتمن ببعضهن البعض وسيساعدنكِ حين تحتاجين لمساعدتهن.

«نحن»، من الآن فطالعًا

حين تعود امرأة من عملها إلى المنزل مساءً، فذلك يختلف كثيرًا من عودة الرجل من عمله إلى المنزل. حالما تصل إلى البيت تبدأ بالعمل مجددًا. لا يمكن لامرأة متزوجة، خصوصًا إنْ كان لديها أطفال، أن تحصل على رفاهية الجلوس والاسترخاء دونَ عمل. هنالك عشاءٌ يجب تجهيزه، وأطباقٌ يجبُ غسيلها، وأطفالٌ يجب تحميمهم وتجهيزهم للنوم. لديها وظيفتان. إنّها أمٌّ وَرَبّة منزل بدوامٍ جزئي، وعاملةٌ مأجورة بدوامٍ كامل. أما نهاية الأسبوع التي يرتاح الرجل فيها، فبالنسبة لها تنتمي إلى المنزل. وكل الأمور التي لم تنفذ طوال الأسبوع يجب أن تنفذ وقتها. إنّه لكدحٌ عسير، أن تعمل ويكون لديكِ أسرة. مهما ساعدكِ زوجكِ ومهما كان متفهِّمًا، فعبء المنزل الأكبر سيقع على عاتق المرأة. مجرد أنَّ المرأة تذهب إلى العمل لا يعني أنها لا تظل ربَّةَ منزل.

لدى المرأة الآن مشتركاتٌ أكثر مع زوجها من وقت ما كانت تبقى في المنزل، ولديها ما تتحدث معه عنه أكثر مما سبق، ولكن الحاجز الأساسي ما يزال مكانه، وما زال من الأسهل للمرأة أن تتحدث مع غيرها من النساء من أن تتحدث مع زوجها. ولكنَّ الأمور تغيَّرت بالتأكيد بالنسبة للأزواج. فلأول مرة، يمكن للمرأة أن تقول لزوجها، لستَ أنت من يعيل هذا المنزل. نحن نعيله، وستبقى هذه الـ «نحن»، من الآن فطالعًا.

النقابة ونساء الشركة

تحاول النقابة والشركة أيضًا أن تبدوان منصِفتين عبر وضع بضعة نساء في وظائف إشرافية. كثيرًا ما يكون ممثلو النقابة ومشرِفو الشركة من النساء. والفتيات القائدات في الشركات والمُشرِفات كثيرًا ما يُبعَدن عن صَفِّ سير العمل في المصنع. ولكن حالما تُبعد هذه الفتيات عن صفّ سير العمل ينسين بقية الفتيات ويصبحن وكيلاتِ النقابة أو الشركة، ضدَّ بقية الفتيات. تخرجُ الفتيات القائدات عادةً مع بعضهن البعض ويعتبرن أنفسهن أفضل من البقية؛ إنهن يتصرفن مثل نظرائهن المشرفين من الذكور، ولكنهن يستخدمن كونهن نساءً ليكسبن ثقة الفتيات الأخريات من أجل الدفع لزيادة وتيرة الإنتاج وضبط الفتيات أيضًا.

أحد الفتيات القائدات في المصنع الذي أعمل فيها طلبَ منها المشرف أنْ تضاعف الإنتاج. قالت إنّها لن تفرض على الفتيات أبدًا شيئًا كهذا وظلت تبكي كالطفل لأيام، ولم يطرأ على بالها أن الطريقة الوحيدة لإيقاف المشرف عن الضغط عليها كانت بدفع الفتيات إلى الاحتجاج. تعاملت مع الأمر بنفسها وخلال بضعة أيام بدأت تطلب من الفتيات زيادة الإنتاج مُحتجَّةً بإنَّها ضُغِطَ عليها لتطلب منهن ذلك. أغلبُ النساء يشعرن أنّ المرأة حين تصبح رئيسة، فهي أسوء من الرجل. دائمًا ما تستخدم النساء اللاتي يُصْبِحن رئيسات كونهن نساءً ليضغطن على بقية الفتيات لينضبطن. ولا تختلف موظَّفاتُ النقابة عن هؤلاء الرئيسات.

العمّال من الرجال يرون انفصالَ النقابة عنهم، وإن انطبق ذلك على نقابات الرجال، فهو ينطبق بالضِعْف على نقابات النساء. ترى العديد من النساء أنَّ كل ما تفعله النقابات هو جمع رسوم العضوية وضبط الفتيات لصالح الشركة. رسومُ الانتساب لا تتناسب أبدًا مع أجور النساء وَرسوم العضوية لا تختلف عنها ارتفاعًا. في بعض المصانع لا أحدْ يعلم من هي ممثلة النقابة وليس في الفتيات من تكترث لذلك. لكن رغم ذلك تدافع الفتيات عن النقابة إنْ هاجمتها الشركة. ولكنهن يعلمن أنّهن إنْ أردن تحقيق أيّ شيء فعليهن الاعتماد على أنفسهن.

أغلبُ النساء ينظرن للعمل كخيارٍ بين رديئين. إن وُجِدَ خيارُ البقاء في رتابة عمل المنزل، يشعرن بقيمة العمل. وبعض النساء يتطلعن لليوم الممكن لهن فيه أن يتوقفن عن العمل. وحين يأتي هذا اليوم، يخرجن من المصنع ولكن في أغلب الحالات سرعان ما يضيقُ عليهن المنزل ويعدن إلى المصنع. وهذا ما جرى للكثير من النساء الاتي عملن في مصانع الأسلحة أثناءَ الحرب. سُرِّحَ الكثير منهن بعد الحرب، ولكن البعض بقي. أولئك اللاتي سُرِّحن وغيرهن العديد العديد من النساء اللاتي لم يعملن من قبل أصبحن نساءً عامِلات. مكانُ المرأة بدأ يصير أينما أرادت أن تكون.

ليسَ الأمر أنَّ النساء يستمتعن بالعمل، لا في المنزل ولا في المصنع. ولكن مقارنة بأن تكوني «مجرد ربة منزل»، أغلب النساء يشعرن أنَّ عمل المصنع بمساوئه أفضل من ذلك. بدأت إحدى جاراتي تذهب إلى العمل لتجمع بعض النقود للكريسماس ولأنها أرادت أن تبتعد عن المنزل لفترة، ولكن نقود الكريسماس لم تكن إلّا حجّة قدمتها لزوجها. يبقى ولدها ذو الثلاثة أعوام مع عرَّابِيْه أثناء عملها، وبالتالي لا يحتج زوجها على ذلك. تقول ما بين فينة والأخرى أنّها ستستقيل لكنها لا تتمكن من حمل نفسها على ذلك.

كل امرأة تعرف

اليوم، أكثر فأكثر، تبيّنُ النساء بكل فعلٍ يقمن به أنَّهن لن يقبلن باستمرار الأمور على ما كانت عليه. ولا ثقة لديهن بعد بأن الأمور تسير مثلما يفترض أنها تسير، أو بالشكل الذي يفترض لحياتهن أن تتخذه. أزواجهن، أطفالهن، عملهن، كلّها في صراعٍ معهن. كل شيءٍ يفعلنه، كل شيءٍ يقررنه، يشعرن أنّه قد ينجح. الزواج، الأطفال، المنزل، لم تعد النساء متأكِّداتٍ من أي من هذه الأمور.

تترقب ربّاتُ المنازل، اللاتي لم يعملن من قبل، وقت يكبرَ أبناؤهن بما فيه الكفاية حتى يتمكّنَ من الحصول على وظيفة. تتطلع النساء اللاتي داومن على العمل منذ زمن إلى اليوم الممكن لهن أخيرًا أن يقدمن استقالتهن. الزيجات التي استمرت لعشرين عامًا وأكثر بدأت بالتفكك. يقرر الزوجان الصغار الجدد بعد ستة أشهر من الزواج أنّه من الأفضل لهما أن ينفصلا قبل أن ينجبا أطفالًا سيعانون من هذا الانفصال. تتخرج النساء من المدرسة الثانوية بدلًا من المسارعة على الزواج، ليحصلن على وظيفة وشقّة خاصة بهن ليعشن فيها باستقلالية.

الأمرُ ليس أنَّ النساء لا يرغبن بأن يصبحن زوجاتٍ وأمهات، بل الواقع هو أنّهن يرغبن برجال بل ويحتجن رجالًا يشاركنَ معهم حياتهن، وكلُّ امرأة تريد أطفالًا، ولكن إنْ شعرت أنّها لا يمكن لها الحصول على علاقةٍ إنسانية، فالأفضل ألا تدخل في علاقةٍ من الأساس. تتجه النساء من الزواج إلى الطلاق، من ربّات منازل إلى عامِلات، ولكن كلًّا منهن لا ترى في أيٍّ من هذه الأماكن تلك الحياة التي ترغب بها لنفسها ولأسرتها.

تكتشف النساء أكثر فأكثر أن لا طريقَ أمامهن سوى طريق التغيير الشامل. شيءٌ واحد واضح فقط: لا يمكن للأمور أن تستمر على ما هي عليه. كل امرأة تعرف ذلك.

Skip to content