الإضراب النسائي/النسوي في سويسرا: خطوة إلى الأمام في طريق تأميم النضالات النسوية

«لكن ماذا يريدون؟» كان هو السؤال الذي واجهنا منذ المؤتمر النسوي الأول في حزيران/يونيو في لوزان بعد ندائه لإقامة إضراب نسائي/نسوي بعد سنة من ذلك. في 14 حزيران/يونيو 2019م، أي بعد 28 سنة بالضبط من الإضراب النسائي الأول تاريخيًا في سويسرا، خرجت نصف مليون امرأة وَرَجلٍ مؤيِّد في مسيرات في كل أرجاء البلاد. احتلّت ألوف أخرى، ابتداءً من منتصف الليل، المساحات العامة والعديد من مقرّات العمل، أو عبّرن ببساطة عن تضامنهن مع الإضراب بارتداء اللون البنفسجي أو شارة الإضراب المعتمدة عفويًا.

من الصعب تحليل نجاح حركةٍ جماهيرية كهذه، حركةٌ متنوّعة بالضرورة في تشكيلتها الاجتماعية وفي خلفيات أعضائها السياسية والثقافية والوطنية والدينية والجيلية. بل وقد يصعب على المراقِبات والمراقِبين في الخارج فهم قرارها للتعبئة في يوم 14 حزيران/يونيو بدلًا من 8 آذار/مارس المعتمد في بقية بلدان العالم، فبهذا الاختيار بدت الحركة منفصلة عن الحملات التعبوية العابرة للحدود في الأعوام الثلاث السابقة. وتلك الحملات التعبوية تدفقت منها موجةً نسوية جديدة، أعلتها ملايين من النساء اللاتي اجتمعن وتظاهرن و/أو أضربن لمعارضة السياسات الاجتماعية الرجعية التي صبَّ جمُّ ضررها على النساء، وَلِمعارضة الأشكال المتعاظمة للقمع الأبوي السائد على مجتمعاتنا.

لكن حجم الحركة ونجاحها الذي لا شك فيه في سويسرا هو، في رأيي، نتاج مزيجِ من الطبيعة الهجومية للحركة النسوية الأممية الجديدة وإعادة تفعيل التجربة الثمينة لإضراب النساء لِيَوم 14 حزيران/يونيو 1991م، في بلدٍ محافَظَتُه وأبويته متعمّقة، ومرتبته 20 في تصنيف المنتدى الاقتصادي العالمي للمساواة الجندرية. يرمز هذا التاريخ للحظة افتتاحية في تجديد النسوية في سويسرا.

كان من السهل نقل تجارب ومعارف من شاركن في إضراب 1991، لأن كل جيلٍ حاضر في هذه التعبئة (بما فيها جيلُ 1968) فَهِمَ أهميتها التي لا تقاس. استرداد تاريخنا، لكي نتجاوزَه، ونُحدّثَه، ونتصدى للغفلة النيوليبرالية، كان ضرورةً ملحة، وما زادها إلحاحًا هو النسيان الممنهج لتاريخ النضالات النسوية، في الحالات التي لا تُغيَّب فيها عمدًا. كان صوت ناقوس الخطر عاليًا. في 14 حزيران/يونيو 1991م، نزلت نصف مليون امرأة إلى الشوارع لضمان التطبيق الفعلي والقانوني للمساواة الجندرية، التي أدرجت في القانون الفيدرالي السويسري قبل ذلك بعشر سنوات. تعاظمت الحركة حينها لأنها عكست شعورًا شائعًا بأنه قد طفح الكيل، فهذا البلد أحد آخر بلدان أوروبا الغربية في منح النساء الحق في التصويت، حتى بعد المملكة المتحدة وإيرلندا وألمانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا.

قاتلت الحركة النسوية السويسرية لأجل الحقوق السياسية للنساء لعقود طويلة، وفي 1971م، وافق المصوّتون الرجال أخيرًا على هذه الحقوق، على المستوى الفيدرالي، بأغلبية نسبتها 65.7%. رُفِض المقترح في ثمان كانتونات، وهذه الحقوق لم تطبّق في كل الكانتونات السويسرية حتى 28 نيسان/أبريل 1991م، قبل بضعة أسابيع من أول إضراب للنساء. في ذاك الوقت، لم يحقق أي تقدم مهم أو ملموس في المساواة في مكان العمل أو الأسرة، إلخ. فقط في النصف الثاني من الثمانينات أُقِرَّ بقانون زوجي جديد جرّد «رب الأسرة» الذكر من صلاحياته الواسعة. أمّا فيما يتعلق بالحق في الإجهاض وإجازة الأمومة، فُقد نظر لهما عشية التعبئة النسوية الكبرى الأولى كأهدافٍ مستحيلة المنال. الواقع هو أن الإضراب اقترح بادئًا كنكتة بين عاملات صنع الساعات في وادي جو (وهو قلب صناعة الساعات، الذي أهلكته وقتها التسريحات الجماعية)، ولم يعتمد كوسيلة عمل دون معارضة، حتى ممن أيّدن الحاجة إلى التعبئة.

في سويسرا، اعتمدت قطاعات واسعة ما يسمّى بـ «السلام الاجتماعي»، المستند إلى اتفاقية 1937 بين نقابة عمّال الصلب ومنظّمة لأرباب العمل، اسمها اتفاقية «السلام في العمل» (Paix du travail, Arbeitsfrieden)، وأصبح ينظر لها كعنصرٍ من عناصر «الهوية الجمعية». في المخيال العام، الذي نمّاه أرباب العمل والقيادات النقابية، في بلدٍ يتصف باستمرارية غريبة للنخب الحاكمة، كان «السلام في العمل» وما يزال يقدم كشيء نابع من صفات الشخصية الوطنية التي تفسر النمو الاقتصادي الاستثنائي في عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية. على الواحد أن يتذكر أنه منذ الحرب العالمية الثانية، أسندت النخب المسيطرة السويسرية عملها السياسي على ليبرالية اقتصادية عنيدة، تعكس نظامًا اقتصاديًا لم تمسّه الحرب، سمته الأساسية هي قوة القطاع المصرفي والافتقار للصناعة الثقيلة التي تستلزم تدخل الدولة.

في 14 حزيران/يونيو 1991م، أغرقت البلاد موجةٌ بنفسجية كانت هي لون الإضراب، من نوافذ المساكن وحتى الساحات العامة، ومقرات العمل، كاشِفة التمييز السائد في كل القطاعات الإنتاجية والمعيدة للإنتاج. أثناء العقد التالي، والفضل يعود بلا شك لتعبئة 1991م، نلنا مراجعةً لقانون المساواة، وتحريم كل أشكال التمييز «المباشرة وغير المباشرة في كل علاقات العمل»، والحق في الإجهاض وإجازة الأمومة. ومنذ بداية الألفية الجديدة، مرت الحملات التعبوية النسوية بتطورات مهمة، إلى جانب انتشار دراسات الجندر، التي فتحت المجال لمنظوراتٍ جديدة للتفكير بالحياة اليومية، بما يتعلق بتأكيد الذاتيّات الجديدة والذوات الجديدة. شعرنا بهذا الإحياء على الجبهة الاجتماعية (في الدفاع عن الخدمات والمنافع العامة) وبالدفاع عن المهاجرات والمهاجرين والنساء غير حاملات الوثائق، وجرى إحياء النشاط والوعي الأممي، خصوصًا عبر المسيرة العالمية للنساء.

من إضرابٍ إلى التالي

من المثير للاهتمام ملاحظة أنه في 1991م اعتبر استخدام مصطلح «إضراب» إشكاليًا، بينما جدل العام الماضي تركز حول مصطلح «نسوي»، وهي صفةٌ نظر لها البعض بأنها «جذرية» أكثر من اللازم أو «إقصائية» أكثر من اللازم، أو العكس، «عفا عليها الزمن»، أو هي أكثر رواجًا من أن تستخدم. كانت الشابّات من الأصول المهاجرة، وحضورهن في الحركة بدأ منذ بداياتها، الأكثر حذرًا في ذلك، حتى لو لم تكنّ معادياتٍ لاستخدام الكلمة أساسًا. خفن من أنّ المعنى المقيِّد والمُشرذِم الذي منحته إياها الرأسمالية النيوليبرالية سينفر جيلهن. وتبيّنَ ذلك حينما أطلقت اللجنة الفيدرالية لقضايا النساء في عام 2015م مشروعًا ينادي لأجل «صوت المرأة»، وبذلك يستخدم «المفرد المؤنّث الكوني» لمحو الأشكال المتعددة للاضطهاد التي تعاني منها الغالبية العظمى من النساء في سويسرا.

أَلَم تعمل النسوية في كثيرٍ من الأحيان لشرعنة سيناريوهات سياسية لا تروّج لا للعدالة الاجتماعية ولا «العدالة الجندرية»؟ يضاف إلى ذلك حقيقةُ عجزها أو رفضها الصريح إدراك العلاقة بين كراهية المرأة والعنصرية العرقية، مروّجةً، باسم «تحرير النساء»، حربًا ضد النساء الأخريات، خصوصًا النساء المسلمات المحجّبات، كبش فداء اليمين القومي أو الليبرالي أو حتى قطاعاتٍ مما يسمى بـ «اليسار العلماني». بالتالي، دافعت شخصياتٌ مثل مارتين تشابونيير، أحد أوائل ناشطات تحرر النساء السويسريات، عن منع الحجاب في المدارس في مارس 2016م.

ساعدت هذه النسوية على إقصاء الشرائح الاجتماعية «المخفاة» أو المزعزعة من أجندتها النضالية. القضية الأكثر إفشاءً لطبيعتها هي بالطبع قضية المهاجرات والمهاجرين غير حاملات/ي الوثائق، وأغلبهن، وفق الإحصائيات المتوفرة، نساءٌ موظّفات في الاقتصاد المنزلي. مهاجراتٌ دون حالة قانونية، في أوضاع هشة، تعلمن بأجورٍ إفقارية ودون ضمان اجتماعي، وتعتنين بجزءٍ من العمل المنزلي والرعاية، بما يسمح لنساء الطبقتين الوسطى والعليا بالإفلات بدرجةٍ ما من العمل المتزايد الناتج عن الخصخصة المتزايدة للأشغال المنزلية وعن تقسيمها غير المتساوي بين النساء والرجال. فكما قالت نانسي فريجر:

تبنّت النسوية السائدة منظورًا ركيكًا ومرتكزًا حول السوق للمساواة، يتماشى تمامًا مع منظور الشركات النيوليبرالي السائد. وبالتالي تميل للالتزام بالأشكال الافتراسية التنافسية للرأسمالية، التي تسمّن المستثمرين بافتراس المستويات المعيشية لبقية الناس. الأسوأ من ذلك هو أن هذه النسوية توفر عذرًا لهذ الافتراس. هنالك تزايد في توفيرِ الفكر النسوي الليبرالي كاريزما وهالةَ الانعتاق، التي تجتذبها النيوليبرالية، لشرعنة إعادة توزيع الثروة إلى الأعلى.

تجمّعت حوالي 200 امرأة في يوم حار في حزيران/يونيو 2018م في قاعة مزدحمة في لوزان بهدف إدراج هذه القضايا في أجندة الحملات التعبوية المخطط عقدها في 2019م. كان السعي لإحياء نسوية محارِبة والشروع بنشاطاتٍ إضرابية كوسيلة للنضال، في بلدٍ تُحرَّم فيه الإضرابات السياسية قانونًا، خطوة مهمة. والسابقة في ذلك، كما تعترف المبادِرات بها، هي أن هذه الخطوة نجح نجاحًا غير متوقع. طرحت الفكرة ابتداءً في المؤتمر النسائي الثالث عشر لاتحاد النقابات السويسرية، وهي منظمة جامِعة للنقابات، خط عملها القائم هو التعاون مع منظّمات أرباب العمل. ما حصل هو أن فكرة الإضراب النسائي/النسوي استحكمت مباشرةً وتنامت.

في الواقع، عَقْدُ المؤتمر النسوي في لوزان جرى في سياق محدد. على المستوى الوطني، قبل بضعة أشهر، حققت قوى اليسار الجذري السياسية، تضامن (solidaritéS)، القطاعات النقابية الصغيرة، النشطاء النسويات ورابطات كبار السن، انتصارًا كبيرًا ضد مشروع حكومي تبنّاه البرلمان، بتأييد من الحزب الديموقراطي الاجتماعي، يهدف لرفع سن التقاعد للنساء من 64 إلى 65 عامًا (بعد رفعه مرّتين، وبقيادة الوزير الديموقراطي الاجتماعي روث دريفوس، من 62 إلى 63 عامًا في 2001م، ومن 63 إلى 64 عامًا في 2005م). قضى هؤلاء النشطاء شهورًا طويلة، ابتداءً من نيسان/أبريل 2017م، في الشوارع لجمع الـ 70 ألف توقيع اللازمة من المواطنِات والمواطنين لفرض استفتاءٍ شعبي على القانون، مما نتج عنه تأسيس روابطٍ فيما بين المجموعات، عززها انتصارٌ مبهر في صناديق الاقتراع، في أيلول/سبتمبر 2017م. معًا، نجحنَ في فرض نشاطهن في عدة أماكن، حامِلاتٍ مطالبًا اجتماعية للمساواة الحقيقية (لا الشكلية والرسمية) بين النساء والرجال. كشف هذا الانتصار في صناديق الاقتراع – في وجهِ كتلةٍ صمّاء برجوازية، يدعمها الحزب الديموقراطي الاجتماعي – عن القدرة التعبوية القوية الموجودة ضد سياسات التراجع الاجتماعي المفروضة على البلاد (كالهجمات على الأجور والضمان الاجتماعي والخدمات الاجتماعية والفوائد).

في الكانتونات والبلديات، كان وقعُ تقليص الميزانية على النساء مباشرًا – لأنهن في مقدمة العناية والتعليم، ولأنهن يشكلن أغلبية الواقعات/ين تحت خط الفقر في البلاد – وهو يضر بالتعليم (بتخفيض كلي للتمويل قدره مليار فرنك في 2017م)، والصحة، ومعونات اللجوء، والتنمية. وفق المكتب الفيدرالي للإحصاء، يقف فارق الأجور بين النساء والرجال عند 19.6%. ونسبة النساء عالية جدًا في الوظائف المنخفضة الأجر (ثلثي العمّال ذوي/ات الأجور تحت 4000 فرنك)، و60% منهن في وظائف بدوام جزئي (يفرضها عليهن إما أرباب العمل أو التقسيم غير المتساوي للأشغال المنزلية). لا تعمل إلا عشرة بالمئة فقط من الأمّهات لأبناء تحت أربع سنوات بدوام كامل، ومقدار الأمهات الشابّات اللاتي تضطررن لترك العمل ينحى للازدياد بسبب شح مرافق حضانة الأطفال وغلائها.[1] نسمّي ذلك اليوم «سقف الأمومة». في 2014م، كانت 20.2% من الأمهات لأبناء تحت 25 عامًا مُعطَّلات عن العمل، مقارنةً بـ 4.4% من الآباء في الحال نفسها، وعملت 82.5% من النساء لأبناء تحت 15 عامًا بدوام جزئي، مقارنةً بـ 13.3% من الآباء.

لهذه التفاوتات في الأجور والمشوار المهني وقعٌ سلبي مهول على مستوى أجور التقاعد. كلّيًا، تحصل النساء على حوالي نصف مجموع أجور التقاعد لرجال، لأن النساء يتلقين أجورًا أقل، و/أو لعملهن في قطاعاتٍ ذات أجور أقل أو وظائف جزئية الدوام، و/أو لاضطرارهن ترك العمل للعناية بالأطفال. ونتيجة لهذا التمييز الاقتصادي الضخم، من القيود الشديدة لإجازة الأمومة (حصلنا عليها في 2005 على المستوى الفيدرالي، وهي لا تغطي إلا مدخول 14 أسبوعًا بعد الولادة) وعدم وجود إجازة أبوّة (يوم واحد في أغلب القطاعات) أو إجازة الأبويْن، ما يزال العمل المنزلي عمل النساء في سويسرا اليوم. والأمور لا تقف عند ذلك، فاليمين المتطرف حاول، دون فلاح لحسن الحظ، إلغاء التعويضات المالية لتكاليف الإجهاض (متقرحٌ صُوِّتَ عليه في التاسع من شباط/فبراير 2014م).

عبر الحملة ضد رفع سن تقاعد النساء والمعركة ضد الخفض الفظيع للضرائب على كبرى الشركات، التي نجحت في 2017م، صاغت المنظّمات السياسية لليسار المحارب، ومعها القطاعات النقابية والروابط المهنية النضالية، روابطَ مهمة استندت إليها تعبئة حزيران/يونيو 2019م.

على المستوى الدولي، منذ 2017م، وبعد انتصار دونالد ترمب في الولايات المتحدة ووصول القوى المحافظة والأصولية للحكم في عدد من بلدان العالم وإعلانها الحرب على النساء، والفقراء، والمهشمات والمهمّشين، واليافعات واليافعين، تنامت الحملات التعبوية لـ 8 آذار/مارس في سويسرا أيضًا. تجاوزت النساء الصغيرات، بل وحتى الفتيات الصغيرات، بل وأغرقن التجمعات النسوية التقليدية، بمساهمة مهمة للقطاع «الاستقلالي»، سائراتٍ ضد كل أشكال العنف ضد النساء، معزِّزاتٍ و/أو منوِّعاتٍ لجان 8 آذار/مارس التي ظلّت نائمةً حتى ذلك الوقت. نزلت ألفٌ منهن في شوارع جنيف في آذار/مارس 2017م وتضاعف العدد بعد سنتين، مع التحضير للإضراب.

النسوية، والحركة الطبقية، والأممية

بعد مؤتمر حزيران/يونيو 2018، أسست تجمّعات محلية في كل أرجاء البلاد، وعملت على البناء الصَّبور للحملات التعبوية من كانتون إلى التالي: أولًا في المناطق الناطقة بالفرنسية، حيث أقيم التنسيق بين التجمعات في كل منطقة (فود، جنيف، نوشاتيل، فريبورغ، فاليه) ومن ثم في المناطق الناطقة بالإيطالية، وأخيرًا في المناطق الناطقة بالألمانية. كانت هذه التجمّعات تعبيرًا عن الضرورة الملحة للتصدي والتحدي لكافة أشكال الهيمنة المستندة إلى موقع الفرد في المجتمع. اتضحت أهمية هذه الضرورة في ربطها مختلف الأجيال، منها مختلف الأجيال السياسية والثقافات التنظيمية (حيث وُجِدَت) للنشطاء المِهنيّات/ين السياسيات/ين والنقابيّات/ين، باختلاف التصنيفات الاجتماعية-الحرفية للأفراد وخلفياتهن. لكن الهدف كان توليف هذه التجارب المتنوعة لتشكيل أوسع حركة ممكنة، مما يعكس طموحاتٍ نسوية جديدة.

لا شك أنّ أحد أنجح نتائج الحركة كان بيان الإضراب، وقد صاغت مسودته الأولى مجموعة صغيرة من النساء عينهن المجلس العام أثناء الجلسة العامة الثانية للتنسيقية الناطقة بالفرنسية في أيلول/سبتمبر 2018م، ومن ثم ناقشته وعدّلته وصحّحته وعززته المجالس المحلية. هدف نِقاشُ هذا البيان لتحقيق أقصى درجات الأفقية، لجمع كل القوى الحاضرة، لأكثر النشطاء خبرة، غالبًا من اليسار الجذري، والمهاجرات/ين ورابطات النساء، والنقابات (من القطاعين الخاص والعام)، دون أي إقصاء للصغار من النشطاء اللاتي أردن إيصال أصواتهن. أتاحت هذه الوسيلة تحديد أنماط العمل ومطالب الإضراب، من بينها مساواة الأجور وَسَن حد أدنى للأجور وخفض ساعات العمل، وتوفير التأمين والفوائد الاجتماعية، وحقوق النساء المهاجرات بالعمل أثناء رحلة الهجرة (مطالبةً بتنظيمات وتشريعاتٍ تحميهن)، ومحاربة التمييز والعنف ضد النساء (خطة وطنية لمنع ومحاربة العنف المُجَنْدَر والعنف الجنسي، والقبول بالحق في اللجوء على هذه الأسس)، والتعبير الحر عن الميول الجنسية والهوية الجندرية، وحضور النساء في الحيز العام/السياسي.

كانت جذريةُ البيان، الذي يسائل المنظومة الأبوية والرأسمالية، انتصارًا حاسمًا. في مدينة بيان، في آذار/مارس 2019، تبنّت الـ 500 امرأة الحاضرة دعوة للإضراب. في هذه الدعوة، المعروفة بـ دعوة بيان، التي قرئت يوم 14 حزيران/يونيو في الحادية عشر ظهرًا في أماكن العمل والأماكن العامة في سويسرا:

نحن النسان جميعًا، النساء، في العلاقات ودونها، في جماعة، بأبناء أو دونهم، موظّفاتٍ أو معطَّلات، مهما كانت طبيعة ذلك العمل، أصحّاء أم مريضات، قادرات أو معاقات، غيريّات، أو من مجتمع الميم، من أصغرنا لأكبرنا، مولوداتٍ هنا أو في بلدٍ آخر، بمختلف ثقافاتنا وأصولنا، ندعو لإضرابٍ نسوي ونسائي في 14 حزيران/يونيو 2019م. نريد مساواةً في الواقع. نريد أن نقرر حياتنا بأنفسنا. ولهذا السبب سنضرب يوم 14 حزيران/يونيو 2019م!

أثناء الأشهر الإعدادية، تنامت التجمّعات للتجهيز العملي للإضراب (إعداد المواقع الإلكترونية، كتابة البروشورات، تنظيم الفرق والجوق الغنائية، الشروع بنشاطات من كافة الأنواع، والتجمعات الخاطفة، إلخ)، وغيرها من التعبئات التي ساعدت على تغذية مطالب الإضراب. جمعت تعبئة أيلول/سبتمبر 2018م في برن لأجل مساواة الأجور أكثر من 20 ألف شخص، والمنشورات تُرجِمَت لإحدى عشر لغة (في سويسرا، المهاجرات/ون المحرومات/ون من أي حقوق سياسية تشكلن ربع السكان). وفي جنيف، أتاحت عدة حركات توسيع هذه النضالات وإيصالها بحياة الناس، منها إضراب عمّال النظافة لمصرف خاص طال عدة أيام في برد الشتاء القارص، والقتال ضد قانون إسلاموفوبي يمنع لبس الحجاب في برلمانات الكانتونات والمحافظات ولموظّفات كل كيانات الدولة أو القطاع العام. وقبل أسبوعين من الإضراب، تجمّعت نساءٌ مسلمات محجّبات وغير محجّبات، في مظاهرة «الأوشحة البنفسجية»، ودَعَين للإضراب.

خُطَّت لائحة مطالب بعض القطاعات المهنية ومُلِأت في مختلف أماكن العمل. هنالك تحدٍّ كبير اليوم أمام استمرار التعبئة بحجمها الكبير في 14 حزيران/يونيو. قدِمَت العديد من المبادرات من الأسفل، خصوصًا في القطاع العام (مراكز الرعاية النهارية، المدارس، الجامعات، المستشفيات، والإدارات العامة، إلخ) وفيه بلا شك (وإن لم تكن لدينا كل الأرقام بعد) كانت التعبئة أقوى ما كانت وكَثُرَ أعضاء الإضراب. في القطاع الخاص، كان الوضع أصعب بكثير. واقعًا، في قطاعي صنع الساعات وعلم المعادن، لم تؤيد المراكز النقابية الدعوة للإضراب، حيث الاتفاقيات الجماعية للعمل تحتوي شروطًا تحظر أي توقفٍ عن العمل. ولكن في بعض الحالات، تمظهرت روابط التضامن بين النساء العاملات في القطاعين العام والخاص عبر لائحة مطالب محددة، فقد تضمنت لائحة الموظّفات والطلّاب الجامعيات وطلّاب الدراسات العليا لجامعة لوزان مطالبًا تصب في صالح عامِلات الكافتيريا وعامِلات التنظيف (وكلّهن مهاجِرات) الموظّفات عبر شركات خاصة في الحرم الجامعي.

لشعبية الحركة لدى سكان البلاد، كما تبين استطلاعات الرأي المنشورة إعلاميًا، ولحجمها، تعرضت لمحاولة احتواء: سمحت بعضُ الشركات بفسحة مطولة أو خروجٍ مبكر الساعة 3:24 عصرًا، رمزُ بداية ساعات العمل غير المأجورة للنساء في سويسرا (بحكم فارق الأجور). سعت الحملات التعبوية لإظهار المخفي بالترويج للمظاهرات المعقودة أمام مقرات العمل ذات النسب النسائية العالية (الأسواق الغذائية، الفنادق، إلخ) للتعبير عن التضامن مع من لم تتمكن من الانضمام للحركة بعد. وكانت المخفيّات حاضراتٍ في مظاهرات آخر اليوم، تمثّلهن يافطاتٌ وصورٌ ظلّية ترتديها نساءٌ متضامنات.

بعد تعبئة 14 حزيران/يونيو، يمكن للواحد/ة قراءة تلك الدعوة للإضراب، التي انتقدها الإعلام لجذريتها اليسارية المناهضة للأبوية، ليس كعقبة للتعبئة، بل على العكس من ذلك، بصفتها «التعبير الأمثل لمدٍّ نسوي مناهض للعنصرية وكراهية المرأة والرأسمالية». قد يكون تحليلٌ للحركة كهذا مُشجِّعًا، لكنه متفائل أكثر مما ينبغي. من الصحيح أنَّ الإضراب بلغت تعبئته مستويات مبهرة، وذلك رغم الضغوطات والهجمات التي تعرض لها لكونه غير قانوني، وما رمي عليه من تهم بأنه «استحوذ عليه اليسار» وأنه «يقصي الرجال»، وغيرها من التهم. وقد كانت الروابط التي صاغها الإضراب في أماكن المعيشة والعمل، وأشكال التضامن الجديدة التي أنشئت والمواضيع التي طرحت وتواترت منذ إصدار الدعوة للإضراب في مارس/آذار، بلا أدنى شك الشروط الافتتاحية لوعيٍ جديد بعلاقات السيطرة والاستغلال المؤسسة في مجتمعٍ رأسمالي مثل المجتمع السويسري.

لكن، يجب القول، مثلما لاحظت رفيقاتنا في بولندا، إنه حتى هذه اللحظة، «تفهم النساء أنفسهن كـ ‹مُضطَّهَدات›، لكن التحليل الطبقي ليس حاضرًا إلا في أجزاء بسيطة من الحركة النسوية، وغالبًا في الدوائر الأكاديمية والمجموعات الجذرية الشعبية، وبدرجة أقل في النقابات المهنية». لكن ذلك لا يفقدنا الأمل. أنشئت الحركة بصبرٍ وثبات من الأسفل، منتشرةً كالشعيرات الدموية، بترابطٍ مع الحركات الاجتماعية والمنظمات النقابية والنضالية، دون ترك عناصر برنامجها الجذرية. هذه بلا شك إحدى مفاتيح نجاحها التي تمظهرت عشية 14 حزيران/يونيو. حركةٌ وطنية واسعة لا سابقة لها، في بلدٍ محافِظ وأبوي جعل فيدراليته المجربة أحد عناصر استمراريته السياسية، هي – أي الحركة – تفتح المسرح بلا شك للمظاهرات السياسية والاجتماعية في أرجاء البلاد، فارضةً بأفعالها تجديدًا و/أو تعزيزًا لأنماط عملها.

سترى الخطوة التالية بلا شك هذه الحركة البديعة، وهمّها الأول – وهو مُبَررٌ بلا شك – كان إشارةً لكونها استمرارية لإضراب 14 حزيران/يونيو 1991م، وتواصلًا مع الحركة الأممية لـ 8 مارس/آذار. سُينَاقشُ منحاها بعد إجازة الصيف وستتبناه مجموعات مختلفة. استُقِبلت الدعوة لأممية نسوية بحماس في اللقاءات النسوية الأممية التي نظِّمَت نيسان/أبريل الماضي في جنيف، بتنظيم تضامن (solidaritéS)، التي ساهمت فيها سارا فارس وتثي بتاتشاريا مساهمةً قيمة. في الشهور التالية، مع حملة انتخابات البرلمان الفيدرالي السويسري، سنضع مطالب البيان على الطاولة، ونقدمها لكل الأحزاب المرشحة. مستقبل الحركة النسوية الجديدة يحملُ آمالًا مهولة، فها هو اليوم في مقدمة القتال ضد الاستغلال الرأسمالي المستفحل، وضد تداعياته على مجال إعادة الإنتاج، وضد صعود أبويةٍ عنصرية عرقية صريحة. يعتمد التعبير الأممي الواعي لهذه الحركة النسوية اليوم اعتمادًا كبيرًا على جناحها الأكثر جذرية. ولهذا السبب، مسؤوليتنا ليست بصغيرة.


الملاحظات:

[1]  أنظر المقالة في «Les Échos» بتاريخ 16 نيسان/أبريل 2018.


يندرج هذا المنشور ضمن: نحو الأممية النسوية.

Skip to content