من إضراب النساء إلى الأممية النسوية: في النضال نتّحد – أصواتٌ من بولندا


Facebook


Twitter


Telegram

Share on facebook
Share on twitter
Share on email
Share on whatsapp
Share on telegram
Share on pocket

«لا تهلع، نَظِّم!» إضراب الطلاب في كلية لندن الجامعية (2009)

في عالمنا المعاصر، تؤخذ المساواة الجندرية كمسلّمة خطابيًا، بينما تُعارَض فعليًا وبشراسة. لا تختلف بولندا عن بقية البلدان من هذه الناحية. حصلت النساء البولنديات على حق التصويت مبكرًا نسبيًا (في 1918م) وأنتجت فترة اشتراكية الدولة (1945-1989م) نقلاتٍ إيجابية، مثل: ارتفاع مستوى تعليم النساء، وإدماج النساء في سوق العمل، وضمان الحقوق الإنجابية الأساسية، بما في ذلك تقنين الإجهاض عام 1956م. لكن التفاوتات الجندرية استمرّت وجوهر العقد الجندري الأبوي لم يُحفَظ فقط، بل أُنعِشَ بعد 1989م. في بولندا المعاصرة، تتبع وظائف النساء ومدخولهن التقسيم النمطي للعمل: ما نزال مسؤولات عن الجزء الأكبر من العمل المنزلي غير المأجور، وتربية الأطفال، والأشغال العاطفية. على الرغم من تمتّع النساء الحِرفيات من الطبقة الوسطى بمكانة قوية جدًا مقارنةً مع بقية أوروبا (مثلًا، فروق الأجر منخفضة نسبيًا، وهي الأقل في الاتحاد الأوروبي)، وإدارة النساء المؤسساتِ الثقافية الكبرى، واقترابنا للتساوي في نسبة الذكور للإناث ضمن طواقم الجامعات، بل وحتى في نسبة المرشّحين والمرشّحات لانتخابات البرلمان الأوروبي عام 2019م، إلخ، فما نزال بحاجة للصراع لأجل الحقوق الإنجابية الأساسية. صبَّ تركيزُ حركة النساء في العقود الأخيرة على القيود المفروضة على الإجهاض (إذ منذ 1993م، قُيّدَ الإجهاض حتى لم يعد قانونيًا إلا في حالات الاغتصاب، أو الخطر على حياة الأم، أو التشوه الشديد لدى الجنين) وموانع الحمل الحديثة، ومعها انعدام التعليم الجنسي في المدارس. بينما انعدام الحقوق الإنجابية يؤثر على كل النساء، فهنالك إدراك متنامي بأن وقع الهجمات على الاستقلال الجسدي أكبر على النساء من المناطق الريفية ومن المعسورات اقتصاديًا. وذلك لا يفضي إلى أهمية الجندر فقط، بل والطبقة والجنسانية والإثنية والقدرة الجسدية أيضًا، وقد انطلقت حركة النساء البولندية تجاه طرقٍ جديدة لِبِناء مطالبها وهوياتها. كما سنبيّن أدناه، تبدو حركة النساء المعاصرة في بولندا، في تنوّعها وتجاوزها للحدود المرسومة بين أشكال التنظيم الرسمية وغير الرسمية، بين الحيزين السياسي والخاص، قد اعتنقت مثال العبور الكوني الذي تتسم به عديدٌ من الحركات النسوية الاستقلالية المحلية.[1]

بعد 1989م، وُجِّهَ النشاط النسوي، في بولندا مثل غيرها من البلدان الما-بعد-اشتراكية، إلى المنظمات غير الحكومية (إن. جي. أوز.)، المدعومة بادئًا من الجهات المانحة الغربية ومن ثم صناديق الاتحاد الأوروبي. في الأدبيات حول حركات النساء، يكثر تصوير النسوية الشرق الأوروبية كنسوية – هي خصّيصًا – عرضة للاستحواذ النيوليبرالي، وعرضة لعملية الأنجأة1الأنجأة (NGOization): تشير إلى احتواء واستيعاب النشاطات الاجتماعية وتقويضها بحصرها في المنظمات غير الحكومية. وترسم صورة ضعفٍ مزعوم لحركة النساء المحلية، ومعها الصلة الوثيقة بين مشروع التحوّل الديموقراطي ونموذج السوق الحرة الاقتصادي.[2] من الصحيح بالطبع أن تحول ما بعد 1989م وعملية الأَرْبَوَة2الأربوة (Europeanization): تعني في هذا السياق الإدماج في منظومة الاتحاد الأوروبي. فضّلَت مسائل تشريعات مناهضة العنصرية في سوق العمل، بما يتوافق والحوكمة النيوليبرالية، لكن حركات النساء لم تُجمِع على منح الأولوية للتعاون مع الدولة والسوق. فقد قامت العديد من المجموعات المحلية والباحثات النسويات والشبكات المعارِضة للنيويبرالية بترويج الانتقادات النسوية للرأسمالية المتأخرة، وتنظيم المعارضة لتقليص مصروفات الرفاه، وتكوين التحالفات مع النقابات العمالية والفئات المعسورة اقتصاديًا، مثل النساء العازبات اللاتي تقاتلن للحصول على الرعاية للأطفال.[3]

عند النظر بقرب لهذه الجهود، نجد فيها سمة العبور الكوني الذي تتصف به الحركة النسوية البولندية، إن فُهِمَت – أي: سمة العبور الكوني – بصفتها القدرة على تجاوز التضاد الثنائي بين «الإصلاح» و«الثورة»، لتشكيل روابط بين النسويات المنخرطات في هذه المؤسسات، وأولئك الناشطات في المجموعات الشعبية، لربط عمّال الجامِعات، وعالَم الفن، والنشاط النسوي. بينما في العقد الأول بعد 1989م، كانت الحركة النسوية مشغولة بالتصدي للتمييز في مكان العمل، وتمثيل النساء في المجال السياسي، والعنف المنزلي، والحقوق الإنجابية، فقد دخل التفاوت والمساواة الاقتصادية الأجندةَ النسوية العامة في العقد الأخير. هذه العملية ناتجة عن ثلاث ظاهرات مهمّة: طلوع حركة الأمهات العازبات لأجل صندوق نفقة المطلقات، في 2004م، وَبِدعمٍ من المجموعات النسويات المحلية،[4] وتشكُّل التحالفات بين المنظمات النسوية الاستقلالية والأشخاص المتأثّرات/ين بالطرد من السكن وظروف الحياة المتزعزعة في المدن البولندية الكبرى، وأخيرًا: اندلاع مظاهرات الممرِّضات في 2007م، بدعمٍ من المجموعات النسوية والمثقَّفات النسويات في وارسو.[5] المثال الأخير مثالٌ رمزي لطرق صير العبور الكوني النموذج الأساسي للتنظيم النسوي المعاصر في بولندا. في حزيران/يونيو 2007م، خرج الاتحاد المهني البولندي للممرضات والقابِلات في مظاهرةٍ ضد انخفاض الأجور، وظروف العمل المتهالكة والزعزعة المتعاظمة. شدّت مئات النساء العامِلات في القطاع الصحي الرحال إلى وارسو وأرسين خيامهن، فيما سمّي بـ «القرية البيضاء»، أمام مكتب رئيس الوزراء. استمرّين بمظاهرتهن وسكنَّ الخيام لعدّة أسابيع، بدعمٍ من المجموعات النسوية واليسارية، وعوام الناس الذين قدّمن وقدّموا المأكل والمشرب، داعياتٍ الممرّضات إلى منازلهن للاستحمام ونشر المعلومات حول الإضراب في الإعلامين الاجتماعي والتقليدي.

لكن «القرية البيضاء» لم تفلح إلا بتحقيق زيادة تافهة للأجور، وبقي وضعُ الممرِّضات أليمًا، لكن المظاهرات ساعدت على ربط النساء العامِلات في قطاع العناية، والنسويات القاطنات في المراكز الحضرية ونشطاء سابِقات في حركة «تضامن» (Solidarność)، مما رصف الأسس لتوسيع الأجندة النسوية المعنية بالعمل، والوصول إلى نساءٍ من مختلف الشرائح الاجتماعية، منها الطبقة العاملة. بينما ظلت أغلب المنظمات غير الحكومية للنساء مُرَكِّزةً على الحقوق الإنجابية، والعنف الجندري وسوق العمل، واصلت بعض المجموعات تركيزها على مظالم الرأسمالية المتأخرة و«ديموقراطية السوق الحرة». مثالٌ على ذلك هو تحالف 8 آذار/مارس النسائي، الذي نشأ في 2001م في مظاهراتٍ ضد السياسات المقيِّدة للإجهاض، وبحلول منتصف العقد ركّز التحالف غالبًا على الظلم الاجتماعي.[6] شرع التحالف بتنظيم أكبر المسيرات النسوية، تعقد كل عام يوم 8 آذار/مارس، بشعاراتٍ لم تَزِد معاداتها للرأسمالية إلّا شدّة، وبتعاون مع نساء الطبقة العاملة النقابيات. في عامي 2005م و2010م ركّزَت المسيرات بوضوح على الأزمة الاقتصادية والعمالية، وحضرت المسيرة نقابيّاتٌ ونقابيّون من الاتحادات المهنية للمعلّمات/ين والممرضات/ين وعمّال الأسواق الغذائية. لم تصبح الحركة النسوية وقتها حركة جماهيرية، لكنها انفتحت كمنصّة لمختلف أشكال النقد ومختلف الأصوات.

لكن الوضع تغير عام 2016م، حين قدّمت المنظَّمات المحافِظة المتطرفة مقترحًا لقانون الجنسية، تضمن فقرةً تحرّم الإجهاض تحريمًا تامًا في البلاد. الحصول القانوني على الإجهاض محدودٌ جدًا أصلًا، والعدد الرسمي لعمليات الإجهاض المنفذة قانونيًا في بولندا شديد الانخفاض (حوالي 200-600 حالة سنوية، في بلدٍ تعداد سكّانه 38 مليون نسمة، وذلك رقمٌ مستحيل)، وتقدّر المنظمات النسوية وجود 100 ألف حالة إجهاض غير قانونية سنويًا. بعد تقديم القانون المقترح رسميًا في الإعلام، بدأت النساء والرجال بالتنظيم وبناء الشبكات لمعارضة المقترح.[7] من البداية، في 1 نيسان/أبريل، انضمّت 100 ألف امرأة وحليف إلى مجموعة على منصات التواصل الاجتماعي، لتنسيق مقاومة هذا القانون القمعي، وتشكّلت مجموعات محلية (المجموعة الأساسية، البنات للبنات، ما تزال أحد الأدوات الرئيسة لمناقشة هذه القضية وتنظيم المظاهرات). كثَّفت المنظمات والشبكات النسوية القائمة نشاطاتها، وفي البداية تشكّل ائتلاف لنستعد خيارنا!، وسرعان ما جهَّزت عدة مجموعات قانونًا بديلًا، يفك قيود قانون الإجهاض القائم. تلقى مقترح قانون أنقذوا النساء!  240 ألف توقيع، وفي أيلول/سبتمبر سُلِّمَ للبرلمان.

أتت موجة المظاهرات في نيسان/أبريل 2016م، مع إقامة حوالي 50 فعالية في قرى ومدن صغيرة وكبيرة، في كل أرجاء بولندا، وفي المدن التي تقطنها جاليات بولندية كبيرة خارجًا. وفي أيلول/سبتمبر، نوقِش المقترحان في البرلمان البولندي، الذي قرر رفض قانون أنقذوا النساء! ومواصلة نقاش تحريم الإجهاض. استجابَ الشعب البولندي بتعبئة جماهيرية حاشدة، وانبثق عن تلك التعبئة إضراب النساء البولندي، شبكةٌ غير رسمية أغلب عضواتها نساءٌ جديدات على النشاط السياسي. في 3 تشرين الأول/أكتوبر للعام نفسه، عُقِد إضرابُ النساء، حيث نزلت 150 ألف امرأة إلى الشوارع في قرابة 100 مدينة وقرية، داخل بولندا وخارجها.[8] أدّت المظاهرات، المسمّاة بمظاهرات الإثنين الأسود، إلى نقلة نوعية في الخطاب العام، فإلى جانب السردية الليبرالية المُركِّزة على الاختيار، دخلت مسألة الظلم والعدالة الاقتصاديين الجدال العام، مبيّنةً كون تحريم الإجهاض أداةٌ لقمع النساء الفقيرات ونساء الطبقة العاملة أساسًا. في المجتمعات الحديثة المتأخرة، لدى نساء الطبقة الوسطى سبلٌ عدة لتجنب القيود على العناية الإنجابية، وبالتالي يحمل منع الإجهاض آثارًا مباشرة على القطاعات الأفقر للمجتمع، وبذلك يصبح أداةً رأسمالية أخرى لنشر الظلم واللا مساواة.

استلهامًا من إضراب النساء الوطني في آيسلندا لعام 1975م، شجّع الإضراب البولندي النساء في بلدان الأخرى، وفي تشرين الأول/أكتوبر للعام نفسه، عَقَدت نساءٌ من كوريا الجنوبية مظاهراتٍ في سيول احتجاجًا على قوانين الإجهاض التقييدية في بلادهن تحت شعار «المظاهرات السوداء». نزلت نشطاء من إيطاليا والمكسيك والأرجنتين في مظاهراتٍ جماهيرية في الوقت نفسه، مركِّزاتٍ غالبًا على محاربة العنف ضد النساء وقتل النساء. في استجابةٍ لتحدّيات مختلفة، صعدت الموجة النسوية أمميًا. بدأت النسويّات من أكثر من 50 بلدًا بالتعاون، وفي 8 آذار/مارس 2017م، عُقِدَ إضراب النساء الأممي الأول فيما لا يقل عن 50 بلدًا من أرجاء العالم، بما فيها بعض مدن بولندا.

ما هي تداعيات المظاهرات على مستقبل النسوية في بولندا؟ اليوم، هنالك بالتأكيد عددٌ أكثر بكثير من نساء الطبقة العاملة المنضمّات للحركة والمنضويات تحت المطالب النسوية، لكن مسألة ما إذا كانت التشكيلة الطبقية للحركة قد تغيرت ما تزال مفتوحة. القدرة التعبوية للحركة ازدادت: تظاهرت العديد من المجموعات والمنظمات النسوية في 8 آذار/مارس 2018 و2019م، وعقدنا مظاهرة ضخمة في 23 آذار/مارس 2018م بعد اقتراح قانون جديد ضد الإجهاض في البرلمان، قوامها 90 ألف امرأة وحليف في وارسو، وخرجت معها مظاهرات صغيرة داخل البلاد وخارجها. انضمت العديد من النساء من القرى الصغيرة إلى الحركة النسوية، وهنالك تزايد بالاهتمام بالقضايا الاقتصادية والسياسية، وبالبعد الاقتصادي للحقوق الإنجابية. مع ذلك، ما تزال السردية الليبرالية الفردانية، سردية الاختيار والحقوق الفردية، هي السردية المهيمنة. ورغم اختيار الإضراب في 2016م كالتكتيك الرئيس، فعندما أضرب الأساتذة البولنديّات والبولنديين ضد قانون الأجور في عام 2019م، لم يتلقّين أي دعم على مستوى واسع يذكر.

نجحت المظاهرات النسائية الأخيرة، بالتأكيد، في إيقاف تحريم الإجهاض، وفي تغيير عموم آراء الشعب البولندي: وفق إحصاءات 2016م، 37% من المجيبين فقط قالوا إن القيود الحالية يجب تخفيفها، وفي 2019م، لم تزدد النسبة فقط، بل إن أكثر من 50% قالوا إن الإجهاض يجب توفيره «عند الطلب». ولأن هذا كان الانتصار الوحيد الواضح للمقاومة الشعبية ضد الحكومة الحالية، من البداهة أنه حمل وقعًا ضخم على وضع النساء في البلاد، واضعًا حدًا للمقولات بأن النساء لسن لاعبًا سياسيًا مهمًّا. قَوَّت ضخامة التعبئة وأعلَت أصوات النساء في النقاش الاجتماعي: إنْ عُقِدَ منتدى دون متحدِّثات، يقابَل بالاستهزاء العلني، وانتشرت نشاطات حملة #أنا_أيضًا، وَوصلت نسبة النساء من المرشّحين للبرلمان الأوروبي إلى 47% (بينما تقف في ألمانيا، مثلًا، عند 35%)، وازدادت نسبة النساء من القيادات العامة والمعلّقين والمثقّفين العامّين. لكن التمييز ضد النساء في مكان العمل، وفي الرعاية الصحية، لم يتوقف، وما تزال اللامساواة المهولة في العمل المنزلي قائمة، وما زالت 30% من النساء البولنديات تتعرضن للعنف الأسري على الصعيد اليومي.

أما بالنسبة للتعاون المحتمل مع النقابات، فالوحيدة التي دعمت إضراب النساء والأجندة النسوية دعمًا غير مشروط كانت نقابة مبادرة العمّال (Inicjatywa Pracownicza)، وهي نقابة شعبية جذرية تقاتل لأجل حقوق العمال في أماكن مثل أمازون، وقطاع اللوجستيات، والجامعات، ودير الحضانة، وفي القطاع الثقافي. والنقابات الأخرى، مثل الاتحاد البولندي للنقابات المهنية، وهي نقابة ما-بعد-اشتراكية مرتبطة بالقطاع العام، فقد أيّدت مظاهرات النساء، لكنّها لم تأخذ زمام المبادرة في هذا المجال. أمّا نقابة «تضامن» اليوم، فتعمل ضد العمّال أحيانًا، وضد النساء دائمًا، داعمةً الحكومة الحالية وسياستها بانتهازية ضد الإجهاض. نظرًا لِحَوم عضوية النقابات في بولندا حول 12-14% من الموظِّفات والموظَّفين، فالنقابات المهنية ضعيفة نسبيًا، لكن عدم الاهتمام بالتحالف مع حركة النساء دليلٌ على الانقسامات التي تتخلل النضال لأجل التضامن والمساواة.

تشكيل التحالفات، والعمل معًا، والقتال معًا لم يكن يومًا أمرًا سهلًا. لكننا نعتقد، كما عبّرنا في العديد من النصوص والكتب والمقالات والنقاشات العلنية، أنّ هنالك حاجةً لأممية نسوية. اليوم، النسوية هي أصلًا أهم قوّة سياسية مناهضة للفاشية، في بولندا وبقية أرجاء العالم. بسبب اتّصافها بالعبور الكوني، وقدرتها (بل وحاجتها!) لعبور الحدود وتجاوز التضاد الثنائي، إن النسوية قوّةٌ قد تأتي بتغيير اجتماعي عابر للأجيال والتحالفات السياسية الطبقات والإثنيات ومختلف أشكال التنظيم. تمرُّ المنظورات النسائية والنسخ المتعددة للنسوية، في بولندا، بمرحلة انتشارٍ وذيوع في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الكتب (الشعبية والأكاديمية)، والأهم من ذلك كله، في الحديث اليومي واللقاءات اليومية. تحاول النساء البولنديات تشكيل مجموعاتٍ وتحالفات جديدة، مع نقابات العمّال وغيرها من الحركات، والأحزاب السياسية اليسارية (وهنالك الآن حزبان سياسيان فقط يدافعان علنًا عن المنظور النسوي، هما حزبا الربيع واليسار). شعبية دراسات الجندر اليوم في تزايد، ويزداد معها عدد المجموعات والمبادرات والمنظمات النسوية.[9]

يمكن للحركة النسوية أن تصبح مؤثرة في الحركة العمالية، ولها أصلًا أثرٌ فيها، بالمطالبة بالمساواة الجندرية والتقسيم المتساوي للعناية والعمل العاطفي في العمل والمنزل، وبنقد التفكيك النيوليبرالي لدولة الرعاية الاجتماعية والمسؤوليات الشركاتية المتعلقة بحقوق العمال والمواطنين، وبالمطالبة بإنهاء العنف الاقتصادي الرأسمالي وبالمحاربة لأجل الحقوق الاجتماعية للجميع، ضد الشعبوية المحافِظة.[10] يغيّر أثرُ الحركة النسوية النقاشات العامة والإعلامية، مما لا يؤدي فقط لظهور نساءٍ أكثر في النقاش الاجتماعي، بل وبتمثيلٍ مختلف للنساء والمواضيع المرتبطة تقليديًا بالأنوثة، مثل العمل المنزلي، والعمل العاطفي، وإعادة الإنتاج. تفهم النساء أنفسهن كـ «مُضطَّهَدات»، لكن التحليل الطبقي ليس حاضرًا إلا في أجزاء بسيطة من الحركة النسوية، غالبًا في الدوائر الأكاديمية والمجموعات الجذرية الشعبية، وبدرجة أقل في النقابات المهنية.

«الأممية النسوية» هي حقيقةٌ معاشة في الحركة النسوية البولندية، وقد كانت كذلك لفترة طويلة. فها نحن نساهم في مجموعاتنا ونشاطاتنا النسوية الأممية، وفي النقابات العمالية، وفي المنظمات الشعبية، وفي الأحزاب السياسية وتحالفاتها على المستوى الأوروبي، وفي مبادراتٍ مثل إضراب النساء الأممي.[11] لربما تكون الأمميةُ النسويةُ الأمميةَ الأكبرَ والأهم اليوم في قبال أممية هي الأخرى في طور التشكيل، أمميةُ المجموعات الفاشية، مما يدفعنا للإصرار على المقاومة. والأهم من ذلك أن هذا التلاقي الحالي بين الأزمة النيوليبرالية من جهة وصعود القوى القومية المحافِظة المتطرفة من جهة أخرى يستلزم تعاونًا أقرب، لتبادل الخبرات والعمل على الاستراتيجيات المشتركة بين القوى التقدمية.[12] للعقدين الماضيين، اقتصر ذِكرُ بولندا على الحديث عنها كبلدٍ أوروبي هامشي ميؤوس منه، بمنظومة شديدة الأبوية، وقوانين مقيّدة للإجهاض واستمرارٍ لهيمنة الكنيسة الكاثوليكية. في سياق صعود اليمين المتطرف والحركات المحافِظة المتطرفة في أرجاء العالم، هنالك إدراكٌ متزايد الآن بعدم استثنائية بولندا، وبأننا بحاجة للعمل معًا لأجل المستقبل الذي طال ما تمنيناه.


ملاحظات:

[1] Nira Yuval-Davis “What is ‘transversal politics’?,” Soundings 12 (Summer 1999): 94-98.

[2] على سبيل المثال، أنظر:

 Kristen Ghodsee, “Feminism-by-Design: Emerging Capitalisms, Cultural Feminism, and Women´s Nongovernmental Organizations in Postsocialist Eastern Europe,” Signs: Journal for Women in Culture and Society 29, no. 3 (Spring 2004); 727–753 or Ewa Charkiewicz and Anna Zachorowska Mazurkiewicz, Anna (ed.), Gender i ekonomia opieki (Gender and Economy of Care), (Warsaw: Biblioteka Think Tanku Feministycznego, 2009).

[3] للاستزادة حول النسوية والنيوليبرالية في أوروبا الشرقية والوسطى، أنظر مجموعة المقالات:

Eszter Kováts (ed.) Solidarity in Struggle: Feminist Perspectives on Neoliberalism in East-Central Europe (Budapest: Friedrich-Ebert-Stiftung, 2016).

[4] حول مظاهرات الأمهات العازبات، أنظر مثلًا التحليل في:

Iza Desperak (ed.) Homofobia, mizoginia i ciemnogród? Burzliwe losy kontrowersyjnych ustaw (Homophobia, misogyny, and backwardness: Controversial regulations in Poland) (Łódź: Omega Praxis and Hryciuk, 2008); Renata and Elżbieta Korolczuk, “At the intersection of gender and class: social mobilization around mothers’ rights in Poland,” in Beyond NGO-ization: The Development of Social Movements in Central and Eastern Europe, ed. Kerstin Jacobsson and Steven Saxonberg (London: Ashgate Press, 2013): 49–70.

[5] حللت مظاهرات الممرضات بتفصيل في:

Julia Kubisa, Bunt białych czepków. Analiza działalności związkowej pielęgniarek i położnych (White Caps Rebellion: Analysis of the activities of the nurses and midwives’ union) (Warsaw: Scholar, 2014).

[6] للاستزادة حول تاريخ ونشاط التحالف، أنظر:

Elzbieta Korolczuk, “Neoliberalism and feminist organizing: from ‘NGO-ization of resistance’ to resistance against neoliberalism,” in Solidarity in Struggle. Feminist Perspectives on Neoliberalism in East-Central Europe, 32–41.

[7] لتحليلٍ أكثر تفصيلًا عن التعبئة والعوامل وراء المساهمة الجماهيرية في الإضراب البولندي، أنظر:

Elżbieta Korolczuk, “Explaining mass protests against abortion ban in Poland: the power of connective action,” Zoon Politikon 7 (2016): 91–113.

[8] لقراءة المزيد حول إضراب النساء البولندي، أنظر:

Bunt kobiet. Czrane Protesty i Strajki Kobiet (Women’s Rebellion: Black Protests and Women’s Strikes) and the special issue of Praktyka Teoretyczna; Ewa Majewska, “When Polish Women Revolted,” Jacobin Magazine, March 8, 2018; Julia Kubiska, “We Will Not Fold Our Umbrellas!,” Obieg 3 (2017).

[9]  أنظر المقالة القصيرة حول حزب اليسار:

Antje Majewski, Ewa Majewska, and Karolina Majewska, “Three Women Under the Roof of Razem,” Obieg 3 (2017).

[10] حول النسوية والنقابات في بولندا، أنظر:

On feminism and unions in Poland, see “Migrating Tactics: An Interview with Ewa Majewska and Katarzyna Rakowska,” conducted by Marianne Kaletzky and Ramsey McGlazer, Critical Times 1, no. 1 (2018): 226–40.

[11] للاستزادة حول الأممية النسوية، أنظر:

Ewa Majewska, “The Weak Internationalism? Women’s Protests in Poland and Internationally, Art and Law,” L’internationaleOnline, May 9, 2018.

[12] لنقاش مطول حول صعود التعبئة المعادية للجندر في أوروبا، أنظر مثلًا:

Korolczuk, Elżbieta. 2015. “The War on Gender’ from a Transnational Perspective – Lessons for Feminist Strategising,” in Anti-Gender Movements on the Rise? Strategising for Gender Equality in Central and Eastern Europe (Berlin: Heinrich Böll Foundation, 2015), 43–53.


يندرج هذا المنشور ضمن: نحو الأممية النسوية.

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
Share on pocket








Skip to content