السجناء السياسيون والسياسيات، والسجون، وتحرُّر السود (1971)

مقدِّمة المترجِم:

هذا النص عن السجناء السياسيين والسياسيّات وعن السجون يتميّز عن غيره من النصوص بكون كاتِبتِه كَتبَته أثناء سجنها في فترة احتدام حراكٍ ثوري.

اعتقلَ مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) أنجيلا ديفيس وعمرها 26 عامًا على خلفية تُهم ملفّقة بالقتل المتعمد من الدرجة الأولى والاختطاف المتعمد، وكانت في أعلى قائمة المطلوبين لعدة أشهر قبل اعتقالها. وسببُ اعتقالها، كما أشير في مقدمة الكتاب الذي أُخِذ منه هذا النص، «يعزّى إلى التزامها الدؤوب بالدفاع عن إخوة سوليداد وغيرهم من السجناء السياسيين، ومساعيها لفضح نظام السجون، وهي تتلقى سخطًا خاصًّا من الزمر الحاكِمة لكونها امرأة سوداء، ومثقفة راديكالية، وشيوعية».

مباشرةً بعد اعتقالها، حشّدت تنظيمات السود الاجتماعية والسياسية قواها دعمًا لأنجيلا ديفيس إلى جانب التنظيمات اليسارية والعمّالية والدينية وحركة مناهضة الحروب والحركة النسوية، وفي فترةِ صعود الحركات التحررية في كافة أرجاء المعمورة، تلقت دعمًا تضامنيًّا من أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، ومن البلدان الاشتراكية، حيث أشارت أنجيلا ديفيس مؤخرًا إلى أن الدعم الفلسطيني الذي تلقّتهُ كان منهلَ قوّة وشجاعةٍ لها، وصدرت عدة بيانات من شخصيات ومنظمات داعمة لها، جُمِعت بعضها في كتاب «If They Come in the Morning» الذي أخذنا منه هذا النص. استمرت المحاكمة لثلاثة شهور، وانتهت بالحكم عليها بالبراءة، لكن ما حالفها من «حظ» إن جازت تسميته كذلك لم يحالف رفاقها الذين اغتيلوا إما في السجن أو خارجه.

كانت أنجيلا ديفيس وما زالت حراكيّةً ثوريّة نسوية سوداء شيوعية لفكرها وَطرحِها وَنشاطِها الأثر البالغ في الحراك التحرّري والإرث التحرّري الأسود في الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، وهي تعدّ اليوم رمزًا حيًّا من رموز الحراك التحرّري الأسود وصورتها مقترنةٌ بهذا الحراك وتاريخه، لكنَّ الترميز عادةً ما يجاوره اختزالٌ للشخص نفسها وتجاوزٌ لها وأفكارها وأطروحاتها، وإنْ كنّا نودّ محاربة هذه الاختزالات، فالقصد من تعريب هذا النص ليس ردّ الاعتبار لها، فهي حيّة، نشِطة، وناشطةٌ ثوريّة لا تحتاجُ أن نردّ نحن لها الاعتبار، بقدر ما نحتاجُ نحن للتعلم مما طرحته هي وغيرها من حراكيّات وحراكيّي مختلف الحركات الثورية والتحرّرية، سواءً النسوية و/أو المحاربة للاستعمار والعنصرية و/أو الرأسمالية.

وأثناء قراءة هذا النص – وأي نص تاريخي نظري سياسي – علينا ألّا نبخس الحراك الثوري الأوسع الذي أفاد هذه الأفكار التي استندت على خبرات الحركة واستمدّت منها روحَها ومقاصِدها، فالحركات الثورية والتحرّرية عادةً ما تكشفُ جوانبَ مُعتَّم عليها في المجتمع، وتدفع الناس إلى مساءلَةِ ما كان بالأمسِ مُسلَّمًا به، فإنْ تملَّكَ الحراك الثقة الكافية والشجاعة الكافية قد يبحث أفرادُه في حلولٍ جديدة وَخلّاقَة للمشاكل الموجودة، بدل الرضى بالارتهان بما هو شائع ومهيمِن، وهذه هي فحوى تاريخ الأطروحات الفلسفية والنظرية والسياسية، المستحيل فهمها على نحوٍ لائق خارج سياقاتها والإشكالات التي تهدف لإيجاد أجوبتها، أو للدقة، ابتداعها.

في هذا النص، تسلّط أنجيلا ديفيس الضوء في هذا النص على اختزالِ الطبقات الحاكِمة وأجهزتها السياسية الفعلَ السياسي الثوري والتحرّري في الفعل الإجرامي، وعلى مشكلة أوسع من ذلك، مشكلةُ عموم السجناء المغيَّبين والمُغيَّبات، ذوي وذوات الأسماء المنسيّة والمعاناة المُتجاهَلة، ومِن تجربتها وتجربة رفاقها في السجن وفي مُجتمعَات السود المُوصَومة بالإجرام تستمدّ نقدها للمنظومة القضائية-الجزائية ونظام السجون وفرض القانون بصفتها منظومةً قمعيّة دومًا يندر أن تُنصِف المُستضعَفين والمُستضعفَات، وبدل الركون إلى العقيدة القانونية والتسليم بأن القانون وقوّته – أي شِدة القمع – هي الحل، تتحدث أنجيلا ديفيس عن ضرورةِ إلغائه لصالح سُبُل علاجٍ اجتماع تفيد حقًّا في تناول مشاكل المجتمع وحلّها، وتُنصِف المُستضعَفين والمُستضعَفات، بدل المنظومة القائمة الآن التي تغيّب الأفراد وراء جدران السجون وَتُعالج القمع السياسي والاستغلال الاقتصادي وآثارِهما بالقمع والاستغلال الأشد.

ملاحظة أخيرة، سنرى في هذا النص استخدام عبارات مثل «الشعوب المُضطهَدة قوميًّا» و«الجماعات المضطهَدة قوميًّا» و«الشعوب العالمثالثية»، وهذه العبارات ناتجة عن منظورٍ معيّن انتشر في أوساط الحركات التحرّرية في تلك الفترة بأن السّود والتشيكانو وغيرها من الجماعات هي شعوبٌ وجماعاتٌ قوميّة، ومضطهَدة قوميًّا، تعيش تحت وطأة الاستعمار الأورو-أمريكي.

بداية النص

على الرغم من التاريخ الطويل الأمد للمناشدات المبجلة للحقِّ الكوني للإنسان في المقاومة، نَدُر أن حصل توافق على كيفية التصدّي العملية للقوانين الظالمة اللاأخلاقية ولما تنبع عنه من نظامٍ اجتماعي اضطهادي. فالمُحافِظ الذي لا يشكّك بِمشروعية الثورات العريقة يُنْذِر الناس بفوضى محدقة لكي يشرعن أمْرَهُ إيّانا بِالانصياع المطلق، بشعارِ حكم القانون والنظام، مع تشديدٍ على النظام، وفي مقابِله يعبّر الليبراليّ عن إحساسه ببعضٍ من مآسي الحياةِ اليومية، لكنه لن يقدّم يومًا وسائلَ مقاومةٍ تتجاوز حدود القانون، فالإصلاح عبر القنوات الانتخابية هو الترياق الليبرالي.

في خضم سعينا، نحن السود، لأجل حقوقنا الإنسانية الأساسية، توالت علينا التوصيات بالصبر، وَنُصِحنا بأنَّ اللحظة الجليلة، لحظةُ الإقرار بنا ككائناتٍ كاملة البشرية، لحظةٌ آتية لا محالة، يومًا ما، ما دمنا مُخلصين ومُخلصاتٍ للنظام الديموقراطي القائم.

لكننا تعلمنا من تجربتنا المريرة، وأمسينا نعرف التنافرَ الصارخ بين الديموقراطية والاقتصاد الرأسمالي الذي هو مصدرُ آلامِنا، ومهما تكرر الكلام بعكسِ ذلك، فالشعب ليس المصدر الأخير للقوانين والأنظمة التي تحكمها – وَبالتأكيد لا يشتمل هذا «الشعب» على السّود ولا على غيرنا من الشعوب المُضطَهَدَة قوميًّا، ولا حتى جماهير البِيْض. لا يمارسُ الشعب التحكم الحاسم على العوامل المحدِّدَة لحياته.

والتأكيدات الرسمية بأن المعارَضَة الجادة مرحّب بها دائمًا، شريطةَ أن تنكفئ في إطار القانون وتتقيد به، لهي غالبًا ستارٌ دخاني يخفي الدعوة للإذعان للاضطهاد، فيُقال إنَّ العبودية لربما كانت جائرة، ولربما كان النص الدستوري المشرِّع لاستعبادِ السود ظَالِمًا، لكن الظروف لا يمكن اعتبارها لا تطاق إلى الدرجة التي تبرر الهرب وغيرها من الأفعال المحرمة قانونيًّا – خصوصًا لأنها كانت مُربِحةً لِزُمرة صغيرة. هذه التأكيداتُ الجديدة ليست إلّا استيرادًا لقوانين العبيد الهاربين.

من نافلة القول إنَّ تاريخ الولايات المتحدة مشوبٌ منذ ولادته بكمٍّ مهول من القوانين الظالِمة، وكثرة كثيرةٌ منها هدفت صراحةً لاضطهاد السود، ولطالما كانت القوانين – بصفتها انعكاساتٍ معيَّنة للتفاوتات الاجتماعية القائمة – شاهدةً على المركز الاستغلالية والعنصرية للمجتمع نفسه. وبالنسبة إلى السود والتشيكانو وكل الشعوب المضطهَدَة قوميًّا، كان لإشكالية معارضة القوانين الظالمة والظروف الاجتماعية التي تغذّي نموّ هذه القوانين تداعياتٌ عملية مباشرة، فلطالما كان بقاؤنا بحد ذاته مقترنٌ مباشرًا بِمهارتنا في صياغة قنواتٍ فعّالة للمقاومة، وفي المقاومة اضطررنا أحيانًا للمخالفة الصريحة للقوانين التي تدعم اضطهادنا على نحوٍ مباشر أو غير مباشر. لكننا رُميْنا بتهمة الإجرام حتى في الأوقات التي احتوينا فيها مقاومتنا في فَلك القانون واضطهَدَنا الجهازُ العنصري اضطهادًا مُمَنهجًا.

وتحت ظروف العبودية القاسية، وفّرت السكة السرّية إطارًا للنشاط المناهض للعبودية خارجًا عن القانون عمل فيه عدد واسع من الناس، سودٌ وَبِيْض، ونشاطُها شكَّلَ مخالفةً صريحة لقوانين العبيد الهاربين، وَمَن قُبِضَ عليهم أُنْزِلَت عليهم عقوباتٌ قاسية. ومن بين أعداد لا تحصى من المحاولات المُدوَّنَة لإنقاذ العبيد الهاربين من قبضة صائدي العبيد تَبرزُ حالة أنطوني برنز، وهو عبدٌ من فيرجينيا قُبِضَ عليه في بوسطن في 1853. دخل فريقٌ من مناصريه، أثناء محاولتهم إنقاذه بالقوة أثناء مجرى محاكمته، في معركةٍ شرسة مع الشرطة في المحكمة، وأثناءَ تبادُل إطلاق النار أصيب الإلغائيُّ البارز توماس وينتوورث هيغينسون، وعلى الرغم من فشل مساعي المُنقِذين، فإن وَقْع هذه الحادثة «. . . كان له الأثر البالغ على بلورة آراءِ الشمال الأمريكي ضد العبودية أكثر من أي حادثة أخرى، ما دون أنشطة جون براون، «وكانت هذه آخر مرة أُخِذ فيها عبدٌ هارب إلى بوسطن، وتطلّب الأمر 22 سَريّة من سرايا ميليشيا الولاية، وأربعة فصائل من جنود البحرية، وكتيبة مدفعية من الجيش، وقوّات الشرطة في المدينة نفسها . . . لضمانِ تنفيذ هذا الفعل المشين، وكانت التكلفة على الحكومة الفيدرالية وحدها أربعين ألف دولار»».[1]

طوال عصر العبودية تكرر أن اكتشف السود، إلى جانب التقدُّميون والتقدُّميات البِيْض، أن الالتزام بقضية مناهضة العبودية استلزم المخالفة الصريحة لقوانين البلاد، وحتى مع تلاشي العبودية لِصالح جهازٍ لإخضاع السود لا يقل خبثًا، وإن كان أخفَت، ما تزال المقاومة «غير القانونية» على الأجندة، فَبَعد الحرب الأهلية استبدَلَت قوانينُ السود قوانينَ العبودية القديمة، وَشَرعنَت هذه الجديدة استعبادَ السجناء، وحرَّمت التخالُط الاجتماعي بين السّود والبِيْض، وَمَنحت أرباب العمل البِيْضَ صلاحيةً فائقة على التحكم بالحياة الخاصّة للعمّال السود، وَشَرْعَنت قانونيًّا العنصرية والإرهاب عمومًا. فَمِن الطبيعي إذن انتشارُ أعمال المقاومة الفردية والجماعية، وفي العديد من الحالات شكَّل السودُ فِرقًا مسلَّحة لحماية أنفسهم/ن من الإرهابيين البِيْض الذين يحتمون وراء قوى الشرطة، إنْ لم يتماهوا فعلًا معها.

بحلول العقد الثاني للقرن العشرين، صرّحت الحركة الجماهيرية بقيادة ماركوس غارفي في إعلان الحقوق أنَّ على السود ألّا يخشوا عصيان كل القوانين التمييزية، بل وَأَعْلن أنَّ على السود توظيف كافة السبل المتاحة – القانونية وغير القانونية – للدفاع عن أنفسهم/ن في وجه الإرهاب المُقنَّن وعنف الكو كلوكس كلان. وفي عصر النشاطِ المحتدم حول قضايا الحقوق المدنية كان التكتيكُ الرئيس هو العصيان المُمَنهج للقوانين الاضطهادية، فقد كانت الاعتصامات مُخَالفاتٍ مُنظَّمة للتشريعات العنصرية.

تتلاقى كل هذه الأمثلة التاريخية للمخالفة الصريحة لقوانين البلاد عند قاسمٍ مشترك لا لبس فيه: القضية قضيةُ السلامة الجماعية لشعبٍ وَبقائه، والاختلافُ نوعيٌّ وَواضح بين كَسرِ المرء القانونَ لانتفاعِه الفردي وَخَرْقِه لِمصلحةِ طبقةٍ أو شعبٍ اضطهادُه يظهر— مباشرةً أم لامباشرةً – في ذاك القانون المحدد، فَلَربما يسمّى الأول مجرمًا أو مجرمةً (وإن كان في العديد من الحالات ضحيّةً) لكنَّ الثاني، بصفتهِ إصلاحيًّا أو إصلاحيّة أو ثوريًّا أوثوريّةً، هَمُّه التغيير الاجتماعي العام، وحينَ يُعتقَل أو تعتقل، فهو أو هي سجينـ/ـة سياسيـ/ـة.


تجسِّدُ كلمات السجينـ/ـة السياسيـ/ـة أو أفعالهـ/ـا – بشكلٍ أو بآخر – الاحتجاجَ السياسي ضد النظام المهيمِن، مما وَضَعهـ/ـا في صراعٍ حاد مع الدولة، وفي ضوء مضمونِ هذا الفعل، فـ «الجريمة» (سواءً ارتُكِبَت حقًّا أم لم تُرتكَب) ليس لها إلّا أهمية ثانوية. ففي هذه البلاد، حيثُ التصنيفُ الخاص للسجناء السياسيين والسياسيّات لا يتمتّع باعترافٍ رسميٍّ، لا بد من أن تُحَاكَم السجينـ/ـة السياسيـ/ـة على جنحةٍ جنائية، لا فعلٍ سياسي. وفي كثيرٍ من الأحيان ليس لما يُزعَم أنّه جريمة حتى وجودٌ اسمي، فَتُهمة القتل الملفقة عام 1914 على جو هِل، أحد منظّمي عمّال العالم الصناعيين، كانت مُخْتَلقةً بالجملة؛ مجرّد عذرٍ لتكميم فم مناضل ثوريّ عمل ضد الاضطهاد. ولكن أيَّا كانت الحالة، فالسجينـ/ـة السياسيـ/ـة حقًّا تخالف قانونًا غير مكتوبٍ يُحَرِّم دكَّ أركان وضع الاستغلال والعنصرية القائم أو الانتفاضَ ضده. وقد واجه هذا القانون غير المكتوب تحدّيًا، إما بمخالفةٍ صريحةٍ وفعلية لقانونٍ ما أو بِتوظيف قنواتٍ محمية دستوريًّا لتعليم الجماهير عن المقاومة وَحَضّها عليها وتنظيمها لأجلها.

لطالما التبسَ التصدي الرسمي للسجينـ/ـة السياسيـ/ـة، فإن كانت تهمته ومحاكمتُهـ جنائية، فطبيعةُ إدانتِه دائمًا سياسية، ولعل أفضل مثالٍ على هذا الالتباس هو تعليقُ القاضي ويبستر ثاير بعد حُكِمه على بارتولوميو فانزيتي بـ 15 سنة في السجن لمحاولة سرقة صرّاف الرواتب: «لربما لم يرتكب هذه الرجل فعلًا الجريمة المنسوبة إليه، لكنه بالفعل مجرمٌ أخلاقيًّا، لأنّه عدو مؤسساتِنا القائمة».[2] (والمصادَفة أن هذا القاضي نفسه حكم على ساكو وَفانيزي بالموت بتهمةِ جريمة سطو وقتلٍ من الواضح أنهما لم يرتكباها). فليس من المفاجئ إذن أنَّ أبرز محامٍ دستوري في ألمانيا النازية، كارل شميت، قدَّمَ نظريّةً تعمِّمَ هذا الجُرم المسبق، فَاللِّصُ، مثلًا، ليس بالضرورة شخصًا ارتكبَ فعل السرقة نفسه، بل شخصٌ طبعُه طبع لص (wer nach seinem wesen ein Dieb ist)، بل وإنَّ تصريحات نيكسون وجون إدغار هوفر توحي للمرء أنّهما سيقبلان نظرية شميت القانونية الفاشية دون تردد، فأيُّ شخصٍ يسعى لإسقاط مؤسساتٍ اضطهادية، سواءً مارسَ فعلًا غير قانونيٍّ أم لا، هو مجرمٌ مسبقًا يجب تغييبه في إحدى زنزانات أمريكا.

حتى في اعتقالاتِ مارتن لوثر كينغ العديدة لم تكن تُهَمُه تلك التهم الاسمية – التعدي على ممتلكات الغير، أو الإخلال بالأمن، أو إلخ – بل تهمتُه أنّه عدوُّ المجتمع الجنوبي، خصمٌ لدودٌ للعنصرية، وحينَ اتُّهِمَ روبرت ويليامز بالاختطاف، فَتُهمتُه لم تستطع أبدًا إخفاءَ جنحتِه الحقيقية: مناصرتُه لحقّ السود الذي لا لبس فيه في حمل السلاح للدفاع عن النفس.

جنحةُ السجينـ/ـة السياسيـ/ـة هي جرأتُها السياسية، وتحدّيها الدؤوب – داخل القانونِ أم خارجه – للخطايا الاجتماعية الأساسية التي ترعاها الدولة وتعززها، فقد عارضت القوانين الظالمة والظروف الاجتماعية الاستغلالية العنصرية عمومًا، وهدفُ السجينـ/ـة النهائي تحويل هذه القوانين وتحويلُ مجتمعِها إلى مجتمعٍ متناغم مع الحاجات المادية والروحية بل ومع مصالح الأغلبيّة الساحقة لأبنائه وبناتِه.

كانَ نات ترنر وَجون براون سجينين سياسيين في زمانهما، والأفعالُ التي اتُّهِموا بها وشُنِقوا على خلفيتها لاحقًا هي الامتدادُ العملي لالتزامهم الأصيل لإلغاء العبودية، وقد حملا بلا خوفٍ أو تردد مسؤولية أعمالهما. ولا تكمنُ دلالةُ إعدامهما، وما صاحبها من قمعٍ على نطاق واسع، في واقع معاقبتهما على جرائم محددة، ولا حتى في الجهود الرامية لاستخدام عقابهما كتهديدٍ ضمني لردع الآخرين عن أفعالِ مقاومةٍ مسلّحة مماثلة، بل هدف إعدامهما وما أحاطه من قمعٍ للمستعبَدين إلى إرهاب الحركة المناهضة للعبودية ككُل، للحد من الأشكال القانونية واللاقانونية للنشاط الإلغائي وتحجيمها. وكالعادة أخطأوا حساب آثار القمع، وفي كلا الحالتين كانت النتيجة اشتعالَ النشاط المناهض للعبودية واحتدامه.

يمكن النظر لِنات ترنر وَجون براون كمثاليْن للسجين السياسي الذي ارتكبَ بالفعل فعلًا تُعرِّفُه الدولة كـ «جريمة»، فقد قَتَلا وحوكِما نتيجةَ ذلك بتهمة القتل المتعمد، لكن هل ارتكبا جريمة القتل حقًّا؟ يبعث ذلك بالسؤال حول ما إذا كان الثوريّون الأمريكيّون، في نضالِهم لأجل التحرير، جريمةَ القتلِ بحق البريطانيين. قتلَ نات ترنر وأتباعُه حوالي 65 أبيض، لكن من المتوارد أنّ نات قال قبل بداية الانتفاضة إلى المستعبَدين المتمرِّدين: «تذكّروا أنّ حربنا ليست حربًا لأجل النهب أو لتلبية رغباتنا، بل هي نضالٌ لأجل الحرية. وَلنا الأفعال، لا الأقوال».[3]

وذاتُ المؤسسات التي أدانت نات ترنر واختزلت نضاله لأجل الحرية في حالةِ جريمة قتل جنائية، مَدينةٌ بِوجودها لقرارٍ سبق إدانةَ ترنر بنصفِ قرن، ألا وهو قرارُ حملِ السلاح ضد الظُّلّام البريطانيين.

وبِالمِثل فليس سبب الاستهانةِ بأهمية الأنشطة المبتغاة لأجل التحرير اليوم هو عجزُ المسؤولين عن رؤيةِ النهضة الجماعية ضد الاضطهاد، بل لأنّهم عازِمون بكامِل وعيهم على هدم هذه الحركات، ففي ربيع 1970 حَملَ فُهود لوس أنجلوس السلاح دفاعًا عن النفس في وجه هجمةٍ ابتدأتها قوّة الشرطة المحلّية على مكتبِهم وأنفسهم، فَاتُّهِموا بارتكابِ هجمةٍ الإجرامية. لو صدّق المرء البروباغندا الرسمية، لرآهم لصوصًا ومارِقين معتلّين يتلذذون بمهاجمة الشرطة، فَلَمْ يُذكَر أنَّ السبب المباشر لصبِّ الشرطة جام غضبِها عليهم هي أنشطتهم الاجتماعية التي شرعنَت وجودهم في أحياء ومجتمعات السود، مثل الأنشطة التعليمية والخدمات كَبرنامَجيْ الفطور المجاني والرعاية الصحية المجانية. وفي دفاع هؤلاء الفهود الإحدى عشر عن أنفسهم في وجه هجمةٍ عِدادُها 600 شرطي، لم يكن دفاعهم دفاعًا عن حياتهم فقط، بل عمّا هو أهمّ من ذلك: منجزاتهم في حاضنتهم الاجتماعية من السود، والاندفاع الحيوي لتحرير السود. وحينما يلجأ السود في نضالهم إلى الدفاع عن النفس، والدفاع المسلّح عن النفس تحديدًا، يُشَوّه الواقع في المستويات الرسمية وَيُصوّرَ في آخر المطاف على أنه مرادفٌ للاعتداءِ الإجرامي. ومن جهة أخرى حين يتلذّذ الشرطة بوضوح بالاعتداءِ الإجرامي، يصّوَرون في الصورة الرسمية بصورة المدافعين عن أنفسهم عبر «هجمة مبرّرة» أو «قتل مبرّر».

لا تنتهي الألعاب البهلوانية الأيديولوجية التي نشهدها في المحاولات الرسمية لتسويغ وجود سجناءٍ سياسيين وسياسيّات ومحو هذا الوجود عند مساواةِ الفعل السياسي الفردي بالفعل الإجرامي الفردي، بل الفعل السياسي يُعَرَّف بصفته إجراميًّا لِتشويه سمعةِ الحركات الراديكالية والثورية، وتُحَطُّ الحادثة السياسية بذلك إلى مستوى الحادثة الإجرامية للتأكيد على الحصانةِ المطلقة للنظام القائم. ففي تناقضٍ فاضح رفضَت المحكمة وصفَ محاكمةِ مجموعة الواحد وعشرين فهدًا النيويوركيين بالمحاكمة «السياسية»، في حين قدَّم الادعاء أدبيّاتٍ تمثّل – حسب ادّعائه – الأيديولوجية السياسية لحزب الفهود السود كأدلّة على النوايا الإجرامية للحزب.

يعرِّف الجهاز القانوني المقاتِل التحرري الأسود والمقاتلة التحررية السوداء كمُجرم ومجرمة، مما يدفع نيكسون وأغنيو وَريغان وشركاهم لمواصلة التعتيمِ الذهني بغوغائيّة على الملايين من الأمريكيين والأمريكيّات الذين بَّلدَت حواسَهم ونُخِرَت قِواهم النقدية بالهجوم المستديم من الأيديولوجية العنصرية.

ومع تزايد حجم وَحِدَّة حركة التحرير الأسود، وغيرها من النضالات التقدّمية، يمسي النظام القضائي وامتدادُه، نظامُ السجن، سلاحًا رئيسًا في مساعي الدولة وَقِتالِها لأجل الحفاظ على الشروط القائمة للسيطرة الطبقية، وبالتالي العنصرية والفقر والحرب.


في 1951 أدانت الحكومة الفيدراليةُ ويب دو بويز، بصفته رئيس مركز معلومات السلام، بتهمة «عدم التسجيل كوكيل بلد أجنبي». في دراسته هذه المحنة التي مر بها في العقد التاسع من عمره أدار دو بويز أنظارَه إلى سكّانِ سجون الأمّة ومعتقلاتِها:

ما يثلج صدري في كامل هذه التجربة هو أنّ هذه السجون تختزن اليوم، قَطعًا، آلافَ الضحايا الأبرياء المحتجزين لافتقارهم المال والصديق. ترتكزُ أعينُ العالم اليوم على محاكَمتِنا، وعلى الرغم من الجهود المستميتة للصحافة والإذاعة لكتم الحقائق والتعتيم على القضايا الحقيقية، فها أنا اليوم كسبت حرّيتي بسبب شجاعة أصحاب المبادئ الجريئين من الأصدقاء والغرباء، لكنّ الله وحده عالمٌ بعدد الأبرياء، من أمثالي وزملائي، المنسيّين في جحيم السجون، يَخرجونَ يوميًّا من زنازينهم مترنّحين، ساخطين، ناقمين، يائسين، محطَّمين. ونسبة السود من جماهير المظلومين هذه مُخيفةٌ، ولكن الجزء الأكبر من هؤلاء السود المتَّهمين أو المعتقلين ليس لهم من ينصرهم، فَنحن بِحاجةٍ ملحة إلى تنظيمات على المستوى الوطني لمعارَضة هذا الاقتياد الجماعي المريع إلى السجون والإعمال القسري للأَسْوَد الفقير الوحيد.[4]

واستلزم الأمر قرابة العقدين ليكسب إدراكُ دو بويز هذا، الناتج عن تجربته مع النظام القضائي، قبولًا واسعًا، فقد امتزج عدد من العوامل لتحوّل النظام الجزائي إلى ساحة مركزية للنضال، يناضلُ فيها أَسْراهُ والجماهير خارج أسوارِه، والأعدادُ الكبيرة من السجناء السياسيين والسياسيات لهم ولهن الأثرُ الكبير على نزلاء السجون والحركة الجماهيرية، فَلَم تدع الغالبية العظمى من السجناء السياسيين والسياسيات للسجن أن يمسي حاجزًا أمام الأنشطة التعليمية والتحريضية والتنظيمية، فقد وَاصلوها وَوَاصلنها وراء أسوار السجون. وفي مجرى الحركة الجماهيرية النامية حول السجناء السياسيين والسياسيات تَرَكّز الكم الكبير من الاهتمام على المؤسساتِ التي سجنتهم وسجنتهن، وازداد التقبُّل السياسي للسجناء – السود والسُمر خصّيصًا – وَاْحْتَدَّ عبر اشتداد النشاط السياسي النضالي النابع عن أحياء ومجتمعات السوداء والتشيكانو وغيرهما من الجماعاتِ المضطهدَة. وأخيرًا، فقد انبثقَ أحد المحفِّزات الرئيسة لاحتدام العمل السياسي، في السجون وَحولها من تحويل المُدانِين والمُداناتِ – المحاكَمين والمحاكَمات أصلًا على خلفية تهمٍ جنائية – إلى مناضلين سياسيين ومناضِلات سياسيّات يقتدى بهم وبهن، وقد كان للمساعي التعليمية الصبورة في مجال فضح البنى الاضطهادية المحدَّدة للنظام الجزائي، وفي علاقة هذه البنى بالاضطهادِ الأكبر للنظام الاجتماعي، الأثرُ البالغ على أقرانِهم وأقرانهن من الأسرى.

السجن مُكوّن أساسي للجهاز القسري للدولة، وظيفتُه الأساسية هي ضمان التحكُّم الاجتماعي، والجذر اللغوي لمصطلح «مَتَابَة» (penitentiary) يقدم لنا دليلًا حول الفكرة التحكُّمية من وراء «نظام السجن» منذ ولادتِه، فَقد كان من المفترض أن تكون المَتَابَة مكانًا للتكفير عن الذنب والتوبة من جريرةٍ ضد المجتمع، بالتطهير الجسدي والروحي من النزعة لتحدي القواعد والضوابط التي تستلزم الانصياع الكامل. وبينما يتلبَّس السجن بِلبوس الكونية البرجوازية – أوليس من المفترض أن يلم السجن كل الطبقات، والجرائم يُعرِّفُها الفعل، لا المُرتكِب؟ – فهو قد اشتغلَ كأداةٍ للسيطرة الطبقية، كَوسيلةٍ لمنع المُعدَميْن والمُعدَماتِ من الزحفِ تجاه الأغنياء.

لا مناص من حصول الجريمة في مجتمعٍ حيث الثروة موزَّعة توزيعًا يفتقر للمساواة، بل والجرائم إحدى المنبِّهات الدائمة إلى كون القوى الإنتاجية للمجتمع مُسيَّرة في الاتجاه الخطأ، فأغلبيةُ الجرائم لها علاقةٌ مباشرة بالمُلكية، وبصفةِ الجرائم متضمنة في مفهومِ الملكية نفسه، فهي احتياجاتٌ اجتماعية بليغة ومقموعة تعبِّر عن نفسها في أنماط النشاط المعادي للمجتمع، ولكون هذا النوع من الجرائم منتجًا عفويًّا من قِبل التنظيم الرأسمالية للمجتمع، فهي في الآن نفسه عبارةٌ عن احتجاجٍ ضد المجتمع وَرغبةٌ في المشاركة في مضمونه الاستغلالي، فهي تتحدى أعراضَ الرأسمالية إذن، دون أن تمسّ جوهرها.

نزع بعض الماركسيين والماركسيّات في السنين الأخيرة إلى نفي «المجرمين» والبروليتاريا الرثة بالجملة من ساحة النضال الثوري، فما عدى غياب الرابط بين المجرم وَوسائل الإنتاج، كان الفَرضُ الكامن وراء هذا الإقصاء هو أنَّ الأفراد الذين يلجؤون إلى أفعالٍ معادية للمجتمع عاجزون عن تنمية ما يلزمه النضال الثوري من انضباطٍ ونزعة جماعية.

في نظرِه إلى التهميش الطبقي الذي اعترى البروليتاريا الرثة، صرّح ماركس أنّها قادرة على القيام «بِأكثر الأفعال بطولية وأعلى التضحيات إجلالًا، وَبِأخسِّ أنواع اللصوصية وَأقذر أنواع الفساد».[5] وقد شدد حقيقةَ أنَّ تشكيل الحرس الجوّال للحكومة الانتقالية تحت كومونة باريس – وعِداده حوالي 24,000 عسكري – كان من شباب البروليتاريا الرثة المتراوحة أعمارهم بين خمسة عشر وخمسة وعشرين عامًا، لكنَّ الماركسيين والماركسيّات جنحوا إلى تشديد الجزئية الثانية من ملاحظةِ ماركس – أن البروليتاريا الرثة قادرة على أخسِّ أنواع اللصوصية وأقذر أنواع الفساد – واستهانوا بجزئيّتها الأولى لا بل وتنكّروا لها تمامًا، تنكّروا لِتَحيّته للرثاث على أفعالهم البطولية وتضحياتهم الجليلة.

وخصوصًا في هذه الأيام بأعدادها الكبيرة من المعطَّلين والمعطَّلات عن العمل من السود والشيكانو والبورتو ريكيين نتيجةَ الآليات الداخلية للنظام الرأسمالي، يجب النظر بجدّية في دور هؤلاء المُعطَّلين والمُعطَّلات في النضال الثوري، بمن فيهن البروليتاريا الرثة، فَتَزايد العطالة، خصوصًا للجماعاتِ المضطَّهدة قوميًّا، ستستمر بصفتها نتيجة ثانوية حتمية للتطور التِقني، فاليوم نجد نسبةَ 30 بالمئة على الأقل من الشباب السود مُعطَّليَن ومعطَّلاتٍ، وفي سياق الاستغلال الطبقي والاضطهاد القومي هذا من البديهي أنَّ يضطرّ العديد من الأفراد للجوء إلى الأفعال الإجرامية، ليس كنتيجةٍ واعية – فذلك يَفتْرض وجود بدائل – بل لأنَّ المجتمع خفض موضوعيًّا إمكاناتِهم وإمكاناتِهن الكفافية والبقائية إلى هذا المستوى. يجب أن يؤشِّر هذا الإقرار على الحاجةِ الملحّة لِتنظيمِ المعطَّلين والمعطَّلات والبروليتاريا الرثة، الأمر الذي بدأ به بالفعل حزب الفهود السود والنشطاء في السجون.

في تقييم قابلية المعطَّلين السود والسُمر للانخراط في الجهود التنظيمية، يجب الأخذ بعين الاعتبار السماتِ التاريخية الخاصة بالولايات المتحدة، وتحديدًا العنصرية والاضطهاد القومي، فَلِجَماعاتِ السود والسُمر أصلًا، بمن فيها المنتمين والمنتميات للبروليتاريا الرثة، إرثُ طويل من المقاومة الجماعية في وجه الاضطهاد القومي.

على المرء تقديرُ آثار محكوميّات السجن الأطول من المعتاد على السجناء السود والسمر، فالعقلية الإجرامية الاعتيادية تنظُر إلى السجن كخطرٍ محسوب لفعلٍ إجراميٍّ محدد، فَمحكوميّةُ المرء يمكن تقديرها عقلانيًّا، لكنَّ وظيفة العنصرية في المجمع القضائي-الجزائي هو تحطيمُ إمكان التقدير، فاللّصُ الأسود قد يتوقّع محكوميّةً طولها سنتين أو أربع وينتهي بعشر أو خمسة عشر سنة، في حين اللص الأبيْض تنقضي محكوميته بعد سنتين.

داخلَ العالم المُغلَق الإكراهي للسجن تواجِه الأسير/ة واقع العنصرية، ليسَ على هيئة أفعالٍ فردية تحكمها تحيّزاتٌ اعتقادية فحسب، بل هي تضطر لإدراك العنصرية بصفتها ظاهرة مؤسَّسيّة يمرُّ بها ضحاياها جماعيًّا، وهنا نجد الأعداد الضخمة لجماعاتِ السود والسُمر، والعنصرية الظاهرة على لِجان الإفراج المشروط، والقسوة الشديدة المتأصلة في العلاقةِ بين الحرّاس والنزلاء السود والسُمر، كلّها – وأكثر – تؤدي إلى مواجهةِ السجينـ/ـة يوميًّا وفي كل ساعة الوجودَ الممنهج المركّز للعنصرية.

عمليَّةُ التحوّل الراديكالي سهلةٌ على السجينـ/ـة البريئـ/ـة، أمَّا بالنسبة إلى الضحية «المُذنبـ/ـة» فيمكن لتبصُّرُه طبيعةَ العنصرية في تمظهرها في المجمع القضائي-الجزائي أن يقود إلى إعادة النظر في نشاطه الإجرامي السابق وإعادة تقييم الوسائل التي استخدمها للنجاةِ في مجتمعٍ عنصري واستغلالي. ومن نافلةِ القول إنَّ هذه العملية ليست أوتوماتيكية، ولا تحصل عفويًّا، بل يؤدي العمل التعليمي الدؤوب للنشطاء السياسيين والسياسيّات السجناء دورًا مفتاحيًّا في تنمية الإمكانات السياسية للأسرى رجالًا ونساءً.

يطرح السجناء اليوم – خصوصًا السود والتشيكانو والبورتو ريكيين – فكرة أنّهم سجناء سياسيّون وسياسيّات، على أساس أنّ سجنهم نتيجةُ كونهم ضحية نظامٍ سياسي-اقتصادي ظالم، مما يزيد من وعيهم بالأسباب الكامنة وراء ظُلمِهم، فبيان المطالب وبرنامج مناهَضة الظلم لِسجناء فولسوم شاهدٌ على الفهم النيّر لِبنى الظلم داخل السجن – بنىً تُناقِض حتى الوظيفة المُعلنَة للمؤسسة الجزائية: «البرنامج الذي نُدخَل فيه، تحت عنوان الإصلاحية السخيف، أقربُ لحماقة إنقاذ الغريق بسكبِ الماء عليه، فَعُدواننا يُعالَجُ بدواءٍ يصفه لنا مدراء السجن، ألا وهو عدوانُهم». يعكس البيان إدراكًا للأزمة الاجتماعية الحادة الحاصلة في هذه البلاد، القائمة جزئيًّا على الوعي الجماهيري، الآخذ بالانتشار، بالتناقضات الاجتماعية المتعمِّقة، مما يجبر الوظيفة السياسية للسجون على التكشُّف بوحشتيها الكاملة. وقولُ السجناء إنَّ السّجون تُحَوَّل اليوم إلى «معسكرات الاعتقال الفاشية لأمريكا الحديثة» لا يجب أن يستهان به، على الرغم من أنه من الخطأ والانهزامية، من الناحية العملية، القول إنَّ الفاشية قد استحكمت دونَ رجعة.

النقطة هي، وهذه الحقيقة ظاهرةٌ في البيان: توسِّعُ الزمر الحاكمة الأميركية الإجراءات القمعية وتشددها عازمةً على القضاء على الحركات الثورية في مهدها وتقويض النزعات الديموقراطية-الجذرية، مثل حركة إنهاء الحرب في الهند الصينية، والحكومة لا تتردد اليوم في توظيف عدّةٍ كاملة من التكتيكات الفاشية، بما في ذلك مراقبة هواتف أحد أعضاء الكونغرس؛ منظومةُ «الفاشية الوقائية»، كما سمّاها ماركوزه، تُخيِّم عليها الأنظمة القضائية-الجزائية. وأنيابُ القمع السياسي التي تمزِّق الروح النضالية العالية للجماهير، وتغيّب أعدادًا متزايدة من النشطاء وراء القضبان، لا بدّ لها أن تنقضّ على عالم السجن المُسوَّر حيث تتخذُ لا محالة أشكالًا أكثر وحشية.

من السهلِ نسبيًّا التنكيلُ بالأسير/ة التي تُهيمِن على حياتِها أصلًا شبكةٌ من الآليات السلطوية، وتسهِّلُ هذه الهيمنة خصّيصًا سياساتُ الأحكام غير المحدّدة للعديد من الولايات، فالسجناء الواعون والواعيات سياسيًّا ينزل عليهن محكوميّاتٌ أطول من المعتاد على الإدانة الأصلية، وحسب قول ناظر سجن سان كوينتين، لويس س. نيلسون: «إنْ غدَت سجونُ كاليفورنيا تُعرَف كمدارسَ للثورة العنيفة، فمن التقصير في الواجب ألّا نبقي السجناء لفتراتٍ أطول» (سان فرانسيسكو كرونيكل، 2مايو 1971)، وحيث لا يليق هذا المنهج، تلجأ السلطات إلى طيفٍ من ضروب العقوبة الجسدية القاسية التي تصل إلى القتل الصريح. ففي سان كوينتين، قُتِلَ فْريد بيلينغسليا خنقًا بمسيّلات الدموع في فبراير 1970، واغتيلَ و. ل. نولين وآلفين ميلر وكليفلاند إيدواردس مِن قِبل أحد حرّاس سجن سوليداد في يناير 1970، وتكرر وقوع حالات «الانتحار» الغريبة وغير المُفسَّرة في شتى سجون ومعتقلات البلاد.

من البديهي أن يغدو تلفيق التهم سلاحًا قويًّا في عتاد قمع السجون، وخصّيصًا لتوفّر المخبرِين، ألا وهم السجناء المنكسرون/ات الذين لا يتورّعون عن أي فعلةٍ مقابل السعر المناسب. وإخوة سوليداد وثلاثي سوليداد أمثلةٌ أولية على ضحايا التلفيق، ففي كلا القضيتيْن اتُّهِمَ مناضلون بِقَتل حرّاس سجن سوليداد، وَقد تأجج حولهم دعمٌ واسعٌ في سجون كاليفورنيا، وباتت تلك الحوادث رابطةً بين الاحتياجات المباشرة لِجماعةِ السود وَالنضال الشرس لِكسرِ معقل الفاشية في السجون، وبالتالي إلغاء نظام السجن بِشكلِه الحالي.

يجتاح الاضطهاد العنصري حياةَ السود على مستوياتٍ آخذة بالتنوع، فالسود مسجونون ومسجونات في عالمٍ حيث عملُنا وكدحنُا بالكاد يتيحانِ لنا وجودًا كريمًا، ذلك إنْ تمكّنا من الحصول على وظيفةٍ أساسًا، وحينما يبدأ الاقتصاد بالتعثر، فنحن دائمًا أولى ضحاياه وأشدُّهم جرحًا، وحتى عندما تنتصب قامة الاقتصاد فمعيشتنا في حالةِ كساد لا تنتهي، فالعطالةُ في الغيتوهات (عمومًا) ضعفُ ما هي عليه في البلاد (عمومًا)، بل وهي أعلى من الضعف لدى النساء والشباب السود، فنسبة التعطيل لدى الشباب السود بلغت 30 بالمئة. ولو لم يملك ثلثُ الشباب البِيْض في أمريكا سُبُل العيش، لكنّا اليوم إما في خضم ثورة أو تحت الحكم الحديدي للفاشية. مدارسٌ دون المستوى، وعنايةٌ طبية بالكاد تليق بالحيوان، ومساكنُ غالية متدهورة، ونظامُ رعاية اجتماعية مستند على سياسةِ الفُتات، بل ومصمَّم لِيُهينَ ويقسِّم (وقد يُلغى قريبًا)، ليست هذه الأمور إلّا بعضًا من قائمة دعائم المشهد العام للاضطهاد الذي يشكّل، بالنسبة لجماهير السود، عالم معيشتنا.

في جماعاتِ السود، أينما كانت، لا يسمح لأحد أن يغفل أنّ عالمنا محكومٌ عليه بالبقاءِ في حالة تدهور وفقر وقسوة، فَمِن بيرمينغهام وحتى هارليم وَواتس، تحتلُّ قوات الشرطة غيتوهات السود وتجوبها يوميًا وتهاجمهًا دوريًّا، فالشرطة، الجهة القائمة بالعُنف داخليًّا، هم رُسُل المضطهِدين، عُهِدت بهم مهمة احتوائنا داخل حدود اضطهادِنا.

تمسي الوظيفة المعلنة للشرطة، «حماية الشعب وخدمته»، صورةً هزلية عنها: حماية وحفظ مصالح مضطهِدينا وتقديمُ خدمةٍ واحدة هي الظلم، فالشرطة تأتي لترهيب السود، لِتُقنعنا بِعنفها أنّنا أضعف من أن نغير ظروف حياتنا، وبعض من الوظائف العديدة لقوى القانون والنظام هي الاعتقال حسب المزاج، وأمطار الرصاص التي تقتل البشر دونَ ذريعةٍ أو ستار ما عدى الترهيب العام الذي كُلِّفت هذه القوى بالشروع به، وحمايةُ مورِّدي المخدرات والمُستَغِلِّيْن المافياويين، ومساندة العناصر الأشد رجعيةً أيديولوجية من جماعةِ السود (خصوصًا من يتباكون مطالبةً بالمزيد من الشرطة)، فهذه القوى تحيط جماعتنا بِطوقِ من العنف، مما يدفعُ في الكثير من الأحيان بالعدوانِ الطبيعي لجماعة السود لأن يُفرَّغَ داخلَ هذا الطوق. فتحليلُ فانون لدورِ الشرطة الاستعمارية يعد وصفًا ملائمًا لوظيفة الشرطة في غيتوهات أمريكا.

من نافلة القول إنّ الشرطة سيعجزون عن تحريك آلتهم العنصرية لولا شرعنة النظام القضائي ومساندتِه، فالمحاكم لا تكتفي بالامتناع عن محاكمة السلوكيات الإجرامية من طرف الشرطة، بل وَتُدين أعدادًا لا تحصى من الرجال والنساء السود استنادًا على شهاداتِ الشرطة المغرضة، و85 بالمئة من المتَّهمِين والمُتَّهمَات يقنعهن المحامونَ المعيَّنون من طرف المحكمة بالإقرار بالتهم، ذلك لأن المحامين يتصرّفون وفق المصالح الملتوية للمحاكم المكتظة بالقضايا، وحتى مَنْ تتضح عليهن البراءة يُنصَحن بالموافقة على صفقة اعتراف وذلك بغرض تجنيب النظام القضائي عملية المحاكمة عن طريق المحلَّفين الطويلة والمكلفة، وهذه هي بنية الجهاز الذي يَقتادُ آلاف السود إلى المعتقلات والسجون بإجراءاتٍ موجزة. (أثناء سجني في دار احتجاز النساء في نيويورك، قابلت العديد من حالات النساء السود البريئات اللاتي نصحهن المحامي بالإقرار بالتهم، وإحدى الأخوات دخلت شقة مالِك شقّتها الأبيض بِغرض دفع الإيجار، فحاول اغتصابها، وفي غضون مقاومتها إيّاه، سقطت شمعةٌ على الطاولة، فأحرقت غطاء الطاولة، فَطالبَ المالِك باعتقالها بتهمة إشعال الحريق المتعمد، وإنصاتًا لنصيحة المحامي المعيَّن من المحكمة أقرَّت بالتهمة لأنّه خدعها بالإصرار على أنَّ المحكمة سترفق بها لو أقرَّت بالتهمة، فَحُكِمَ على الأخت بالسجن ثلاث سنوات).

الحلقة المفرغة التي تربط الفقر ومحاكمة الشرطة والسجون هي عنصرٌ متأصّلُ في الوجود الغيتوهي، فَجُذور الطريق التي تقود إلى المعتقلاتِ والسجون مغروسةٌ بعمق في الأنساق المفروضة على وجود السود، وذلك خِلافًا لجماهير البِيْض، ولهذا السبب تربطُ جماهير السود بالسجناء السياسيين والسياسيات عاطفةٌ شبه غريزيّة، فأغلبية جماهير السود تخمّر كراهيةٌ عميقة للشرطة ولا تخدعها الإعلانات الرسمية بالعدالة عبر المحاكم.

من المحتوم على الفرد الأسود والسوداء، لأنّه أسود ولأنهّا سوداء، الاحتكاك بالشبكة الأمنية-القضائية-الجزائية، إما مباشرةً أو عبر الأقارب والأصدقاء. وبالنسبة إلى الناشط/ـة الذي غدَى سجينـ/ـةً سياسيـ/ـة، هذا الاحتكاك حصَل لأنَّه احتجَّ، بشكلٍ أو بآخر، ضد الظروف التي تقيّد السود بِفلكِ الاضطهاد هذا.

أظهر السّود تاريخيًّا، كمجموعة، نزعةً أكبر تجاه المقاومة من أي شريحة أخرى من سكّان هذا البلد، فَحُكْمُ الحديد على أحيائنا ومجتمعاتنا، والممارسة المؤسسية للإبادة، وأيديولوجية العنصرية تضافرت في تأديتها وظيفةً سياسيةً – بالمعنى الضيق للكلمة – وَوظيفةً اقتصادية، فالرأسماليّون لم يكتفوا بِاستخراج أرباحٍ ضخمة من العمالة المُسترخَصة لأكثر من 15 بالمئة من سكّان أمريكا بمساعدةِ بُنيةٍ علوية من الإرهاب، بل عمل هذا الإرهاب جنبًا إلى جنب مع غيره من الأشكال الأخفت للعنصرية بِدفن ازدهار مقاومةٍ – أو حتى ثورةٍ – تنتشر في الطبقة العامِلة كَكُل.

وفي خدمة مصالح الطبقة الرأسمالية، التُمِسَت الموافقة على العنصرية والإرهاب غوغائيًّا من البِيْض، وحتى العمّال منهم، لدرء خطر المقاومة بِفعالية، واليوم، يحاول نيكسون وميتشل وجون إدغار هوفر باستماتةٍ إقناع السكّان أنَّ المعارضين والمعارِضات، خصوصًا السّود والتشيكانو والبورتو ريكيين، يجب معاقبتهم للانتمائهم إلى منظَّماتٍ ثورية؛ لدعوتهم إلى إسقاط الحكومة؛ لتحريضهم وتعليمهم في الشوارع وَوراء أسوار السجون. هنا تظهر الوظيفة السياسية للسيطرة العنصرية بِحِدّة متسارعة، والبِيْض الذين أعلنوا وأعلنَّ تضامنهن مع حركة تحرّر السود وتحرَّكن باتجاهٍ صريح الثورية فوجدن أنفسهن هدفًا للقمع نفسِه، ولِمَا يظهر على الحركة المناهضة لحرب فيتنام من وعيٍ مناهضٍ للإمبريالية، ها هي تقع ضحية قمعِ الحكومة.

يتّجه السود بسرعةٍ إلى فهمِ الظروف التي أنتجت الأشكالَ المتضخمة للقمع السياسي، وبالتالي إلى وفرةِ السجناء السياسيين والسياسيات، وهذا الفهم يُصاغ من موادٍّ خام هي تجاربِهم المباشرة مع العنصرية، ولذلك فجماهيرُ السود تزدادُ وعيًا بمسؤوليّتها في الدفاع عمّن يظلمَون ويلاحقون لمحاولتهم معالجة أعمقِ الجروح المتّصلة مباشرةً بِجماعاتِ السود، ولسعيهم، في آخر المطاف، إلى التحرير الكامل عبر الثورة المسلحة، إن استلزمَ الأمر.

حركة تحرر السود في لحظةٍ حرجة اليوم، فوسائل القمع الفاشية تهدد بقطع رأس الحركة جسديًّا وبِمَحوها من الوجود، وعلى نحوٍ أخفت وإن لم يقل خطره، تهدد النزعات الأيديولوجية من الداخل بِعَزلِ حركة السود وَحسر وَقْعِها الثوري، وكلا التهديديْن يجب ردعهما لضمان بقائنا. على الثوريين والثوريّات السود التقدّم بحركةٍ أوسع مُناهِضة للفاشية وتوفير القيادةِ لها.

الفاشية سيرورة، ونموّها وتطوّرها ذوي طبيعةٍ سرطانية، فاليوم قد ينحصرُ خطر الفاشية عمومًا في استخدام الجهاز فرض-القانون-القضائي-الجزائي لعرقلة النزعات الثورية الصريحة والكامِنة لدى الشعوبِ المُضطَهدَة قوميًّا، وَغَدًا قد يهاجم الطبقة العامِلة جماعيًّا بل وحتى الديموقراطيين المعتدِلين في آخر المطاف، ولكنّ هذا السرطان في هذه الفترة نفسها قد شرع بالانتشار، فبالإضافة إلى جموع المساجين من آلافٍ مؤلَّفة من ضحايا الانتقام السياسي من العالمثالثيّيين المنسيين، تتزايد أعداد السجناء السياسيين والسياسيّات البِيْض – مقاوِمو ومقاوِمات التجنيد الإجباري، النشطاء المناهِضون والمناهِضات للحرب، مثل مجموعة ثمانيةهاريسبرغ، رجالًا ونساءً، انخرطوا وانخرطن في كافة مستويات النشاط الثوري.

من ضمن أعراض التهديد الفاشي هي الجهود الرسمية للحد من قوة التنظيم العمّالي، مثل الهجوم على عمّال البناء (المعروفين بمحافظَتِهم)، والتوجه لتقليص الإعانة الاجتماعية، ويضافُ إلى ذلك قراراتُ المحاكم والتشريعات القمعية التي تضخّم سلطات الشرطة – مثل قانون دون-طرق-الباب في واشنطن، الذي يسمح للشرطة دخولَ المنازل الخاصة دونَ تنبيه، و«قانون الجريمة» لِنيكسون عمومًا – فهذه السلطات يمكن استخدامها في آخر المطاف ضد أي مواطنـ/ـة، بل وحتى أعضاء الكونغرس أنفسهم يحتجّون اليوم على تنصّت الدولة البوليسية عليهم لمراقبة نشاطاتهم. والجوهر الفاشي للهجمة الوحشية على الصين-الهندية أكثر بديهيةً من أن يُذْكَر.

أحد الدروس التاريخية الأساسية الواجب تعلُّمها من الإخفاقات الماضية في منع صعود الفاشية هو أنَّ محاربتها في مراحلها الأولى لها دورٌ حاسم ولا غنى عنه، فمتى ما سُمِح لها احتلال رقعة ما، فانتشارها يتسهّلُ بمقاييس اطّرادية، وعلى الرغم من أنَّ أكثر التمظهرات انفلاتًا للخطر الفاشي ما زالت مرتبطةً بالسيطرة العنصرية على السود والتشيكانو والبورتو ريكيين والهنود، فهذا الخطر كامنٌ تحت السطح أينما وجدت إمكاناتُ مقاومة قوة رأس المال الاحتكاري، تلك المصالح الطفيلية التي تتحكم بهذا المجتمع، وبإمكان هذا الخطر أن يعمِّق سوء شروط وجود المواطِنـ/ـة الأمريكيـ/ـة العادِيّـ/ـة، وخلاصة الأمر أنَّ جماهير هذه البلاد لها مصلحةٌ حقيقية ومباشرة ومادية في الصراع لأجل تحرير السجناء السياسيين والسياسيات، والنضال لأجل إلغاء نظام السجون بشكله الحالي، والنضال ضد كافة أبعاد السيطرة العنصرية.

يجب ألا يَغفَل أحدُنا تحذير جورجي ديميتروف: «من لا يقاتل نمو الفاشية في مراحلها الإعدادية ليس في موقعٍ يتيح له منع انتصار الفاشية، بل هو، بالعكس، يسهّل هذا الانتصار» (تقرير إلى الكونغرس السابع للشيوعية الأممية، 1935). الضمانة الفعالة الوحيدة ضد الفاشية هي الحركة الجماهيرية المتّحدة اتحادًا لا ينفصل ترفضُ استمرارَ الوضع القائم ما دام جنون القمع مستمرًا، فمن الطبيعي إذن أن السود يجب أن يقودوا ويقُدن الحركة – إلى جانب غيرنا من شعوب العالم الثالث – فنحنُ أولى ضحايا الفاشية وأعمقهم وأعمقهن جرحًا، لكن من الواجب اعتناقُ كل الضحايا المحتمَلين والمحتمَلات، والأهم من ذلك: اعتناقُ كل الطبقة العامِلة، فمفتاح غلبة الفاشية هو انتصارها الأيديولوجي على كافة الطبقة العاملة، ونظرًا لاندلاعِ أزمةٍ اقتصادية حادّة، يمكن فتح بابُ هذا الانتصار الأيديولوجي بالموافقة النشطة على العنصرية أو التساهل الساكِن معها. من الجوهري أن يغدو العمّال البِيْض واعين وَواعياتٍ بأنّهم، تاريخيًّا وعبر قبولهِم باضطهادِ السود المستلهَم رأسماليًّا، أمسوا أعجز من أن يقدروا على التصدي للهجمات.

إنَّ الصراع المحوري الذي يجب يُشنَّ في صفوف الطبقة العاملة هو، إذن، المعركة المفتوحة، بلا تحفّظ، ضد العنصرية المترسِّخة، فالعامِل والعامِلة الأبيضيْن يجب أن يُدْرِكا الخيوط التي تربطهما بِجيمس جونسون، عامل السيارات الأسود، وأحد أعضاء اتحاد عمّال السيارات، وسجينُ سياسي يحاكمُ اليوم بتهمة قتل رَئيسين عمل ومُعِدّ.[6] إنَّ التفشي الذي لا يرحم لقوّة رأس المال الاحتكاري سيدفع بهاذين العامِلين لا محالة إلى نفس مسار اليأس، فلا يجب أنْ يجهل أو تجهل أيُّ ضحيةٍ محتملة للإرهاب الفاشي أنَّ الخطر الأكبر على العنصرية والفاشية هو الوِحدة!

سجن محافظة مارين

مايو 1971

المصدر: If They Come in the Morning … Voices of Resistance.


ملاحظات:

[1] William Z. Foster, The Negro People in American History, International

Publishers, New York, 1954, pp. 169-170 (quoting Herbert Aptheker).

[2] Louis Adamic, Dynamite: The History of Class Violence in America, Peter Smith, Gloucester, Mass., 1963, p. 312.

[3] Herbert Aptheker, Nat Turner’s Slave Rebellion, Grove Press, N.Y. 1968, p. 45. According to Aptheker these are not Nat Turner’s exact words.

[4] Autobiography of W.E.B. Du Bois, International Publishers, New York, 1968, p.

[5] Karl Marx: The Class Struggle in France in Handbook of Marxism, International Publishers, New York, 1935, p. 109.

[6] See Angela Davis, “Trials of Political Prisoners,” for the details of James Johnson’s case. Editor’s Note: The Davis essay is included in the same 1971 collection as the present text, If They Come in the Morning: Voices of Resistance. For more on James Johnson, see “James Johnson – A Prologue,” in Dan Georgakas and Martin Survin, Detroit: I Do Mind Dying (Chicago: Haymarket Books, 2012 [1975]), 9-12.

Skip to content