حول الكتابة ضدّ الثقافة

توطئة

كما كان هناك تاريخٌ طويلٌ من الترويج لعلميّة مفهوم الثقافة، ثمّة تاريخ موازٍ من التنظير ضدّ المفهوم وموضوعيّته. في النصّ أدناه، نتتبّع أهمّ المحاججات النظريّة في سبيل رفض الحمولة المعرفيّة للمفهوم، وكشف انعكاساته على واقع المهمّشين والكيانات غير الغربيّة.

فكون بعض الحروب والصراعات لا تزال تُخاض باسم الثقافة (الاختلاف الثقافي والتحديث)، فإنّ تقفّي إبستمولوجيا نقد المفهوم يكتسب راهنيةً خاصةً. فمن جهةٍ، يرى منظّرون نقديّون أنّ الحقيقة الاجتماعيّة ليست بكامنةٍ في المفهوم الذي تشحن افتراضاته المعرفيّة أيديولوجياتٌ ومصالحُ سائدةٌ تقرّر وجه الحقيقة بما يتوافق مع تطلّعاتها. يعتبر هؤلاء أنّ المفهوم لا يزال مُستبطِنًا «قانون» الثنائيات الصارمة في إعادة بناء العالم وتركيب ثقافاته. ونظرًا لإدامة ذاك «القانون» تحويلَ الظواهر المتفاوتة المتغيرة وفقَ الشروط السياسيّة الاقتصاديّة، إلى «أعراقٍ» جامدةٍ بمرتباتٍ دنيا وعليا، كما سنبيّن أدناه، فإنّ هذه العرقنة تُخلّف بالضرورة استحقاقات التحكّم بموارد العالم الجنوبي، وقنواته التاريخيّة، ومصائر ناسه إجمالًا.

ومن جهةٍ أخرى، لا يزال يُصار إلى مفهوم الثقافة دلالاتٌ حول جوهرانيّة جماعة ما وتجانسها واستقرار هويّتها، بشكلٍ يعكس هوّةً بين تمثّل الجماعات المدروسة في النصوص وفضائها الواقعي. ينسحب هذا اليوم على كل النزعات اليمينيّة القوميّة التي تجتاح العالم وتواظب على صناعة «الآخر» وإقصائه لإنتاج «أممها» المتجانسة المتخيّلة. ففي خضمّ الارتداد إلى مرجعيّةٍ ثقافيّةٍ موحّدةٍ موغلةٍ في الأصالة والأصوليّة، تظهر الثقافة تلك كأيديولوجيا تُخفي عنف إمحاء الاختلاف لدى القوميّات الحديثة.

يبرز هذا مع جائحة كورونا الراهنة، حيث لجأت الرأسماليّات في أزماتها الاقتصاديّة السياسيّة إلى إثارة الوطنية الضيّقة، والتغطية على سياساتها بتحميل عمق الأزمة إلى المجموعات والثقافات التي يُصوَّر اختلافها عن المجموعة والثقافة المعياريتَيْن. فبجانب المهاجرين والسود، أطلقت الرأسمالية الأمريكية عنصريتها تجاه «الثقافة الصينية». فمن ناحيةٍ، جرى اختزال الأخيرة في تنوّعها والصراعات على تمثيلها إلى شيءٍ جوهرانيٍّ واحدٍ يتّصل بأكل الخفافيش والعقارب. ومن ناحيةٍ أخرى، جرى التعامل معها وفق منطقٍ تصنيفيٍّ للثقافات يتسيّده الغرب ويجعلها بمثابة أعراقٍ، تُمنح فيه الثقافة الصينيّة مرتبةً دنيا ومعنىً سلبيًا، ويعلن من خلالها أصوليو الغرب تفوّقهم الثقافي على الصين، وارتدادهم إلى الذات المتجانسة لمواجهة الجائحة.

وعليه، إنّنا إذ نسعى في نصّنا إلى تقفّي نقود الثقافة في مجالاتٍ متعدّدةٍ، فإننا، من ناحيةٍ، نهدف إلى لمس الترجمات العنيفة للمفهوم إلى مُعادِلها الماديّ الذي يحمل دمًا واستلابًا عظيمَيْن. ومن ناحيةٍ أخرى، نسعى إلى الانكشاف على أطرٍ ومنهجياتٍ بديلةٍ تخرّب إنتاج «الآخر»، وتفعّل استراتيجات «الهجانة» و«الإثنوغرافيا الخاصّة» بمعانٍ متعدّدةٍ.

نقد المفهوم بوصفه عرقًا

تشكّك الباحثة الأنثروبولوجيّة ليلى أبو لغد في علميّة مفهوم الثقافة وإنتاجه معرفةً صادقةً حول المجتمعات المدروسة. ترى أن الثقافة مركزيّةٌ في الخطاب الأنثروبولوجي الباحث عن الاختلاف لتفسيره وفهمه، كون التمييز بين الذات والآخر يستند إليها.[1] بعبارةٍ أخرى، تعتبر أنّ الثقافة تعمل على إعادة تعيين الذات المهيمنة والمتفوّقة من خلال عملية صناعة الآخر. ولا يمكن تحقيق هذه العملية إلا من خلال إنتاج الاختلاف المستند إلى تخيّل الحدود الصارمة بين الشرق والغرب. وعليه، يجري إدراك العالم معرفيًا عبْر ذاك التمييز الحدودي الذي ينزع إلى افتراض تفرّد الثقافات وتماسكها وخلودها بسماتٍ محدّدةٍ. وهو ما يعيدنا إلى «استشراق» إدوارد سعيد الذي اعتبره، كخطابٍ علميٍّ، نمطًا من التفكير يقوم على التمييز الوجودي والمعرفي بين الشرق والغرب. كان الاختلاف الثقافي وليس العرق هو موضوع الاستشراق الأساسي لتفسير ظواهر الثقافة.[2]

نجد أنّ كتابة أبو لغد المركزيّة ضدّ الثقافة تُعزى إلى تحوّلها إلى أداة تصنيفٍ للعالم بالدرجة الأولى، يسهُل من خلالها تبرير الاضطهاد والعنف. فعندما يجري بناء كيانٍ يُدعى الشرق بصكّ ثقافةٍ متجانسةٍ له، وتكون بدورها على تعارضٍ تامٍّ مع ثقافة الغرب التي يجري بالضرورة استبطان حداثتها، فعندئذٍ تحتفظ الثقافة ببعض ميول تجميد الاختلاف الذي تمتلكه مفاهيم مثل العرق.[3] يرى المنظّر الأنثروبولوجيّ أرجون أبادوراي، كذلك، أنّ المشكلة تكمن في مفهوم الثقافة بذاته الذي يفترض الجوهرانيّة لمجموعةٍ اجتماعيّةٍ، ما يعيدها إلى فضاء العرق، وهي الفكرة التي صُمّمت في الأصل لمكافحتها.[4] بل يصبح الاختلاف الحادّ بين الثقافات، من وجهة نظري، بمثابة قانونٍ تجريبيٍّ تُصوَّر كل ثقافات العالم من خلاله بشكلٍ بعيدٍ كليًّا عن التمثيل الحقيقي لها. وهو مسألةٌ لا يمكن فصلها عن هوية مُنتجي الاختلاف ومشاريعهم السياسيّة والفكريّة، والذين عادةً ما يؤطّرونه تحت ذرائع الموضوعيّة العلميّة وتحقيق المسافة من الآخر. غير أنّ تلك الذات الخارجيّة المدّعية للموضوعيّة في كتابتها ثقافةَ الآخر، ليست بالحقيقة خارجيةً، إنما تمثّل موقفًا محدّدًا داخل مجتمعٍ سياسيٍّ تاريخيٍّ أكبر مقابل المجتمع محل الدراسة، كما تشير أبو لغد.[5]

يعود ما سبق إلى أنّ الثقافة انبنتْ على فكرة التمركز المشتقّة من افتراض الاختلاف الحادّ بين المجتمعات وثقافاتها. أتاح التمركز تعيينَ الغرب ذاته كمرجعيةٍ فاعلةٍ في أيّ فعلٍ، سواءً باستكشاف أبعاد نفسه أو بمعرفة الآخر، ويشمل ذلك الذات المفكّرة الواعية لذاتها أو تلك الذات غير الواعية التي تقيم تصوراتها على نوعٍ من المخيال للصور النمطيّة لها ولغيرها.[6] فإنْ كان التمركز يعني ذاك النسق الثقافي الذي تعالى على شروطه التاريخيّة، مختزلًا أصوله ومقوماته إلى مفاهيمَ مجرّدةٍ تتخطى تلك الشروط، إلى ما يسمّيه الباحث عبد الله إبراهيم نوعًا من اللاهوت غير التاريخي،[7] فإنّ نزع الإنسانيّة عن كثيرٍ من المجتمعات «الأخرى» والتحكّم بإنتاج تواريخها، يعودان إلى هذا التمركز الذي شكّل كتلةً متجانسةً من المعطيات الثقافيّة التي لطالما أنتجت الذات على أنها الأفضل استنادًا إلى معنىً محدّدٍ للهوية قوامُه الثبات والديمومة والتطابق. وعليه، لم يُكتفَ فحسب باستدعاء عمليات المقارنة مع الجماعات الأخرى التي اعتُبرت أدنى عرقيًّا وثقافيًّا، على قاعدة الذات المطلقة النقاء، إنّما لطالما انطوى التمركز الثقافي على تركيب صورةٍ معرفيّةٍ مشوّهةٍ للآخر اعتُبرت شرطًا ضروريًّا لضمان السيطرة عليه والتدخّل بمصيره.[8]

يجادل الأنثروبولوجي جوناثان فريدمان بأنّه إنْ كانت العولمة الثقافيّة نتاج النظام العالميّ، فإنّ مفهوم الثقافة جرى إنشاؤه في تحويل مراكز هذه الأنظمة. ينتقد مفهوم الثقافة باعتباره نتاجًا نموذجيًا للحداثة الغربيّة التي تعمل على تحويل الاختلاف إلى جوهرٍ، عرقٍ، نصٍّ، نموذجٍ، رمزٍ أو بنيةٍ.[9] وبينما يُشدَّد على الوعي بالاختلاف الثقافي كمعيارٍ يعبّر عن خصوصية المجتمعات المدروسة، يرى فريدمان الثقافة مجرّد تنصيصٍ أنثروبولوجيٍّ (Textualization) للآخريّة، لا يمكنها تقديم شيءٍ حقيقيٍّ يعبّر عن خصوصية المجموعة المدروسة.[10] ويعود هذا بنظره إلى ما يسميها «أثقفة» العالم التي تمارسها مجموعةٌ محدّدةٌ تشغل مواقعَ مركزيةً، تحدّد بدورها العالم الأكبر وترتّبه وفق مخططٍ مركزيٍّ للأشياء.[11]

فإنْ كانت الثقافة يحجبها التماسك والخلود والتفرّد، وتعدّ الأداة الأنثروبولوجيّة الرئيسة لصناعة الآخر والاختلاف، فإنّ الحقيقة لا تكمن فيها. ذلك أنّها تتحوّل إلى علاقة قوّةٍ تُنتِج من خلالها الذاتُ العارفة المهيمنة العالمَ وفق تصوراتها الخياليّة التي تحقّق لها مصالحها في السيطرة والتدخّل الإمبريالي بالمجتمعات الأصليّة بِذريعة تحريرها وتحديثها. على إثر ذلك، تقترح أبو لغد تحولًا منهجيًّا معرفيًّا نحو الخطاب والممارسة اللذين يمكّنان الباحثين من تحليل الحياة الاجتماعيّة دون افتراض درجة التماسك التي أصبح مفهوم الثقافة يحملها.[12] فإنْ كانت الثقافة تستدعي التعميم الذي يؤسّس بدورِه فجوةً بين حياة تلك المجتمعات اليومية ولغة النصوص المنتَجة حولها، وبالتالي فصلًا جوهريًا بين تصوّر العالم الأنثروبولوجي وواقع الأشخاص الذين يُكتب عنهم، فإنّ الخطاب (بالمعنى الفوكويّ) يرفض التمييز بين الأفكار والممارسات أو النصّ والعالم الذي يشجّعه مفهوم الثقافة بسهولةٍ. يعمل الخطاب على كشف حقيقة الاختلاف الثقافي بوصفه خيالًا مركزيًا أوروبيًا يُفرض كحقيقةٍ في استكشاف عالم معاني المجتمعات غير الغربيّة. تجادل أبو لغد بأنّ الممارسة والخطاب مفيدان منهجيًا لأنهما يعملان ضدّ افتراض الحدود، متجاوزَيْن العالم المثاليّ لمفهوم الثقافة.[13]

هناك من اعتبر الثقافة أداة الهيمنة الأكثر حداثةً، بوصفها تطوّرًا خبيثًا للعقلانيّة العلميّة التي تستخدم الحقيقة كقوّةٍ من أجل تكريس المسافة والسيطرة واضطهاد الآخرين.[14] يعتبر الكاتب جيمس بوجس أنه مع ظهور نظرياتٍ ثقافيّةٍ أكثر تركيبًا وتعقيدًا، نشأ نقدٌ يساوي مفهوم الثقافة بالنزعة العلمويّة (Scientism)، حيث اعتبرها بعيدةً عن تمثيل فكرةٍ علميّةٍ مستنيرةٍ بطبيعتها.[15] يقودنا هذا إلى التفكير في نقد مفهوم الثقافة باعتباره أيديولوجيا بالدرجة الأولى. يرتكز هذا النقد، بشكلٍ رئيسيٍّ، على أطروحة كارل ماركس في «الأيديولوجيا الألمانية». تُعتبر الثقافة مُعادِلةً لموقع الأفكار في الماركسيّة، حيث لا يجري إنتاجها بمعزلٍ عن شروط الإنتاج الماديّ. ذلك أنّ القوّة الماديّة السائدة هي الوجه الآخر للقوّة الفكريّة السائدة، والتي تسود على نطاقٍ كاملٍ باعتبارها منتجةً للأفكار.[16] وإذ يسري انفصالٌ مُدّعىً بين الأفكار وحامليها من منتجي القوّة الماديّة، كثيرًا ما تكون الثقافة بِمثابة وعيٍ زائفٍ تتمثّل كحقيقةٍ اجتماعيّةٍ تعبّر عن مصلحةٍ جمعيّةٍ. فيما هي في الواقع ليست سوى وعي الطبقة المسيطرة على الواقع وتصوّرها له تبعًا لمصالحها وموقعها الاجتماعيّ.[17] بناءً على هذا الطرح، لطالما كان تجانس الثقافات كلٌّ على حدة والاختلاف الثقافي بينها بمثابة أيديولوجيا أمّنتْ من خلالها الثقافةُ السائدة المتمركزة إعادةَ إنتاج شروط إنتاجها المادية في الهيمنة على الآخر؛[18] إذ إنّ وجود الإنسان مشروطٌ في نوعه وشكله بالبنية الاقتصاديّة التي يتواجد ضمنها.

نقد مفهوم الثقافة كأصوليّةٍ داخليّةٍ

بالمقابل، ثمّة من رأى الثقافة ليست سوى مجرد مفهومٍ وظيفيٍّ كلاسيكيٍّ يُنتج ارتباطًا وثيقًا بينها وبين فكرة المجتمع الذي يمكن تحديده بسهولة، على اعتبار أنها تمثّل السمات والروتينات المشتركة الضابطة لأفعال الناس وفردانيّتهم. وعليه، تعامل كثيرون معها كقانونٍ تجريبيٍّ خارجيٍّ وكلٍّ متكاملٍ لا تُدرس عناصرها بمعزل عن بعضها البعض، ما حوّل مفاهيم الثقافة والمجموعة الإثنيّة والمعتقدات ككياناتٍ متطابقةٍ.[19] تلقّف بعض المنظّرين النقديين في مجال الكتابة ضدّ الثقافة، مثل أندريه ويمير، هذا التفسير للمفهوم، معتبرًا إياه أصوليًّا يجمّد المشتركات على مدار الزمن ويحجب المختلف داخل الثقافات الفرعيّة للمجموعة الواحدة. جادل ويمير أنّه في حين ينتظم الناس في ممارساتٍ وأفكارٍ ومشاعرَ متطابقةٍ ومتباينةٍ في أمكنةٍ وأزمنةٍ متماثلةٍ ومختلفةٍ على حدٍّ سواء، وجب التركيز على شروط إنتاج هذه الأنماط الثقافية وتحوّلها بالدرجة الأولى، وليس على استكشاف البعد المتجانس للثقافة المتمايز عن الثقافات الأخرى.[20] يعتقد هؤلاء أنّ إعادة الإنتاج الاجتماعي للثقافة تمثّل إشكاليةً دائمةً ولا يمكن ضمانها؛ إذ يتطلب الحفاظ على الإجماع الثقافي عبر الزمن جهدًا كبيرًا، وهو ما تجاهله الأصوليون الثقافيون الذين يفترضون الاستقرار شرطًا طبيعيًّا للثقافات ويعدّونه كيانًا موضوعيًّا غير مشكوكٍ فيه.[21]

يجادل أبادوراي بأنّ الثقافة كاِسمٍ تفترض «نوعًا من المشاركة، والاتفاق، والالتزام الذي يغفل وجه حقائق المعرفة غير المتساوية، وتثبيط الانتباه إلى وجهات النظر العالمية وَوكالة أولئك المهمّشين والمُهيمَن عليهم».[22] يقترح الكاتب عالمًا نعتيًّا للثقافة بدلًا من اعتمادها كعالمٍ اسميٍّ، حيث يمنح الأول، بنظره، إحساسًا بالتباين للأشياء بدلًا من افتراض خصائصها الجوهرية. فعندما يُشار إلى ممارسةٍ، مفهومٍ، أو أيديولوجيا بامتلاكها بعدًا ثقافيًّا، فإنّ هذا يعني الانحياز إلى فكرة الاختلاف الموجود، أي: الاختلاف فيما يتعلق بشيءٍ محليٍّ، متجسّدٍ وهامٍ.[23] وفي حين يعيد أبارادوي ترسيم العالم النعتيّ للثقافة من جهة التشديد على جانبها البُعدي (dimensionality) عوضًا عن استبطان الجوهر (substantially)، فإنه يُبطل التفكير في الثقافة كمِلكية أفرادٍ وجماعاتٍ، ويعيد إرساءها كجهازٍ إرشاديٍّ نوظّفه للحديث عن الاختلاف.[24] كما يقترح حصر ما هو ثقافي في الاختلافات التي تُرسي الأساس لتعبئة هويات المجموعة.

ترى أبو لغد أنّ التعميم وافتراض التجانس الداخلي المُتضمَّن في مفهوم الثقافة يفضيان إلى حجب التمايزات والصراعات الداخلية، وهو من شأنه أن يصوّر مجموعةً من الناس ككياناتٍ منفصلةٍ ومحدودةٍ مثل «النوير» و«أولاد علي» و«الثقافة البالية».[25] فبدلًا من أن تحفّز الثقافة التغيّرَ والديناميكية، تثير بمفهومها اعتقادًا بتفوّق السمات المشتركة في المجموعة وثباته. يجعلها هذا بمثابة شيءٍ فطريٍّ طبيعيٍّ تُعرَّف المجموعة من خلاله، على نحوٍ يمحو تأثيرات الزمن والصراعات على طبيعة حياة الناس. كما اعتبر الأنثروبولوجي جاك غودي أنّه في ظل تشجيع الثقافة المفاهيمَ التبسيطيّة للتجانس الثقافي، يتوجّب الوعي التام لتفاوت الحدود، ليس على صعيد الثقافة، إنما على صعيد الممارسات الثقافيّة.[26] على إثر ذلك، تقترح أبو لغد من ضمن استراتيجيات الكتابة ضد الثقافة منهجيّة «الإثنوغرافيات الخاصة» (Ethnographies of the Particular) على فعل الكتابة الذي يسعى إلى زعزعة مفهوم الثقافة وتخريب عملية صناعة الآخر. يتمّ ذلك بتوجيه الكتابة نحو حيوات أشخاصٍ محدّدين بشكلٍ يبدو فيه «الآخرون» أقلّ آخريةً. تعتقد أبو لغد بوجود الحقيقة في هذه التمثيلات الأنثروبولوجيّة الخاصة التي تقترب من حياة الناس اليوميّة، وتبتعد عن التعميم الذي تعتبره النمط المميّز للشغل في العلوم الاجتماعية؛ إذ لم يعد ممكنًا اعتبارُه محايدًا.[27]

نقد مفهوم الثقافة القوميّة إبستمولوجيًّا

إنْ كان التشكيك في علميّة مفهوم الثقافة يُعزى إلى تضمّنه تجانسًا ونقاءً أبديًّا لمجموعةٍ اجتماعيةٍ أو سياسيةٍ ما، فإنّه يتضاعف عند إثارة مفهوم الثقافة القومية. تُصوّرُ الدولُ ثقافاتَها القوميّة كحقيقةٍ ثابتةٍ موغلةٍ في القدم والأصالة والتجانس، وتبرهن ذلك من خلال القصص والمرويّات والأساطير. يجادل بنديكت أندرسون بأنّه في خضمّ مسعى الثقافة القوميّة إلى بناء أمةٍ موحّدةٍ متجانسةٍ، يجري لجم الاختلاف الثقافي عبر سيرورةٍ مديدةٍ من العنف والقمع. ينتج عن ذلك تطابقٌ وهميٌّ بين مفاهيم الثقافة والدولة والأمة.[28] فمهما كان أعضاء المجتمع مختلفين بفعل الطبقة، الجندر، أو العرق، فإنّ الثقافة القوميّة تعمل على صهرهم في بوتقةٍ واحدةٍ عبْر خلق مصدرٍ بديلٍ للتماهي يتمثّل في العضوية المشتركّة في عائلة الأمة.[29] يمنح مفهوم الثقافة إحساسًا بالمعنى المشترك في ظلال الدول الحديثة التي استندت إليه بغاية البحث عن شكلٍ من أشكال التماسك الاجتماعي.[30] يتبيّن من ذلك أنّ مفهوم الثقافة القوميّة يستبطن وجود روحٍ ثابتةٍ واحدةٍ تعبّر عن الشعب أو الأمّة. تُوحَّد الثقافات من خلال تقويمها بصفتها التعبير الأمثل عن الثقافة الأساسية لشعبٍ واحدٍ.[31] يرى ستيوارت هول أن هذا ليس سوى محض أسطورةٍ، حيث تُعتبر الثقافة القوميّة مُعادِلةً للجماعة المتخيّلة بتعبيرات أندرسون.

 يمكن التفكير في هذه المسألة إبستمولوجيًّا على صعيد نقد المفهوم. فبينما تحيل الثقافة القومية على التجانس الذي تُظهره السلطات كمعرفةٍ صادقةٍ حول الأمم والمجتمعات، يتوجّب التفكير فيها كأداةٍ خطابيّةٍ وخيالٍ سلطويٍّ يمرّ بكثيرٍ من العنف وسحق التمايزات الثقافيّة المتمثّلة في الواقع، حيث لا يمكن أن تقبع الحقيقة الاجتماعية فيها. يحاجج هول بأنّ الثقافات القوميّة بصفتها أداةً خطابيةً تقدّم الاختلاف كوحدةٍ أو هويةٍ، التي تمثّل بدورها نقاط التقاءٍ للانقسامات الداخلية العميقة التي يجري توحيدها عبر ممارسة أشكالٍ مختلفةٍ من السلطة الثقافية.[32] من اللافت كذلك انطواء مفهوم الثقافة القوميّة على العرق ليس بمعناه البيولوجي، إنّما بإدراج تعريفاتٍ ثقافيّةٍ له تكمن في الأيديولوجيا والخطاب القومي كمعالمَ رمزيّةٍ للتمييز الاجتماعي بين جماعةٍ وأخرى.[33]

بتعبيراتٍ أخرى، في ظلّ انحسار العنصريّة المبنيّة على التفوّق والدونية البيولوجيّة، برزت عنصريةٌ جديدةٌ تضع العرق في عداد الأمّة والوطنيّة والقوميّة. وهي ما يعبّر عنها بول جيلروي بالقول إنّ الثقافة القوميّة، من جهةٍ، تُصوَّر متجانسةً في كونها بيضاء، ومن جهةٍ أخرى، يجري تمثيلها بصفتها مُهدَّدةً دومًا من الأعداء في الداخل والخارج. إنّها «عنصريةٌ تستجيب للاضطراب الاجتماعي والسياسي للأزمة وإدارة الأزمة عبر إحياء العظَمة القومية في الخيال».[34] يمكن القول، بذلك، إنّ نقد المفهوم معرفيًّا ينطوي على اعتباره كيانًا عرقيًّا يعمل على تصنيف الجماعات وإرساء حدودٍ انعزاليّةٍ صلبةٍ بينها؛ إذ يجري منح التفوّق للجماعة القوميّة مقابل إنتاج معانٍ سلبيّةٍ حول جماعاتٍ أخرى تُعتبر تهديدًا لها. يعود بنا هذا مجدّدًا إلى الخيال القوميّ الذي يعيد إنتاج العالم والثقافات المختلفة وفقَ تصوّرٍ يحقّق مصالحه في الهيمنة والسيطرة، ولا يعكس حقيقة الأشياء.

في سياقٍ ذي صلةٍ، يشير الأنثروبولوجي روجر كيسنج إلى نقطةٍ هامةٍ في نقده الطابع الأصولي للثقافة، حيث يرى أنّ الخطاب القومي الثقافي لِنخب العالم الثالث، في مواجهته عملية التغريب، استند إلى صناعة ذاتٍ ثقافيّةٍ تستبطن جوهرًا لها متمركزًا حول ادعاءات الهوية والمقاومة والأصالة.[35] وبموجب ذلك، صارت الأشكال الماديّة والأدائيّة بمثابة المكوّن الثقافيّ لشعوب ما بعد الاستعمار؛ إذ ورثتها الأخيرة من الأنظمة والمؤسسات الأوروبيّة السيميائيّة أثناء العملية الاستعماريّة، ونُشرت في تأكيدٍ موازٍ لهوية الثقافة.[36] وانطوى هذا على ما سُمي بالاستشراق العكسي، حيث دفعت الثقافات القوميّة باتجاه عكس علاقات القوة وتثمين الذات التي جرى اختزالها في السابق إلى الآخر الدونيّ.[37] يرى كيسنج أنه في خضمّ إحياء الطقوس والجذور الفلكلوريّة عبر القنوات الرسميّة للدول ما بعد الاستعماريّة، في إشارةٍ إلى بقائها الثابت رغم مساعي التغريب، جرى القبول بالشروط الأصوليّة للمستشرقين. فبينما قُلب الاستشراق على رأسه، حافظتْ تلك الخطابات والممارسات على الإحساس الجامد بالاختلاف القائم على مفهوم الثقافة؛[38] إذ عُيّنت الذات الجديدة كضدٍّ تامٍّ للذات الغربيّة.

نقد مفهوم الثقافة نسويًّا

على نسق المنظّرين والمنظّرات السابقين الذين شكّكوا في موضوعيّة مفهوم الثقافة نظرًا لقيامه على أساسٍ من الأصوليّة التي تخفي علاقات السلطة، انتقدت المنظّرات النسويات النقديات الأسس المعرفيّة للنظريات النسوية الثقافيّة. تركّز النقد على ما اعتبرنه تصويرًا متجانسًا للثقافة التي تمثّلت في الهيمنة الأبويّة حصرًا. فبينما حسمت هذه النظريات أنّ الاختلاف بين الرجال والنساء لا ينبع من البيولوجيا، إنّما كامنٌ في الثقافة، اتجهت إلى حجب التباينات بين النساء في مواقعهنّ وتجاربهنّ المختلفة. بتعبيرٍ آخر، جرى تجاهل عواملَ مهمةٍ من مثل العرق والطبقة والسلطة، التي تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل هويات النساء. رأت كلٌّ من الكاتبتين النسويتين برنتون ليكس ودونجكسيا كين أنّ هذا دفع بالعنصريّة والاستغلال الطبقي ليكونا مجرّد فروعٍ للنظام الأبويّ بدلًا من كونهما مكوّنين أساسيَيْن في مصفوفةٍ معقّدةٍ من السلطة.[39] وعليه، أُصِرَّ على أنّ ثمّةً مرجعيّةً واحدةً من الثقافة الذكوريّة تشكّل رابط الشعور الحصريّ بالقمع بين أوساط النساء، ما جعل المجتمع الأوسع الذي تحدّثن عنه متجانسًا من حيث الجندر.[40]

جادلت النسويات النقديات أنّ فرض أنوثةٍ أصوليّةٍ لجميع النساء على الرغم من الاختلافات بينهنّ، حجبَ بدوره أشكال الاضطهاد الأخرى العرقيّة والطبقيّة، التي لطالما مثّلت النساء البِيْض إحدى ركائزها وتمتّعن بامتيازاتها. وأفضى هذا إلى ما اعتبرنه النسويات النقديات نوعًا من الاستشراق العكسيّ، حيث حدّدت النسويات الثقافيات الذاتَ ككيانٍ ثابتٍ متجانسٍ معارضٍ للآخر الذكر،[41] رغم أن الأخير قد يتشارك مع كثير من النساء ظروفًا من الاستلاب أكثر من الاتحاد الوهميّ بين جميع النساء على أساس القمع الأبويّ فقط. ترى النسويّة بيل هوكس أنّ كشف وهم الذات النسائيّة كهويةٍ ثابتةٍ مظلومةٍ وتسيطرُ عليها ذاتيّةُ الذكور، لا يعني إنكارَ الإقرار بالهيمنة الذكوريّة على النساء في مجموعةٍ متنوعةٍ من المواقف، بل إقرارًا بإمكانيات ممارسة النساء للسلطة على نساء ورجال وأطفال آخرين، وبالتالي إزاحة لحدود الاختلاف الثقافي الصارم المفترض بين الرجال والنساء.[42]

من جهةٍ أخرى، أعربت النسويات النقديات عن قلقٍ آخر متعلّقٍ بقضية الاختلاف. رأت كلٌّ من الكاتبتين السوداوَيْن أودري لورد وبيل هوكس أنّ فهم الاختلاف بين النساء يمثّل نقطة انطلاقٍ معرفيّةٍ للتأسيس لأخلاقياتٍ نسويةٍ، منحازتَيْن إلى اعتبار الاختلاف معادلًا للخصوصيّة.[43] فبنظرهما، لا يمكن التعويل على القواسم المشتركة بين النساء دون الانكشاف على الاختلافات بينهنّ، خاصةً إن كانت اختلافات قوةٍ. مثلًا، استخدمت النساء البِيْض المميزات اقتصاديًّا في الواقع مفهوم الاختلاف للحفاظ على قوتهنَّ على أخرياتٍ ملوّناتٍ. صوّر هؤلاء تجاربهنّ كنساءٍ معيارياتٍ اعتبرن الملوّنات في مرتبةٍ أدنى لكونهنّ مختلفاتٍ عن تلك المعياريّة.[44]

يثبت هذا أنّ مفهوم الثقافة الذي تتموضع عنده النسويات الثقافيات ليس موضوعيًّا، فهو يخفي أنّ الثقافة في حقيقتها ترتكز على العلاقات الاجتماعيّة المادية على مدار أبعاد السلطة المختلفة.[45] فبدلًا من تلك الثقافة المتجانسة المُخاتلة، تنتصر النسويات النقديات لمفهوم الفرديّة الاجتماعيّة، الذي يشير إلى تطوير فهم الذات في الثقافة النقديّة كمجموعةٍ من العلاقات الاجتماعية التي طُوِّرت في سياقٍ يتسم بعلاقات القوى غير المتكافئة.[46] وكون النسويات النقديات تشكّكن في أن النظرية الثقافيّة بإمكانها أن تستوعب كلّ الحقيقة الاجتماعيّة حول جميع النساء، فإنهنّ يتّبعن المنهج التفكيكيّ ما بعد الحداثي على خُطى جاك دريدا. يطرح المنهج لهنّ إمكانية تحدي الثنائيات بين الذكر والأنثى، والطبيعة والثقافة، والغربيّة وغير الغربيّة، حيث يظهر كلّ مصطلحٍ ضمن الثنائيّات في عناصر الآخر ويستند إليه لإنتاج معناه.[47]

وعليه، تجادل النسوية النقدية ساندرا هاردينج ضد فكرة وجهة نظرٍ نسويّةٍ فريدةٍ من نوعها وموحّدةٍ؛ إذ ترى المعرفة أشكالًا من التفاهمات المُتفاوَض عليها اجتماعيًّا والمحدّدة للسياق، وليست مجرد تصوراتٍ جوهرانيّةٍ للواقع.[48] بذلك، تميل النسويات النقديات إلى ضرورة إنتاج نظرياتٍ جزئيّةٍ ومتعدّدةٍ ومحليّةٍ تتلاءم والواقع المعقّد للنساء، عوضًا عن السرديات الكبرى لنظرية الذات النسويّة المهيمنة التي تعتبر تطبيعًا للنساء يحكمن من خلالها على أنفسهنّ ويحكم الآخرون عليهنّ.[49] فمن خلال هذه الإثنوغرافيا الدقيقة، يمكن الوصول إلى عدّة مَعْرِفاتٍ صادقةٍ حول نساء يعشن في سياقاتٍ متباينةٍ؛ إذ تُنتَجُ معانٍ تواكب تأثرهنّ بعواملَ مختلفةٍ للثقافة، من مثل العرق والطبقة والسلطة وغيرها، ما يفنّد البناء الجوهراني للثقافة. بالمجمل، يمكن القول إنّ مفهوم الثقافة من وجهة نظر النسوية النقديّة يحمل معرفيًّا معانيَ متعددةً من السلطة وعلاقات القوة. وإنّ صناعة تجنيسها لإظهارها كحقيقةٍ اجتماعيّةٍ تنسحب على مختلف النساء، يهدف إلى التضليل على التمايزات الواقعيّة بينهنّ، وبالتالي تطبيع السلطة والتغطية على الممارسات العنيفة ضدّ شرائحَ كبيرةٍ من المهمّشات من قِبل بُنى تتواجد فيها نساءٌ أخرياتٌ يتمتّعن بامتيازاتٍ عرقيّةٍ وطبقيّة على حسابهنّ.

من نقد المفهوم إلى اتجاهاتٍ معرفيّةٍ جديدةٍ

إنّ أكثر المظاهر تضليلًا لمفهوم الثقافة يكمُن في تفكيكه الطرقَ المتنوّعة للغاية التي يحدث بها إنتاج المعنى في المجال المُتنازع عليه للوجود الاجتماعي.[50] يعتبر برومان الثقافة مفهومًا يعمل على تقويض خبرات وممارسات كثيرين قد تتناقض فيما بينها، مقابل اختزالها إلى فئةٍ معرفيةٍ واحدةٍ تغطّي على التنوّع الموجود. مقابل هذه المعاني التي يثيرها مفهوم الثقافة، وتخدم مشاريعَ سياسيةً وقوميةً ونسويّةً محدّدةً، يجري اليوم التشكيك فيه لصالح الهجانة الثقافية الناتجة بالضرورة عن غياب مركزٍ مثاليٍّ يمكن من خلاله رؤية الآخر.[51] ففي ظلّ ما يدعوه ستيوارت هول انضغاطًا في الزمن والفضاء والهويّة في عصر العولمة، تصبح الهويات الثقافية الحديثة منتزعة المركزيّة ومقتلعةً من مكانها.[52] وعليه، فإنْ كان في السابق يجري بناء الذوات والهويات وفق مشاهدَ ثقافيةٍ للطبقة والجندرة والعلاقات الإثنيّة تمنحها بدورها مواقعَ ثابتةً مُحكمة الحدود، تُخترق اليوم الحدود القوميّة بدمج الجماعات والتنظيمات في توليفةٍ جديدةٍ من الزمن والفضاء، جاعلةً من العالم في الواقع والممارسة أكثر ترابطًا.[53]

 وفي حال ربَطنا كلّ هذه المتغيرات بسؤال المعرفة والحقيقة وعلاقته بالثقافة، فيمكننا القول إنّنا أمام توجّهاتٍ معرفيةٍ مختلفةٍ في تأطير الامتزاج بين الثقافات وعبور حدودها. يرى عددٌ من المنظّرين في العلوم الاجتماعيّة أنّ التدفّق بين الثقافات يعمل على تآكل الثقافات القوميّة المتجانسة والتزامها بأزمنةٍ وتواريخَ وتقاليدَ محدّدةٍ، لكنّه بالمقابل يخلق نمطًا من المجانسة الثقافيّة التي تبني بدورها العالم على صورةٍ واحدةٍ. ذلك أنّ الثقافة، كفئةٍ اجتماعيّةٍ ومفاهيميّةٍ، أضحتْ اليوم مقطوعةً عن الدولة القومية؛ إذ باتت تشكّل مِلكيّةً عالميةً مشتركةً لا يمكن لأمّةٍ المطالبة بها بشكلٍ حصريٍّ.[54] بنظري، يعيدنا هذا التفكيرُ إلى إعادة إنتاج مفهوم الثقافة الذي جرى نبذه من قِبل كثيرين لعدم تمثيله الحقيقة الاجتماعيّة، حيث يعود ليظهر شكلٌ موحّدٌ من الثقافة.

ثمّة اتجاهٌ آخر ينتقد تصوّر المجانسة الثقافيّة، معتبرًا الحقيقة كامنةً في هيمنة الثقافة الغربية على الثقافات الأخرى؛ إذ نشهد تفاوتًا في التدفّق وديمومة علاقات سلطةٍ ثقافيةٍ غير متساويةٍ بين الغرب وبقية العالم.[55] ففي خضمّ العولمة وما بعد الحداثة وانكسار حدود الاختلاف الصارم، لا يزال الغرب يعيش إلى حدٍّ ما استيهامًا كولونياليًّا حول الأطراف والحفاظ على إنتاج الآخريّة. فبينما تخضع الأطراف إلى تأثيرات الثقافة المهيمنة بدرجةٍ أقوى، تبدو ثقافة الأطراف لا تزال موضوعًا للمعرفة السائدة. بتعبيرٍ آخر، لا يزال الغرب يرغب في إبقاء تلك الأمكنة صافيةً إثنيًّا وتقليديةً ثقافيًّا لم يمسّها أحدٌ كي يكرّس بنظره ذاتَه المتفوّقة عرقيًّا وثقافيًّا، ويُنتِج من خلال الآخريّة مشاريعَ الهيمنة والاستبداد.[56]

يقودنا هذا إلى الاعتقاد بأنّ الامتزاج بين الثقافات وانحسار الأشكال الثقافيّة ذات الجذور الثابتة لا يعنيان إنهاءً للإشكاليات المنبثقة من مفهوم الثقافة، إنّما قد يعملان على إنعاشها من جديدٍ. فحينما تشعر بعض الثقافات المهيمنة بفقدان نقائها والتهديد من أشكال الهجانة، فإنّها تعيد تغذية الهويات المحليّة والأصوليّة وإحياء الثقافات القوميّة كردّ فعلٍ قويٍّ على ذلك. تخلق الهجانة، بذلك، ما صُمِّمتْ في الأصل لمكافحته من انغلاقٍ وتماسكٍ تثيرهما الثقافة، حيث تعيد الأمم المحتملة بناء دولٍ موحّدةٍ بالمعنى الإثنيّ والدينيّ وخلق كياناتٍ سياسيّةٍ تتمحور حول هوياتٍ ثقافيّةٍ متجانسةٍ.[57] بالتالي، إنْ كانت الحماسة باتجاه مفهوم الهجانة عوضًا عن الثقافة انطلقتْ بشكلٍ رئيسيٍّ من السعي إلى الحقيقة وسدّ الفجوة ما بين التمثيل النصيّ والعالم الواقعي، إلا أنّ المفهوم بذاته لم يستطع التنصّل تمامًا من الحمولة الأيديولوجيّة لمفهوم الثقافة والمُفضية إلى الخيال المتجانس.

بالمقابل، هناك اتجاهٌ معرفيٌّ آخر يرفض اعتبار الهجانة مجرّد تحفيزٍ على الاندماج الكامل في العالمي والمجانسة الثقافيّة، أو تحفيزٍ على العودة الأصوليّة إلى الجذور القوميّة، إنّما ينحاز إلى اعتبارها محفّزةً على ما يسمّيها كيفن برينز الترجمة الثقافيّة. فمن خلالها، تتشكّل هوياتٌ جديدةٌ تكون صنيعة عالمين ثقافيين أو أكثر، تنتمي إليهما بذات المقدار. تبقى الروابط مع التقاليد المحليّة قويةً، وكذلك مع العالم الذي انتُقِلَ إليه، دون هذا الحسم بالانتماء إلى موقعٍ ثقافيٍّ واحدٍ. ويعود هذا بنظر برينز إلى أنّ الأشخاص المهجّنين لم يعودوا موحّدين بالمعنى الذي كانوا عليه الآن أو في المستقبل، كونهم نتاجًا لا رجعة عنه لتواريخَ وثقافاتٍ وأوطانٍ متعدّدةٍ. يتقاطع هذا الطرح مع ما تدعوها أبو لغد «هويّات نصفية» (Halfies) التي حفّز تشكّلها حركة الكتابة ضد الثقافة، معتبرةً نفسها إحدى نماذج تلك الهويات. ترى أبو لغد أن الانتماء إلى عوالمَ متعدّدةٍ في وقتٍ واحدٍ، يقطع عملية صناعة الآخر التي كرّسها مفهوم الثقافة والحدود الناشئة عنه؛ إذ يتحول الآخر إلى جزءٍ أساسيٍّ من الذات، والعكس صحيح.[58] ذلك أنّ الذات تكون عالقةً منقسمةً عند تقاطع أنظمة الاختلاف. نتيجةً لذلك، تساهم هذه الهويات في تفكيك المعارضة الثنائية المانويّة التي لطالما سهّلت تبرير مشاريع السيطرة والعنف.

من جهةٍ أخرى، يتفق أباداروي مع أبو لغد وبرينز على صعيد فتح الهجانة الثقافيّة ممكناتٍ جديدةً متعدّدةً، ناقدًا بذلك الماركسية التي تخيّلت، بنظره، تصوّرًا أحاديًّا متجانسًا للثقافة بوصفها خاضعةً للإمبريالية.[59] يحاجج أبارادوي بأنه في زمن العولمة وجغرافيات ما بعد الاستعمار، لا يمكن للثقافة أن تعبُر بتلك الطريقة الأحاديّة الخطيّة، إنّما ينطوي عبورها بين المناطق الثقافيّة والجغرافيّة على عملياتٍ دائمةٍ من التأويل والترجمة والتحول والأقلمة وفق شروطٍ معينةٍ من التوطين.[60] تعيد أبو لغد التأكيد على ذلك في معرض نقاشها الإثنوغرافيا التلفزيونيّة، حيث تتمسّك بضرورة الابتعاد عن التفكير في الثقافة كنظامٍ من المعاني أو أسلوب حياةٍ. تستبدل ذلك بالتفكير فيها معرفيًا كشيءٍ تنتجه السلطة وتراقبه وتبثّه عبْر الأمة وعبور الحدود الوطنيّة. وبناءً عليه، تعتبر اللقاءات التي يثيرها التلفاز بين عوالم الحياة والحساسيات والأفكار، وإنتاجها تأويلاتٍ وترجماتٍ مختلفةً لدى أربع قروياتٍ مصرياتٍ، دليلًا على الإشكال الكامن في مفهوم الثقافة بافتراض أنّ الثقافات عبارةٌ عن مجتمعاتٍ محليّةٍ من الناس معلّقة في شبكات المعنى المشتركة. عوضًا عن ذلك، تقترح الباحثة نظرًا لإنتاج أشكالٍ مختلفةٍ من التعدديّة العالميّة في تلك القرى، ضرورةَ تتبّع النساء في تكويناتٍ محدّدةٍ من السلطة والتعليم والثروة.[61]

وفي سياقٍ متصلٍ بالهجانة الثقافية والتعددية العالميّة، تحتلّ الثقافة مكانًا مركزيًا في نظرية ما بعد الاستعمار، التي تأسّست بغية تفكيك المركزيّة الغربيّة في عملية إدراك العالم وتصوّر ثقافاته. مكّنت النظرية من كشف كثيرٍ من الافتراضات البنيويّة والميتافيزيقيّة في تخيل ثقافة الشرق والعالم الجنوبي عمومًا، التي لعبت دورًا كبيرًا في ترسيخ بنى الاستلاب والاضطهاد الغربيَيْن في تلك المناطق.[62] وعلى صعيد نظرية المعرفة، مثّل أدب ما بعد الاستعمار إزاحةً على صعيد الثقافة من كونها موضوعًا إبستمولوجيًّا للغرب إلى تحوّلها إلى فاعلٍ مركزيٍّ للمجتمعات المضّطهَدة والأصليّة.[63] وبناءً عليه، شكّك مثلًا هومي بابا في النقاء الثقافي المتخيل لكلٍّ من الشرق والغرب، مقترحًا عوضًا عن الثقافة مفهومَ الفضاء الثالث كنموذجٍ عمّا أسماه «القلق الاستعماري».[64] ليس هذا الفضاء الثالث نابعًا من لحظتين أصليتين تنبثق منهما لحظةٌ ثالثةُ، بل يتشكّل الفضاء الثالث من الجمع بين مساحاتٍ ثقافيّةٍ ليست بمتجانسةٍ أو مغلقةٍ، إنّما مختلطةٌ في طبيعتها.[65]

يفتح هذا المجال لاستحالة الفضاء الثالث سياسةَ تحريرٍ تتمكّن من إعادة تشكيل السلطة وزعزعة استقرارها. حيث إنّ «التفاعل بين المستعمِر والمستعمَر يؤدي إلى انصهار المعايير الثقافيّة التي تؤكد السلطة الاستعماريّة، بل وتهدّد أيضًا في محاكاتها بزعزعة استقرارها. وهذا ممكنٌ لأن هوية المستعمِر في حد ذاتها غير مستقرةٍ؛ إذ توجد في وضع معزولٍ ومغتربٍ، كما توجد هوية المستعمَر بحكم اختلافها. فهي تتجسّد فقط في الاتصال المباشر مع المستعمِر. وقبل ذلك، فإن حقيقتها الوحيدة موجودةٌ في أيديولوجيا الاستشراق كما عرفها سعيد».[66] من ناحيةٍ أخرى، في مقالتها المؤثّرة «هل بإمكان التابع أن يتكلم؟»، تكشف غايتري سبيفاك كيف أنّ التابعين من المسحوقين والأصليين، باسم الاختلاف الثقافي الذي عمل كأداة تصنيفٍ، افتقروا إلى وكالتهم السرديّة في تمثيل أنفسهم، ليأخذ الباحثون المهيمنون مهمّة تمثيلهم كآخرين غرباء، على نحوٍ لم يعكس واقعهم المعيش.[67]

على سبيل الخاتمة: نقاشٌ معرفيٌّ حول المفهوم

مقابل كلّ ما سبق، دافع منظّرون عن مفهوم الثقافة؛ إذ اعتبر كريستوف برومان النقد الذي طال المفهوم غيرَ متعلقٍ بإمكانيات النظريّة أو متأصلًا في المفهوم بذاته. بل إنّه مرتبطٌ بمجموعةٍ من الاستخدامات المعياريّة له، تحديدًا كجهاز تصنيفٍ معيبٍ كالعرق، ما جعله يعتبر النقد قائمًا على التعميم الأنثروبولوجي الذي ينتقده النقّاد بالأصل في مفهوم الثقافة. يناصر برومان المفهوم باعتباره أرضيةً ملائمةً لتحديد مجموعات المفاهيم والعواطف والممارسات التي تنشأ حينما يتفاعل الناس بانتظامٍ. لكنّ مناصرته، بنظره، تعني ضرورة الإبقاء على المفهوم دون أن يُنتِج هذا العجز عن التشكيك في توظيفاته السياسيّة. يعتقد برومان بأنّ التشديد على أنّ الثقافة ليست بمكافئٍ للعرق أو الهوية، وأنّ لها حدودها على الصعيدين الفرداني والعالمي، يحصّنان المفهوم كنظريةٍ داخل الأطر المعرفيّة.[68]

بالمقابل، تشكّك أبو لغد في مجادلة برومان التي تفصل بين النظرية وافتراضاتها المعرفيّة والمنهجيّة. تحاجج أبو لغد بأنه ليس للمفاهيم معانٍ عابرةٌ أو حقيقيّةٌ، بل هي تكويناتٌ بشريةٌ مدمجةٌ اجتماعيًا، وتُوظَّف من قبل أناس حقيقيين في مواقف حقيقيّة. تعتبر المفهوم ملوّثًا بالعالم المسيّس الذي أُنتج فيه؛ إذ لا يمكن تخطّيه بإعادة تعريفه أو تصحيحه.[69] ترسي الباحثة نقطتين أساسيتين في ردّها على برومان: الأولى تسمّيها الاقتصاد النفعي، التي تتعلق بتبيان الباحث دورَ الثقافة في إبراز الروتينات المشتركة، حيث تشدّد على أن أيًّا من النقاد يرفض فكرة تشارُك مجموعةٍ اجتماعيةٍ ما سماتٍ محدّدةً. لكنّها ترى أنّ التشديد على المشتركات والتماسك يجعل من الثقافة بمثابة روحٍ ميتافيزيقيّةٍ للمجموعة، تكتم بدورها التمايزات المتعدّدة داخل المجموعة، وبالتالي تصبح بعيدةً عن إنتاج معرفةٍ صادقةٍ تمثّل هذه المجموعة بصراعاتها وتفاوتاتها. أما الثانية فترتبط بمنحه السلطة للباحثين الأنثروبولوجيين للتدخّل حينما يُساء تعيين المفهوم من قبل الأصوليين. تحاجج أبو لغد بأنّ دور الباحثين في العلوم الاجتماعية لا ينطوي على تقويم المفاهيم وإظهار أنّ الوحدات الثقافيّة كبيرةٌ للغاية أو متجانسةٌ للغاية أو غير متكافئةٍ للغاية أو فجّةٌ للغاية. بل في رفض الفكرة بذاتها على صعيد تكريس مجموعاتٍ من الناس تعرّفهم الثقافات السائدة ككياناتٍ معاديةٍ أو معارضةٍ تمامًا لها،[70] بهدف ضمان تفوّق المصنِّف وبلوغ استحقاقات ذلك من جهة السيطرة على موارد الآخرين الأدنِيْن. وهو ما يتقاطع مع أباداروي الذي اعتبر أنّ ثمّة تواطؤًا للمفهوم الأنثروبولوجي للثقافة في تشييد سجنٍ مستمرٍ للشعوب غير الغربيّة في الزمان والمكان.

من وجهة نظري، أرى من الصعب إبستمولوجيًّا رفض مفهوم الثقافة تمامًا كما تميل حركة الكتابة ضد الثقافة. ذلك أنّ المفهوم حيويٌّ في تمكيننا من إنتاج خيالاتٍ وقصصٍ محمّلةٍ بمعانٍ حول رموزٍ وممارساتٍ ثقافيّةٍ محدّدةٍ. أميل إلى اعتبار الثقافة ضروريةً في الانكشاف على بعض عناصر هويات الجماعات؛ إذ لا تزال تحتفظ في حالاتٍ كثيرةٍ بالبعد القهريّ لها الذي تُوجب على كثيرين الانخراط ضمن قيمها وأنماطها ليكونوا جزءًا من وجودٍ اجتماعيٍّ ما. لم أرَ حتى اللحظة محاججةً مقنعةً تثبت أنّ مفهوم الثقافة عمومًا يستبطن حصرًا المجانسة والخلود لجماعةٍ ما. أرى أنّ إحالة المفهوم على سماتٍ وتقاليدَ مشتركةٍ لا تقلّل تلقائيًّا وفي كل الحالات من فرص وجود الاختلاف والصراع داخل المجموعة.

وعليه، بينما أعتبر إدراك ثقافات العالم معرفيًا كبنيةٍ مشتركةٍ فيما بينها يجعل من مفهوم الثقافة أشبه بظاهرةٍ طبيعيّةٍ أصوليّةٍ، فإنني كذلك أرى المنطق التخصيصيّ للثقافة في البناء المعرفي للعالم كظواهرَ مستقلّةٍ ومعزولةٍ عن بعضها قد يساهم في حالاتٍ كثيرةٍ في تحوّل الثقافة إلى جهازٍ تصنيفيٍّ أصوليٍّ للعالم وفق تصوّراتٍ هرميّةٍ متخيلةٍ. بالتالي، فإنني أميل بعد الاستعراض أعلاه إلى القراءة المعرفيّة للعالم من وجهة نظر الهجانة الثقافية التي تكسر الحدود المغلقة المفترضة بين الجماعات الإنسانية، دون أن تفقد الأخيرة ما يميزها بالكامل أو يختزلها إلى الدمج في عالميٍّ متجانسٍ.

يعزّز ما سبق فكرة أنّ مفهوم الثقافة تحفره معرفيًا اتجاهاتٌ مختلفةٌ، ما يعني أن نقده استنادًا إلى اتجاهٍ أحاديٍّ غيرُ منصفٍ تمامًا. بالمقابل، أتفق مع اتجاه الكتابة ضد الثقافة في نقد أصوليّة المفهوم وغير موضوعيّته، لكن في معرض بعض استخدامات المفهوم المعياريّة، وليس كجوانبَ ثابتةٍ مكرّسةٍ ضمن المفهوم. فمن ناحيةٍ، أتفق تمامًا في كون الغرب عيّن نفسه تاريخيًا كذاتٍ متفوّقةٍ لما أتاحه افتراض الاختلاف الثقافي كحقيقةٍ اجتماعيّةٍ ترسي مسافةً موضوعيّةً من الآخر. ساعد هذا على عرقنة العالم بالمعنى الثقافي؛ إذ استحال الاختلاف التعميميّ بمثابة مدخلٍ رئيسيٍّ نحو تبرير اكتساب القوّة المادية وموارد المستضعفين. ذلك أنّ الاختلاف تضمّن تصنيفًا تلقائيًا صوّر بدوره ثقافات العالم الجنوبيّ ككياناتٍ عاجزةٍ عن إدارة مصيرها بنفسها، احتاجت مَن ينوب عنها في ذلك، ويرقّيها إلى سلّم الحضارة المعياري. ومن ناحيةٍ أخرى، سواءً على صعيد مفهوم الثقافة القوميّة أو الثقافة المتعلّقة بالجندر لدى النسويّات الثقافيّات، فإنه جرى كما بيّنا قبلًا صناعة الذات المتجانسة المتماسكة. تقف الأولى بوجه الجماعات الأخرى الخارجة عن الأمّة، فيما الثانية تقف حصرًا بوجه الذكور كآخرين. وعليه، لا يمكن التفكير في الثقافتين إلا بوصفهما خطاباتٍ تمكّنت سلطتهما من تطبيعهما، وحجْب حقيقة التمايزات والاختلافات داخل فئة الذات أو التقاطعات مع فئة «الآخر». يؤشّر هذا على أن المفهوم في حالاتٍ عديدةٍ ينطوي على النقيض من الحقيقة الاجتماعيّة والمعرفة الصادقة؛ إذ لطالما سمح ذلك بتكريس مزيدٍ من السلطة وإخفاء العمليات العنيفة والإقصائية التي يمرّ بها إحقاق المجانسة من أجل تصويرها كظاهرةٍ طبيعيّةٍ.

ختامًا، أعتقد أن رافضي مفهوم الثقافة بكليّته لم يجترحوا عُدّةً منهجيّةً جديدةً تتجاوز المفهوم. فحتى إنْ اشتغلوا وفق نظرياتٍ إثنوغرافيّةٍ جزئيةٍ ومتعدّدةٍ أكثر تعقيدًا، إلا أنّني أرى مثلًا باشتغال ليلى أبو لغد الكثيف على قبائل أولاد علي البدوية، وانتهائها إلى ضرورة الابتعاد عن مفهوم «الثقافة البدويّة» الواحدة – على اعتبار أن ثمّة خطابين متناقضين ثقافيًا يجريان في مسار الحياة الاجتماعية هناك – عملًا بالمنهجية التأويليّة السيمائيّة لِكليفورد غيرتز.[71] استخدمتْ أبو لغد توصيفًا كثيفًا لخطاب الحياة العادية والخطاب الشعري، مُنتجةً معانيَ حولهما تنساب في المسارَيْن الاجتماعي والثقافي.[72] ذلك أنّ تبيانها امتثالَ أحدهما إلى أيديولوجيا الشرف والحشمة، فيما الآخر يبدو متفلّتًا منها، يستند بالدرجة الأولى إلى انخراطها في الحقل الميدانيّ، ومن ثمّ نقلها المشاهدات كخيالٍ يسعى، بحسب غيرتز، إلى الاقتراب قدر الإمكان ممّا يحصل ويتمثّل في الواقع. يقودها هذا إلى سلسلة تأويلاتٍ حول حقائقَ جزئيّةٍ ومتعددةٍ من الدرجة الثانية والثالثة وغيرها، على نحوٍ يضعنا من جديدٍ في قلب إحدى منهجيات دراسة الثقافة، وليس خارجها.

[1] Laila Abu-Lughod, “Writing against Culture,” in From Recapturing Anthropology: Working in the Present, ed. Richard G. Fox (Cambridge: School of American Research Advanced Seminar Series, 1991), 54

[2] Ibid, 54.

[3] Ibid, 54.

[4] Arjun Appadurai, Modernity at Large: Cultural Dimensions of Globalization (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1996), 12.

[5] Abu-Lughod, “Writing against Culture,” 51.

[6] عبد الله إبراهيم، «نقد التمركزات الثقافية في العالم المعاصر»، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، عدد 23 (2003): 197.

[7] المرجع السابق، 197.

[8] جعفر نصر، مقدّمة في أنثروبولوجيا العولمة: الغرب من اقتصاديات الذات إلى جغرافيا الآخر (دمشق: دار صفحات للدراسات والنشر، 2011)، 29.

[9] Jonathan Friedman, Cultural Identity and Global Process (London: Sage Publications Ltd, 1994), 206.

[10] Ibid, 208.

[11] Ibid, 208.

[12] Abu-Lughod, “Writing against Culture,” 51.

[13] Ibid, 57.

[14] James Boggs, “The Culture Concept as Theory in Context,” Current Anthropology. 45: 2 (2004): 191.

[15] Ibid, 19.

[16] كارل ماركس، فريدرك إنجلز، الإيديولوجية الألمانية: مصادر الاشتراكية العلمية، ترجمة: فؤاد أيوب (بيروت: دار الفارابي، 2016)، 69.

[17] عبد الغني عماد، سوسيولوجيا الثقافة: المفاهيم والإشكاليات من الحداثة إلى العولمة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2006)، 68.

[18] المرجع السابق، 68.

[19] Christoph Bruman, “Writing for Culture: Why a Successful Concept Should Not Be Discarded,” Current Anthropology 40: S1 (1999): S19.

[20] Ibid, S19

[21] Ibid, S12

[22] Appadurai, Modernity at Large, 12.

[23] Ibid, 12.

[24] Ibid, 13.

[25] Abu-Lughod, “Writing against Culture,” 58.

[26] Jack Goody, “Culture and Its Boundaries: A European View,” in Assessing Cultural Anthropology, ed. Robert Borofsky (New York: McGraw-Hill, 1994), 255.

[27] Abu-Lughod, “Writing against Culture,” 58.

[28] ستيوارت هول، «حول الهوية الثقافية»، ترجمة: بول طبر، مجلة إضافات، العدد الثاني (2008): 157.

[29] المرجع السابق، 158.

[30] Robert Borofsky, Fredrik Barth, Richard Shweder, Lars Rodseth and Nomi Maya Stozenberg, “When: A Conversation about Culture,” American Anthropologist. 103: 2 (2001): 433.

[31] هول، «حول الهوية الثقافية»، 159.

[32] المرجع السابق، 158.

[33] المرجع السابق، 159.

[34] Paul Gilroy, “The End of Anti-Racism,” in Race, Culture and Difference, ed. James Donald and Ali Rattans (London: Sage Publications in association with the Open University, 1992), 82.

[35] Roger Kessing, “Theories of Culture Revisited,” Canberra Anthropology 13: 2 (1994): 53.

[36] Ibid, 53.

[37] Abu-Lughod, “Writing against Culture,” 55.

[38] Ibid, 55.

[39] Brinton Lykes and Dongxiao Qin, “Collectivism and Individualism,” in Encyclopedia of Women and Gender, ed. Judy Worell (San Diego, CA: Academic Press, 2001).

[40] Dongxiao Qin, “Toward a Critical Feminist Perspective of Culture and Self,” Feminism & Psychology 14: 2 (2004): 299.

[41] Abu-Lughod, “Writing against Culture,” 55.

[42] See: Bell Hooks, Yearning: Race, Gender, and Culture Politics (Boston, MA: South End Press, 1990).

[43] See: Bell Hooks, Talking Black: Thinking Feminist, Thinking Black (Boston, MA: South End Press, 1989); Audre Lorde, Sister Outside (Trumansburg, New York: Crossing Press, 1984).

[44] See: J.A Boyod, “Ethnic and Cultural Diversity: Key to Power,” in Diversity and Complexity in Feminist Theory, ed. L.S Brown and MP.P Root (New York: Harrington Park Press, 1990).

[45] Brinton Lykes, “Gender and Individualism V.S Collective Bases of Social Individuality,” Journal of Personality Psychology 53 (1985): 357- 83.

[46] Ibid.

[47] Qin, “Toward a Critical Feminist Perspective,” 299.

[48] S. Harding, The Science Question in Feminism (Ithaca, NY: Cornell University Press, 1986); S. Harding “Feminism, Science, and the Anti-Enlightment Critiques,” in Feminism/Postmodernism, ed. L.J. Nicholson (New York: Routledge, 1990), 83- 106.

[49] Qin, “Toward a Critical Feminist Perspective,” 306-307.

[50] Bruman, “Writing for Culture,” S2.

[51] Friedman, Cultural Identity and Global Process, 208.

[52] هول، «حول الهوية الثقافية»، 138.

[53] المرجع السابق، 160.

[54] Revathi Krishnawany, “The Criticism of Culture and the Culture of Criticism: At the Intersection of Post Colonialism and Globalization Theory,” Diacritics 32: 2 (2002): 114.

[55] K. Robins, “Traditions and Translation: National Culture in its Global Context,” in Enterprise and Heritage: Crosscurrents of National Culture, ed. John Corner and Sylvia Havery (London; New York: Routledge, 1999), 25

[56] هول، «حول الهوية الثقافية»، 165.

[57] المرجع السابق، 170.

[58] Abu-Lughod, “Writing against Culture,” 52.

[59] Appadurai, Modernity at Large, 17.

[60] Krishnawany, “The Criticism of Culture,”116.

[61] See: Lila Abu-Lughod, Dramas of Nationhood: The Politics of Television (Chicago and London: The University of Chicago Press, 2005).

[62] Yufeng Owang, “The Culture Factors in Postcolonial Theories and Application,” Journal of Language Teaching and Research. 9: 3 (2018): 652.

[63] Homi Bhabha, Locations of Culture Discussing Post-Colonial Culture (London: Routledge, 1996), 178.

[64] Prayer Raj, “Postcolonial Literature, Hybridity and Culture,” International Journal of Humanities and Social Science Studies. 1: 2 (2014): 126.

[65] Homi Bhabha, “Interview with Homi Bhabha,” in Identity, Community, Culture, Difference, ed. Jonathan Rutherford (London: Lawrence Wishart, 1990), 211.

[66] ديفيد كارتر، النظرية الأدبية، ترجمة وتحقيق: باسل مسالمة (دمشق: دار التكوين للنشر والتوزيع، 2018)، 127- 128.

[67] Gayatri Spivak, “Can the Subaltern Speak,” in Marxism and the Interpretation of Culture, ed. Cary Nelson and Lawrence Grossberg (London: Macmillan, 1998), 24- 28.

[68] Bruman, “Writing for Culture,” S1

[69] Ibid, S13.

[70] Ibid, S13.

[71]  يُنظر: كليفورد غيرتز، تأويل الثقافات، ترجمة محمد بدوي (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009).

[72]  Laila Abu-Lughod, Veiled Sentiments: Honor and Poetry In A Bedouin Society (California: University California Press, 2016), 10.

هذا المقال جزء من منشور  «جدل تاريخي: الدولة وعناصرها».

afac

Skip to content