هل من عنصرية جديدة؟ (1988)

مقدمة التحرير:

تشهد هذه الأيام ازدهارًا لحركات اليمين المتطرّف في كافة أطراف المعمورة، بعد عقودٍ قضتها، حسب وصف مؤسس الحزب اليميني الفرنسي، الجبهة الوطنية، جان ماري لوبان، في «عبور الصحراء»، لتحكمَ قبضتها في بعض البلدان (مثل الهند والمجر) على السلطة وتنحّي التيارات والأحزاب التقليدية التي هيمنت على المسرح السياسي منذ عقودٍ طويلة، أو تُستوعَب في أخرى (مثل فرنسا وأمريكا وبريطانيا) ضمن المسرح السياسي التقليدي مع تبنّي الأحزاب الكبرى لمبادراتها وخطابها، بتنوّع جلّيٍ للتوليفات الوطنية الناتجة عن تسيّد السياسات اليمينية المتطرّفة للمتّجه السياسي المُهيمِن على مستوىً عالميٍّ.

يتصدّى الفيلسوف الفرنسي إتيان باليبار في هذا النص لأحد المشارب التي تغذّي هذا التيار، محاولًا استشعار الدلالات الاجتماعية والسياسية للتغير الطارئ وقتها (ثمانينيات القرن الماضي) على الخطابِ العنصري أو خطاب الحركات العنصرية، ليجيب في معرضِ ذلك على مسائلَ ما تزال محلَّ جدلٍ حتى يومنا هذا. وقد أتى هذا النص الذي نُشَر كفصلٍ افتتاحيٍّ لكتابٍ شارك في تأليفه مع المفكّر الراحل إيمانويل والرشتاين، بعنوان «العرق، الأمة، الطبقة: هويّاتٌ غامضة» (Race, nation, classe: les identités ambiguës) عام 1988، بعد سبعة أعوام على طردِ باليبار من الحزب الشيوعي الفرنسي على خلفية نشره مقالًا انتقد فيه تاريخ العنصرية الراسخ داخل حزبٍ أيّد عامها عمدةً شيوعيًّا قام بهدم منازل عمّال من مالي بالجرّافات.

يربط باليبار في هذا النص هذه العنصرية الجديدة، في كفّة، بالتغيّرات التي طرأت على النظام العالمي إثر إنهاء الاستعمار القديم، وقيام نظامٍ دوليٍّ قائمٍ على مساواةٍ شَكليّة بين الدول، ذات السيادة الرسمية على حدودها، محلّ النظام الاستعماريّ ذو الهرميّة الصريحة، وفي كفّةٍ أخرى تغيّر اتّجاهات تدفّق الهجرة، من هجرة المُستعمِرين إلى الأقطار المستعمَرة، إلى هجرةِ المستعمَرين سابقًا إلى المراكز الاستعمارية السابقة، ليتولّد عن هذا الظرف موضوعاتٌ، مثل ضبط الحدود، والهجرة، والاختلاف الثقافي، وحدود التسامح، تحتلُّ اليوم موقع الصدارة في الممارسة العنصرية.

يستعير باليبار وصفه للعنصرية الجديدة هذه بـ «العنصرية الاختلافية» من بيير أندريه تاغييف وكوليت غيولمن، ليعطيه تصريفه الخاص، مشيرًا إلى أنّ هذه العنصرية تسلّم بالمساوة الشكلية بين «الثقافات»، بل وتقول باحترام الاختلاف، لتستخدم بذلك مقولةً غذَّت سابقًا التوجّهات المناهِضة للعنصرية واستُخدِمت لتدعيم الحقّ في تقرير المصير في وجه الاستعمار، لتعملَ «الثقافة» بموجب ذلك بوظيفة «العرق»، بتجميدها الجماعات البشرية، وفرضها الحدود الثابتة بينها، واستردادها الشرعية لموضوعة الهرمية، ضمنيًّا، من الباب الخلفي.

ويتردّد في هذا النص بين وصفين متقاربين، آثرنا ترجمتهما إلى «العنصرية الاختلافية» (differential racism) و «العنصرية المُخالِفة» (differentialist racism)، أولاهما يسلّم بوجودِ الاختلاف، الذي يُحوَّل إلى أساسٍ للتمييز، والثاني يقول بأن الاختلافات تُخلَق أو تُبْتَكر على هيئةٍ تتضمن عدوانيّتها ودعوتها للتمييز.


إلى أي حدٍّ يصح الحديث عن عنصرية جديدة؟ لعل الأحداث الحالية تختلف من بلد لآخر، لكنها توحي بوجود ظاهرة عابرة للحدود، تَفْرض علينا هذا السؤال بالتحديد. ولكنّه سؤال يمكن فهمه بمَعنيين: فمن جهة، هل نحن نشهد صعودًا تاريخيًّا سريعًا لحركاتٍ وسياساتٍ عنصرية يمكن تفسيرها بهذا الظرف المتأزم أو بأسباب أخرى؟ ومن جهة أخرى، فيما يتعلق بموضوعاتها ومدلولاتها الاجتماعية، هل ما نشهده اليوم هو حقًا عنصرية جديدة، يتعذّر ردُّها إلى «النماذج» السابقة، أم هي مجرد تكيّفٍ تكتيكي؟ أودّ هنا التصدي، على نحوٍ رئيس، للجانب الثاني من السؤال.[1]

ابتداءً، علينا الإدلاء بالملاحظة التالية: فيما يتعلق بفرنسا على الأقل، صيغَت فرضية العنصرية الجديدة جوهريًّا على أساس نقدٍ داخليٍّ للنظريات، للخطابات التي تُشرِعن سياسات الإقصاء مستندةً إلى مفرداتِ الأنثروبولوجيا أو فلسفة التاريخ. وَلمْ يُبذل جهدٌ وافرٌ في سبيل العثور على الرابط بين جِدَّةِ هذه العقائد وطَرافة الأوضاع السياسية والتحولات الاجتماعية التي أعطتها وزنًا. أودّ بعد قليل أنْ أجادل أنَّ البُعْدَ النظري للعنصرية جوهريٌّ تاريخيًّا اليوم (مثلما الأمس)، لكنه ليس مستقلاً ذاتيًّا أو أساسيًّا. فالعنصرية – وهي «ظاهرة اجتماعية شاملة» حقًّا – تَنْقُش نفسها في ممارساتٍ (أشكال العنف، والازدراء، وعدم التسامح، والإهانة، والاستغلال) وفي أشكال خطابٍ وتمثيلاتٍ، هي تفصيلاتٌ فكريةٌ كثيرةٌ جدًّا لِوَهم الوقاية أو الفصل (الحاجة إلى تطهير الجسد الاجتماعي، حفظ هويـتـ «ـي» أو هويّتِـ «ـنا» ضدّ كل أشكال التخالط أو التهجين أو الاجتياح)، وهي مُتَمفصِلةٌ حول وصمة (stigmata) الآخر (الاسم، لون البشرة، الممارسات الدينية). إنها، بالتالي، تنظّم المشاعر (والدراسات السيكولوجية لهذه ركَّزت على وصف طابعها الهوسي وتذبذبها «اللا-عقلاني») عبر منحها شكلًا نمطيًّا، فيما يتعلق بـ «موضوعاتها» و«ذواتها». وهذا المزيج للممارسات والخطاباتِ والتمثيلات في شبكةٍ للقوالب النمطية المشاعرية، هو ما يمكّننا من الإدلاء بتفسيرٍ لطريقة تشكيل الجماعة العنصرية (أو جماعة العنصريين، الذين تربطهم «محاكاة» تقرّب المسافات)، وتفسيرٍ للطريقة – الأشبه بالصورة المعكوسة – التي ينتهي حال فرائسِ العنصرية («موضوعاتها») بها، أفرادًا وتجمّعاتٍ (collectivites)، مُقيَّدين بالنظر لأنفسهم كجماعة.

ولكن مهما كان هذا القيدُ مطلقًا، فمن البديهي أنّ كونه قيدًا لضحاياه أمرٌ لا يمكن إلغاؤه أبدًا: لا يمكن استبطانُه دونَ نزاع (انظر أعمال ممّي) ولا يمكنه إزالة التناقض الذي يرى في الهوية جماعةً، تُنسَب إلى تجمّعاتٍ محرومةٍ، بتزامنٍ، من الحق في تعريف نفسها (انظر كتابات فرانز فانون)، والأهم من ذلك أنّ هذا القيد لا يقدر على تخفيض واقع الفائض الدائم للعنف والممارسات المبنية على الخطابات والنظريات والعَقْلَنَات. فمن وجهة نظر ضحاياه إذن، يوجد داخلَ المُجمَّع العنصري لا-تناظرٌ أساسيٌّ، يمنحُ أفعالَه و«تَنْفِيساته» أو «زلّاته» (actings out) أولويةً حاسمةً على عقائده، من الطبيعي ألا يحدّ صنفَ الأفعال بالعنف الجسدي والتمييز وحدهما، بل حتى الكلمات في حد ذاتها؛ عنفُ الكلمات بصفتها أفعالَ ازدراءٍ واعتداء. الأمر الذي يقودنا، في المرحلة الأولى، إلى اعتبار التحولات في العقيدة واللغة أمورًا عرضيةً نسبيًّا: هل علينا أن نعلق أهمية كبيرة على المبررات التي لا تزال تحتفظ بنفس البنية (أي: الحرمان من الحقوق) في أثناء الانتقال من لغة الدين إلى العلم، أو من لغة البيولوجيا إلى خطابات الثقافة أو التاريخ، في حين أنّ هذه التبريرات على مستوى الممارسة تؤدّي إلى نفس الأفعال المعهودة؟

هذه النقطة معقولة، بل وذات أهمية حيوية، لكنها لا تحل جميع المشكلات. فتدمير المجمّع العنصري وإنْ كان يقتضي ضمنًا تمرُّدَ ضحاياه، فمقتضياته لا تقف عند ذلك، بل تتضمن تحوَلَ العنصريين والعنصريّاتِ أنفسهم/ن، وبالتالي: التفكُّكَ الداخلي للجماعة التي أنشأتها العنصرية. وفي هذا الصدد، وكما تواتر على مدار 20 سنةٍ مضت أو نحوها، الوضع أشبه ما يكون بالذكورية، فالتغلب عليها يقتضي ضمنًا ثورةً للنساء وتفكيكَ جماعة «الذكور». إذن، إنّ النظريات العنصرية لا غنى عنها في تشكيل الجماعة العنصرية. ففي الحقيقة لا توجد عنصرية بدون نظرية (أو نظريات). وسيكون من العبث البحث فيما إذا كانت النظريات العنصرية قد انبثقت بشكل رئيسٍ مِن النُخب أو الجماهير، من الطبقات المسيطرة أو المسيطَر عليها. ومع ذلك، فمن الواضح تمامًا أن المثقفينَ «عَقْلَنوها». ومن الأهمية القصوى أن نستفسر عن الوظيفة التي يؤديها البناء النظري للعنصرية الأكاديمية – والنموذج الأولي هو الأنثروبولوجيا التطورية للأعراق «البيولوجية» الذي صيغ في نهاية القرن التاسع عشر – في تبلور الجماعة التي تتشكل حول الدال: «العرق».

لا يبدو لي أن هذه الوظيفة تقبع فقط في القدرة التنظيمية العامة للعَقْلَنات الفكرية (ما أطلق عليها غرامشي «عضويّتها» وأوغست كونت «قوتها الروحية») ولا في حقيقة أن نظريّات العنصرية الأكاديمية تفصّل صورةً للجماعة، للهوية الأصلية، قد يرى الأفراد من جميع الطبقات الاجتماعية أنفسهم فيها. إنها بالأحرى تقبع في حقيقة أن نظريات العنصرية الأكاديمية تحاكي الخطابيّة العلمية (scientific discursivity) عن طريق بناء نفسها على «الأدلة» المرئية (ومن هنا تأتي الأهمية الجوهرية للوصمة العرقية ولا سيما الوصمة الجسدية)، أو، بشكل أدق: تحاكي الطريقة التي تُمفْصِل بها الخِطابيّة العلمية «الحقائق المرئية» بـ «الأسباب المخفية»، وبالتالي تتصل بِعمليةٍ عفويةٍ للتنظير متأصلةٌ في عنصرية الجماهير.[2] لذلك سأجازفُ بطرح فكرة أنّ المُجمّع العنصري يَجْمَع – بنحوٍ لا ينفصم – الوظيفة الحاسمة لسوء الإدراك (التي بدونها لا يمكن للأشخاص المنخرطين في العنف، أنفسهم، أن يطيقوه) و«إرادة المعرفة»، وهي رغبةٌ عنيفة في المعرفة الفورية بالعلاقات الاجتماعية. وهذه وظائفٌ مُغذّية لبعضها البعض، فالعنف الجمعيُ للأفراد والمجموعات الاجتماعية يمثّل لهم لغزًا مُقلقًا ويريدونَ تفسيرًا عاجلاً له. هذا في الواقع هو ما يجعل الموقف الفكري لِدُعاة الأيديولوجيات العنصرية وحيدًا للغاية، مهما بدت نظرياتهم معقّدة. فعلى العكس من علماء اللاهوت – على سبيل المثال – الذين يجب أن يحافظوا على مسافة (وإن لم يكن انقطاعًا مطلقًا، ما لم ينقلبوا إلى «الغنوصية») بين التكهنات الباطنية وَعقيدةٍ مصممة للاستهلاك الشعبي، لطالما طوّر دعاة الأيديولوجيّات العنصرية المؤثّرون تاريخيًّا عقائد «ديمقراطية» فورية الفهم عند الجماهير، وتبدو مناسبةً منذ البداية لمستوى ذكائهم المنخفض (زعمًا)، حتى عندما يشرحون موضوعاتٍ نخبوية. وبعبارة أخرى، أنتج هؤلاء عقائد قادرة على توفير مفاتيح تفسيرية فورية ليس فقط لتجربة الأفراد في العالم الاجتماعي، بل وحتّى لماهيتهم فيه (وهؤلاء الدُعاة، في هذا الصدد، يشابهون المنجّمين وعلماء الطباع وما إلى ذلك)، حتى عندما تأخذ المفاتيح شكل الكشف عن «سرٍّ» من أسرار الحالة الإنسانية (أي: عندما تتضمن أثرَ سِريّةٍ جوهريٍّ لفعاليتها المُتخيَّلة – هذه نقطة وضَّحها جيدًا ليون بولياكوف).[3]

ومن اللازم هنا ملاحظةُ أنّ هذا ما يضفي صعوبة على انتقاد محتوى العنصرية الأكاديمية و – الأهم من ذلك – نفوذها. ففي صميم بنائها لِنظريّاتها، يَكمن فرض أنّ «المعرفة» التي تسعى إليها الجماهير وترغب فيها هي معرفةٌ بدائية، تبرّرُ، ببساطةٍ، مشاعرَهم العفوية أو تعيدهم إلى حقيقةِ غرائزهم. وصف أوغست بيبل معاداة السامية بذلك الوصف الشهير: «اشتراكية الحمقى»، واعتبرها نيتشه، إلى حدٍّ ما، التوجه السياسي لضِعاف العقول – ولم يمنعه ذلك أبدًا من تشرّب جزء كبير من الأساطير العنصرية. فهل يمكننا، نحن، عندما نقول إنّ العقائد العنصرية هي تفصيلاتٌ نظرية ديماغوجية حصرًا، تستمدُّ فعاليتها مما توفره من استجابة سريعة لرغبة الجماهير في المعرفة، أنْ نتفادى هذا الموقف الغامض نفسه؟ إن صنف «الجماهير» (أو صنف «الشعبي») ليس في حد ذاته محايدًا، فهو يتواصل مباشرة مع منطق يضفي طابعًا طبيعيًّا وعرقيًّا على الاجتماعي. وللبدء في تبديد هذا الغموض، لن يسعفنا قطعًا الاكتفاء بتفحّص الطريقة التي تسحر بها «الأسطورة» العنصريةُ الجماهيرَ، فعلينا أن نتساءل أيضًا عن سبب عجز النظريات الاجتماعية الأخرى – التي طُوِّرَت في إطارٍ يقول بالتقسيم بين الأنشطة «الفكرية» و«اليدوية» (بالمعنى الواسع) – عن الالتحام السهل مع هذه الرغبة في المعرفة. إنّ الأساطير العنصرية («الأسطورة الآرية»، أسطورة الوراثة) ليست أساطيرًا بمقتضى زيف محتواها العلمي فحسب، بل بقدر ما هي أشكالٌ للتسامي الوهمي عن الخليج الفاصل بين المُثقَّفيّة1المُثقَّفية (intellectuality): مصطلح للمفكر الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي، وهو مشتقٌّ ما بين الشريحة المثقفة (intelligentsia) والفكر/العقل (intelligence)، استخدمه في معرض حديثه عن خلق أنماط تفكير جماهيرية في العمل الاستراتيجي. والجماهير، أشكالٌ لا يمكن فصلها عن تلك الجبرية الضمنية التي تسجن الجماهير في طُفوليةٍ طبيعيةٍ مزعومة.

يمكننا الآن أن نولي اهتمامنا إلى «العنصرية الجديدة». لا يبدو أنّ ما يبعث بالإشكال هنا هو واقع العنصرية، مثلما أشرت من قبل – حيث الممارسة معيارٌ جليٌّ هنا (إذا لم نسمح لأنفسنا بأن يخدعنا إنكار العنصرية الذي نسمعه من شرائح كبيرة من الطبقة السياسية على وجه الخصوص، الذي يفضح رضى هذه الفئة بالوضع وعماها عنه) – بل مشكلةُ تحديدِ إلى أيِّ مدى تُعبّر الطرافة النسبية للغة عن تَمَفصُلٍ جديدٍ وباقٍ للممارسات الاجتماعية والتمثيلات الجماعية، والعقائد الأكاديمية والحركات السياسية. باختصار، نقول باللغة الغرامشية: علينا أن نحدد ما إذا كان شيءٌ أشبه بالهيمنة في طور النموّ هنا.

إن اشتغال صنف الهجرة كبديلٍ لِمفهوم العرق ومُذوّبًا لـ «الوعي الطبقي» يوفر لنا الخيط الأول. فمن الواضح تمامًا أننا لا نتعامل هنا ببساطة مع عملية تمويهٍ صارت ضروريةً، بسبب السمعة السيئة التي ألحقت بمصطلح «العرق» واشتقاقاته، ولا كنتيجةٍ لِتحوُّلاتِ المجتمع الفرنسي حصرًا. فقد عانت تجمّعات العمال المهاجرين لسنوات عديدة من التمييز والعنف الزينوفوبي، حيث لعبت القوالب النمطية العنصرية دورًا جوهريًّا. وقد شهدت فترة ما بين الحربين (وهي الأخرى فترة أزمة) إطلاق العنان لحملاتٍ ضد «الأجانب» (اليهود وغيرهم) في فرنسا، حملاتٌ امتدت فتجاوزت أنشطة الحركات الفاشية وبلغت ذروتها المنطقية في مساهمةِ نظام فيشي في المشروع الهتلري. لماذا لم نشهد الدالّ «السوسيولوجي» في تلك الفترة يحل محلَّ «البيولوجي» بشكلٍ نهائيٍّ بصفته التمثيل الرئيس للكراهية والخوف من الآخر؟ بصرف النظر عن قوة تقاليد الأسطورة الأنثروبولوجية الخاصة بفرنسا، لعلّ ذلك يرجع من ناحية إلى الانقطاع المؤسسي والأيديولوجي الذي وُجِد حينها بين صورة الهجرة (الأوروبية بالأساس) والتجربة الاستعمارية (فمن جهة، فرنسا «كانت تُغْزى»، ومن جهةٍ أخرى «كانت مسيطرة»)، ويرجع من ناحية أخرى إلى غيابِ نموذجٍ جديد لِلتَّمفْصل بين الدول والشعوب والثقافات على نطاق عالمي.[4] والسببان مرتبطان حقًّا. فالعنصرية الجديدة هي عنصريةُ عصرِ «إنهاء الاستعمار»، وعكس اتجاه التحركات السُكّانية بين المستعمرات القديمة والعواصم الاستعمارية القديمة، وتقسيم الإنسانية ضمن حيّزٍ سياسيٍّ واحد. أيديولوجيًّا، العنصرية الحالية – التي، في فرنسا، تتمركز على مُجمَّع الهجرة – تلائم إطار «عنصرية دونما عنصر» الذي طُوِّرَ أصلًا على نطاق واسعٍ في دولٍ أخرى، خاصةً الأنجلو-ساكسونية منها. وهي عنصريةٌ موضوعها السائد ليس التوارث البيولوجي، بل اختلافاتٌ ثقافيةٌ كؤودٌ، عنصريةٌ لو لمحتها لمحةً خاطفة فلن ترى تسليمها بِتَفوّق مجموعاتٍ أو شعوب معينةٍ على أخرى، بل تقول «فقط» بضَرر إلغاء الحدود، وعدم توافق أساليب الحياة والتقاليد. باختصار، هذا ما أسماه بيير أندري تاغييف، في تحقيبه: العنصرية الاختلافية.[5]

للتأكيد على أهمية السؤال، علينا أولًا استحضار العواقب السياسية لهذا التغيّر. الأول هو زعزعة استقرار دفاعاتِ العقيدة التقليدية لمناهضة العنصرية، بأن تباغت حجّتها بهجمةٍ من الخلف، إن لم تقلبها ضدها تمامًا (ما يسميه تاغييف بشكل ممتاز: «الأثر الانقلابيّ» للعنصرية الاختلافية). يُسَلَّم منذُ البداية بأن الأعراق لا تشكّل وحداتٍ بيولوجية قابلة للعزل، وأنّه لا توجد واقعًا «أعراقٌ بشرية». بل وقد يُعتَرف بأن سلوك الأفراد و«مَلَكاتهم» لا يمكن تفسيرها بِدمائهم أو حتى بِجيناتهم، فهي نتيجةٌ لِانتمائهم إلى «ثقافات» تاريخية. حسنًا، قامت الثقافوية الأنثروبولوجية، الموجهة بالكامل نحو الاعتراف بتنوع الثقافات والمساواة بينها وبِدَوامها عبر التاريخ (حيث لا تتشكل الحضارة الإنسانية إلّا من تَجمّعٍ متعدد النغمات)، بتزويد العقيدة الإنسانوية والكوزموبوليتانية لِمُناهَضة العنصرية، التي انتشرت في فترة ما بعد الحرب، بِمُعظم مقولاتها. وقد تأكدت قيمتها من خلال المساهمة التي قدمتها في النضال ضد هيمنة بعض الإمبرياليات الفارِضة للمعايير وضد مساعي القضاء على الحضارات الأقلّوية أو التابعة – «الإبادة الإثنية». تُسلِّم العنصرية الاختلافية بهذه المقولة. فأحد الرموز العظيمة في الأنثروبولوجيا، كلود ليفي ستروس، الذي تميّز منذ وقتٍ قصير بِتبيانه أن جميع الحضارات معقدةٌ وضروريةٌ بنفس القدر لتقدم الفكر الإنساني، نجده الآن في «العرق والثقافة» (Race and Culture) مُلتحقًا – سواء أعجبه ذلك أم لا – في خدمة فكرةِ أن «اختلاط الثقافات» وقمع «المسافات الثقافية» مرادفٌ للموت الفكري للإنسانية بل ربما يشكّل خطرًا وجوديًّا على آليات الضبط التي تضمن بقاءها البيولوجي.[6] ويرتبط هذا «التبيان» ارتباطًا مباشرًا بالمَيل «العفوي» للمجموعات البشرية (وعلى أرض الواقع: المجموعات القومية، رغم الشكوك الجلية حول الأهمية الأنثروبولوجية للصنف السياسي للأمة) للحفاظ على تقاليدها، وبالتالي هويتها. وما نراه هنا هو أن الطبيعانية البيولوجية أو الوراثية ليست الوسيلة الوحيدة لإضفاء صبغة طبيعية على السلوك البشري والترابطات الاجتماعية. وعلى حساب التخلي عن النموذج الهرمي – ورغم أن هذا التخلي ظاهريٌّ أكثرُ مما هو واقعيٌّ، كما سنرى – يمكن للثقافة أن تقوم بوظيفة الطبيعة أيضًا، ويمكن لها تقوم بشكل خاص بوظيفة وسيلةٍ لتقييد الأفراد والمجموعات قَبْليًّا إلى نَسَبٍ، إلى تحديدٍ ثابتٍ لا يتغيّر، أصلُهُ غامضٌ لا يُدْرك.

لكن أثر الانقلاب الأول هذا يؤدي إلى حصولِ ثانٍ، ويقلّب الأمور أكثر، ويصبح لذلك أنجع: إذا كان الاختلاف الثقافي الكؤود هو «وَسَطُنا الطبيعي» الحقيقي، وغِلافنا الجوي الذي لا غنى عنه إنْ أردنا استنشاق هواء التاريخ، فإن إلغاء هذا الاختلاف سيؤدي بالضرورة إلى انفعالاتٍ دفاعيةٍ، ونزاعات «بين الإثنيّات» وارتفاعٍ عامٍّ في العدوانية. وقد قيل لنا إن الانفعالات هذه «طبيعية»، لكنها خطيرةٌ أيضًا. بهذا الانقلاب الكامل المذهل، نرى هنا العقائد الاختلافية نفسها تقترح أن تفسّر العنصرية (وتدرأها).

في الحقيقة، ما نراه هو إزاحةٌ عامة للإشكالية. فها نحن ننتقل من نظرية الأعراق أو الصراع بين الأعراق في التاريخ البشري، سواءً قامت على أسس بيولوجية أو سيكولوجية، إلى نظرية «العلاقات العرقية» داخل المجتمع، التي لا تُطَبْعِنُ الانتماء العرقي بل السلوك العنصري. فمن وجهة النظر المنطقية، إنّ العنصرية الاختلافية هي عنصرية تِلْويّة (meta-racism)، أو ما يمكن أن نسميه عنصرية «الموقع الثاني»، تقدم نفسها على أنها استخلصت الدروس من الصراع بين العنصرية ومناهضة العنصرية، وعلى أنها نظريةٌ عمليةٌ سياسيًّا تفسّر العدوان الاجتماعي. فإذا كنت ترغب في تجنب العنصرية، عليك ألا تقع في المناهضة «التجريدية» للعنصرية، تلك التي تفشل في فهم القوانين النفسية والاجتماعية لتحرّكات الجَمْهَرات البشرية؛ عليك احترام «حدود التسامح»، والحفاظ على «المسافات الثقافية» أو بالأحرى: عليك العمل بتوافقٍ مع الفرض القائل إن الأفراد يَرِثون ثقافةً واحدةً (تَجمعاتٌ منفصلة) ويحملونها وِراثةً وحملًا حصريين (والحدود الوطنية لا تَزال، في هذا الصدد، أفضل فاصِل). وهنا نترك عالم التخمينات وندخل مباشرةً في الأرض السياسية وتأويلِ التجربة اليومية. وبطبيعة الحال، فإن «المجرّد» ليس صنفًا إبستمولوجيًّا، بل حكمٌ قيميٌّ يُحرَص على تطبيقه كلما ازدادت الممارسات المعنية ملموسيةً وأثرًا: برامج التجديد الحضري، والنضالات ضد التمييز، وحتى التمييز الإيجابي في التعليم والوظائف (ما يسميه اليمين الجديد الأمريكي بـ «التمييز العكسي»، وفي فرنسا نسمع في كثير من الأحيان أيضًا من شخصيات «مُتَعقّلة» لا علاقة لها بأي حركةٍ متطرفة، تقول إنّ «مناهضة العنصرية هي ما يخلق العنصرية» بتحريضها ضدّ العنصرية وبطريقتها في «إثارة» المشاعر القومية لدى جمهور المواطنين).[7]

ليس من قبيل المصادفة أنّ نظريات العنصرية الاختلافية (التي من الآن فصاعدًا ستميل إلى تقديم نفسها على أنها العقيدة المناهضة حقًّا للعنصرية، وبالتالي الإنسانوية الحقيقية) ترتبط هنا بِسهولةٍ بـ «سيكولوجية الجماهير» – التي عادت موضتها بدرجةٍ ما – بصفتها تفسيرًا عامًّا للحركات اللاعقلانية، والعدوان والعنف الجماعي، ولا سيما الزينوفوبيا. ولنا أن نرى هنا اللعبة المزدوجة المذكورة أعلاه تعمل بكامل طاقتها التشغيلية: يُقدَّمُ للجماهيرِ شرحٌ لـ «عفويتهم» وفي الوقت نفسه يُشجَبونَ ضمنيًّا كجمهورٍ من «البدائيين». إنّ دعاةُ الأيديولوجية العنصرية الجديدة ليسوا مُنَظِّرينَ للوراثة الروحانية، بل فَنِّيون «واقعيّون» في علم النفس الاجتماعي . . .

عند تقديم الأثرين الانقلابيين للعنصرية الجديدة بهذا النحو، فأنا بلا شك أبسّط تكوينها وتعقيد تنوّعاتها الداخلية، لكني أريد أن استوضح ما هو استراتيجيٌّ في تطورها. فقد يرغب المرء مثاليًّا في التفصيل أكثر في جوانب معينة وإضافة تصحيحات معينة، لكن لا سعة لي إلا برسمِ خطوطٍ أولية فيما يلي.

إن فكرة «العنصرية بدون عنصر» ليست بالثورية التي قد يتصورها المرء. ودون الخوض في تذبذبات معنى كلمة «العرق»، وَواقع الأمر أنّ استخدامها في فلسفة التاريخ يسبق أيّ إعادة إدخالٍ لـ «علم الأنساب» في «علم الجينات»، يجب أن نأخذ في عين الاعتبار عددًا من الحقائق التاريخية الرئيسة، مهما كانت مُقلِقة (للأنواع الشائعة من مناهضة العنصرية، وللانقلابات التي أحدثتها عليها العنصريةُ الجديدة).

لطالما وُجِدت عنصريّةٌ لا تحتوي المفهوم البيولوجي-الزائف للعرق، كَقوة دفعٍ رئيسة، وقد وجدِت في مستوى التفصيل النظري الثانوي هذا تحديدًا. ونموذجها الأولي هو معاداة السامية. ومعاداة السامية الحديثة (وشكلها بدأ يتبلور في أوروبا في عصر التنوير، بل لربما في الفترة التي أدخلتْ فيها إسبانيا في عصر الاسترداد ومحاكم التفتيش، تصريفًا قوميًّا ودولتيًّا على المعاداة اللاهوتية لليهودية) هي أصلًا عنصرية «ثقافوية». وللأمانة، تؤدي الوصمة الجسدية دورًا كبيرًا في مخيالها، لكن أداءها أقرب إلى علامات على سيكولوجية عميقة، وإلى علامات على إرثٍ روحي بدلاً من وراثةٍ بيولوجية.[8] وهذه العلامات، إن جاز التعبير، صعوبةُ ملاحظتها دليلٌ على غزارة ما تكشفه، واليهودي كلما تعسّر اكتشافه اشتدّت «حقيقة» يهوديّته. فجوهرُه هو إرثٌ ثقافيٌّ، يخمّر الانحلال الأخلاقي. فمعاداةُ السامية إذن «اختلافية» بشكل فائق وبِعدّة أوجهٍ، إلى درجةٍ تسمح لنا باعتبار كامل تيار العنصرية الاختلافية – من وجهة النظر الشكلية – معاداةَ ساميةٍ مُعَمّمةً. وهذا الاعتبار مهمٌّ تحديدًا في تفسير رِهاب العرب المعاصر، لا سيما في فرنسا، لأنه يحمل في طياته صورةً للإسلام باعتباره «تصوُّرًا للعالم» لا يتوافق والأوروبية، ومشروعًا للسيطرة الأيديولوجية الكونية، وبالتالي فهو (أي رهاب العرب) خلطٌ مُمَنْهَج بين «العروبة» و«الإسلامية».

يقودنا هذا إلى توجيه أنظارنا نحو حقيقةٍ تاريخيةٍ الاعترافُ بها أصعب لكنها حيوية، تستقى حين الأخذ بعين الاعتبار الشكل القومي الفرنسي للتقاليد العنصرية. فلا شك في وجود فرعٍ فرنسيٍّ تحديدًا للعقائد الآرية والأنتروبومترية، والنزعة الوراثيّة البيولوجية، لكن «الأيديولوجية الفرنسية» الحقيقية لا نعثر عليها بينها، بل هي في: فكرة أن ثقافة «أرض حقوق الإنسان» قد عُهِدت بِمهمة كونية لتعليم الجنس البشري. ومع هذه المهمة تتجاور ممارسةُ إدماجِ الجَمْهَرَات المسيطَر عليها، وما يترتب على ذلك من حاجة لرسم خطوط الاختلاف بين الأفراد أو بين المجموعات، وترتيبها من حيث مَلَكَةِ الاستيعاب (assimilation) – أو مقاومته. فلقد كان هذا الشكل الخافت والساحق في آنٍ للإقصاء/الإلحاق، هو الذي نُشِر وَوُظِّفَ في سيرورة الاستعمار والسلالة الفرنسية (أو «الديمقراطية») حصرًا لـ «عبء الرجل الأبيض». سأعود في فصول لاحقة إلى مفارقاتِ الكونية والخصوصية في اشتغال الإيديولوجيات العنصرية أو في الجوانب العنصرية لاشتغال الأيديولوجيات.[9]

بالمقابل، من السهل أن نرى أن قمعَ موضوع التراتبيّة الهرمية، في العقائد العنصرية الجديدة، ظاهريٌّ أكثر مما هو حقيقي. ففي الواقع، إن فكرة الهرمية – التي قد يصل هؤلاء المنظّرون إلى حدّ استنكرها استهزاءً بسخفها – قد أعيد تأسيسها، من ناحية: في التطبيق العملي للعقيدة (فَلا لزوم لذكرها صراحةً)، ومن ناحية أخرى: في نوع المعايير المطبّقة نفسه، في التفكير بالاختلاف بين الثقافات (وللمرء أن يرى هنا توظيفَ المواردِ المنطقية لـ «الموقع الثاني» للعنصرية التِلْويّة أيضًا).

يحدث الإجراء الوقائي ضد الاختلاط العرقي في الواقع في الأماكن حيث الثقافة الراسخة هي ثقافة الدولة، والطبقات المهيمنة، و – رسميًّا على الأقل – الجماهير «الوطنية»، التي يشرعنُ نظام المؤسسات أسلوب حياتها وتفكيرها. وعليه فهي تَشتغلُ ككتلةٍ، لا اتجاه لها، على التعبير والتقدم الاجتماعي. ولن يداوي الخطاب النظريّ حول ما تملكه جميع الثقافات من كرامة حقيقةَ أن الاستيعاب المطلوب سواءً من «أسود» في بريطانيا أو «بور» في فرنسا، قبلَ أن يصبح «مندمجًا» في مجتمعٍ يعيش هو فيه أصلًا (اندماجٌ يلازمُه الاشتباه بأنّه سطحيٌّ أو ناقصٌ أو زائفٌ)، يُصوَّرُ على أنه تقدم، وانعتاق، وتنازل عن الحقوق. ووراء هذا الوضع نرى أطروحاتٍ مجدَّدة بعض الشيء، وبعض الشيء لا أكثر، لفكرة أن الثقافات التاريخية للإنسانية يمكن تقسيمها إلى مجموعتين رئيسيتين: واحدة يفترض أنّها كونيةٌ وتقدميةٌ، والأخرى يفترض أنّها خصوصيةٌ وبِدائية بشكلٍ يتعذّر الإصلاح. وليس من قبيل المصادفة أن نواجه هنا تناقضًا: العنصرية الاختلافية «المتّسقة منطقيًّا» ليس لها إلا أنْ تكون محافظةً من كل النواحي، لمطالبتِها بِثَبات كافة الثقافات. وهي في الواقع محافظةٌ، لأنها، بدعوى حماية الثقافة الأوروبية وطريقة الحياة الأوروبية من أنْ تصبح «عالمثالثية»، تُغلِق طوباويًّا أي طريق نحو التنمية الحقيقية. ولكنها على الفور تعيد تقديم التمايز القديم بين المجتمعات «المنغلقة» و«المنفتحة»، «الساكنة» و«الجريئة»، «الباردة» و«الساخنة»، و«الجماعية» و«الفردانية»؛ تمييزٌ يؤدي بدوره إلى تفعيل كامل الغموض الكامن في مفهوم الثقافة (والحال على ذلك خصوصًا في الفرنسية!).

يشير الاختلاف بين الثقافات، التي تُعتَبر كياناتٍ منفصلةٍ أو بنىً رمزيةً منفصلةً (أي «الثقافة»، بمعنى «kultur»)، إلى اللامساواة الثقافية داخل الحيز «الأوروبي» نفسه، أو – بشكل أدق – إلى «الثقافة» (بمعنى «Bildung»، وما يحمله من تمييزٍ بين المعرفة الأكاديمية والشعبية، الاختصاصية والفولكلور، وما إلى ذلك) كبنيةٍ من اللامساواة، يُمْال إلى إعادة إنتاجها في مجتمعٍ صناعي ذو تعليمٍ رسمي وتزايد في التدويل والانفتاح على العالم. والثقافات «المختلفة» هي تلك التي تشكّل عقباتٍ – أو التي توضع كعقباتٍ (من طرف المدارِس أو أعراف الاتصال الدولي) – لاكتساب الثقافة. وعلى العكس من ذلك، تُقدَّم «الإعاقات الثقافية» للطبقات المُسيطَر عليها كأمورٍ مُعادِلة عَمَليًّا لحالةِ الأجنبية (alien status)، أو كطرقِ حياةٍ ضعيفةٍ خصوصًا أمام الآثارِ المدمرة للاختلاط (أي، لتأثيرات الظروف المادية التي يحدث فيها هذا «الاختلاط»).[10] هذا الوجود الكامن للموضوعة الهرمية اليوم يجد تعبيره الرئيس في الأولوية التي تضفى على النموذج الفرداني (مثلما في الفترة السابقة، كان على العنصرية اللامساواتية صراحةً، في سبيل طرح فَرَض الثبات الجوهري للأنواع العرقية، أن تفترض مسبقًا أنثروبولوجيا مُخالِفة، سواءً استنادًا إلى علم الوراثة أو علم نفس الشعوب (Völkerpsychologie)): الثقافات التي يُفترض أنها متفوقة ضمنيًّا هي تلك التي تقدّر المشاريع «الفردية» والفردانية الاجتماعية والسياسية وتعززها، مقابل تلك التي تقيّد هذه الأشياء. ويقال إن الأولى هي الثقافات حيث «روح الجماعة» تألِّفُها الفردانية.

بهذه الطريقة، نرى كيف يُسمح بعودة الموضوعة البيولوجية ومعها تفصيلُ متغيراتٍ جديدة لـ «الأسطورة» البيولوجية في إطار عنصريةٍ ثقافية. وحيال هذه الأمور توجد – كما نعلم – أوضاعٌ وطنية مختلفة. فالنماذج النظرية المستندة إلى علم السلوك الحيواني والسوسيو-بيولوجيا (وكلاهما في تنافسٍ جزئيٍّ) أكثرُ تأثيرًا في البلدان الأنجلو-سكسونية، حيث تواصلُ تقاليدَ الداروينية الاجتماعية وتحسين النسل وتتقاطعُ مباشرةً في نقاطٍ معينة مع الأهداف السياسية لِنيوليبرالية عدوانية.[11] ومع ذلك، فحتى هذه الأيديولوجيات ذات الميل البيولوجي تعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على «الثورة المُخالِفة». فما تهدف إلى تفسيره ليس تكوينَ الأعراق، بل الأهمية الحيوية للتسييج الثقافي والتقاليد لأجل مراكمة المَلَكاتِ الفردية، والأهم من ذلك: مراكمةُ الأسس «الطبيعية» للزينوفوبيا والعدوان الاجتماعي. والعدوان هو جوهرٌ اعتباريٌّ (fictive) تستحضره جميع أشكالِ العنصرية الجديدة، يتيح في هذه الحالة إزاحة البيولوجيا بدرجة واحدة: بالطبع لا توجد «أعراق»، بل جَمْهَراتٌ وثقافاتٌ فقط، ولكن للثقافةِ أسبابٌ وتأثيراتٌ بيولوجية (وبيو-فيزيائية)، وانفعالاتٌ (وتفاعلاتٌ) بيولوجية تجاه الاختلاف الثقافي (يمكن أن يقال إنها أقربُ إلى الأثر الباقي لـ «حيوانية» الإنسان، في تقيُّدِه المستمر كما كان دائمًا بـ «أُسرته» الممتدة و «منطقته»). وعلى العكس من ذلك، حيث تبدو الثقافويّةُ البحتة مهيمنةً (كما في فرنسا)، فإننا نشهد انجرافًا تدريجيًّا نحو تفصيلِ خطاباتٍ حول البيولوجيا والثقافة باعتبارها الضابِطَ الخارجي لـ «الكائنات الحية»، وتكاثرها، وأدائها، وصحتها. وميشيل فوكو – من بين آخرين – توقع ذلك.[12]

لعلّ السلالات الحالية للعنصرية الجديدة مجرد تشكيلةٍ أيديولوجية انتقالية، مصيرها التطور إلى خطاباتٍ وتكنولوجياتٍ اجتماعيةٍ حيث جانب السرد التاريخي لجينالوجيا الأساطير (لعبةُ التبديل بين العرق، والشعب، والثقافة والأمة) يفسح الطريق – بدرجاتٍ متفاوتة – إلى جانبِ التقييم السيكولوجي لِلمَلَكات الفكرية والنزوع إلى حياة اجتماعية «طبيعية» (أو على العكس: إلى الإجرام والانحراف)، وإعادة الإنتاج «المُثلى» (من منظور العواطف أو حتى منظور النظافة أو تحسين النسل)؛ ملكاتٌ وأمزجةٌ ستتعهد بقياسها وانتقائها ومراقبتها مجموعةٌ من العلوم الإدراكية والسوسيو-سيكولوجية، ساعيةً لتحقيق توازنٍ في ذلك بين العوامل الوراثية والبيئية . . . وبعبارة أخرى، سوف تتطور التشكيلة الأيديولوجية نحو «ما-بعد عنصرية». وأنا أميل إلى هذا الاعتقاد لأنَّ تدويل العلاقات الاجتماعية وتحركات السكان في إطار نظام الدول-الأمم سيؤدي بشكل متزايد إلى إعادة التفكير في مفهوم الحدود وإعادة توزيع أنماط تطبيقه، وذلك سيمنحهُ وظيفةَ الوقاية الاجتماعية وربطه بتشريعاتٍ أكثر فردَنَةً، في حين أن التحولات التكنولوجية ستنيط بالتفاوتات التعليمية وبالهرمية العقلية دورًا متزايد الأهمية في الصراع الطبقي ضمن منظور انتقاءٍ تقنو-سياسي معمّمٍ للأفراد. ففي عصر الأمم-المشاريع، لربما سيحل علينا «العصر الجماهيري» الحقيقي.

[1] لم أعرف إلّا بعد الانتهاء من هذا المقال عن عمل بيير أندريه تاغييف: La Force du prejuge. Essai sur Ie racisme et ses double (La Découverte Paris، 1988). في هذا الكتاب، يطور تاغييف ويكمل ويفصّل إلى حد كبير التحليلات التي أشرت إليها أعلاه. وآمل، في المستقبل القريب، أن أخصص لها المناقشة التي تستحقها.

[2] قدمت كوليت غيلومن شرحًا ممتازًا لهذه النقطة، التي أعتبرها، حسب رأيي، أساسية: «نشاط التصنيف هو أيضًا نشاط معرفي. . . . ومن هنا لا شك مصدر الالتباس في النضال ضد الصور النمطية والمفاجآت التي يخبئها لنا. التصنيف يحبل بالمعرفة مثلما الاضطهاد».Guillaumin, Colette, L’idéologie raciste. Genèse et langage actuel, Mouton، Paris / The Hague 1972، pp. 83 et seq.

[3] L. Poliakov, The Aryan Myth: A History of Racist and Nationalist Ideas in Europe, transl. E. Howard, Sussex University Press, Brighton 1974; La Causa lite diabolique: essais sur I’origine des persecutions. Calmann-Uvy. Paris 1980.

[4] قارن الطريقة التي ظلت فيها «مشكلة السود» منفصلة عن «المشكلة العرقية» التي فرضتها الموجات المتعاقبة للهجرة الأوروبية ودرجة تقبلها في الولايات المتحدة. فحتى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، أدى «نموذج جديد للعرق» إلى الإسقاط الأخير على الأول (راجع: Michael Omi and Howard Winant, Racial Formation in the United States, Routledge & Kegan Paul, London, 1986).

[5] انظر على وجه الخصوص إلى أعماله:

Les Présuppositions définitionnelles d’un i indéfinissable; Ie racisme’, Mots. no. 8, 1 984; ‘L’Identité nationale saisie par les logiques de racisation Aspects. figures et problèmes du racisme différentialiste’, Mots, no. 12. 1 986; ‘L’identité française au miroir du racisme différentialiste’, Espaces 89, L’identité fran raise, Editions Tierce, Paris 1985.

الفكرة موجودة في دراسات كوليت غيلومن.

انظر أيضًا:

Véronique de Rudder, ‘L’Obstacle culturel: la différence et la distance’, L’Homme et la société, January 1 986. Compare, for the Anglo-Saxon world, Martin Barker, The New Racism: Conservatives and the Ideology of the Tribe, Junction Books, London 1981.

[6] كتبت هذه محاضرة عام 1971 لليونسكو. وأعيد طباعتها في:

The View from Afar, transl. J . Neugroschel and P. Hoss, Basic Books, New York 1985.

راجع: نقد:

M . O’Callaghan and C. Guillaumin, ‘Race et race . . . la mode ‘ naturelle’ en sciences humaines’, L’Homme et la société, nos 3 1-2, 1974.

من زاوية نظر مختلفةٍ تمامًا يهاجَم ليفي ستروس اليوم على أنه مناصر لـ «مناهضة الإنسانوية» و «النسبية» (راجع: T. Todorov, ‘Lévi-Strauss entre universalisme et relativisme’, Le Débat, no. 42, 1986; A. Finkielkraut, La Défaite de la pensée, Gallimard, Paris 1987). والأمر ليس أنّ النقاش حول هذه النقطة لم ينتهِ بعد، بل هو بالكاد بدأ. ومن وجهة نظري، لن أذهب إلى أنّ عقيدة ليفي ستروس «هي العنصرية»، بل أنّ النظريات العنصرية للقرنين التاسع عشر والعشرين بُنيَت ضمن الحقل المفاهيمي للإنسانوية؛ وبالتالي من المستحيل التمييز بينهما على الأساس المشار إليه أعلاه (أنظر فصليَ: “Racism and Nationalism”، هذا المجلد، ص. 37-67).

[7] في البلدان الأنجلوسكسونية، يُتعامَل مع هذه الموضوعات على نطاق واسع من خلال «علم السلوك البشري» و «علم الأحياء الاجتماعي». وفي فرنسا، تُمنَح أساسًا ثقافيًا مباشرًا. ويمكن العثور على مختارات من هذه الأفكار، بدءًا من منظري اليمين الجديد إلى الأكاديميين الأكثر رصانة، في:A. Béjin and J. Freund, eds, Racismes, antiracismes, Meridiens-Klincksieck, .Paris 1986 من المفيد الإشارة إلى أنّ نسخةً مبسّطةً للعمل نُشِرت بتزامنٍ في منشور شعبي واسع الانتشار: J’ai tout compris, no. 3, 1987 (‘Dossier choc: Immigres: demain fa haine’ edited by Guillame Faye).

[8] أشارت روث بنديكت، مع آخرين، إلى هذا فيما يتعلق بهيوستن ستيوارت تشامبرلين: «ومع ذلك، لم يميز تشامبرلين الساميين بالصفات الجسدية أو بالأنساب. اليهود، في ذهنه، لا يمكن فصلهم بدقة عن بقية السكان في أوروبا الحديثة من خلال قياسات مُجسَّمة مجدولة. لكنهم كانوا أعداءَ لأن لديهم أساليب خاصة في التفكير والتصرف». «يمكن للمرء أن يصبح يهوديًا في القريب العاجل …» إلخ. (Race and Racism, Routledge & Kegan Paul, London 1983 edn, pp. 132 et seq.). من وجهة نظرها، كان هذا، في آنٍ، علامة على «صراحة» تشامبرلين و «تناقضه الذاتي». أصبح هذا التناقض الذاتي هو القاعدة، لكنه في الحقيقة ليس تناقضًا ذاتيًا على الإطلاق. في معاداة السامية، موضوعةُ دونيةِ اليهودي هي، كما نعلم، أقل أهمية بكثير من آخريَّتِه متعذّرة الإلغاء. بل إن تشامبرلين يجازف أحيانًا بالقول بـ «فوقية» اليهود، في الذكاء، أو التجارة، أو حسّ الجماعة، ما يجعلهم أكثر «خطورة». وكثيرًا ما يعترف المشروع النازي بأنه مشروع خفض اليهود إلى «منزلة دون إنسانية»، لا أنّه نتيجة واقع كونهم دون الإنسان: لهذا السبب لا يمكن أن يقف هدفه عند الاستعباد، بل وجب أن يستهدف الإبادة.

[9] أنظر هذا المجلد، الفصل 3: “Racism and Nationalism”.

[10] من الواضح أن هذا الإدراج للاختلاف «السوسيولوجي» بين الثقافات تحت التسلسل الهرمي المؤسسي لـ «الثقافة»، الفاعلية الحاسمة للتصنيف الاجتماعي وطبعنته، هو ما يفسر حرص «الصراع الراديكالي» والضغينة المحيطة بوجود المهاجرين في المدارس، وذلك أكبر بكثير من تلك الناتجة عن واقع العيش القريب جغرافيًّا وحده. راجع:S. Boulot and D. Boyson-Fradet, ‘L’Echec scolaire des enfants de travailleurs immigrés’, Les Temps modernes, special number: ‘L’lmmigration maghrebine en France’, 1984.

[11] راجع: Barker, The New Racism.

[12] Michel Foucault, The History of Sexuality, vol. 1 . An Introduction, transl. Robert Jurley, Peregrine, London 1978.

نشر هذا المقال في كتاب Race, nation, classe: Les Identités ambiguës وحصلت جمعية الهامش للأبحاث الاجتماعية على رخصة لنشر ترجمته من دار نشر (La Découverte).

copyright : © La Découverte, Paris, 1988, 2018.

Skip to content