المباحث تعترض طريقنا مرة أخرى

[تنويه: يحتوي هذا المنشور على إشاراتٍ عن الاعتداء الجنسي.]

القطيف، يوم الخميس، 11 قبل منتصف الليل:بدأنا الاستعداد لنعود إلى منازلنا بعدٍ يوم طويل في النخل، بدء الخامسة صباحًا. كان عمري 16 عامًا، أكبرُ أصحابي عمرًا، وكان ذلك قبل تغيير أيام نهاية الأسبوع من الخميس والجمعة إلى الجمعة والسبت. لست أقصد أننا ما كنا لنتغيب عن يومٍ دراسي لـ «نهايل» في المدينة أو نقضيه في النخل. لكن، لو كنا قد تغيّبنا لما كان أقربائي الصغار معنا منذ صبح ذلك اليوم.

أمرَ قريببي سامي، الذي يصغرني عامًا واحدًا، الصغارَ بجمع الأوساخ، وكلماتُ قريبي هذا تجاه من هم أصغر لا تصدر إلا بصيغة الأمر. قام هو بحمل مشغّل الـ «دي في دي»، بينما حمل أخوه الذي يصغره عامًا واحدًا كيس «سيديّات» الأفلام، أما أنا فحملتُ التلفاز القديم ذو 15 بوصة. كنا نحمل هذا التلفاز معنا إلى النخل ونعود به، بسبب كثرة سرقات المزارع في الفترة الماضية، التي راح ضحيتها تلفازنا الآخر ذو 25 بوصة، إذ ليس بإمكاننا تحمل تكلفة سرقةٍ أخرى.

خرج الجميع من البوّابة، إلا سامي الذي ظل ليقفلها من الداخل، إذ، كالعادة، نسينا المفاتيح. حالما تسلق سامي البوابة ونزل في الجهة المقابلة، بادرنا بالمسير. لاحظتُ سيارة «إيكو» فضّية عند زاوية المنزل المقابل للمزرعة. نوافذها المظللة «كاتم» تشير إلى كونها سيارة مباحث، أو كما نسمّيها، «البحث».

بعمري هذا، اعتقدتُ أنّي أعرف مثلما يعرفُ أقراني كيف أتصرّف إن اعترضت طريقي المباحث، فبعد مواجهةٍ أولى، سبقت هذه بثلاث سنين، انتهت بتوجيههم السلاح عليَّ أنا وسامي وصديقٌ آخر عمره 11 عامًا، ظننتُ أني تعلّمتُ الدرس جيدًا.

كان الصغار يتهامسون، فأمرتهم بالصمت وعدم النظر تجاه السيارة، اعتقادًا مني أن تهامسهم سيدفع البحث لاعتراض طريقنا. لم تمر إلا ثوانٍ معدودة حتى اشتغلت كشّافات السيارة، وسارت تجاهنا. توقفنا جميعًا، إذ لا مجال للهرب، بل إن الهرب قد يفاقم الوضع أكثر.

نزل منها رجلان. الأول، من جهة السائق، طويل القامة، سمينٌ بعض الشيء، يرتدي جينز وفانيلة زرقاء، وزميله متوسطُ الطول، نحيل، يرتدي ثوبًا أبيض. سأل الأول، «وين رايحين؟» فأجبته بهدوءٍ مصطنَع، «بيوتنا». «وش هالأغراض الي حاملينها؟»، فأجبت بتسميتها واحدة واحدة، وأضفت، «كلها حقنا». لم يصدق، «هاذي مزرعتكم؟»، أجبتُ بالإيجاب، فردَّ بـ «عجيب».

اعتقدتُ أن هذا التحقيق سينتهي لو بينت له قطعًا أنني لست أكذب، فقلت، مشيرًا إلى سامي: «إدا ما تصدق، إدا ودك، يقدر هادا يروح يدق الباب على العامل ويجيبه لك، وهو بيقول لك أن المزرعة حقنا»، فوافق العسكري.

تسلق سامي البوابة، وبعد بضعة دقائق من الانتظار، عاد مع العامل المسؤول عن المزرعة، وبعد أن سأله العسكري إن كانت المزرعة ملكًا لنا حقًا، فأجابه بالإيجاب، وأضاف بتعريفنا بالأسماء، لكي يؤكد له معرفته بنا. أمرهُ العسكري بالعودة من حيث أتى.

«هات الكيس»، أمرني صاحب البدلة بلطف. لم ننجُ بعد.

بدأ ينظر في أغلفة الأفلام. «تفضل معاي شوي»، قال لي، «وأنت»، مشيرًا لسامي، «روح معاه».

قطع معي مسافةً مبتعدًا عن المزرعة وإلى شارعٍ يقع ما بين المنزل المقابل وخرابة مظلمة. لا توجد في هذا الشارع أي أعمدة إنارة، ولا تعبره السيارات، فهو شارعٌ جديد لا يؤدي آنذاك إلا لمزرعتنا. التفتُّ للخلف ورأيتُ الأطفال واقفين بجانب البوابة، بينما سامي يبدو أنّه مشى مع صاحب الثوب إلى الطرف الآخر من الشارع ولم يعد بإمكاني رؤيته.

توقف مكانه. وقال لي أن أتجاوزه، وأقابله. يميني المنزل، يساريَ الخرابة، وهو أمامي، ويمتد خلفي الشارع حتى تقطعه الخرابة. خلفه بعيدًا، الأطفالُ والمزرعة. سألني: «وش هاذي الأفلام؟» أجبت السؤال غير الواضح بما كان لربما أسوء جوابٍ ممكن، «أي أفلام؟»، أشار إلى ما يحمل في يده، فَقُلت، «أفلام عادية»، ولست أعتقد أن سؤاله كان عن الجانرى ومخرجيها، فسألَ مكررًا إجابتي على صيغة سؤال، وأضافَ مستنكرًا، «طيب هذا فلم عادي؟»

أراني غلاف فيلم يبدو إباحيًا. لحظتها اعتقدتُ أننا دخلنا في مشكلةٍ جديدة، ولكنها مشكلة ليست دونَ حل، فأغلفة الأفلام المقرصنة التي تباع في بسطات سوق الخميس في القطيف كلها تبدو إباحية، وذلك جزءٌ من الدعاية والترويج لنا كمراهقين، رغمَ أننا جميعًا واعون بذلك. فحتى لو أخذنا للمخفر، وتم استدعاءُ آبائنا بإمكاني الإثبات، لآبائنا، أنه ليس فيلمًا إباحيًا. أجبتُه بِكل ثقة: «إيه، هادا فلم عادي. ما عليك من الغلاف. لو ودك أقدر أشغله لك وتشوف».

اعتقدتُ أن إجابتي المتعقِّلة، وثقتي هذه، ستفي بالغرض وتحل هذه المشكلة. «لا أصدق»، رد علي، فقلت له إنه بإمكاني إثبات ذلك بتشغيل الفيلم ليرى بعينه أنه فيلم عادي. «أنا عاقل وأنت عاقل. أعرف هالفلم وش فيه». في تلك اللحظة خفت أن المشكلة التي وقعتُ فيها أكبر مما أتصور، فأجبته مرتبكًا، « أقول لك نقدر ندخل كلنا وأرويك الفلم، عاد—»، فإذا هو يقاطعني: «نصير. قلت اسمك نصير، صح؟ نصير، هذا فلم سكس وأنت عارف » . أجبته بالنفي سريعًا، لأني انصدمت ولم أتوقع سؤالًا مباشرًا كهذا. أجاب بصوتٍ هادئ، «إلا»، فكررت إجابتي الأولى، «أقول لك فلم عادي».

سكتَ لبضعة ثوانٍ. لم أكن أعرف كيف أفسر صمته، لربما أراد منه أن يزيدني ارتباكًا وخوفًا، وإدراكي لذلك وقتها ما كان ليهدئ من روعي، فذلك لن يساعدني على الخروج من هذا المأزق. المشكلة ليست في حملنا هذه الأفلام، مثلما لم تكن في شكهما في أننا لصوص مزارع، فلو كانت هذه الأولى هي المشكلة لما افتعَلَ مشكلةً أخرى ليستمر في هذا «التحقيق». أكَّدَ سؤاله التالي مخاوفي وفاقمها، «طيب، وش تسوي لما تشاهد الأفلام؟»

رغمَ علمي باستخدامِ بعض العساكر سلطتهم والتهديد بالسجن لأجل التحرّشٍ والاستغلالٍ الجنسي للمراهقين، لم أعتقد يومًا أنني سأجد نفسي عرضةً لذلك، وصدمة السؤال المباشر الأول لم تجهزني لهذا السؤال الثاني. «كيف؟» أجبته والصدمة واضحةٌ في نبرة صوتي، فأعاد عليّ السؤال نفسه ببطء. بلعتُ ريقي، مما زادني إرباكًا، إذ لم أرغب في أن تتضح درجةٌ خوفي، وقُلت: «زيّي زي أي واحد يشاهد أفلام».

«نصير، أنت عارف وش قصدي. جاوبني صح». في تلك اللحظة، انتهى أي وهمٍ بامتلاكي أي مقدارٍ من التحكم على مسارِ هذا التحقيق. ما يمكنني القيام به هو الحفاظ على الرفض، رفع عدّة جدرانٍ لعل أحدها سيصمد، لعل شيئًا ما سيخرجني من هذا المأزق. «ما أدري ويش تقصد»، أجبتُ مدعيًا الجهل، فكان ردّه سريعًا: «تنيك؟ تتناك؟»، فأجبتُ بصدمةٍ أخرى، «ويش؟! أكيد لأ!»

  • لأ؟ بس تشاهد يعني، بدون ما تسوي شي بعدها؟
  • لأ.
  • طيب وذولي الولاد الي معاك.
  • هادا ولد خالي، وداك ولد عمي، واستحالة ألمسهم أو أسوي فيهم شي!
  • طيب، وغيرهم؟

خطرت في بالي كذبه ظننت أنها لربما تساعدني، استحضرتُ سلطة أخٍ أكبر لكي أبين له أني «مو تبع هالسوالف»، لأقول له: «استحالة أسوي شي زي كده. أنا أخوي الكبير خلّاني أوعده أني ما أسوي شي زي كده مع أي أحد».

كنت أود أن أهرب. أعرفُ أني بالتأكيد أَسْرعُ منه، وأني بإمكاني قطع الخرابة كلها والوصول إلى الشارع العام حيث لن يتمكن من المساس بي، ولكن الهرب لم يكن خيارًا. ولكني حينها سأترك سامي وأصحابي والصغار معه، وأنا أكبرهم. أنا أكبرهم. وأضف على ذلك أن حماقتي في تلك الحادثة الأولى، برفضي إعطائهم اسمي، هي ما دفعهم لتهديدنا بالسلاح. وسامي يذكر ذلك. أعرف أنه يذكر ذلك لأنه ظل يذكرني بها طوال ثلاثة أعوام. عليَّ، بطريقةٍ ما، لست أدري كيف، أن أحمي نفسي، وأن أضمن ألا يمسهم ضرر. بدا للحظة أنه قبِلَ بحجَّتي، ورأيت في ذلك انتصارًا صغيرًا، ولكنه أكمل، «طيب يا نصير. الحين قلنا ما تسوي شي زي كده. وش تسوي أجل؟»

  • ما أسوي شي.
  • تشاهد أفلام وبعدها ما تسوي شي؟
  • إيه.
  • صعبة ذي. ماحد يشاهد ولا يسوي شي.
  • قلت لك أخوي قال ل—
  • ولا حتى تجلخ؟
  • لأ.
  • أبد؟
  • لأ.
  • صعبة.

كان الأخذ والرد في هذا الجدال سريعًا، ولكنه سكت للحظة، وكرر السؤال: «ما تجلخ؟»

بعد ثوانٍ من الصمت، قررت أنني لربما لو سلّمتُ بهذه، سيتركني بحالي. أصبحَ منطق إجاباتي وقتها (إنْ كان بالإمكان تسميته منطقًا) هو أنني لربما إن أقررت له بأني «إنسانٌ عادي»، لا يمارس الجنس مع الرجال، وبالتالي يفعل ما يفعله بقية المراهقين، قد يثنيه ذلك  بقدر ما كنت أحاول أن أبدو هادئًا وأنا أماطل لأبعدَ عني ما أعرف أنه يبتغي إيصالي إليه. بصوتٍ خافت، أجبته:

  • إلا.
  • إلا وشو؟
  • إلا، أجلخ.

لحظتُ سيارة كابريس بيضاء، موديل 88، وقفَت أمام باب النخل. إنها سيارةُ أحدُ أقربائي الكبار، عادل. اتسعت عيناي فرحًا، ولاحظ رجل المباحث ذلك. خرج قريببيَ من السيارة، وقالَ بصوتٍ عالٍ تمكنتُ من سماعِه: «ها! شيه ويش صاير هنا؟»

باشرَ العسكري بالتوجه إليه، وهو يمشي وأنا أمشي بجانبه، قال لي أن أصمت إن لم أرغب بأن أُسجَن، فقد سجَّلَ رقم هويتي، وأضافَ أنّه سيأخذ الأفلام معه كضمانه.

وصل العسكري الآخر إلى قريببيَ أولًا وصافحه، وأجاب: «لا والله، بس فكرناهم حرامية».

أجابه عادل، «وأنا أقول»، ممدِّدًا الواو تعجبًا، «أنا عابر الشارع هناك، وشفتكم وفكرتكم صايدين حرامية، قلت أشوف ويش صاير من زمان ودّي ينمسكو، إلا طلعو هالشلة. هادولا نسايبي». «إيه»، أجابه العسكري، «قال لنا العامل». «أوكي أوكي، محتاجين شي؟» سألهم وكأنما يقول لهم إن هذه نهايةُ هذه الحلقة، فأجابه العسكري مقرًّا بذلك «لا والله، سلامتك».

ركبَ رجلا المباحث سيارتهما وابتعدا عن المكان، وحالما تواروا الأنظار، علَّق قريبي موبّخًا: «الله يلعنكم بهايم، كله تجيبوا لروحكم المشاكل، عجل طالعين حاملين تلفزيونات وخرابيط. شيه وين قاعدين انتون؟»

رد عليه سامي: «هادا نصير كالعادة قعد يعاند إياهم الغبي»، فردّيت عليه نافيًا وقلت له إنه لم يكن بإمكانه أن يسمع ما قلته من تلك المسافة، ولكن

قاطع عادل شجارنا: «أقول لا تكثروا أنت وياه، حطوا الأغراض ف السيارة. اليهال بيجو اياي. باقي الحوش يرجعو مشي».

ذهبت السيارة، وكرر سامي اتهامه: «وانت كل مرة تقعد تعاند كده؟» ردّيت عليه غاضبًا: «أنت ويش مدريك يا غبي أني قاعد أعاند؟ كنّك الحين سمعت أنا ويش قلت له عاد. مرة ويش هالأدون الصاروخية الي عليك!»

سكتنا جميعًا واتجهنا لمنازلنا.

بعد أن وصلتُ إلى البيت، ذهبتُ مباشرةً إلى المجلِس، وكان في تلك الساعة المتأخر من الليل خاليًا بالطبع. مسكت التلفون واتصلت مباشرةً بصديقي أحمد، وأردتُ أن أسأله عنهم. أحمد، المتهكِّم دائمًا، الذي يزعم معرفة كلّ شيء أجابني بسؤال حالما ذكرت له أن سيارة مباحث اعترضتَ طريقنا: «واحد قصير وضعيف لابس فوب، والثاني طويل، جثة ولابس بدلة؟»

استغربتُ من وصفه الدقيق، وأجبت بالإيجاب. فضحك، وعلَّق: «زين ما اغتصبوك. دولا يدورو خروق».

قبل أسبوعٍ من هذه الحادثة، سمعت أن سيارة مباحث دخلت النخل الذي يتكرر عليه أحمد، وأن رجلي المباحث أمروا الجميع بالخروج، سواه هو.

Skip to content