الأرض، والعمل، والاختلاف: البُنى الأولية للعرق (2001)

في أستراليا، رغم أنّ الأبورجيين (السكّان الأصليون) يطلق عليهم مسمى السود، فلا ينسب إليهم – أيديولوجيًّا – حسٌّ طبيعيٌّ بالإيقاع. وأما الأمريكيون السود بالمقابل، فهم على عكس الأبورجيين، لا يصوّرون كعرقٍ مُحْتضِر،[1] فقد خصِّصَ هذا الشرط الأخير أيديولوجيًّا للأمريكيين الحُمر. وقد تميّزت التصويرات الرائجة للأستراليين السود والأمريكيين الحُمر بالتماثل في هذه الناحية وغيرها من النواحي، في حين تباينت تباينًا صارخًا مع التصويرات الرائجة للأمريكيين السود.[2] وعليه فالمسألة لا تقتصر على خطاباتِ اللون أو الجنسية.

في أستراليا وفي الولايات المتحدة، قبِلت السلطات البيضاء عمومًا بإدماج المادّة الجسديّة للأصليين (التي تُمثَّل، في المجاز المُرسل، بالدم) في نسلها الخاص – بل واستهدفَت ذلك. وفي كلا البلدين، فيما يتعلق بأسس الانتماء للجماعة وهويّتها، أكّد الأصليون معاييرَ لا تشتمل على النسبة الدموية.[3] وفي المقابل لم تتخلى السلطات الأمريكية عن أشدِّ الإجراءات صرامةً لعزلِ النسلِ السائد عن المادة الجسدية للسود إلّا في العقود الأخيرة. وأما الجماعة السوداء نفسها في الولايات المتحدة، فقد أكدت – وإنْ باستثناءاتٍ قليلةٍ – «قاعدة القطرة الواحدة»، محافظةً على سياسةِ انتماءٍ اشتمالية صعدت بأعدادِ الجماعة (إنْ تجاهلنا الآن آثارها الأخرى). وخلافًا لهؤلاء، وجد الأفرو-برازيليون أنفسهم عُرضةً لسياساتٍ أشبه في نواحٍ عدّة بتلكَ المفروضة على الأصليين في أستراليا والولايات المتحدة، وعلى وجه التحديد: سياسةُ «الديمقراطية العرقية» في البرازيل التي سعت إلى تبييض السكّان عبر تركيبةٍ من الهجرة البيضاء و«تمازج الأجناس» (miscegenation) المُشَرعن رسميًّا بينَ البرازيليين السّود والبرازيليين الأفتح لونًا. والمعارضة المنظّمة لهذه السياسة لم تلقى دعمًا رائجًا حتى في أوساط الأفرو-برازيليين.[4]

لا أساس للافتراض بأنّ تبايناتٍ صارخةٍ كهذه يمكن جمعها تحت صنفٍ سيّدٍ واحد اسمه «العرق». فالأمثلة السابقة توحي بأنّ العرق ليس إلا واحدًا من أنظمةٍ متنوّعةٍ للاختلافِ عملت على تمييز المجموعة الغالبة عن مجموعاتٍ لاقتها بدايةً في سياقاتٍ استعمارية. ولكن التركيز على خطابات تمازج الأجناس التي تُهيكِل هذه الأمثلة يُمَكّننا بالفعل من الخوض بعمقٍ في السياقات الاستعمارية المحددة المعنية. فعلى سبيل المثال، لا تقتصر مشتركات الهنود الأمريكيين والأبورجيين في أستراليا على خصلة الاستهداف بِسياساتِ الإدماج. فكلتاهما قبل أيّ شيءٍ مجموعتا شعوبٍ كان الاستحواذ على أراضيها عاملًا تأسيسيًّا للتشكيلات الاستعمارية التي ألحقهم الأوروبيون بها. ولهذا فعلاقتهم بمستعمِريهم – وكلا طرفي العلاقة سيتفقان على الأرجح – تمركزت حول الأرض. وخلافًا لهم ارتكزت علاقةُ السود بمستعمِريهم – من منظورِ المستعمِرين على الأقل – على العمل. وفي ضوء ذلك، يتصف تنوع سياسات تمازج الأجناس بمعقوليةٍ مباشرة، مذ أنّ الإدماج يخّفض تعداد سكّان أصليين ذوي الدعوى المُنافِسة على الأرض، في حين تزيد الاستراتيجيات الإقصائية من القوّة العامِلة المستعبَدة.

هذا المقال سيعاين بعض الأنظمة العرقية التي سعى الأوروبيون إلى فرضها على مجموعاتٍ مُستعمَرة، بقصد إيضاح الأسس التي وضع عليها الأوروبيون الاستعلاء الأبيض والطُرق المتغيرة التي سعوا عبرها إلى صونه. ولتحقيق هذه الأهداف سنركز على النقاط التي عندها يظهر تفسّخ التصنيفات العرقية ظهورًا فاضحًا. فهذه التصنيفات، مثلها مثل غيرها من الأصنافِ المفروضة، تطبّق أوضح ما تطبّق في مناطق ضعفها، أي عند النقاط حيث تنهار التقسيمات التي تدّعيها. ولهذا فالمقال سيحقق في التفرقة عبر نفيها. كان للجنسانية، كونيًّا، أنْ تداخلت مع الأصناف العرقية، ولهذا يمكننا مقاربة أنظمة السيطرة الاجتماعية بنحوٍ مقارنٍ عبر مسحٍ تاريخيٍّ عابرٍ للثقافات لخطابات تمازج الأجناس.[5] وعلى هذا الأساس سيحلل هذا المقال سياسات تمازج الأجناس التي سعت السلطات البيضاء إلى فرضها في أستراليا (على الأبورجيين)، وفي الولايات المتحدة (على السود والهنود)، وفي البرازيل (على مجمل السكّان). ومنذ أنّ التباينات والتشابهات التي تهمّنا لم تنبثق بالضرورة في هذه المجتمعاتِ المختلفة في الأوقات نفسها أو بتتابعٍ زمنيٍّ متّسق، فالنقاش سياقيٌّ وموضوعيٌّ، لا زماني.


كما أسلفت القول في أطروحةٍ أخرى،[6] كانت سياسة الإدماج الأسترالية – التي بموجبها خطفت الدولة الأستراليةُ الأطفال الأبورجيين ذوي نسبةٍ من الانحدار غير الأبورجي، من عائلات مَولدِهم – جزءًا لا يتجزّأ من منطق المحو الذي استند إليه الاستعمار الاستيطاني الأسترالي. فخلافًا لعلاقات الاستعمار بالامتياز1الاستعمار بالامتياز (frachise-colonialism ): الحالات الاستعمارية حيث تسعى الدولة الاستعمارية للحصول على موارد المستعمَرة وعمل أهلها دون استهداف الإقامة والاستيطان فيها. (مثل الراج البريطاني وجزر الهند الشرقية الهولندية)، يسعى الاستعمار الاستيطاني إلى إحلالِ المستوطنين محلّ السكّان الأصليين، بدلًا من اعتصار فائضِ قيمةٍ عبر مزجِ عملهم بالموارد الطبيعية للمستعمَرة. والمجتمعات الاستعبادية (المنقسمة بين الميتروبوليتانيّ والاستعماريّ) مختلفةٌ هي الأخرى، وذلك – على الأقل في الحالات الناجحة – لأن العمل المخلوطَ بالأرض ليسَ عملَ أهلها، بل هو عملٌ مُغرَّبٌ جغرافيًّا، فالعبدُ إنْ لم يكن أجنبيًّا مختطفًا من وطنهِ الأصل فهو ابن هذا المخطوفِ أو أحد أحفاده. وفي حالة المستعمرات الاستيطانية – التي قد تتضمن علاقات استعباد – فقد يأتي المستعمِرون بِقصد البقاء، فَيَسلبونَ المُلّاكِ الأصليين للتربة، ويطوّرونها – عادةً – بقوّةٍ عاملةٍ تابعةٍ (عبيدٌ، أو مُستخدمَون، أو جُناة) يستوردونها من مكانٍ آخر.[7] وعليه تضمنت الولايات المتحدة قبل الحرب الأهلية علاقاتٍ استعمارية استيطانية (بين البيض والهنود) وعلاقاتِ استعبادٍ (بين البِيْض والسود) في آن.[8] وفي الحالة الأسترالية لا يمكن مقارنةُ الجُناة البِيْض الذين استوردهم البريطانيون بالعبيد في الولايات المتحدة، وذلك لأنّ الحالة القانونية الخدميّة، مهما طالت، لم تُورّث إلى نسلهم. ولكن فيما يتعلق بالأبورجيين فقد دشّن البريطانيون علاقاتٍ استعمارية استيطانية أشبه، في جوهرها، بالعلاقات بين البيض والهنود في الولايات المتحدة. وفي كلتا الحالتين شرع الاستعمار الاستيطاني بصراعٍ صفريٍّ على أرضٍ لا يمكن، في آخر المطاف،[9] لأنماطِ إنتاج متصارعةٍ أن تتعايش فيها. وعليه فالمنطق الأساسي للاستعمار الاستيطاني يمكن تشخيصه كمنطقِ محو.[10]

تميّز منطق المحو في أستراليا بجهريّةٍ استمدها من عقيدة الأرض المُباحة (terra nullius). ورغم أنّ المجلس الخاص البريطاني لم يصدّق على هذه العقيدة في القانون الاستعماري حتى 1889،[11] فجذورها تضرب في عمق الافتراضات القانونية والثقافية-الشعبية. فبالنسبة للثقافة الشعبية، ورغم همس بعض أصحاب القلوبِ الرهيفة، لم يكن الأبورجيون إلا وحوشًا، وبالتالي لا حقوق لهم. ولكن في جانبها الأكثر رسميةً كمادّة من القانون الدولي، لم تنشأ العقيدة من تعصّبٍ إثنيٍّ عتيدٍ، بل كأيديولوجيّةٍ حديثةِ الجوهر توحّدُ الجوانب المحلية والاستعمارية للخطاب البرجوازي الأوروبي.

المفهوم المفتاح هو: المِلكية الخاصة. بأسلوبٍ لوكيٍّ2نسبةً إلى جون لوك مميز، تقول هذه العقيدة إنّ ملكيةَ الأرض ناتجةٌ عن خلطها بعمل المرء، لِجعلها مصدرًا للثروة أكفأ مِنْ لو تركت في حالتها الطبيعية، والنموذج الذي يستشهد به هو محميّات الصيد الأرستقراطية. أما عمليًّا فمعنى هذه العقيدة هو الزراعة الاستيطانية، التي تتضمن الحراثة والري والتسييج. وكان من الضروري أن يصاحب هذا المتطلب إطارٌ قانونيٌّ رسميٌّ ملائم لحماية حقوق الملكية التي استحصلها الفرد بفضل تطبيق عملِه (كذا).3يستخدم المؤلف «كذا» (sic) للإشارة إلى التضليل في مقولة إنّ مالك الأرض هو من يُعملها. والتطبيق العمليُّ لذلك هو الحوكمة المركزية، والتشريعات الرسمية، ومرةً أخرى: التسييج أو الحدود العمومية الثابتة. في داخل أوروبا، لا توجد أطروحةٌ أوضحُ من هذه في نقدها – بل وتحدّيها – للنظام غير التمثيليّ للسلطة العقارية المتوارثة المتصفة بضعف الكفاءة والإقصاء المبذر. وقد وفرت هذه المبادئ نفسها في تطبيقها الاستعماري، حيث ترسَّمتْ باتّخاذها اسمًا (ومعنى «terra nullius» هو «أرض لا أحد»)، رخصةً لحرمان الشعوب «الرحّالة» من ملكية أوطانهم.[12]

في أستراليا اعتبر الأوروبيون، بتعميمٍ شبه شامل، الأبورجيين شعوبًا رحّالةً (ليس بالمعنى الرعويّ الإنجيلي بل كأناسٍ يجوبون الأبرار بحثًا عن قوتهم ويأخذون منها ما يحلوا لهم، مثلهم مثل الحيوانات الضالة) ومفتقرةً إلى أبسطِ أشكال الأنظمة الحكومية المنسقة. وبهذا المبرر، لا تملك هذه الشعوب أيّ أحقّية بملكية الأرض، مثلهم مثل الحيوانات الأصلية التي ترعى أراضيها. فكما حكم القاضي بلاكبرن في 1971 في قضية حقوق أرض غوف: الأبورجيّون ينتمون إلى الأرض، لكن الأرض لا تنتمي إليهم.[13] ومذ أنّ أستراليا ليست ملك أحدٍ آخر، فهي هناك ليستحوذ عليها الأوروبيون لا أكثر، دون أنْ يستلزم ذلك عقدًا أو تعويضًا أو أي شكلٍ آخر من أشكال الاعتبار التي سيفرضها التصديق بما يسمى قانون تمليك الأراضي للوطنيين.4قانون تمليك الأراضي للوطنيين (Native title): قانونٌ أستراليٌّ أقرَّ بأحقية الشعوب الأبورجية وشعوب جزر مضيق توريس ومصالحهم في الأرض والمياه بموجب قوانينهم وأعرافهم المحلية كما ينص عليها القانون الأسترالي، ودخل حيز التنفيذ في قرارٍ للمحكمة العليا عام 1993، حكمت فيه  بأنّ أستراليا لم تكن أرضًا مباحة وقت الاستعمار الأوروبي.

ولا نريد أنْ نوحي هنا بوجود أيّ فائدةٍ فعلية للشعوب المستعمَرة من وضعِ الأوروبيين لقانون التمليك. فالحقُّ أنّ تجارب الشعوب الهندية مع الاتفاقيات التي استلزمتها الملكية الوطنية (أو حالة «الأمم التابعة المحلية»5) تبين أنّ عقيدة الأرض المباحة كان لها مثلبة عدم المسّ بالحقوق غير المُصدَّق عليها للأبورجيين.[14] مقصدنا هنا هو تبيان المرسى التاريخي العميق للخطاب الاستعماري الاستيطاني، فهو ليس مجرد عقلنةٍ ارتجاليةٍ صدرت عفويًّا في السياق الأسترالي. ومع الإقرار بهذا الأصل، يصبح التاريخ الاستعماريّ المقارن ممكنًا. بل ويمكّننا ذلك من أنْ نضع جانبًا صنفَ «أوروبا»، ذاك الصنفُ المستخدم بمعنى ذو جغرافيةٍ غامضةٍ، لصالحِ تشكيلةٍ اجتماعيةٍ معيّنةٍ – أي: الرأسمالية – ذات لحظاتٍ ومراحلَ تاريخيّةٍ قابلةٍ للتمييز. فعلى سبيل المثال: يعود بنا واقع نشوء المستعمرة البريطانية بأستراليا كمستوطنة جُناةٍ (مع إغلاقِ الولايات المتحدة بعد الثورة) بالضرورة إلى الخطاب البرجوازي للملكية الخاصة الذي تأسست عليه عقيدة الأرض المباحة، في هذه الحالة عبر التسييج الذي أنتج مُدنًا تعجّ بالفقراء المالثوسيين الذين استهدفت شُحنات الجُناة كنسهم. وكما سنتطرق إليه أدناه، لم تنطبق اعتباراتٌ كهذه على البرتغال التي – لأنها ظلّت ما-قبل صناعية عمليًّا – افتقرت إلى فائضٍ سكّانيٍّ، وهو اعتبارٌ ذو تداعياتٍ عميقةٍ على التشكيلة الاستعمارية البرازيلية.

ولكن في أستراليا والولايات المتحدة، بشرحٍ عَقَديٍّ أو دونه، اتّخذ منطق المحو جملةً من الأشكال التاريخية المتصلة. والواقع، كما سيتبين، أنّ السياسات الاستعمارية الاستيطانية التي طبّقتها، أو حاولت تطبيقها، السلطات في كلا البلدين قد تبدو وكأنها نُهِلت من البئر نفسه. وإنْ وضعنا جانبًا الاستثناء البارز لتشريعات المُلك المحض والتخصيص،[15] فالنموذج المرحليّ المعياري للسياسة الهندية (الاستيلاء، الترحيل، المحميّات، التخصيص، الإدماج، الاستتباع، التفكيك، تقرير المصير[16]) سيدركه مباشرةً أيّ شخصٍ يَألفُ تاريخ العلاقات الأوروبية-الأصلية في أستراليا. وبالطبع كان للنموذج تنوعاتٌ محلّية وتأجيلات، والتفاصيل لم تتطابق دائمًا، و«المراحل» لم تنتهج دائمًا تسلسلًا صارمًا – فالحق أنّها تصادفت كبدائل. ولكن القائمة، كفهرسٍ لخيارات السياسة الاستعمارية الاستيطانية، تستلزم تعديلًا جوهريًّا بعض الشيء إنْ أريد إعادةُ تطبيقها على التطور التاريخي للسياسات الأسترالية المعنية بالأبورجيين.

في أستراليا تنوّعت السياسات المعنية بالأبورجيين مع الزمان والمكان، ففي بعض المناطق شجعت عوامل محلّية الاعتماد الأوروبي على العمل الأبورجي. وهذا ينطبق خصوصًا على صناعة المواشي في الشمال التي ظلّت معتمدةً حيويًّا على العمل الأبورجي حتى وقتٍ متأخرٍ نسبيًّا.[17] وسبب ذلك لم يقتصر على الاعتقاد الشائع بأنّ الأوروبيين غير لائقين للعمل في ظروفٍ قاسية كهذه، فالمنطقة لم تُجتَح إلّا بعد إلغاء شحنات الجُناة، ما سبب ندرةً في العمل الأبيض الرخيص. واستُخدِمت النساء الأبورجيّات منذ زمنٍ مبكر في تسمانيا («أرض فان ديمين» وقتها) بشكلٍ واسعٍ في صيد الفقم والمحار، رغم اتجاهٍ لاحقٍ إلى توظيف رجالِ جزر مضيق توريس كغوّاصين في سفن استخراج اللؤلؤ. والاستعمار الذي تعرّض له الرجال والنساء الأبورجيين كان مختلفًا في عدّة أوجه، فقد كان تقييم عمل النساء المنزلي والجنسي مستندًا إلى مقياسٍ مختلف عن خدمات أقرانهن الرجال. ورغم أهميّة هذه التنوعات، وغيرها، والحاجة للإقرار بها، فهي لا تغيّر من أولوية النسق السائد، الظاهر أوضح ما ظهرَ في جنوبي القارة وشرقها، حيث الاستعمار الاستيطاني قاربَ عمليًّا شكله الخالص أو النظري، ما تسبب خلال مدّة قصيرة بهلاك السكّان الأبورجيين.

مثلما في أمريكا الشمالية حيث زحفت التخوم ابتداءً بالمناطق الساحلية، من غير الممكن تأريخ تطور الاستعمار الاستيطاني الأسترالي كخطواتٍ موحدة على كافة المحاور، فقد تناثرت تواريخ تأسيس التخوم على امتداد قرنٍ من الزمن بعد نزول السرب الأول في 1788. ما في متناولنا هو ترتيب تأسيسها وتوحيدها بموجب لائحة تصنيفية لمراحل استراتيجية، نُفِّذت في أوقاتَ مختلفة في الرقع المختلفة للقارة، بنحوٍ متسلسلٍ رغم ما انطبع عليه من تداخل.[18] ولأغراض إرشادية، سأطلق على هذه المراحل مسمّيات: المواجهة، الحبس (بما يشمل التهجير)، والإدماج (البيولوجي والثقافي). الأولى والأخيرة تمثّلان طَرفيّ تحوّلٍ تاريخيٍّ انتقلت في أثنائه علاقةُ الأبورجيين بالمجتمع الأوروبي من علاقةِ خارجيةٍ إلى علاقةِ داخليّة. ومع أنّ المرحلة الأخيرة (الإدماج) حكمها خطابُ تمازج الأجناس، فهي متّسقةٌ مع منطق المحو نفسه – وأعادت إنتاجه بطريقتها الخاصة – الذي استندت إليه المرحلتين الأوليين. ولهذا فسياسة الإدماج يجب وضعها في السياق التاريخي للاستعمار الأسترالي ككل.

في المرحلة الابتدائية، عند أول مواجهةٍ بين الأوروبيين والأبورجيين المدافعين عن أراضيهم، أُهلِكت المقاومة الأبورجية نتيجة الآثار المركّبة لأربعة عوامل: القتل، والأمراض خارجية المصدر، والتجويع، والانتهاكات الجنسية.[19] وهذا السيناريو بالطبع شبيهٌ للغاية بالسياق الأمريكي. ولكن بينهما اختلافٌ كبير: في الولايات المتحدة طغت على خطاب تمازج الأجناس تصويراتُ الجنسانية السوداء إلى حدٍّ دفع وينثروب جونسون إلى الزعم (مع بعض المبالغة) بأن «كامل المجمّع الجنسي بين الأعراق لم يُعنى بالهندي».[20] وفي الضفة الأخرى، في أستراليا، التي افتقرت إلى «عرق ثالث» مثيل، نزع خطاب تمازج الأجناس إلى التركيز بنحوٍ رئيسٍ على الناس الأصليين، ما أبرزَ سوادَهم.

ومن نجا من الأبورجيين من كارثة المرحلة الأولى انتهى الحال به مكابدًا لأجل لقمةِ العيش في ثغور مجتمعٍ جديدٍ غريب، مجتمعٌ نظرَ إليه نظرة ازدراءٍ واحتقار. وقد وضعت إجراءاتٌ لحبسِ «البقايا» الأبورجية الناجية في مواقع محددة، إما بشَرك المؤن أو بإجراءات إكراهية.[21] وهذا يشكل المرحلة الثانية الحبسية للسياسة الاستعمارية الاستيطانية تجاه الأبورجيين. والتزامًا بِمُقدّمات الدارونية الاجتماعية، التي استنتج منها أنّ الأبورجيين عرقٌ محتضر، وأثبتها هلاكهم الجاهر، كان القصد من تقييدهم بالإرساليات والمحميّات بأن يكون إجراءً مؤقتًا. ورغم تأطير هذه المرحلة بخطابٍ خيريٍّ (أي أنّ الإرساليين «ينعّمون سرير الاحتضار»)، فقد حافظت على منطق المحو بأن أخْلَت الأراضي الأبورجية وأتاحتها للاستيطان الرعوي.

ولكن حدود الإرساليات لم تكن كافية لمنع اللقاءات الجنسية، وإنْ تحت شروطِ لامساواة شديدة في علاقاتِ الرجال البِيْض والنساء الأبورجيّات. وهذه اللقاءات نتج عنها أطفالٌ تربّوا في كنف أهل أمّهاتهم، وبالتالي عرّفوا أنفسهم كأبورجيين. وبدلًا من أنْ يحتضر العرق، شكّل هذا القسم من السكّان الأبورجيين تهديدًا بالازدياد الأسّي. ومع قرب اختتام القرن التاسع عشر تنّحت جانبًا خيالات الانقراض بنحو تدريجي، ليحلّ محلّها شبحُ «تهديد الهجناء». وصار الأبورجيّون مُعَرْقَنينَ (بالمعنى الجينيّ الكامل الداخل في تشريعات النِّسَب الدموية) خلال السنوات السابقة للاستقلال الوطني لعام 1901.[22] وهذه التطوّرات تصادفت مع نهاية التخوم: عمليّةٌ غير متكافئة أعلنت الاستدخال النهائيّ لـ «المشكلة الأبورجية»، وتصادفت مع تدشين ما سمّي بـ «سياسة أستراليا البيضاء» أيضًا. ففي سعي الحكومة الوطنية الفيدرالية الجديدة في 1903 إلى تشييد جنّة الرجل الأبيض في جنوب الهادي، وبتشجيعٍ من النقابات المهنية الساعية إلى إلغاء العمالة مخفّضة السعر، وَضعت تشريعاتٍ حدّت من الهجرة غير الأوروبية واستهدفت ترحيل المقيمين غير البِيْض.[23] ولعدم وجودِ وطنٍ خارجيٍّ من المعقول تعيينه للأبورجيين، كان علاجُ التحدّي الذي شكّلوه لأستراليا البيضاء ليس اللفظ إلى الخارج بل الابتلاع في الداخل. ومنذ مطلع القرن العشرين تقريبًا، وُضعتْ جملةٌ من الإجراءات المصممة لانتزاع الأفراد من الجماعات الأبورجية، بغية تجريدهم من هويّاتهم الأبورجية وإلحاقهم بالمجتمع الأبيض. وبهذا كانت سياسة الإدماج إحدى أعراضِ احتواء الأبورجيين داخل مجتمعٍ أسترالي، لتكون لازمةً داخليّةً لسياسة أستراليا البيضاء.

بدايةً، طُرِد الأبورجيّون الأفتح بشرةً (أي: من قُدِّرَت نسبةُ الدمّ الأبورجي لديهم بأقل من 51 بالمئة) من المحميّات، وسكنَ عموم هؤلاء مستوطناتٍ عشوائية («مخيّمات هامشية») على هوامش المدن الريفية، عالقين بين المحميات التي طُرِدوا منها والمجتمع الأبيض الريفي. وهذه المستوطنات كانت عرضة لمضايقات السلطات المحلية والشرطة، مضايقاتٌ اتخذت بتسارعٍ صورة اختطاف الأطفال، حيث اختطف الأطفال الأبورجيين ذوي البشرة الفاتحة تحديدًا من عوائلهم وأدخلوا مؤسسات تدريب الفتية بهدف إدراجهم في أدنى مستويات المجتمع الأبيض – أي بالأحرى: بهدف محوهم من الحسابات الأبورجية.[24] وبعد الحرب العالمية الثانية حدثت نقلةٌ عامةٌ من مؤسسات تدريب الفتية نحو سياسة عرضِ الأطفال الأبورجيّين للتبناهم الأسر البيضاء. وهذه السياسة استمرت كممارسة رسمية في أغلب الولايات الأسترالية حتى عام 1967 حينما ألغى استفتاءٌ شعبيٌّ المعيقات الدستورية التي مكّنت استهداف الأبورجيين بهذه الطريقة.[25] ولم ينجح أبناءُ «الأجيال المسروقة» (المسمى الذي عرف به ضحايا هذه السياسة) حتى الآن في محاولاتهم تأمين انتصافٍ من الحكومة الأسترالية.

تَوَافقُ هذه السياسة مع منطق المحو أوضحُ من أن يستلزم الشرح. ولكن لأغراضٍ مقارِنة، علينا تحليل الحسابات الجينية التي سعت بموجبها الحكومات الأسترالية إلى إبادة الأبورجيين بالتوليد الانتقائي. وهذا سيُمهد الأساسَ لمقارنة منطق النظام الأسترالي بالمقاييس التي غذت أنظمةً مثل قاعدة القطرة الواحدة في الولايات المتحدة والتصنيفات اللونية مسهبة الشرح في البرازيل. وفي هذا الصدد، السمة المفتاح للنظام الأسترالي هي تحديدهُ تنوّعات امتزاج الأجناس بثلاثة كسورٍ تنازلية، سمّيت عرفيًّا: «الهجانة النصفية» (half-caste)، و«السواد الربعي» (quadroon)، و«السواد الثُّمْني» (octoroon). ومن الحيويِّ لهذا النظام أنَّ الكسور لا تنزل أكثر بعد السواد الثُمني، فالصنف الذي يلحق «السواد الثُّمْني» هو البياضُ الكامل. ومع افتراض استمرار امتزاج الأجناس مع كلّ جيلٍ تنازليًّا،[26] وفر النظامُ عملية محوٍ ذات ثلاث خطواتٍ جيليّة (أنظر الرسم 1).[27] رغم اعتباطيّتها، فواقع الترخيص لثلاثةِ كسورٍ فقط أمرٌ أساسيٌّ لما يوفره من نقطة قطيعة. أيُّ عددٍ أكبر – ناهيك عن طيف الأصناف على الطريقة البرازيلية – كان ليمدّد الديمومة الأبورجية، الشاذة في أستراليا البيضاء، على مقياسٍ جيليٍّ.

باختصار إذن، الحلُّ الأسترالي للمشكلة التي واجهها الاستعمار الاستيطاني في الديمومة العنيدة لمجتمعاتٍ أصلية مؤسسةٍ خارجيًّا (ومن المهمّ هنا الأخذ في الحسبان كون أعدادها مغلوبٌ على أمرها) كان ابتلاعها في السلالة البيضاء. وفيما يتعلق بالعرق، فمن المهم ملاحظة أنّ ما صاحب سياسة الإدماج من خطاب الدارونية الاجتماعية للتخلف، يجب ألا يغفلنا عن أنّ المادة الجسدية للأبورجيين لم ينظر لها على أنها حقًّا ناقصة، وإلا لكانت آخر خطوة تخطوها السلطات البيضاء هي إدماجها في الحوض الجيني الأبيض. وفي العقود الأخيرة انتقل تركيز الخطاب الإدماجي من العرق إلى الثقافة. وسطع نور الشمس على حياة الأبورجيين في 1968، يوم ألغى استفتاءٌ عامٌّ موادَّ ميزت ضدهم من الدستور الأسترالي، ومنذئذٍ هُجِرت سياسة أستراليا البيضاء لصالح التعددية الثقافية، ذات الخطاب المتّسم بالتمثيلات الإيجابية للأبورجيين، ولكنّ بدلًا من أنْ يخفض ذلك الضغط على الأبورجيين للاندماج، عدّل الصورة الإثنية لمجتمعٍ تقرّرَ توليفهم فيه، ليجدوا أنفسهم، بذلك، ممثّلينَ كمحض حجرةٍ أخرى في فسيفساء التعددية الثقافية؛ تتفيهٌ لاختلافهم يطمس منزلتهم كأصحاب الأرض الأولين.

باستخدام أستراليا كخطّ أساس، يمكننا الآن رسم السمات المقارنة الأساسية للنظامين الأمريكي والبرازيلي.


انصب تركيز المؤرخ الأمريكي إيدموند إس. مورغان حصرًا على المفارقة المركزية للأيديولوجية الليبرالية الأمريكية: تَصادُف المُثلِ الثورية للحرية الكونية وحقوق الإنسان مع توطيد العبودية الأفريقية في أمريكا الشمالية الاستعمارية. وذهبَ إلى أنّ هذا الوضع التناقضيّ نشأ نتيجة التهديد الذي بعثه وجود طبقةٍ عاملةٍ بيضاءٍ متمردة – عُرِفت بمسمى «الجماهير الطائشة» – على المجتمع الفيرجيني للقرن السابع عشر.[28] وإثر مخاوف النخبة الحاكمة من تحوّلِ مستعمرة فيرجينا سريعًا إلى «بالوعة تُصرِّف إنجلترا إليها قذارتها وحثالتها» (حثالةٌ يمكنها، كما أنذرت به انتفاضة بيكون لعام 1676 وأوضحته، تأسيس تحالفات مع الأفريقيين المتمردين) أقامت فيرجينيا برنامجًا ذو وجهين: تخفيضٌ في استيراد الإنجليز المستخدَمين وزيادةٌ حادة في استيراد العبيد الأفريقيين. ومذ أنّ هؤلاء العبيد لم يُتأتونَ بعقودٍ ذات تاريخ انتهاء، فلن يشكّلوا ذاك التهديد الذي شكّله البِيْضُ المُعْتقون على النظام. ومن هنا، على أساس إحلال العبيد السود محلّ الطبقة السفلية الخطيرة، منزلةٌ شغلها سابقًا البِيْض حديثو التحرر، كان لقادة فيرجينيا في القرن الثامن عشر أنْ يمجدوا مثال المزارعين البِيْض الأحرار، ويعلنوا ولاءهم لحقوق كافة الرجال الإنجليز. وعليه لم يقف مورغان عند الإشارة إلى تزامن العبودية والمُثل التحررية وكأن تصاحبهما من قبيل الصدفة،[29] بل اعتبر العبوديةَ واقعًا وشرطًا مسبقًا وظيفيًّا لنشأة المُثل الثورية الأمريكية. فعلى حدّ قوله، حوّلت العبوديةُ «فيرجينيا الحاكمِ بيركلي إلى فيرجينا جيفرسون . . . العبودية هي ما أعطى الفيرجينيين الجرأة على الحديث بلغةٍ سياسيةٍ بجّلت حقوق الأحرار».[30] استهدف ديفيد بريون ديفس تطوير فكرة مورغان المتبصّرة والثوريّة حقًّا، فأعاد صوغ السيرورة الأيديولوجية التي صيَّرت السود (بعد أنْ اعتُبِروا عاجزينَ عن تحرير أنفسهم) عرقًا منفصلًا في أواخر القرن الثامن عشر، بنحوٍ يستثنيهم من الصنف الكونيّ، الذي أعلنه آباء الثورة، للإنسان ذو الحقوق. وبهذا صار العرق «العذر المركزيّ للعبودية».[31]

من A.O. Neville, Australia’s Coloured Minority (see no. 27)

وبالطبع لا جديد في فكرةِ أنّ العرق وفّر التعليل لإعمال استثناءٍ تطبيقيٍّ في الكونية. بل فيما يتعلق بالنفاق الجوهري، من الصعب المزايدة على ملاحظة ألكسيس دو توكفيل حين صرّح بأن الولايات المتحدة الديمقراطية أبادت الهنود «دون انتهاكِ أيٍّ من المبادئ الكبرى الأخلاقية في عيون العالم. ومن المستحيل أنْ تبيدَ بشرًا باحترامٍ أكبر لقوانين الإنسانية».[32] مكّن العرقُ فصلَ «البشر» المشروعِ إبادتُهم عن «إنسان» الإنسانية. ولكن رغم وضع هذه النقطة، لم تطوّر تداعياتها الكاملة. وتحديدًا لم يُدرَك العرق بنحوٍ وافٍ كمحرِّكٍ مرتبطٍ بفرعين رئيسين – وإنْ كانا متمايزين – لخطاب التنوير: الأول إبستمولوجي والآخر سياسي.[33] إبستمولوجيًّا، كانت إحدى السمات المركزية للتنوير هي – بالطبع – الحافز التصنيفي الذي حرّك الأنظمة التصنيفية الكبرى لكارل لينيو، وجورج-لوي بوفون، وجوهان بلومنباخ، وجورج كوفييهو. ورغم ما قدمته البنية الهرمية لهذه الأنظمة من منفعةٍ أيديولوجيةٍ واضحةٍ في سياقات السيطرة الاجتماعية، فلا ترابطَ ضروريٌّ بين أنظمة التصنيف الهرمية والمساواة الرسمية التي انطبعت على النظرية الديمقراطية الليبرالية.[34] ولكنّ العرق، بصفته تصنيفًا من الطراز الأول، وفّرَ الحدود التصنيفية التي أمّنت حصريّةَ أصحاب حقوق الإنسان. وهذا الصهرُ الجيفرسوني للأيديولوجية السياسية البرجوازية والعلم الطبيعي التصنيفي (أي: للسلطة والمعرفة) أعطى العرق قبضته الإبستيمية الفريدة على فكر التنوير وما بعد التنوير. وعليه فالنقطة لا تقف عند ما وفرته هيبة العِلم من رخصةٍ ساطيةٍ لإقامةِ التفرقة التصنيفية للإنسانية التي أوجبها مفهوم العرق. بل، أو بالأحرى: يضاف على ذلك أنّ العرق وفّق وَوحّدَ بين اثنين من العناصر الأعمق تأسيسيّةً لمجمّع التنوير، بل ولعلّهما العنصران الأعمق تأسيسيةً. العرق، باختصار، اعتلالٌ حداثيٌّ.

إنْ تأريخ نشأة العرق وتسخيره لصالح العبودية ما يزال موضع جدل، وقد سُكِبت أنهارٌ من الحبر في النقاشات حول الوقت المحدد، منذ أنْ حطّت أقدام عشرين أفريقيًّا على شواطئ فيرجينيا في 1619، الذي عنده صار الأفريقيّون «نيغرو» (بدلًا من «المور السود» أو «الوثنيّين») وصار النيغرو عبيدًا.[35] ولكن من الواضح على الأقل أنّ مساواة الأفريقية والعبودية ثبتت بحلول الربع الأخير من القرن السابع عشر.[36] وقد عبّر الإرسالي الإنجليزي مورغان غودوين عن هذا الافتراض الناشئ في 1680 بالقول إنّ الكلمتين «نيغرو» و«عبد» قد «أصبحتا مرادفتين ومعناهما واحدٌ عرفيًّا».[37] ورغم مرحلةٍ وجيزةٍ للتوارث الأبوي للعبودية في ماريلاند، صارت العبودية تورث أموميًّا.[38] وبتباينٍ تامٍّ مع النظام الإنجليزي، حيث الاسم والحالة يورثان عبر النسل الأبوي، قُرّر مبكّرًا أنه أيًّا كان الوالد، فابنُ العَبْدةِ عبدٌ هو الآخر. ومع انبعاثِ بعض المخاوف إثر حالات إنجاب نساءٍ بِيض أبناءَ من رجالٍ سود، بعضهم أحرارٌ وآخرون خلافَ ذلك، كان أثر هذه المادة أن جعلت السواد معادلًا للعبودية، على الأقل على مستوى الافتراض.[39] ومن حيث السواد يشير إلى العبودية، صار أثرُ النشاط الإنجابيّ للنساء السود نقيضَ الصورة التي أضفيت عليه لاحقًا في أستراليا. ففي أستراليا، حيث صارت النساء السود مَعَابِرَ للبياض، صارت النساء السود، في الولايات المتحدة، وسائلَ لتعظيمِ مِلكية الرجال البِيْض عبر ترخيم عبيدٍ إضافيّين، آباؤهم هم الرجالُ البيض.

ورغم أنّ مفردات «أفريقي» و«أسود» و«عبد» صارت مرادفاتٍ، فالتطابق لم يكن كاملًا من ناحية عملية. والسبب لا يقتصر على وجود سُودٍ أحرار على مر مراحل تاريخ العبودية في أمريكا الشمالية، فأغلب هؤلاء لم يكن «أسودَ» تمامًا. بل وكذلك على ارتباط حالة اللا-عبودية، بِموجب البُعدِ الجينيّ، بواقع رجوعهم (بنحوٍ رئيس) إلى سلالةٍ أوروبيّةٍ وأفريقية. وقدّ مسَّ التناقضُ بين العبدِ كملكية والعبد كإنسان جوهرَ مؤسسة العبودية، ليبرزُ ما بين فترة والأخرى في عدةِ أمثلة: حينما يهرب عبدٌ (أيسرق نفسهُ؟)، وعندما يرتكب جريمةً (أيحملُ نِيّةً جنائية؟)، أو يدخل في المسيحية (ملكيّةٌ ذات روح؟). لا انكشافَ أصرح لهذا التناقض يعلو على موضوع الملكية التي توافقت فيهـ/ـا إنسانية السيّد والعبد داخل البوصلة السَلِسة لكيانهـ/ـا الجسدي: كان صنف «مولاتو»6مولاتو (mulatto): مفردة تشير إلى الشخص ذو الانحدار الأفريقي والأوروبي، وأصلها مفردة «المولّدون» العربية. معترفًا به رسميًّا في بعض المستعمرات والولايات، وبعض الأزمنة، حتى في القرن العشرين.[40] ومن اللافت أنّ هذا الاعتراف كان يظهر في مواقعَ حيث البِيْض أقلّيةٌ عدديةٌ ديمغرافيّةٌ، وفي مثل حالة اقتصاد الأرز ذو الكثافة العمالية العالية في كارولينا الجنوبية، اعتمد البِيْضُ على فئةٍ وسيطةٍ أو حاميةٍ، للحدِّ من خطر انتفاضة العبيد.[41] ولفترةٍ وجيزةٍ في القرن الثامن عشر في جورجيا، كان من الممكن للسود الأحرار أنْ يصبحوا بيضَ أيضًا، رغم أنّ هذا الاستثناء غير الاعتيادي لم يتحقّق إلّا حينما كان البِيْض الجورجيّون في وضعِ التخوم وبأشدّ الحاجة للمعونة في قمع الأمريكيين الأصليين، وفي الجنوب، في قمع الإسبان.[42] ولكن المخاوف المنبعثة من وجود أولئك الذين خَطوا على حدودِ التعارض القانوني بين العبودية والحرية، المتصاحبِ مع التعارض العرقي بين السواد والبياض، كانت من الشدة بمكانٍ حَرمهم من الإقرار اللازم لتعيين صنفٍ منفصل لهم.

ولهذا، وإنْ كان لكل حالةٍ خصائصها، حالما يُعتَق العبيد يحصل أمرٌ مبهرٌ. مع انحسار صنف «الأسود الحر»، الذي فقد معناه حينما صار كلّ السود أحرارًا، انحسر صنف المولاتو أيضًا.[43] بدأ ذلك قبل الحرب الأهلية في الولايات الشمالية، حيث كان كلُّ السود – سواءً كانوا مولاتو أمْ لا – عرضةً لقيودٍ قاهرةٍ استهلّت بطرقٍ عدّة نظام «جيم كرو» الذي لم يتأسس في الجنوب حتى ثمانينيات القرن التاسع عشر.[44] وهذه نقطةٌ مهمة للغاية. ما معنى أنْ يُجانَس العبيد جميعًا، حال تحريرهم، في حالة السواد؟ بصرف النظر عن الجوانب الأخرى، معناه هو اختفاء الحدّ الفاصلة سابقًا بين الأسود الحر والعبد، أي: حلَّ محلّ العبيد صنفٌ اضطهاديٌّ جديدٌ وأشمل، صنفٌ، لأنه معرّفٌ بموجب العرق، لا يتيح الاستثناءات والتناقضات المربكة التي ترتبت، بسبب حالات التحرير، على مؤسسة العبودية الفريدة.[45] العتق، باختصار، ألغى الاستثناء؛ يمكنكَ أنْ تكونَ عبدًا سابقًا ولكن لا يمكنك أنْ تكون أسودَ سابقًا.[46] مثلما العتق، كانت هذه التوسعة للعرق بادئ الأمر عمليةً متجزئة. وثقت جوان ميليش بدايات تصلّب تصوّرات الاختلاف، منذ أواخر القرن التاسع عشر، في «مفاهيم هرمٍ دائمٍ ومتأصلٍ – ألا وهو «العرق»». هذا التطور لم يكن مجرد استجابةٍ للمشاكل التي طرحها الخطاب الثوري بشأن استمرارية العبودية، فالخطاب المكثّف للعرق «بدأ بالظهور في سياق التطبيق الممنهج الأول للعتق في الشمال».[47]

ومع أنّ العرق سليل العبودية، فقد استقلّ مع اضمحلالها.[48] ورغم منفعته الكبيرة كتبرير، ما دامت العبودية باقية يبقى العرق نمطًا للسيطرة نافلًا نسبيًّا. ولكنّ النقطة هي أنّ العكس صحيحٌ أيضًا: بسبب العرق، أصبحت العبوديةُ نمطًا للسيطرة نافلًا. ومذ أنّ العبودية كانت (بلطيف العبارة) في طور التنفّل على أيّةِ حال، نظرًا لاستعصاء موافقتها مع مستلزمات العمل المرن للاقتصاد الصناعي الناشئ، فهذا الاعتبار يربط العرق بالرأسمالية الصناعية بنحوٍ لن يفي شرحه باختزالٍ بسيطٍ للعرق في الطبقة.

قبل التحرير، كان السود داخل حيز المجتمع الأمريكي، ولكنّ عبوديّتهم شكّلت حاجزًا تشريعيًّا عزلهم عن المجتمع الأبيض بدرجةٍ حاسمةٍ تساوي الإخراج الجسديّ الذي فصلَ الهنود. وعليه كان أثر التحرير على السود أقرب إلى أثر الاحتواء على الهنود. كلاهما أصبح حالةً شاذّةً داخلية. وقبل التحرير لم يكن الحاجز التشريعيّ مُطلقًا (فرغم كونهم خارج المجتمع، يمكن للسود الاقتراب منه عبر العتق). كان الحاجزُ حاجزًا اجتماعيًّا (وعليه، قابلًا للتفاوض بدرجةٍ ما) وحاجزًا طبيعيًّا. ومع التحرير، حين تُرِكَ الحاجزُ ذو الشقّين (اجتماعيٌّ وعرقيٌّ) لصالح تقسيمٍ عرقيٍّ حصرًا بين السود والبِيْض، صار الحاجز طبيعيًّا تمامًا. وهذا حدث عندما أدخلَ التحريرُ السودَ بالفعل، وليس عندما أطلقت التهديدات الفارغة بإدخالهم، بقوّة المنطق المجرد، كما هي حال الخِطابة الجيفرسونية. وعليه ليس من قبيل المصادفة أنّ الجواب الفوري للأزمة التي أشعلها التحرير كان الحركة الاستعمارية التي، بترويجها الإخراج الحيّزي للسود، اقترحت حاجزًا طبيعيًّا بديلًا يفعّل به فصلهم.[49]

قد يطرأ اعتراضٌ هنا: إنْ كان السود قد أصبحوا حالةً شاذةً في غياب العبودية، مثلما الهنود داخل الحدود، لماذا لم يسعى المجتمع الأبيض إلى محو السود مثلما فعل مع الهنود، عبر الإدماج؟ الواقع هو أنّ توماس جيفرسون نفسه، في فقرةٍ أُسقِطت من الطبعات اللاحقة لـ «الجيفرسونيادة» (Jeffersoniad)، نُقِلَ عنه تقديم هذا الحل للمشكلة التي يثيرها التحرير: «مسار الأحداث سيقود، بالمثل، حتمًا إلى خليطٍ من البِيْض والسود، ولأنّ الطرف الأول أكثر بحوالي خمسة أضعاف من الطرف الثاني، سيندمج الثاني في البِيْض في آخر المطاف».[50] ولكنّ الخمسة أضعاف ليست تفاوتًا مريحًا مثل الخمسين أو المئة ضعف. ولكنّ الجواب ليس في الديموغرافيا نفسها بالطبع، وليست هذه بالظاهرة الطبيعية، فالخلل الديموغرافي هو نِتاجُ التاريخ.[51] وهو في هذه الحالة يمثل الاختلافَ بين مجموعةٍ من الناس كابدت نكبةً إباديّةً امتدّت قرونًا، بأعدادٍ متناقصةٍ إثر ذلك، ومجموعةٍ – إثر تسليعها – حُفِظَت، وإعادةُ إنتاجها تشكّل الشكل البدائيّ الفريد للمراكمة بالنسبة لمُلَّاكِها. ولم ينتهي تاريخا المجموعتين عندئذٍ. ففي الرُقع الشاسعة للجنوب الزراعي، مثلًا، لم يؤدي انتهاء العبودية إلى صير السّود حالةً شاذة بين ليلةٍ وضحاها، بل ظلّوا على العكس من ذلك مصدرًا رخيصًا للعمالة.[52] وحتى العاطلون منهم شكّل وجودهم بحدّ ذاته، كبديلٍ يمكن الإفراط في استغلاله، عاملَ ضغطٍ على أجور العمّال البِيْض. ولهذا علينا أنْ نكون واضحين: في أعقاب العبودية لم يصبح السّود حالةً شاذّةً جسديًّا كعَمالة، بل أصبحوا حالةً شاذّةً تشريعيًّا كأقران. وبالعكس، في حالةِ الهنود في الداخل، كان وجودهم بحدّ ذاته حالةً شاذةً، وعلى حدّ قول غاري ناش: البِيْض «طمعوا بأرضِ الهنود، ولكن ليس بالأرض والهنود عليها».[53]

ولأنّ اضطهاد السود لم ينتهي مع التحرير، يجب ألا تزيغ نهايةُ العبودية أبصارنا عمّا استمر. وكما لاحظ فريدريك كوبر وتوماس هولت وريبيكا سكوت (أو أحدهم على الأقل) حولَ التأريخ الذي يفشل في ربط عصر العبودية بالحاضر: «يمكن تحليل العمل الاستعبادي بمفرداتٍ اقتصادية واجتماعية وسياسية، ولكن العمل الحر شاع تعريفه ببساطة كنهايةِ الإكراه، لا كبُنيةٍ لضبط العمالة يجب تحليلها بطريقتها الخاصة».[54] ومع انتهاء الفجر الزائف لعصر إعادة البناء، اشتدّ العرق كبنيةٍ للتحكم الاجتماعي،[55] وتنوعت التعبيرات عن ازدياد بروزه وأهميّته، من همجية الرعاع وحتى اللباقة التشريعية البيروقراطية. وعندها تربّع خطابُ تمازج الأجناس على كامل ما أفرزهُ مجالُ العرق من مدى، من «الوحش الأسود المُغتصِب» الذي حرَّك خطاب الإعدامات الغوغائية (lynchings) وحتى الصيغ الملتوية التي سعى بها المشرّعون والقُضاة إلى تحديد خطِّ نهاية البياض وبداية السواد.[56] ورغم محافظة بعض الولايات على تشريعاتٍ بيّضت – بالمعنى الرسمي – الناسَ ذوي نسبةِ دمٍّ لا تزيد (عادةً) عن جدٍّ أفريقيٍّ واحدٍ من ستّة عشر، فالاتجاه العام – على الأقل بعد قضية «بليسي ضد فيرغسون»[57] المرجعية لعام 1896 – كان ثابتًا نحو ما أُطلِقَ عليه مسمى «قاعدة القطرة الواحدة»، التي بموجبها كان أيُّ دليلٍ على أيِّ انحدارٍ أفريقيٍّ، مهما كان بُعده أو كمّه، معناه أنْ يصنّف الواحدُ كأسود.[58] وفي هذا مفارقةٌ صريحةٌ بالطبع، إذ أنّ قاعدة القطرة الواحدة جعلت من الدم الأسود أقوى بما لا يقاس من الدم الأبيض (أو، بالأحرى، من أي دمٍّ آخر)، وإن كانت هذه القوّة – في الخطاب الأبيض – تنسب إلى قدرته الجبّارة على التلويث. واللازمة البديهية – أو الناتج الأيديولوجي – لهذه القوّة المفرطة للدم الأسود هو النقاء العرقي الأبيض.

ولم تكن قوانين جيم كرو – وكان هوسُها باحتواءِ كلّ قطرةٍ دمٍّ سوداء انعكاسًا لفصلٍ أوسع – إلّا تطوّرًا واحدًا في مسلسل أطول. لم تكن في الجنوب حاجةٌ للفصل قبل الحرب الأهلية، فالعبودية لم تبقِ أيّ مجالٍ للشك حول من هو صاحب السلطة. وذاك الوضع بدوره كان مختلفًا عن الوضع السابق لصعود الطبقة الحاكمة الزراعية في المستعمرات الباطنية للقرن السابع عشر، حيث تضمنت صفوف مُلّاكِ العبيدِ سودًا وهنودًا وبِيْضًا. والحال نفسه مع خطاب تمازج الأجناس. فقبل رواج خرافة الوحش الأسود المغتصب بين الغوغاء المتشوّقين للقتل بزمنٍ طويلٍ، حُكِم على هيو ديفس في فيرجينيا عام 1630 بأنْ «يُجلدَ جلدًا قاسيًا أمام جمهورٍ من الزنوج وغيرهم لإساءته لنفسه وخزيه أمام الله وعاره على المسيحية بتدنيسه جسده بمضاجعة زنجيّة»[59] – خصوصًا وأنّ سيء الحظ هيو كان سيُجلَد مهمن كانت من قُبِضَ عليه عند مضاجعتها.

اشتدت قاعدة القطرة الواحدة في القرن العشرين إثر الفراغ المستمر الذي تركه إلغاء العبودية وانتفاء القوانين المعنية بالسّود، مع سعي المجالس التشريعية في الولايات بعد عصر إعادة البناء إلى آليّات جديدة لوضع نظامٍ شاملٍ للضبط العرقي كالذي وفّرته العبودية سابقًا. وكما لاحظ س. فان وودوارد، وَضعتْ قوانين جيم كرو «سلطةَ الولاية أو المدينة في صوت سائق الترام، والقطار، والحافلة، وبوّاب المسرح، بل وحتى في أصوات المتسكّعين في الحدائق العامة والملاعب».[60] وأما الحرص الفائق على إقصاء السواد في عصر جيم كرو فقد كان أحد أوجه استقطابٍ أوسع عزِّزت فيه دعائم البياض أمام تهديدات عدة، لم يكن آخرها الغياب الدائم للعبودية بعد أنْ وفّرت له تعريفًا لزمنٍ طويل، بل وأضيف على ذلك تدفّق موجات الهجرة المتجددة والمستمرة لأناس ليسوا أنغلو-سكسونيين أو بروتستانت. ولسنا نقول هنا إنّ الانشغال بالبياض كان أمرًا طارئًا في القرن العشرين، فمفردة «أبيض» كنقيضٍ للسود والهنود استُخدمت منذ 1691 على الأقل، حينما مرّر تجمّع فيرجينيا قانونه الشهير الهادف لمنع «ذاك الاختلاط المقيت والقضية النخرة التي قد تتفشى في هذا العمران، حيث يتمازج النيغرو والمولاتو والهنود مع النساء الإنجليزيّات – أو غيرهن من البِيْض – وتتمازج هذه المجموعات بنحو غير مشروع».[61] وفي القرن التاسع عشر، في الولايات المتحدة مثلما في أوروبا، صار العرق مرتبطًا ببناء الأمة، والبياض التصق بالقَدَر الجليّ (Manifest Destiny) تحت جناح ما سمّاه جورج فريدريكسون «القومية البيضاء».[62] وإنْ كان لنا أن نستنتج من ذلك أن الوعي الأبيض لم يكن جديدًا، فالتعريف القانوني للبياض لم يأتِ إلا في القرن العشرين، بموجب قانون فيرجينيا لمكافحة تمازج الأجناس لعام 1924.[63] يلخّص ليون هيغينبوثام وباربرا كوبيتوف بنحوٍ بديع الاستقطاب المتسارع الذي شارك فيه هذا الابتداع:

في أوائل القرن العشرين وضع الفيرجينيّون أول تعديلٍ على تعريفهم للمولاتو منذ 125 عامًا. منذ قانون 1785 وحتى 1910، كان المولاتو أو الشخص «الملوّن» شخصًا ذو دمٍّ زنجيٍّ بنسبة الربع أو أكثر. وفي 1910 اتسع ذلك التصنيف ليشتمل على أيِّ شخصٍ ذو نسبة دمٍّ زنجيٍّ بنسبة 116 أو أكثر، والعديد ممن صُنِّفوا سابقًا كَبِيْضٍ أصبحوا ملوّنينَ قانونًا. وبعد ذلك في القانون ذو العنوان صريح: «حفظ التماسك العرقي»، عَرّفَ المُشرِّعون لأول مرةٍ «البِيْض» بدلًا من «المولاتو» أو «الملوّنين». والقانون، الذي حرّم مزاوجة الشخص الأبيض بأيّ شخصٍ غير أبيض، عرَّف «الأبيض» كشخصٍ «لا أثر في دَمِائه إطلاقًا لأيّ دماءٍ سوى الدم القوقازي» أو ما لا يزيد عن 116 من دم الهنود الأمريكيين. وفي 1930 عرّف المجلس التشريعي لفيرجينيا مفردة «الملوّنين» بنحوٍ مشابهٍ، إنما بنحوٍ فُضّت قيوده، كأيّ «شخصٍ فيه أيّ نسبةٍ مؤكدةٍ من الدم الأسود».[64]

أنّى لنا أن نزيد على هذا الإيضاح للتباينِ بين قاعدة القطرة الواحدة وسياسة الإدماج الأسترالية، ومعه التعارض الحيوي بين الأرض والعمل. ولكننا نضيف ما سبق أنْ أشرنا إليه: سنجد تباينًا ماثلًا حينما ننتقل إلى السياسات المعنية بالهنود. ولكن في حالة الولايات المتحدة، لا نجد التباين فقط، بل نجد تلك الأنظمة المتنافية ظاهرًا للاختلاف، تتفاعل وتتكامل مع بعضها البعض في الممارسة. والقسم التالي يستهدف تبيان المكاسب المعرفية المستسقاه من فحص الخطابات المعنية بالهنود، لأجل فهم الخطابات المعنية بالسود، والعكس بالعكس. فمما يحاول هذا المقال إيضاحه هو إجحاف السرديّات الراسخة لهاذين التاريخين الناتج عن معالجتهما بمعزلٍ عن بعضهما البعض.[65]


في شهر مارس ،1757، أرسل بيتر فونتين، وهو هوغونوتيّ7 الهوغونوتيون (بالفرنسية: Huguenot)‏، جماعة دينية فرنسية أعضاء في كنيسة فرنسا الإصلاحية البروتستانتية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، تأثروا بكتابات جون كالفن في الربع الثاني من القرن السادس عشر، وأطلق عليهم لقب الهوغونوت في عام 1560 تقريبًا. منحدر من ويستوفر بولاية فيرجينيا، رسالةً إلى أخيه موزيس، تشكى فيها من «كثرة البائسين المنحطين بيننا» الذين صاحبوا نساء زنجيّاتٍ، «ما يعني أنّ البلاد ستعجّ بالنغول المولاتو» الذين بعد ثلاثة أجيال، و«بسبب القوانين المتساهلة للبلاد»، سيسمح لهم بالتزاوج مع البِيْض، واستمر قائلًا:

حسنًا لو قمنا بدلًا من هذا الفعل المشين الذي لوث دماء الكثيرين منّا، بأخذ زوجاتٍ هنديّاتٍ في المقام الأول، لكان في ذلك تعويضًا لهم عن أراضيهم. إنهم شعبٌ حرٌّ، والمولود لن يولد في حالة عبودية. لصرنا عندها الورثة الشرعيين لأراضيهم ولن تتلوث دماؤنا، فالأطفال الهنود يولدون بيضًا مثلما الإسبان والبرتغاليون، ولولا ممارستهم التعرّي في الصيف وتلطيخ أنفسهم بزيوت الدببة، إلخ، لاستمروا بيضَ.[66]

مختصرٌ مفيدٌ. في فقرة قصيرة يقيم بيتر موضوعات عدّة ستحرّك الخطاب العرقي الأمريكي لقرونٍ عدة: إلحاق الهنود في عملية إعطاء ناهبيهم الحقّ السياديّ على التربة، والطبيعة الوراثية لوصمة العبودية، وهشاشة نقاء الدم الأبيض،[67] والتحديد البيئي لسمات الهنود الجسدية. ولكن لأغراضنا هنا، الموضوع المفتاح هو التباين الصارخ بين مقبولية النساء الهنديّات كشريكات زوجيّاتٍ وحرمة الدم الأفريقي.

لم تبلغ البرغماتية عند الأستراليين، إلا ما ندر، درجة الترويج العلني لتمازج الأجناس كحلٍّ للمعضلة الأيديولوجية الناتجة عن استنادِ المؤسسات المدنية إلى الاستيلاء على الأراضي الأبورجية. ولكن التاريخين الوطنيين يتشاركانِ هذا التصوّر للمادة الجسدية للشعوب الأصلية كمادة قابلة للإدماج في السلالة الأوروبية. وفي كلتا الحالتين عاشَ التصوّر في سياقاتٍ اشتملت على سياساتِ محوٍ أخرى، أبرزها القتل، والتهجير، والحبس في المحميّات، واختطاف الأطفال، وجملة من الإجراءات الهادفة لإحداث الإدماج الثقافي، من الإرساليات وحتى المدارس الداخلية لليافعين وحتى التشريعات التي استهدفت تحويل ملكية الوطنيين إلى شظايا من الرقع المملوكة ملكيّةً خاصةً قابلة للبيع. ويلاحظ أنّ كافة هذه الاستراتيجيات، ما عدى الأولى، قد يجتمع عليها المتعصّبون الكارهون للشعوب الأصلية والإنسانيون الذين رأوا في الإدماج فرصةً للرقي بهم. لاحظَ آلدين فوغان أنّ الإدماجيين بدأوا بطرح تمازج الأجناس كحلٍّ لـ «المشكلة الهندية» في نفس الوقت الذي بدأت المجالس التشريعية للولايات بوضع قوانين ضدّ تمازج الهنود والبيض، وشدّد فيها على اتّساق النتيجة: «ولكن مهما كان الحل – تمازج الأجناس، أو توزيع الأراضي الزراعية في الشرق، أو التهجير إلى الغرب، أو التعليم في مدارس داخلية ذات إدارة بيضاء – قُرِّرَ للهنديّ الانقراضُ من قِبل تحالفٍ مُقْلقٍ بين أصدقائه وخصومه».[68] تشاركت سمتا المقبولية للزواج والمطواعية الثقافية، في التمكين من محوِ اختلاف الهنود، إما جسديًّا أو ثقافيًّا أو الاثنين معًا. وهذا كان بالطبع بتباينٍ كاملٍ مع النظام المفروض على السود، إذ جُعِل اختلافهم مُطلقًا وجوهريًّا ومنيعًا.[69] والتفاوت بين أهلية السود والهنود للإدماج أعاد إنتاج تمييزٍ أعمق بين الخطابات التكاملية للأرض والعمل التي استند إليها المجتمع الأمريكي في آخر المطاف. وهذه التكاملية لخصها رونالد تكاكي قائلًا: «بهدف رصف الطريق للاستيطان الأبيض وتوسعة زراعة القطن وسوقه، هُجّر حوالي 70 ألف تشوكتاو وكريك وشيروكي وسيمينول وتشيكاساو وحرموا من أراضيهم، ونُقِلَ مئات الألوف من السود عبيدًا إلى الجنوب الغربي ليحرثوا الأرض».[70]

وما وجده الأوروبيون عمومًا من عسرٍ في استهدافِ الهنود لأجل الاستعباد مقارنةً بالأفريقيين لم يكن ناتجًا عن بيولوجيا الهنود (ناهيك عن الأفريقيين)،[71] بل سببه راجعٌ في المقام الأول إلى أنّ نجاح أنظمة العبودية اعتمدَ كثيرًا على الاغتراب (وليس فقط الاغتراب العائلي الذي اشتهر على يد أورلاندو باترسون،[72] فقد طال الاختطاف أبناءَ المجتمعات الأصلية في كلٍّ من أستراليا وأمريكا، بل الاغتراب الحيّزي الذي يحققه نقلُ العبيد). لم يكن في صُلب الهنود جوهرٌ يمنع استعبادهم، فالتوتّر الجوهريّ يقع بين الاستعباد والأصالة، إذ أنّ المشاكل المصاحبة لاستعباد الهنود تغيبُ عند مبادلة المستعبَدينَ منهم مع أفريقيّي مزارع الكاريبي (فحسب تشجيع جان بابتيست لو موين دي بينفيل، مؤسس نيو أورلينز، للتاجَ الفرنسي في أوائل القرن الثامن عشر، هكذا تبادلٌ سيمنع كلا المجموعتين المستعبَدتين من الهرب، فمن المحال على الهنود الهرب من الجزر، وأما الأفريقيون في لويزيانا فسيهدّنهم الخوفُ من الهنود المحيطين بهم).[73] وعندما يتجاوز بصرنا التمايز المضطرب بين العرق واللون، ويطال ما يرمّزانِه ويعيدان إنتاجِه من علاقات تاريخية، سنجد أنّ لا مفارقةَ أبدًا فيما تتصف به الأنظمة العرقية التي أُخضِعت لها الشعوب الأبورجية في أستراليا (رغم سوادهم) من تناقضٍ مع الأنظمة المفروضة على السود في الولايات المتحدة وشَبهٍ بِتلك التي فرضت على الهنود.

من ناحية شكليةٍ، بين استعمار هنود أمريكا الشمالية واستعمار الشعوب الأبورجية في أستراليا اختلافٌ كبيرٌ بالطبع. فمهما تكرر خرق الاتفاقيات، كان في وجودها بحدّ ذاته تسليمٌ وإقرارٌ بملكية الأصليين، بل وسيادتهم، أيًّا كان شكلها.[74] ولكن هذا الاختلاف، في الممارسة، أصغرُ مما يبدو. فإنْ أخذنا السيادة كمثال، ففي أفضل الأحوال، لن تُكثِر من ذكر مثالبها إنْ كانت تضفي طابعًا دوليًا على العلاقات يتيح استخدام الجيش ضدك. وعمومًا، يمكن أنْ نستدل من اعتيادية خرق الاتفاقيات على أنّها تقّدماتٌ تكتيكية وليست تنازلات، صممّت لأجل التهدين وليس التعويض. وإنْ لم تأسُر أبصارَنا الانتهاكاتُ الصريحة للاتفاقيات، ومن النافل إيضاح توافقها مع منطق المحو، سنلاحظ تسلسلًا من السياسات المبتدعة مظهرها شريف ولكن آثارها الفعلية خدمت الهدف نفسه. وما إنْ احتويَ هنودُ ما بعد الاتفاقيات ضمن الدولة-الأمة الاستعمارية الاستيطانية، صار عاملٌ عرقيٌّ معيّنٌ على وجه التحديد، ألا وهو النسبة الدموية، سمةً مفتاحًا للسياسة، ليحوّلَ بذلك العلاقات الدولية إلى سياسات هوية. الاختلاط الجيني يفصل الأفراد عن القبيلة، فيتيحُ إدماجهم (في الحالة الأسترالية) في المجتمع السائد.[75] وبعبارةٍ أخرى، بعد استدخال الهنود، باتت عَرْقَنَتُهم صورةً معكوسةً لعرقنةِ سودِ أمريكا بعد التحرير (التي سلف نقاشها).

رغم التفارق الأساسي بين عرقنة الهنود وعرقنة السود، ففي كلتا الحالتين نجد العرق في طور الاستفحال حالما يغدو الحيز الاجتماعي مشتركًا – أو ينبعث تهديد تشاركه.[76] ولكن هنا تقع حدود المقارنة بين التجربة الهندية والتجربة السوداء، فبعدها ينتهي التشابه، وذلك لأنّ مشاركة الحيز الاجتماعي مع البِيْض، مع أنها أدّت إلى (إعادة) عَرْقَنة المجموعتين، فما اتخذته هذه العرقنة من شكلٍ في كلِّ حالةٍ كانَ متعارضًا تمامًا مع الآخر، بطريقةٍ انساقت مع التمايز الأساسي بين الأرض والعمل وحفظَته. ففي حين صار العرق للسود سمةً متعذرة المحو وباقيةً مهما كان مقدار التخالط، فالعرق بالنسبة للهنود صار مقدارًا متأصّلَ الانخفاض ومعرّضًا للشعشعة إلى حدّ الاضمحلال. فبعد اختتام التخوم، احتلّت سمةُ اختلاط الدم الدور الذي أدته سمةُ الهنديّ المُنقَرِض قبل ذلك. لا بدّ من التشديد على هذه النقطة، فهي تمكننا من رؤية التعددية في نظام العرق، وما يفضي إليه من نتائج متنوّعة يدلّ على وحدويّةٍ ولاتجانس متزامنين فيه. ولاتجانسية العرق تتبين في تخصيصه مصيرين منفصلين تمامًا للهنود والسود. وإنْ لم يدرَك اللاتجانس هذا، سيخال لنا أنّ جوانب عدة من تاريخَيّ المجموعتين متناقضة مع الأخرى. فبينما كان الهنود المندمجين متوافقينَ مع مقتضيات هذا النظام، مثلًا، شكَّل السّود بِيْضُ المظهر مصدر إحباطٍ لها. وعلى نفس المنوال، إن لم نعطي التاريخين التناقضيين التكامليين حقّهما هنا، فقد يبدو توزيع الأراضي بمساحة 160 فدّان، الذي سعى به مكتب العلاقات الهندية إلى تشظية المجتمع الهندي، صفقةً أفضلَ بكثيرٍ من الأربعين فدّانًا وبغلًا التي رأى فيها السّود أمل توفير أساسٍ اجتماعيٍّ مستقلٍّ لأنفسهم بعد الحرب الأهلية. ورغم هذا اللا-تجانس الجوهري، فالمصيران المنفصلان الذين حددّهما العرق أعادا إنتاج البنى الأساسية للمجتمع الأمريكي بتناغمٍ، ليمكنانِ بتزامنٍ محوَ الهنود وإقصاء السود. وبهذا لنا القول بأنّ عمليّتا العرقنة المنفصلتان عملتا لأجل غايةٍ وحدويّة.

على أساسِ هذه الاعتبارات يمكننا الآن الاتجاه إلى السياسة الفدرالية تجاه الهنود ما بعد حقبة الاتفاقيات، بتركيزٍ على المشاكل التي بعثتها داخليّتهم. وآمل هنا إثبات ما يكشف عنه هذا التركيز من استمرارية استراتيجية تربط سلسلةً من الإجراءات قد تبدو – دونه – منفصلة. ورغم تعقيد التفاصيل، والاختلافات المعتبرة بين المبادرات السياساتية المتنوعة ، فكلٌّ منها مزجت مقولات الرقي بالهنود مع إجراءاتٍ إدماجية سعت إلى إعادة تشكيل المؤسسات الهندية بما يتوافق مع نماذج المتجمع السائد، بنحوٍ سهّل نقل الموارد الهندية إلى أيدٍ بيضاء.

في حالة قانون التحصيص العام (أو: قانون دوز للتخصيص) لعام 1887 والتشريعات المرتبطة به، استُهدِف تقسيم المليكة القبلية للأرض إلى حصص فردية.[77] وقد مكّن هذا التشريع، بالتشارك مع إحلال الفرد المالك محلّ العشيرة أو القبيلة كالوِحدة الأساسية للمجتمع الهندي، تغريبَ فائض أراضي المحميّات بعد تقسيم الحصص. في الظاهر، هذا الفائض ينتج (كما أشار جون لوك) لأنّ الزراعة أكثر كفاءةً من الصيد، وأقلّ حاجةً للأرض.[78] ولكن توليد الفائض دخل فيه عاملٌ آخر حيويٌّ وإنْ ندرت ملاحظته: القيود التي منَعت «ذوي الدم الخالص» من بيع حصصهم (بحجة الحد من تعرضهم للغش) لم تنطبق على «ذوي الدم المختلط» المفترض أنّهم أكثر تحضّرًا.[79] خسر الهنود من جراء ذلك أكثر من ثلثيّ أراضيهم (من حوالي 155 مليون فدان إلى حوالي 52 مليون فدان) ما بين أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر وحتى 1934.[80] ويضاف على ذلك أنّ الترقيع (checkerboarding)، أي ما يُنتجه بيع الفائض من توالج أراضي المحميّات بالحصص المملوكة من البِيض، أدى إلى زيادة تزاوج الهنود والبيض، وبالتالي إلى زيادة عدد الوَرَثة غير المستحقين. انتهى التحصيص مع إصلاحات «الصفقة الجديدة» المرتبطة بولاية جون كوليير المهمة كمفوّض العلاقات الهندية، التي كرّست مبدأ الحكم الذاتي القبلي. ومع ذلك فالقبائل التي أعيد تنظيمها بموجب قانون 1934 انتهى الحال بها متبنيّةً شكلًا أنجلو-سكونيَّ الطابع للحوكمة عبر الدستور النموذجي لمكتب العلاقات الهندية، الذي حدد عادةً معايير الانتماء المستندة إلى نسبة الدم وتضمن عبارة «خاضع لموافقة وزير الداخلية»، حيث لم يكن للسلطات القبلية المنتخبة الكلمة الأخيرة حول النفقات واستخدام الأراضي.[81] وكما تشكّى العديدون، سهّل هذا الشكل من الاحتواء صفقات تنازلٍ توفّرت بموجبها الموارد الهندية للمصالح غير الهندية بمعدلات جائرة. والاندفاعة التي تَلت الحرب العالمية الثانية نحو تفكيك القبائل، أو الانسحاب الفيدرالي منها، مثَّلت رفضًا كاملًا لسياساتِ كوليير وابتعادًا كاملًا عنها. وقد أتيح للهنود التحرر من الضوابط الفيدرالية والحصول على حقوق المواطنة وواجباتها الاعتيادية نتيجة تفكيك القبائل وسياسة الترحيل التي وفَّرت دعمًا لهنود المحميّات (ذوي الدم المختلط خصوصًا) لأجل الانتقال إلى المدن والاندماج في الثقافة الحضرية السائدة وتركِ البقايا التقليديةِ (وأغلبهم ذوو دمٍّ خالصٍ) لتفنى في المحميات.[82] سعى هذا التشريع إلى إزالة الأعباء عن النفقات الفدرالية (وليس نفقات الولايات) وتمكين الهنود المنسحبين فرديًّا من خطط الإدارة القبلية من بيع الأراضي الخاصة، بنحوٍ يستحضر التخصيص الفردي كما عُمِل به حتى 1934.[83] وبالتالي ليس من المفاجئ أن نتذكر عدّة جوانب من إصلاحات كوليير حالما نسمع بسياسة تقرير المصير التي تلت ستينيات القرن العشرين (وهو مصطلحٌ صاغه الرئيس ريتشارد نيكسون بادئًا في سياق صعود نضال الحركة الهندية الأمريكية)، أهمها التقييد البيروقراطي الشديد على السلطة التعاقدية للحكومات القبلية فيما يتعلق بخدماتها الحكومية، إلى حد اشتراط موافقةٍ رسميةٍ على أيّ عقدٍ تسعى للدخول فيه، الأمر الخاضع للتقلبات التي تحكم اعتمادات مجلس الشيوخ. ومن هنا يرى أنّ مجالاتٍ عدّة من الحكم الذاتي تضمنت تطبيقَ الهنود للسياسات الفيدرالية بدلًا من تقرير كيفية إدارة حياتهم، وعلى حدّ قول جويوتبول تشودري: «إنّ «القرار» في تقرير المصير ما زال إلى حدٍّ بعيد ليس هنديًّا».[84] ويضاف على كافة تحولات السياسات المذكورة، أنّ اختلاط الدماء عمل كمرادفٍ – أو على الأقل مسهِّل – لإدماجٍ ثقافيٍّ وسياسيٍّ أوسعٍ، إنجازهُ يرقى إلى تذويب الصفة الهندية، عمليةٌ أطلقت عليها آنيت جيمس مسمّى «الإبادة الإحصائية».[85]

ولهذا المبدأ، مثله مثل التمليك الفردي، جذورٌ أعمق من قانون دوز، أو حتى قانون 1871 الذي أنهى إقامة الاتفاقيات. ففي اتفاقية 1858 بين البونكا والحكومة الأمريكية مثلًا:

لرغبة البونكا في إعانة أقاربهم الهجناء نصفيًّا، تم الاتفاق على أنّ من يفضل ويختار العيش بينهم سيسمح له بذلك، وهو مستحق لكافة الحقوق والامتيازات الخاصة بأعضاء القبيلة ومتمتع بها، لكن من يختار مغادرة القبيلة للسكن وسط البِيْض وتبع مساعي الحياة المتحضرة . . . يجب أنْ يصدر له سهمٌ قدره مئة وستون فدانًا من الأرض، يستلمها من مكاتب الأرض التابعة للولايات المتحدة بنفس طريقة تلقّي رخص أراضي المكافآت العسكرية وتخضع لنفس تنظيماتها وقواعدها.[86]

ومن غادر (أي: من استُدْخِلَ)، سيجد في هذا الجانب (الأبيض) من الحدود، السماتِ الجوهرية لبرنامجِ الإدماج، الأشبه ببرنامج دوز، قائمةً على قدمٍ وساق. القبيلة تفنى. ومحلها يقام الأفراد المندمجون في مجتمعٍ أبيض عبر تحصيص الأرض (حتى المقدار، 160 فدان، يستبق المعيار الزراعي لما بعد 1887). واختلاط الدماء عاملٌ تشغيليٌّ مفتاحٌ. وهنا تكمن أهمية تجنّب الالتباس في رؤية الهيئات المختلفة لمنطق المحو وكأنها تتابعٌ زمنيٌٍ مرتّب. هنا الترحيل الجغرافي والإدماج الاجتماعي-الثقافي وجهان لعملة واحدة. ففي كلّ الأحوال، لا تعيق قبيلة البونكا وصول البِيْض إلى أراضيها.

ولكن أحد أوجه اتفاقية البونكا يبرز لتناقضه مع نظام ما بعد دوز. فرغم أنّ اختلاط الدماء عاملٌ تشغيليٌّ (لكونه يحدد المستحقين للإدماج)، فليس له تداعياتٌ على الانتماء القبلي. وهنا تحديدًا تتضح العلاقة بين خطاب النسبة الدموية واستدخال المجتمعات الهندية. فتداعيات اختلاط دمّ البونكا مع غيرهم تنتفي عند بقائهم خارجيين بموجب قبولهم بالترحيل. وخارجيًّا، كانت المشكلة الهندية لدى الحكومة الأمريكية مشكلةً قبلية. فإدماج الأعضاء الفرديين لن يتيح الأراضي القبلية (المملوكة جماعيًّا). ويضاف على ذلك أنّ مصالح الولايات المتحدة استلزمت ضمان تجمّع القبائل بأكبر قدرٍ ممكن. فتكسيرها إلى وحداتٍ أصغر كان ليستلزم اتفاقياتٍ إضافية. بعبارةٍ أخرى: قبل الاستدخال، اعتمدت الحكومة الفدرالية على نفس الحكومات القبلية التي ستسعى لاحقًا إلى تفكيكها.[87] ولكن حالما استُدخلت قبيلةٌ ما، باتت حكومتها تشكّل حيّزًا وسيطًا أعاقَ وصول الحكومة الأمريكية إلى الهنود الأفراد. ولم يقع العائق أمام إدماج القبائل في الكيان السياسي ببساطة في كونها كياناتٍ جمعية، فالولايات المتحدة اشتملت على تجمّعاتٍ أخرى (وتحديدًا، بالطبع، الولايات). ما جعل من القبائل كياناتٍ متعذرة الإدماج هو تشكّلها ككياناتٍ منفصلة ومستقلة مبادئها التنظيمية متناشزةٌ مع المبادئ التي حكمت المؤسسات البنيوية الاعتيادية للمجتمع الأمريكي، المنظّمةٌ تنظيمًا موحّدًا على مركزية الملكية الخاصة. وبالتالي فالعائق أمام القبول بالأرض الهندية في الولايات لم يكن تكوينها الجمعيّ بل التزامها بالملكية الجمعية. فكما شرح فاين ديلوريا وكليفورد ليتل، دون تحصيص الأراضي القبلية:

كان من غير المعقول للمسؤولين الفدراليين القبول بولاية في الاتحاد لم تتح التجارة الحرة مع الولايات الأخرى، والملكية المجتمعية للأرض ضربت مباشرةً بنظام الملكية الشخصية المترسخ في الولايات الأخرى. إنْ لم يتمكن هنديٌّ من بيع قطعةِ أرضٍ داخل ولاية، كيف للولايات الأخرى أنْ تحمل حالةً متساويةً مع الولاية الهندية حديثة الاعتراف، وكيف للتجارة أن تجري إنْ كان أفضل ما يمكن للمواطنين البِيْض فعله في الولاية الهندية الجديدة هو – على الأرجح – استئجار الأراضي؟[88]

نستخلص من ذلك أن للتحصيص وجهين ملتحمين: نهايةُ الحكومة القبلية وإنتاج الفرد المالك. اكتسب خطاب النسبة الدموية مركزيّةً كوسيلةٍ لتحويل العضوية القبلية إلى شكلٍ هشٍّ للمِلك العقاري على أساسٍ فرديّ. ومن المهم هنا التشديد على أنّ تشريع دوز لم يبتكر التمليك الفردي ولم يسرّع عمليتَي نزع ملكية ذوي الدم المختلط وإدماجهم،[89] بل ثبّتَ ميلًا تاريخيًّا أعمقَ وأوسع اسمتدّ منطقه من المقدّمة الأعمق تأسيسًا للمشروع الاستعماري الاستيطاني: ضرورةُ «استتباب» حيازة الأرض وعدم التنازع عليها.[90] ما ينتج عن ذلك من تعظيم وصول مُختلَطي الدماء إلى الامتياز المزعوم للإدماج، هو مكمّلٌ نقيضٌ لما تعرض له المستعبَدون سابقًا من إقصاءٍ متزايد الغلاظة، إذ كانت مساهمتهم القسرية في التشكيلة الاستعمارية الأمريكية الشمالية مساهمةً بالعمل لا بالأرض.

بتلخيص الوضع هكذا، لا بد أنّه سيظهر أكثر اعتياديّةً مما كان. ولكن في الممارسة استثناءاتٌ عدّة للقاعدة العامة. ولنا أن نضيف على مثال الهنود المستعبَدين سالف الذكر، ظاهرةَ تملّك الهنود والسود لعبيدٍ ومتاجرتهم بهم.[91] وقد أتيح في بعض النواحي معاملة السود مثل الهنود، كما في حركة الاستعمار، فقد سهَّلت تهجير السود جغرافيًّا إلى مناطق بعيدة، ما استجابَ له بعضُ البِيْض في لحظاتٍ مختلفة من القرن التاسع عشر بالتعبير عن خوفهم من أنّ السود قد يموتون من جراء ذلك.[92] ولكن ظهور هاذين الميلين المتناقضين كان جزءًا لا يتجزّأ من البرامج التي طرحها مناصروهما لأجل المجتمع الأمريكي ما بعد العبودية. وإنْ كان الجدل مقبولًا حول هذه الاستثناءات، فيجب ألا نتجاهلها. فقد أفضى تشارُك الخطاب والسياسات المعنية بالهنود والسود للغةِ العرق إلى ميلهما للاستقاء من بعضهما البعض، ما أنتج بعض الحالات حيث يمكن تطبيقُ معجمٍ واحدٍ للاختلاف على أحدهما أو كلاهما دون تمييز. نعم، لا بدّ من الإقرار بأنّ هذه الحالات والأحداث الفردية ليست متماشية مع النسق الكلّي. ولكن في هذا النسق لا شكّ أنّ سياسات المحو، مثل الحرب والتهجير والإدماج، طُبِّقت عرفًا على الهنود، لا السود. فهذا الانتظام حقيقيٌّ إمبريقيًّا، ويجب ألا تحرمه خصوصيّاته من الوصف التاريخي. وعلى الأساس نفسه، فيما يتعلق بخطابات تمازج الأجناس، ورغم اعتراض بعض الولايات على تمازج الأجناس بين الهنود والأوروبيين،[93] فالصورة العامة صورةُ تسامحٍ إلى حدِّ التشجيع، ولا داعي لذكر اختلاف ذلك الساطع مع السياسات المعنية بالسود. وحتى قانون فيرجينيا ضدّ تمازج الأجناس لعام 1924، ذروة تشريعات جيم كرو وأسوؤها صيتًا، قَبِلَ بما سمّي استثناء بوكوهانتوس، حيث استثنيت بعض أصناف القِران الأوروبي-الهندي تحديدًا من اللوائح والقيود المتشددة للقانون.[94] ونظرًا للاستمرارية الظاهرة بين هذا التشريع والانتظام الذي أشرنا إليه، من المضلل صرف النظر عنه وتصويره كأمرٍ تفرّد به التشريع المعنيّ، أو تعزيته إلى الامتداد الثقافي لجون رولف.[95] فحتى مع الدور الذي تؤديه هذه العوامل هنا، لا بدّ من مستوىً للتحليل مختلفٍ، وإلّا فسنفشل في إدراك الحافز التاريخي الأعمق الذي توافق مع هذا التشريع، فأعاد إنتاجه.[96]

مثلما كان إدماج الهنود في الجماعات البيضاء متّسقًا مع منطق المحو، كان إدماج البِيْض في الجماعات الهندية لعنةً عليه («رجال السكوا»، إلخ).[97] وإنْ كان ذلك بديهيًّا، فأسبابُ استشكالِ القِرانات بين السود والهنود ليست كذلك، فقد اختصّت هذه المخاوف تحديدًا بتهديد إنتاج هنودٍ سودٍ جزئيًّا،[98] دون أنْ تطال السّودَ الهنود جزئيًّا (تناقضٌ تجسّد في أنْ يصنّف شخصٌ كشخصٍ أحمر حينما يعيش في المحمية وأسودَ عندما يغادرها).[99] وقد سلف التذكير بضرورة موضعة الخطابات حول الهنود والسود في علاقتها ببعضها البعض. ومع أنّ الظاهر على قاعدة القطرة الواحدة هو استهدافها النَّسَب الأفريقي تحديدًا، فهي تبرز إلى النور بكامل وزنها عندما يدرك أنّ دورها لا يقتصر على تعقيم الجماعات البيضاء،[100] بل وتزامن ذلك مع محوها الجماعات الهندية عبر إدماج الناس الحُمر-السود في صنف السود؛ منطقٌ بالأمسِ جعلَ من «ثُمانيّي السواد» («mustees») عبيدًا، يجعل من الهنودِ سودًا اليوم، عبر إقصاء الأصناف المختلطة من استمارات التعداد السكاني (وضعٌ يضاعف هزلية عبارة زورا نيل هورستون: «أنا الزنجية الوحيدة في الولايات المتحدة التي جدّها من طرف الأم ليس زعيمًا هنديًّا»).[101] ولاشتمال قاعدة القطرة الواحدة على أيّ لونٍ ما دام أسودَ، تجعل بذلك السواد تصنيفًا حصريًّا. وبموجب ذلك (ومع احترامي لجاك فوربس)، لا صنف اسمه الناس السود-الحمر، بل ولا يُلحق صنف الناس السود بأيّ شيء. وعليه حتى في لويزيانا حيث يختص تصنيف الكريول8كريول (Creole أو Criollo  أو Créole): مفردة يختلف معناها مع الزمان والمكان، لكنها تشير عمومًا إلى الأشخاص ذوي الانحدار الأوروبي أو الأفريقي المولودين في جزر الهند الغربية أو مناطق الاستعمار الفرنسي والبرتغالي والإسباني في الأمريكيتين. وعملية الكَرْيَلة تشير التجانس الثقافي واللغوي الناتج عن اختلاط الثقافات مع مرور الزمن. بتعقيدٍ قد يبدو عصيًّا على الثنائية المتزمتة لقاعدة القطرة الواحدة،[102] يبرزُ صنفٌ واحدٌ – الصنف الأبيض – واحدًا لا منقسمًا، ما يترك البقيةَ كتعديلاتٍ على السواد.

وبالتالي فالعامل المفتاح في العلاقات العرقية الاستعمارية و«ما بعد» الاستعمارية ليس – كما ذهب البعض – الأرقام الديمغرافية المحضة،[103] فلا بدّ من المخالفة بين الجَمْهرات لتغدو قابلةً للعد. ويجب ألا ندع مجالًا للاعتقاد بأنّ هذا الاختلاف مُعطى. إنّه نتيجةُ المُخالفَة، وهي عمليةٌ شديدة الصراع. فلو طبّقت قاعدة القطرة الواحدة في أستراليا مثلًا، لتضاعفت الجمهرة الأبورجية بينَ ليلةٍ وضحاها. وهذا مصدر الأثر التحريضيّ لملصق السيارات ذاك في كوينزلاند، الذي اختصّ الشجعان بإشهاره دون غيرهم، والذي أعلن: «لمّ شمل العائلة الأبورجية؛ اعزم أقرباءك البِيْض».[104] الديمغرافيا ليست مجرّد إحصاءٍ بسيط، بل تتضمن صراعاتٍ شديدة التعقيد والصعوبة، مثلما في صراع الفيرجينيين الأصليين لقرنٍ من الزمن لرفض تصنيفهم كـ «ملوّنين»، وهو صراعٌ شُنَّ – كما أشار فوربس – «بنجاحٍ اختلط بفشلَ . . . [إذ] دسّ السم في العلاقات بين السود والهنود الأمريكيين، بل وقسّم أحياءَ وكنائسَ بل وحتى عوائل».[105] فخطاب تمازج الأجناس معنيٌّ بحراسة حدود السلطة والامتياز والوصول إلى الموارد. وهو في اللبّ المادّي لسياساتِ الهوية، ومن الخطأ تجاهلها كجماليّاتٍ أو كبنية علوية.

في سياق علاقات الملكية الرأسمالية، لا توتر بين ما أخضع له السود والهنود من خطابيْن متناقضيْن للعرق. وهذا لأنّ الناتج البسيط الأوحد لتصادف العمل الأفريقي والأرض الهندية كان المِلكية الأوروبية. وفي هذا السياق، ووضوح هذه الملاحظة لا يقلل من أهميتها: الاسمان الأبقى الذين طبّقا على المجموعتين، «نيغرو» و«هندي»، يشيران على التوالي إلى سمةٍ جسديّةٍ وتعيينٍ إقليمي.[106] وكما نبّهنا فيما يتعلق بعقيدة الأرض المباحة، فخلطُ العمل بالأرض كان مركزيًّا للواجهة الأيديولوجية للملكية الخاصة. وكعبيدٍ، كان السّود متاعًا (chattel) أو أدواتٍ تُقارَن بالمحارث أو الخيول، استخدامهم في الأرض الخالية حقَّق قيمتها وحوّلها من برّية إلى ملكية. والعبودية المتاعية، استحواذُ شخصٍ على جسدِ آخر، مقدّمتها تغريبٌ مسبق. أحدهما مُستحوّذٌ عليه، والآخر استحوذَ على أرضه. وإنْ تعاملنا مع هاذين البُعْدَين التوأمين للعملية ذات الوجه اليانوسيّ بانفصال، فلن نعطيهما حقّهما.

بعد أنْ وصلنا إلى هذه النقطة، يمكننا الآن أنْ نعطي تميّز الوضع البرازيلي حقه.


فلنقارن الثنائية الصارمة لقاعدة القطرة الواحدة أو أحادية الاتجاه البسيطة لسياسة الإدماج الأسترالية مع إسراف النظام البرازيلي[107] للتصنيف اللوني (أنظر الشكل 2).[108] لو كان للتحليل الطبقي تحدٍّ كفؤ، فهذا النظام سيقدمه بلا شك. هذا النظام الباروكيّ حقًّا في بذخه يؤسس حدودًا للتصنيف العرقي منيعةً ظاهريًّا. ما خطب العلاقات العرقية البرازيلية لترسم مخطّطًا كهذا؟

واقعُ تنافي هذا النظام، وبشكلٍ صارخٍ، مع أيّ ثنائيةٍ سريعة وصعبة، غذّى تأريخًا مُضَلِّلًا للعبودية والعلاقات العرقية في البرازيل. وجذور هذا الإلهام تعود إلى المؤرخ البرازيلي جيلبيرتو فريري، فكتابه «البيت الكبير وبيت الرقيق» (Casa-grande & senzala)، المنشور بالبرتغالية في 1933 والصادر بالإنجليزية بعنوان «السادة والعبيد» (The Masters and the Slaves) في 1946، رعى خرافة مالِك العبيد البرتغاليّ الخيّر نسبيًّا. ومزاعمُ فريري ألهمت عددًا من المؤرخين الأمريكيين – وتحديدًا فرانك تنينباوم، وستانلي إلكينز، وحتى، وإنْ بدرجةٍ أقل، وينثروب جوردان – للتأكيد على لطافة العبودية البرازيلية مقارنةً بالأمريكية الشمالية، لأنّها كانت مألوفةً لدى الإيبيريين في العالم الجديد، حيث صيغت وأُسِّسَت بنحوٍ إنسانيٍّ نسبيًّا، مُستَمدةً من القانون الرومي ومصفّاةً عبر الكنيسة الكاثوليكية، في حين لم تكن مؤسسة العبودية حاضرةً في إنجلترا لعدة قرون، ولم توجد قواعد لتنظيم ممارستها وتقييد تجاوزاتها.[109] والنظام البرازيلي المعقد للتصنيف اللوني شاهد على هذه اللطافة المقارِنة، إذ أوحى بأنّ البرتغاليين لم يحكموا مجتمعًا صارمَ القطبية يميّز بين السيد والعبد تمييزًا قاسيًا، بل حكموا كيانًا مندمجًا حيثُ عتق العبيد كان شائعًا وكان الناس يرتقون الهرم وينزلون عنه بسهولةٍ نسبيّة.[110] ولكن واقع الحال هو أنّ مفهوم الشكل اللطيف للعبودية، لدى البرتغاليين، أبعد ما يكون من الحقيقة، فلا هُم ولا المستعبِدون الأنجلو-أمريكيّون أهلٌ للثناء.

branco

preto

mulato

moreno

mulato claro

mulato escuro

moreno claro

moreno escuro

negro

caboclo

escuro

cabo verde

Claro

aracauba

roxo

amarelo

sarara escuro

cor de canela

preto claro

roxo claro

cor de cinza

vermelho

caboclo escure

pardo

branco sarara

mambebe

branco caboclado

moreno escuo

mulato sarara

negro

cor de cinza clara

creole

louro

vermelho

mambebe

pele

roxo de cabelo bom

preto escuro

الشكل 2: التصنيفات اللونية البرازيلية

شكَّلت حياةُ عبيد أمريكا الشمالية سلعةً قَيّمةً، ولذلك حرص ملّاكهم على حفظها (وإنْ ليس بلُطف)، ولكنّ الأفريقيين المستعبدَين في صناعة السكر البرازيلية بالمقارنة، إنْ لم يُعتَقوا، فأمامهم حياةٌ مبتورةٌ بترًا وحشيًّا.[111] ورغم الصعوبات المستمرة في الوصول إلى تقديرات دقيقة، فالنظام الديمغرافي السلبي استلزم إعادةَ تزويدٍ مستمرةٍ من أفريقيا، نتيجة تصاحب الخلل الجندري الكبير لصالح استيراد الذكور مع النسبة العالية للوفيات والنسبة المنخفضة للولادة. قلّةٌ من سيجرؤون اليوم على تحدي توصيف ستيوارت شوارتز لنسبة وفيات البالغين والنسبة العامة للولادة لدى العبيد في البرازيل في القرن الثامن عشر، حيث قال إنها «صادمة . . . أسوأ بمستويات من تلك المسجلة في الأنظمة الاستعبادية الأخرى».[112]

ورغم انخفاض استيراد العبيد في الولايات المتحدة انخفاضًا معتبرًا منذ تسعينيات القرن الثامن عشر فطالعًا، لم يحمل ذلك الأثر البالغ على نظام العبودية، فالعبيد يمكنهم إعادة إنتاج أنفسهم، وقد فعلوا ذلك بالطبع، إنما بمساعدة بسيطة من أسيادهم، حتى زادت أعدادهم واقعًا في الجنوب في القرن التاسع عشر.[113] وأما الوضع في البرازيل فقد كان خلافَ ذلك، لا تبدو فيه حتى مظاهر التزايد الطبيعي، فحياة العبيد استنفدت، بنحوٍ وصفه توماس نيلسون، وهو جرّاح أقام في ريو في أربعينيات القرن التاسع عشر، بالقول إنّ مصيرهم الاستبدالَ «بأفواج الأفريقيين المنكوبين الذين يُجْترّون سنويًّا من الضفة الأخرى لسدّ العجز».[114] وهذا الاستيراد استمر بوتيرته نفسها حتى 1851، حينما أنهاه البريطانيون عبر الحصار البحري، وبدأت العبودية البرازيلية بالانهيار. ومع أنّ عتق العبيد البرازيليين لم يأتِ حتى 1888، فالأثر المركّب لتقييد التجارة من أفريقيا التي انتهت تمامًا بحلول 1853، وتأثير قانون ريو برانكو (أو «الرحم الحر») لعام 1871، الذي أوقف توريث حالة العبودية إلى الأبناء حينما يصلون سنّ البلوغ، أدى، حسب تعبير ريتشارد غراهام، إلى «وقف توفير العبيد الجدد سواءً من أفريقيا أو بالولادة».[115] وقدّ توفرت العدّة لدى مجموعات العبيد الذين استمرت عبوديتهم في سبعينيات القرن السابع عشر، وأغلبهم برازيليو المولد، لمقاومة إخضاعهم بعددٍ من الطرق، توّجها الهرب الجماعي من العبودية الذي حصل في ثمانينيات القرن نفسه، وتكرر ذلك عبر نظام السكك الحديدية نفسه الذي وُضِع لتحسين كفاءة صادرات المزارع الاستعبادية.[116]

يمكن للمرء إدراك أسباب كثيرة متنوعة لهذا الهدر المبذر ظاهريًّا للموارد البشرية من طرف البرتغاليين وخلفائهم البرازيليين. فالعائدات المالية المباشرة لإعمال الأفريقيين في مزارع السكر البرازيلية أعلى بكثير مما كان الحال عليه في مزارع التبغ الفيرجينية.[117] وبصرف النظر عن كل العوامل الأخرى، فالمسافة الفاصلة أقصر بكثير – بقرابة النصف – وبالتالي كان شحنُ الأفريقيين إلى البرازيل أرخصَ بكثير.[118] وقد أمسك البرتغاليون بطرفي تجارة العبيد البرازيلية، ما يعني قلّة الوسطاء وصُغر الجبايات التي سيتحمل تكاليفها المالك النهائي. ومذ أنّ التاج البرتغالي فرض ضريبة رؤوس على الصادرات الأنغولية والواردات البرازيلية، فقد شجّع درجةً عالية من التجارة.[119] ولكنّ الأهم من ذلك كله هو أنّ الاقتصاد المحلّي البرتغالي، منذ البداية، كان زراعيًّا أساسًا، بمنتجات تصديرية محدودة؛ وضعٌ أدّى إلى اقتصادٍ تداوليّ، حيثُ جملةٌ معقدةٌ من السلع، بما في ذلك العبيد («العاج الأسود»)، كمّلت بعضها البعض بنحوٍ غير مباشر على مستوى الإمبراطورية البحرية ككل. فمزارع السكر على جزر ساو تومي وفيرناندو بو، على سبيل المثال، التي تطورت منها الصناعة البرازيلية، تأسست بدايةً لتوفير منفذٍ لفائض العبيد الذين استحوذ عليهم البرتغاليون في أثناء فتحهم الأسواق الأفريقية.[120] وبالتالي لم يكن العبيد مجرد وسيلةٍ لغاية إنتاج السكر. بل المتاجرة بهم ولّدت قيمةً نظامية بحد ذاتها كإحدى الروابط الرئيسة في سلسلةٍ عالمية لمبادلة السلع.[121]

وبخصوص مسألة المكمِّلات الداخلية، حيث العوامل البرازيلية المحلية توافقت مع هذه الشروط النظامية أو الشاملة للإمبراطورية، من الواضح أولًا أنّ استبدال العبيد بنحوٍ مستمر بإيراداتٍ طازجة من أفريقيا يحدّ من تطور ثقافة مقاومة بينهم.[122] وعلاوةً على ذلك (وهذه النقطة حيوية) ما ينشد به من نسبةٍ عالية لعتق العبيد في البرازيل أفضى إلى الغاية نفسها، أو بعبارة أخرى: العتق متوافقٌ حقًّا مع ممارسة إعمال العبيد حتى الموت لاستبدالهم بشحنات طازجة. بدل أنْ يكون هاذان خيارانِ غير متوافقين أخلاقيًّا، ساهم الاثنان معًا في إخماد انتفاضات العبيد.[123] وبدلًا من الانقسام العقيم بين المدافعين اللوسيتانيين الذين يشددون على العتق ويتجاهلون نسبة الوفيات، والنقّاد الذين يستجيبون لذلك بتجاهل العتق لصالح الوفيات، علينا أنْ نرى وَجهي النظام البرازيلي كاستباقٍ متناغمٍ للتهديد الذي يحمله تضامن العبيد، لأجل إعادة إنتاج نظامٍ اجتماعي مستند إلى العبودية. أي بعبارةٍ أخرى: ضمَّت استراتيجيةُ تبديلٍ عالٍ كلًّا من العتقِ والنسبة العالية للوفيات، فمنعت بذلك – داخليًّا – العبيد من تنمية وعيِ مجموعةٍ اجتماعيةٍ قادرة على التصرف لأجل نفسها، وانسجمت – خارجيًّا – في آنٍ مع حاجة الإمبراطورية ككل لتدفق موسع للتجارة.

إذن، ما السياق الداخلي الذي ساد فيه هذا الأساس المنطقي؟ باختصار، في مناطق البرازيل التي استعمرها البرتغاليون، تراوح مصير الأصليين بين الإبادة والإدماج والتهميش، في حين كانت أعداد الملايين من الأفريقيين المستوردين على مر القرون أضعافَ عدد البرتغاليين سواءً من شبه الجزيرة أو من الكريول. ولخوفها المزمن من نقص السكان، لم تشعر البرتغال – التي، كما ذكرنا، افتقرت للتجربة الصناعية الإنجليزية المبكرة للتسييج والنزوح الحضري – بحاجةٍ مقارِنةٍ لتصدير فيضِ سكّانٍ غير مرغوب به إلى العالم الجديد، ونتج عن ذلك أنّ النسل البرتغاليّ في البرازيل كان أصغر بكثيرٍ نسبيًّا من العنصر الأبيض لمستعمرات بريطانيا الأمريكية أو الأسترالية. وهنا تظهر بديهية الدافع وراء هذه الجهود لمنع تطور التضامن ضمن عبيدها الأفريقيين المُكَرْيلين (المولّدين) من عبيدٍ وعبيدٍ سابقين، رغم ما بدى على هذه الجهود من افتقارٍ للجدوى الاقتصادية بادئ الأمر. فقد تجاوز تعداد المجموعة المركّبة أعداد البرتغاليين بمستويات، ولم يكن إسقاط هؤلاءِ ليكون صعبًا عليها لو عزمت على ذلك (ويا ريتها فعلت). وبموجب ذلك، طوال التاريخ البرازيلي ظلّ السود غالبيةً في أسفل المواقع الاجتماعية وأفقرها وأشدّها استغلالًا. وحتى يومنا هذا، ورغم الكليشيه البرازيلي بأنّ المال يُبيِّض (بحكم وجود بعض السود المقتدرين وازدياد عدد البِيْض الفقراء) فما زالت الغالبية العظمى من السود فقيرةً والغالبية العظمى من النخبة من البيض.[124]

لِكَرْيَلة العبيد بطبيعتها أثرٌ متباين. ففي كفة تساهم اللغة المشتركة ودرجةٌ من تشارك التجربة الثقافية في تضامن الجاليات، وفي كفة أخرى، توفر هذه المؤهلات، بنفسها، منافذَ لحفظِ سيطرة المُلاّك. فكما أوضح شوارتز، يتمظهر هذا الأثر المتباين في البرازيل في تقسيمٍ بين مَدرستينِ لمُلاك العبيد: «أولئك الذين اعتقدوا بأنّ السماح للعبيد بالحفاظ على ثقافاتهم الأفريقية طريقةٌ إيجابية لتحفيز الاختلافات بينهم وبالتالي عدّوها طريقًا فعّالًا للتحكّم الاجتماعيّ، ومن آمنوا بأنّ ديمومةً ثقافيّةً كهذه تحفّز التمرّد».[125] ولكن الانقسام حول مسائل كهذه لم يعني انقسام المُلّاك بقدر يمكن مقارنته بالانقسامات التي شظَّت ذوي الأصول الأفريقية. ففي أوقات الأزمات علمَ المُلّاك، من مختلف المذاهب، حقّ المعرفة أين تقع مصلحتهم الجماعية ورصّوا الصفوف بسلاسة.

في البرازيل الإمبراطورية للقرن التاسع عشر أيام ما بعد الاستعمار، تمثّلت أهمية التقسيمات التي سعى مجتمع الاستعباد الزراعي لفرضها على العبيد والعبيد السابقين، ونسلهم وأحفادهم، في واقع التقسيم بحد ذاته. تشريعيًّا، قُسِّم الأفرو-برازيليّون إلى عبيد مقابل أحرار، والعبيد المُحرَّرون قُسِّمُوا بين من وُلِد حرًّا ومن عُتِقوا (libertos)، وبعد 1830 تقريبًا، أضيف قسمٌ لأولئك الذين حُرِّروا من سفن العبيد التي اعترضها البريطانيون (emancipados). وبعد مرور قانون الرحم الحر لعام 1871، عُرف أبناء الأمهات المستعبدات المقدر لهم بالحرية بمسمى البُلهاء (ingénuos). وبالإضافة إلى هذه الميز التشريعية الرسمية، أنْتِجت جملة من الميز الاجتماعية غير الرسمية: أفريقي مقابل كريول، وأسود مقابل مولاتو، وهنديّ مقابل أسود وملاتو وكابوكلو (هندي/أبيض)، إلى جانب جملةٍ متنوعة محليًّا من تعارض الأنماط المظهرية. ليس من هذه التقسيمات ما هو متشارَك. بل هي على العكس قطعت بعضها بعضًا وكسَّرت بعضها بعضًا وتضاعفت في التشظي، لتؤسس بذلك تركيبةً أمّنت وصانت سيطرة المجموعة الحاكمة، التي تستفرد بانقساماتٍ تختفي حالما تُهدَّد مصالحها الجماعية.[126] وأما النظام الباروكي للتسمية فقد تنامى من هذه التشظية وضاعفها، واعتمد المجتمع البرازيلي على إعادة إنتاج هذا النظام على مر الزمن. ولهذا مثّل تجانس الكرويل تهديدًا كبيرًا، ما أوجب ضبط أعداد العبيد الكريول – وذلك بدوره سببُ المواظبة على رفع أعداد الإيرادات الطازجة والعتق. وأما الكَرْيَلة فقد كانت مسألة درجات، فالعبيد القدماء، مثل كريوليي الأطلسي الذي يتحدث عنهم إيرا برلين، شكلوا تهديدًا أكبر من العبيد الجدد،[127] فكل سنةٍ على التربة البرازيلية كانت سنةً أخرى من الكَرْيَلة. وعليه يمكننا فهم كيف بدأت حزمةٌ غوردية متفرّعة (دون إفراطٍ) للتصنيفات الاجتماعية بالازدياد تعقيدًا في القرن التاسع عشر، بتزامنٍ كاملٍ مع تحوّل العبودية البرازيلية بصورةٍ نهائية وحاسمة، خلال فترة أكثرية كريولية، إلى وضعٍ مستحيلٍ حيث واقع الاستعباد هو المميّزُ الوحيد للجَمْهَرةِ المستعبَدةِ الكبيرة عن الجَمْهَرة المحيطة بها.

من المهم ألا نبالغ في أهمية قانون العتق لعام 1888، فهو لم ينهِ حرمان الأفرو-برازيليين.[128] ولكن مع إلغائه الحالة التشريعية للعبودية، ألغى العتق تلقائيًّا التمايزات التشريعية التي عملت سابقًا على تقسيم الأفرو-برازيليين. وما تبقى من ذلك هو التمايزات غير الرسمية التي تلبّست غالبًا مفردات اللون، لتزدهر وفي القرن العشرين وتبلغ البذخ الكامل للباروك البرازيلي.[129] بين هذه الظاهرة وعرقنَةِ السود في أمريكا ما بعد العتق تشابهاتٌ كثيرة واضحةٌ، أهمها على الأرجح هو استهلال حالتي العتق لتفاقمٍ في خطاب تمازج الأجناس، إنما باختلافٍ شاسعٍ في الحصيلة النهائية لهاذين التفاقمين. فبينما في الولايات المتحدة فرضت قاعدة القطرة الواحدة أقصى درجات القطبية العرقية، عتّم الباروك البرازيلي على قطبيّةٍ إمبريقية انطبع بموجبها الحرمانُ على الأصل الأفريقي. وبينما روجت إحداهما للتضامن بين أغلبية بيضاء، روجت الأخرى إلى تشظية أكثرية أفرو-برازيلية. وبتشظيتها، بالطبع، احتوتها.

بطريقةٍ صريحةٍ للغاية، التباين بين النظامين البرازيلي والأمريكي للاختلاف يمثل انعكاسًا للتباين الديموغرافي بينهما. في البرازيل لو استخدمت قاعدةُ القطرة الواحدة لكان معنى ذلك تطويقًا مباشرًا للنخبة. وهذا الاعتبار يسلط الضوء على ذاك المُكَمِّلِ لنظام التصنيف اللوني ما بعد العتق: برنامج الهجرة البيضاء الحيوي، الذي اكتسب زخمًا في ثمانينيات القرن التاسع عشر فما بعد.[130] وبشروط المنطق الاقتصادي الاعتيادي، لم يكن منطق هذا البرنامج أقلّ باروكيّةً البتة من المفردات اللونية، ذلك لأنّ الاقتصاد البرازيلي وفر وقتها ملايين العمّال الممكن تشغيلهم دون متاعب استيراد الأجانب وتكاليفه. ولكنّ هذه القوة العاملة برهنت روحها النضالية قُبيل العتق،[131] ومحض وجود المنفتعين من العتق هؤلاء، كبديلٍ محرومٍ وافر، شكّل عاملَ ضبطٍ للوافدين الجدد.[132] بل وعندما ظهر على المهاجرين أعراضُ استيراد الأيديولوجيّات الأوروبية المثيرة للمشاكل، مثل الاشتراكية أو النقابية، اتجه أرباب العمل إلى توظيف الأفرو-برازيليين بدالهم.[133] وهذه محض استثناءاتٍ للقاعدة. ففي العموم تصرفت السلطات البرازيلية وكأنها بتخلّصها من العبودية، تخلّصت من العبيد أيضًا. كان تهميش العبيد السابقين أشدّ بمستوياتٍ من السود في الجنوب الأمريكي، الذين استمر استغلال عملهم تحت أشكال أخرى للتحكم.[134] ولهذا فمن الاتساق أنّ السود في البرازيل، خلافًا للسود في أمريكا، ومثلَ الحالات الشاذة الداخلية للهنود والأبورجيين، كانوا هدفًا للإدماج تحت سياسة التبييض (branqueamento). وحتى أيقونولوجيّتها استبقت العدّ الجيلي الثلاثي الأسترالي نحو البياض (أنظر الشكل 3).[135]

خَلاصُ حام، موديستو بروكوس (1895)

في الخلاصة، يؤدي النظام البرازيلي للتصنيف اللوني وظيفةً معيدةً للإنتاج مكملة لما أدّاه مزيجُ العتق والوفيات العالية والتنوع التشريعي في عصر الاستعباد. وهذه العوامل اشتغلت لتمنع أكثريةً أفرو-برازيليةً مفرطَة الاستغلال من تحقيق جماعتها. وبعد استفحال مديدٍ (1851-1888) لتمايزاتِ الألوان قبل العتق، تزايد بروزها عندما عفى الزمان على غيرها من العوامل. وبعد ذلك ساعد انشراح نظام التصنيف اللوني، بتزاوج مع برنامج الهجرة البيضاء، على رعاية اضطهاد الأفرو-برازيليين في عصر ما بعد العبودية. وبدلًا من توضيح هذا الوضع، اجترّ مؤرخون مثل تانينباوم وإلكنز الأيديولوجية العرقية البرازيلية. ومن جهة أخرى، رغم ما استحسنه النقّاد البرازيليون في أطروحة كارل ديغلر الشهيرة، «مهرب المولاتو»، وقت صدورها، علينا أنْ ندرك القيمة المعرفية للنقطة التالية: التصنيفات الفاصلة بين السواد والبياض تعمل على ثنيِ غير البيض عن رؤيةِ أنفسهم كالأكثرية.[136] ومن هنا وجب علينا تعديل أطروحة ديغلر: المَنفذُ المهمُّ لم يُفتَح للمولاتو الأفراد، بل للمجموعة السائدة ككل. الباروك البرازيلي هو مهربُ الطبقة الحاكمة.


يتبع أنّ الأصناف البرازيلية ليست أعراقًا بالمعنى المنطبق على عرقنة السود في الولايات المتحدة – فحتى الأشقاء يمكن أن تُعيّن لهم تصنيفات مختلفة في البرازيل، وحتى هذه التصنيفات تتنوع حسب تحكيم الأفراد.[137] وهذا هو السبب وراء الإشارة إلى النظام البرازيلي كنظام لونٍ بدلًا من نظام عرق. ولكن مع الاختلافات الصارخة بين النظامين، فالعرق في الولايات المتحدة (أو في أستراليا) نظامُ اختلافٍ واللون في البرازيل نظامُ اختلافٍ أيضًا، وكلاهما يعيدان إنتاج علاقات القوة، إما عبر صَون الانقسامات الاجتماعية التي – دونه – ستكون متهافتة، أو عبر طمس انقساماتٍ اجتماعية ستكون – دونه – متماسكة. إنّ التركيز على خطاب تمازج الأجناس يعني التركيز على التهافت عند نقطة بروزه الأفضح، ألا وهي النقطة التي عندها تستدعى بأعلى صوتٍ المواردُ الأيديولوجية للمجتمع الاستعماريّ أو «ما بعد» الاستعماريّ، المستند إلى التمييز بين المستعمِر والمستعمَر. ولا تتضح هذه الموارد بقدر ما تتضح عند تلك النقطة. القضية الأساسية إذًا ليست العرق أو الجنسانية بحد ذاتيهما، بل صونُ الانقسامات الاجتماعية؛ مهمّةٌ تستلزم إعداد الاختلاف وإعادة إنتاجه بنواحٍ عالية السياقية. وعلى المنوال نفسه، ما أقدّمه هنا هو مقاربةٌ أو منهجٌ، لا نموذج. وبموجب ذلك لو نولّي اهتمامنا إلى، على سبيل المثال، المخالفة بين الملكيين والجمهوريين في إيرلندا الشمالية، أو بين اليهود المشرقيين والفلسطينيين في إسرائيل، أو الأنجلو-كنديين والفرانكو-كنديين في كيبيك، من الحري بنا ألا نترقب إعدادًا مماثلًا للاختلاف في هذه الحالات لما رأيناه في البرازيل أو الولايات المتحدة أو أستراليا. وحتى في مواقع تقارب خطابات العرق و/أو اللون، لا بدّ من تحري العثور على ميزةٍ سياقية. ففي جنوب أفريقيا على سبيل المثال، احتلّت جماعة الملونين (أو «ملوّنو الكيب») موقعًا بينيًّا حيويًّا أهميّته الاجتماعية والسياسية تفوقُ أعدادهم بكثير. وبتباينٍ صارخٍ مع الحالة الأسترالية حيث شرَعت أغلبيةٌ أنجلو-سلتيكية بسياسةِ إدماجٍ، كان للإدماج في جنوب أفريقيا بأن يحمل على المجتمع الأبيض تهديد الاختفاء. وعلى ذلك قامت الحاجة إلى صنفٍ حاجزٍ يؤمن ثباتَ حدود البياض دونما تزحزح، وبالتالي لأغلبية القرن العشرين (وتحديدًا في ظلّ الإدارات الأفريكانية)، عوملت الجمهرة الملوّنة وكأنها ناتجٌ صافٍ، ككيانٍ متميّز ومولِّدٍ لذاته، بدلًا عن انصهارٍ وتماهٍ للسواد والبياض.

يتبع من ذلك أنّ تغير الانقسامات الاجتماعية يجب أن يؤدي إلى تغيّرات في خطاب تمازج الأجناس.[138] ومثال وضع التخوم في جورجيا ذكر أعلاه. مثل هذه الأمثلة حيوية للمقاربة، مذ أنّ التحليلات البنيوية مالت كثيرًا إلى الجمود اللا-تاريخي، وكأن البنية والحدث خياران تحليليّانِ متنافيان. وخلافًا لهذا الطابع المخيّب للبنيوية التقليدية، تمكننا المقاربة التي أدعو إليها هنا من تمييز التغيّرات الاجتماعية التي تحوّل العلاقات الاجتماعية فعلًا منْ تغيّراتٍ تداعياتها العملية ظاهريّةٌ أكثر مما هي حقيقية (ونذكر هنا عصر إعادة البناء الأمريكي).[139] ولنا مثالٌ واضحٌ تحديدًا للشروط البنيوية التي تغيّرت أسسها مع مرور الوقت في الوضع المتغير للأنجلو-هنود (أو «الأورو-آسيويين»)، الذين انتقلوا من موضعٍ اجتماعيٍّ مؤثرٍ وعالٍ نسبيًّا في القرن الثامن عشر إلى وضعٍ متزايد الهامشية والانخفاض في القرن التاسع عشر. من الصعب العثور على عرضٍ أوضح للعواقب الاجتماعية للانتقال من شكلٍ مركنتالي للرأسمالية (حيث وظف الأوروبيون وسطاء كريول في علاقاتهم التجارية مع المنتجين الأصليين) إلى نمطٍ صناعيٍّ للرأسمالية حيث أدار الأوروبيون نظام مناجمٍ ومزارعٍ وظَّف العمالة الأصلية بهدف إنتاج مواد خام لتلبية معايير المصانع الأوروبية.

يتطرق خطاب تمازج الأجناس للتناقض المركزي الذي يشوب أيّ نظامٍ استعماريّ للاختلاف، سواءً أأُطِّر بمفردات العرق، الأمة، الثقافة، أو سواها. وبمفرداتٍ أوسع، إذن، ليس تمازج الأجناس إلا مجازًا جسديًّا. في بعض السياقات (ولنا هنا مثال التغيير الديني في إسرائيل/فلسطين)، اللبس اللازم ليس بحاجة إلى بنىً بيولوجية. ولكن في الحالات موضوع الدرس (ويبدو أنّ ذلك ينطبق على أغلبها) يتسلّح خطابُ تمازج الأجناس بالبيولوجيا لفرض أنظمة علاقاتٍ اجتماعية على مستوى التجربة الجسدية للفرد. وعليه فخطاب تمازج الأجناس موقعٌ مركزيٌّ للطرق المملة الوافرة للتنازع على الانقسامات الاستعمارية وما-بعد الاستعمارية والدفاع عنها وتجديدها وتحويلها. الرهان في هذا الصراع السرمدي حول المُخالفة يدور حول القضية الأساسية التي تعرّف أيّ نظامٍ اجتماعيٍّ: من يَستغِلُّ من في إنتاج وإعادة إنتاج السلطة، والثروة، والامتياز؟

[1] ونذكر استثناءات ثانوية أدناه.

[2] وبالتالي، باستثناء الاقتباسات والسياقات حيث البدائل واضحة، سيشار إلى الشعوب الأصلية في شمال أمريكا البريطانية / الولايات المتحدة بمسمى الهنود، والشعوب الأصلية في أستراليا بالأبورجيين، وذوي الانحدار الأفريقي في شمال أمريكا البريطانية / الولايات المتحدة بالسود (وكتابتها black بدلًا من Black امتثالًا لأسلوب المجلة التاريخية الأمريكية)، وذوي الانحدار الأفريقي في البرازيل إما بالسود أو بالأفرو-برازيليين، ومن يصنَّفونَ كأوربيين بالبِيْض.

[3] وعلى حد تعبير الناشط الأبورجي الكوينزلاندي وجولاربينّا (في حديثٍ شخصيٍّ مع الكاتب): «كوب القهوة يظلّ كوب قهوة مهما أضفت عليه من الحليب».

[4] George Reid Andrews, “Black Political Mobilization in Brazil, 1975-1990,” in Andrews and Harrick Chapman, eds., The Social Construction of Democracy, 1870-1990 (New York, 1995), 218-40; Kim D. Butler, Freedoms Given, Freedoms Won: Afro-Brazilians in Post-Abolition Sao Paulo and Salvador (New Brunswick, N.J., 1998); Michael George Hanchard, Orpheus and Power: The Movinmento Negro of Rio de Janeiro and Sao Paulo, Brazil, 1945-1988 (Princeton, N.J., 1994): Livio Sansone, “The Local and the Global in Today’s Afro-Bahia,” in Ton Salman, ed., The Legacy of the Disinherited: Popular Culture in Latin America: Modernity, Globalization, Hybridity and Authenticity (Amsterdam, 1996), 197-219p but compare Lelia Gonzalez, “The Unified Black Movement: A new Stage in Political Mobilization,” in Pierre-Michel Fontaine, ed., Race, Class and Power in Brazil (Los Angeles, 1985), 120-34.

[5] مفردة (miscegenation) لم تدخل اللغة إلا عام 1873. Sidney Kaplan, “The Miscegenation Issue in the Election of 1864,” Journal of Negro History 34 (1949): 273-343, 277. ولكن مفرداتٍ أخرى مشابهة استهلتها (مثل: الاندماج)، وبالتالي آثرتُ استخدامها للإشارة إلى هذه الاستمرارية الخطابِية ككل.

[6] Patrick Wolfe, “Nation and MiscegeNation: Discursive Continuity in Post-Mabo Era,” Social Analysis 36 (1994): 93-152: Wolfe, Settler Colonialism and the Transformation of Anthropology: The Politics and Poetics of an Ethnographic Event (London, 1999), 168-90. هذا القسم يشابه أطروحات سابقة. تصعّب المشاريع المقارِنة، بطبيعتها التراكمية، تفادي التكرار، خصوصًا إنْ لم يغيّر الواحد رأيه كثيرًا حول تحليلٍ سابق.

* frachise-colonial relationship

[7] وعليه فالاستعمار الاستيطاني «الصرف» من السلالة الأسترالية أو الشمال الأمريكية يجب تمييزه من المجتمعات الاستعمارية الاستيطانية الدعية التي اعتمدت على العمالة الأصلية (مثل الاقتصاديات الزراعية الأوروبية في جنوبيّ أفريقيا أو اقتصادات المزارع الاستعبادية في جنوب آسيا).

[8] كما أشير أدناه، كان بعضُ ملّاك العبيد هنودًا، وقلّةٌ كانوا سودًا.

[9] أقول «في آخر المطاف» لتمكّن درجةٍ عالية من التعايش في بعض الحالات (خصوصًا في تجارة الفرو) على أطرٍ زمنية معتبرة، وفي رأيي الذي لا مجال لشرحه هنا، من الأفضل النظر في الانتقال من القواعد التجارية إلى الاستعمار الاستيطاني الفعلي كنقلة من أشكالٍ ميركنتالية إلى أشكال صناعيّة للرأسمالية. وبانسجامٍ مع الحجة القادمة، إنّ نقلةً من هذا الحجم – أي من شكلٍ للاستعمار متمركزٍ حول التجارة إلى شكلٍ متمركزٍ حول الأرض – يتضمن نقلةً في خطاب تمازج الأجناس. وعليه من اللافت أنّ خطاب تمازج الأجناس، مع طلوع الاستعمار الاستيطاني الفعلي، لم يعد عن يؤمن التحالفات السياسية العابرة للثقافات في السردية السحرية لريتشارد وايت حول الأرض الوسط: «تألّف التوافق بين النموذجين الفرنسي الألغونكوي للمبادلة، الذي تمخضت عنه تجارة الفرو الفرنسية في الريف الشمالي [كيبك]، عبر العلاقة السياسية المهيمنة للآباء الفرنسيين بأطفالهم الألغونكويين. هذا التحالف وفر السبل لربط النظام الألغونكوي للمبادلة، بتشديده على أولوية العلاقة الاجتماعية، باقتصادٍ عالميٍّ أكبر بكثير». White, The Middle Ground: Indians, Empire, and Republics in the Great Lakes Region, 1650-1815 (Cambridge, 1991), 104-05. بالمثل، يختلف خطاب تمازج الأجناس الذي أحلله هنا اختلافًا جوهريًّا عن أنساق الاستعمار بالامتياز التي تميّزها لورا ستولر ببتصّرٍ في جزر الهند الشرقية الهولندية. Stoler, “Making Empire Respectable: The Politics of Race and Sexual Morality in 20th-Centruy Colonial Cultures,” American Ethnologist 16 (1989): 634-60p Stoler, “Sexual Affronts and Racial Frontiers: European Identities and the Cultural Politics of Exclusion in Colonial Southeast Asia,” in Frederick Cooper and Stoler, eds. Tensions of Empire: Colonial Cultures in a Bourgeois World (Berkely, Calif. 1997), 198-237.

[10] «الأبورجيون (عَلَم): أشخاص قليلو الشأن يمكن أنْ تراهم يعيقونَ تربة بلادٍ مكتشفة حديثًا. وسرعانَ ما سيكفّون عن إعاقتها؛ سيحرثون»؛ من كتاب «قاموس الشيطان».Ambrose Bierce, “Devil’s Dictionary,” Collected Works of Ambrose Bierce, 12 vols. (New York, 1909-12), 7: 13.

[11] «الاختلافُ شاسعٌ بين المستعمرات التي حيزت بالغزو أو التنازل، حيث يوضع نظامٌ قانونيٌّ، وتلك التي أقيمت على قطعة أرضٍ غير مأهولة فعليًّا، دونَ سكّانٍ مستقرّين أو قانونٍ مستقر، وقت ما ألحقت بالممتلكات البريطانية. تنتمي مستعمرة جنوب ويلز الجديدة إلى الصنف الثاني». Cooper v. Stuart, 1889, 14 Appeal Cases (Privy Council), 286.

* يستخدم وولف «كذا» (sic) للإشارة إلى اللغط اللغوي بكونِ العمل عمل الفرد المالِك، خصوصًا وأنّ جون لوك يشير إلى عملِ المُستخدَمين بصفته عملَ المالِك نفسه.

[12] لقراءة تحليل ونقاش حول الصيغ الأساسية لمفهوم الأرض المباحة وعقيدة الاستكشاف (بما في ذلك النَّير النورماني) بنحوٍ أعم، أنظر على سبيل المثال: Alan Frost, “New South Wales as Terra Nullius: The Denial of Aboriginal Land Rights,” in Susan Janson and Stuart Macintye, eds., Though White Eyes (Sydney, 1990), 65-75, 16-34; Henry Reynolds, The Law of the Land, 2d edn. (Melbourne, 1992); and especially Robert A. Williams, Jr., The American Indian in Western Legal Thought: The Discourses of Conquest (New York, 1990), 233-86.

[13] Milirrpum v. Nabalco Pty. Ltd. And the Commonwealth of Australia, 17 Federal Law Reports, 1971, see, for example, 141, 272-73.

* قانون تمليك الأراضي للوطنيين (Native Title Act):

* الأمم التابعة المحلية (Domestic Dependent Nations):

[14] «بإنكار مبدأ الأرض المباحة للملكية الأصلية، استَبْعدَ إخمادها – فلا يمكنك إخماد شيءٍ تُنكِر وجوده. وأمّا قانون تمليك الأراضي الوطنيين [الأسترالي]، لكونه وصفة للإخماد، فقد أعاد تهيئة منطق المحو وأحياه». Wolfe, Settler Colonialism, 203.

[15] مذ أنّ الأحقية الأصلية في الأرض لم يعترف بها في أستراليا، لم يبرز ما يبعث بقانون على شاكلة قانون دوز.

[16] على سبيل المثال: «التركيز (إعادة توطين الهنود الغربيين إلى منطقتين واسعتين عامتين في شمال وجنوب الطرق الأرضية الرئيسة)؛ والحبس في المحميّات، عبر المفاوضات والقوة العسكرية . . . الإدماج والتخصيص (تقسيم الأراضي القبلية إلى ملكيات خاصة تحت قانون دوز)؛ الصفقة الجديدة الهندية؛ محاولة التفكيك التي جرت في الخمسينيات (سحب الحكومة الفدرالية مسؤوليتها عن الهنود)؛ ولاحقًا، في أيامنا هذه، المعاني العدة لتقرير المصير». المصدر: Patrick Nelson Limerick, The Legacy of Conquest: The Unbroken Past of the American West (New York, 1987), 195. ولمثالٍ مشابه، أنظر:Wiliam T. Hagan, American Indians, 3d edn. (Chicago, 1993), 36-37.

[17] Ronald M. Berndt and Catherine H. Berndt, End of an Era: Aboriginal Labour in the Northern Territory (Canberra, 1987); Tim Rowse, White Flour, White Power: From Rations to Citizenship in Central Australia (Melbourne, 1998).

[18] Wolfe, “Nation and MiscegeNation”; Wolfe, Settler Colonialism, 168-90. لتحليلٍ موازٍ للنماذج الأبكر لهذه العملية، أنظر: Jeremy Beckett, “Aboriginality in a Nation-State: The Australian Case,” in Michael C. Howard, ed., Ethnicity and Nation-Building in the Pacific (Tokyo, 1989), 118-35; Richard Broome, Aboriginal Australians: Black Responses to White Dominance, 1788-1980 (Sydney, 1982); Peter Read, A Hundred Years War: The Wiradjuri People and the State (Canberra, 1988).

[19] من فيضٍ من الأدبيات، أنظر على سبيل المثال: N. G. Butlin, Our Original Aggression: Aboriginal Populations of Southeastern Australia, 1788-1850 (Sydney, 1983); Heather Goodall, Invasion to Embassy: Land in Aboriginal Politics in New South Wales, 1770-1972 (Sydney, 1996); Henrey Reynolds, The Other Side of the Frontier: Aboriginal Resistance to the Invasion and Settlement of Australia (Tonsville, Queensland, 1981); C.D. Rowley, The Destruction of Aboriginal Society (Canberra, 1970).

[20] Winthrop D. Jordan, White over Black: American Attitudes tward the Negro, 1550-1812 (Chapel Hill, N.C, 1968), 163.

[21] من فيضٍ آخر من الأدبيات، أنظر مثلًا: Bain Attwood, The Making of Aborigines (Sydney, 1989); M. F. Christie, Aboriginies in Colonial Victoria, 1835-86 (Sydney, 1979); Anna Haebich, For Their Own Good: Aborigines and Government in the South West of Western Australia, 1900-1940 (Nedlands, WA, 1988); Bill Rosser, This is Palm Island (Canberra, 1978).

[22] Attwood, Making of the Aborigines, 81-103.

[23] Myra Willard, History of the White Australia Policy to 1920 (1968; Melbourne, 1974), 182-86.

[24] Commonwealth of Australia, Bringing Them Home (Canberra, 1997); Coral Edwards and Peter Read, eds., The Lost Children: Thirteen Australians Taken from Their Aboriginal Families Tell of the Struggle to Find Their Natural Parents (Sydney, 1989); D. J. Mulvaney, Encounters in Place: Outsiders and Aboriginal Australians, 1606-1985 (St. Lucia, Queensland, 1989), 199-205; Peter Read, A Rape of the Soul So Profound: The Return of the Stolen Generations (St. Leonards, NSW, 1999).

[25] Bain Attwood and Andrew Markus, The 1967 Referendum: or, When Aborigines Didn’t Get the Vote (Canberra, 1997).

[26] كما لاحظ وزير الداخلية الأسترالي أ. ج. كارودس في المؤتمر الوطني لعام 1937 حيث وضعت سياسة الإدماج للتطبيق الموحد في كل الولايات والمناطق الأسترالية: «سيكون من المحبذ لنا التعامل أولًا مع ذوي الدم المختلط. في النهاية، لو تكرر التاريخ، سيصبح ذوي الدم الكامل نصفيين». Commonwealth of Australia, Aboriginal Welfare: Initial Conference of the Commonwealth and State Aboriginal Authorities (Canberra, 1937), 21. يقصد كارودس بذلك أنّ «ذوي الدم الخالص» سيلدون أطفالًا «هجناء» يمكن إعادة تطبيق هذه السياسة عليهم.

[27] هذه الصورة تأتي من دفاع عن سياسة الإدماج كتبها أحد إكبارية إداريي العلاقات الأبورجية في أستراليا، أ. و. نيفيل، الذي كان المدافع الرئيس عن الأبورجيين في غرب أستراليا لربع قرن: «مرارًا وتكرارًا سألني رجالٌ بِيض: «لو تزوجتُ فلانة (الملوّنة [أي: أبورجية/أوروبية]) هل سيكون أطفالنا سودًا؟» . . . [فأجبت] . . . بأنّ الأطفال سيكونون أفتحَ من الأم، وإنْ تزوّج أبناؤهم بيضًا فسيكون أحفادهم أفتحَ منهم، ومع الجيل الثالث أو الرابع لن يبقى أثرٌ ظاهرٌ لانحدارهم من الأصليين. وإنْ تزوجت امرأةً هجينةً ذات أصلٍ ظاهر، فنجلها ذو الانحدار الربعي أقربُ إلى الأبيض، وأما الثمني فلا يمكن تمييزه من الأبيضِ أبدًا. (أنظر الصورة.)» Neville, Australia’s Coloured Minority: Its Place in the Community (Sydney, [1947]), 58-59,illustration facing p. 72.

[28] «يمكن القول إنّ فيرجينيا استوردت إحدى المشاكل الاجتماعية لإنجلترا فحلَّتها». Edmund S. Morgan, American Slavery, American Freedom: The Ordeal of Colonial Virginia (New York, 1975) 195؛ قارن ذلك بالتالي: Morgan, “Slavery and Freedom: The American Paradox,” Journal of American History 59 (1972): 5-29. في 1680، تضمنت الجماهير الطائشة أفريقيين كان أغلبهم، في هذه المرحلة، عبيدًا أنغلوفونيين «مخضرمين» مستوردين من الكاريبي، بدلًا من أفريقيا مباشرةً. T. H. Breen, “A Changing Labor Force and Race Relations in Virginia,” Journal of Social History (Fall 1937): 3-25.

[29] وقد عبر ماثيو فراي جاكوبسون عن ذلك بصيغة مختلفة (دون التمحيص في أسس الليبرالية): «لم تمثل الإقصاءات المستندة إلى العرق والجندر مجرد ثغرة في فلسفةٍ ليبرالية للسياسة حافظت على مبادئها في كل النواحي الأخرى، ولم تكن إقصاءاتُ الأمة محض تناقضاتٍ من تناقضات العقيدة الديمقراطية. ففي القرنين الثامن والتاسع عشر، التحمت هذه التضمينات والإقصاءات في علاقةِ اتكالٍ متبادلٍ وجذورٍ ضاربة في نفس التشكيلة الأيديولوجية للجمهوريّانية». Jacobson, Whiteness of a Different Color: European Immigrants and the Alchemy of Race (Cambridge, Mass., 1998), 22-23.

[30] Morgan, “Slavery and Freedom,” 29.

[31] David Brion Davis, The Problem of Slavery in the Age of Revolution (Ithaca, N.Y., 1975), 303-04. لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ حجّة مورغان نفسها كانت متّجهة إلى تلبّس مفردات العرق بنحوٍ صريح بحلول 1975، إذ يقول: «أتاحت العنصرية للفيرجينيين البِيْض تنميةَ إخلاصٍ للمساواة أشبه بالذي أعلنه الجمهوريون الإنجليز روحَ الحرية» Morgan, American Slavery, American Freedom, 386.

[32] Alexis de Tocqueville, Democracy in America, Philips Bradley, ed., 2 vols. (New York, 1945), 1: 355. من نافل القول أنّ الصيغ الجندرية لدى توكفيل قابلة للتوظيب عبر كشفٍ مكافئٍ لخصوصية الكونية. النقطة هي أنّ اكتشاف المفارقة الصارخة التي يمكّنها العرق ليس أمرًا اكتشفته الأبحاث الجديدة.

[33] أغلب الأطروحات التاريخية العامة الغربية أو الأوروبية للعرق تربط نشأته أيضًا بعصر الأنوار. أنظر مثلًا: Ivan Hannaford, Race: The History of an Idea in theWest (Baltimore, 1996); Kenan Malik, The Meaning of Race: Race, History and Culture in Western Society (London, 1996); George L. Mosse, Toward the Final Solution: A History of European Racism (1978; Madison, Wis., 1985) .

[34] «الأهمية الأيديولوجية النامية للعنصرية عكست، بدرجةٍ كبيرةٍ، فشل الفلسفة السياسية الهرمية في تقديم إطارٍ مفاهيميٍّ لائق للمجتمع الأمريكي». Frederick Cooper, Plantation Slavery on the East Coast of Africa (New Haven, Conn. 1977), 260.

[35] لقراءة طرحٍ واضحٍ ومتينٍ للجدل المطوّل حول أسبقية العرق أو العبودية (ماري وأوسكار هاندلين، كارل ديغلر، وينثروب دي جوردن، جورج إم فريدريكسون، إيدموند مورغن، جاي إتش بلومب، وآخرون)، أنظر: Alden T. Vaughan, “The Origins Debate: Slavery and Racism in Seventeenth-Century Virginia,” Virginia Magazine of History and Biography 97 (1989): 311-54. والفكرة بالطبع ليست أنّ العرق أتى من العدم في أواخر القرن الثامن عشر، بل العكس تمامًا: كان لأغلب مكوّناته المميزة – إنْ لم تكن أجمعها – حضورٌ معتبر في الخطاب الأوروبي، إنما دون ضبطٍ ممنهج بعد، وهذا ينطبق حتى على المكوّن المهم: الجسد العرقيّ الجوهراني، الذي استهلّه (كما أشارت جويس تشابلن بنحوٍ مقنعٍ) تسخيرُ الفلسفة الطبيعية الحديثة المبكرة لشرح الفروقات العينية بين الهنود والأوروبيين في الإصابة بالأمراض. Chaplin, “Natural Philosophy and Early Racial Idiom in North America: Comparing English and Indian Bodies,” William and Mary Quarterly, 3rd ser., 44 (1997): 229-52. وما أصعب تلخيص العرقنة الثلاثية للسود والهنود والبِيض تلخيصًا أرتب مما تقدمه لغة مقاومة المرض (كما لاحظت كريستين بولت)، فقد استخدم البِيْضُ واقعَ امتلاكِ (الغرب) أفريقيين مناعةً مزدوجة ضدّ الأمراض الأوروبية والاستوائية التي كانت تفتك بالمجتمعات الهندية، «كـ «دليلٍ» على أنّ السود قُدِّر لهم العمل في المناطق الحارة وأنّهم [أي البِيْض] لم يقدّر لهم ذلك. أي باختصار، تمكّن المستعمِرون وبكل أريحية من استخلاص أنّ الهنود سيَفنونَ أمام الحضارة، وأنّ السود مقدّر لهم خدمتها». Bolt, American Indian Policy and American Reform: Case Studies of the Campaign to Assimilate the American Indians (London, 1987), 25.

[36] منذ 1652، افترضت تشريعات رود آيلاند ضد العبودية (التي لم تنفذ في الواقع) أنّه «من الشائع بين الرجال الإنجليز شراء الزنوج، وذلك بغرض استخدامهم أو استعبادهم للأبد». اقتبس في: William M. Wiecek, “The Statuary Law of Slavery and Race in the Thirteen Mainlaind Colonies of British American,” William and Mary Quarterly, 3rd ser. 34 (1977): 258-80, 260.

[37] اقتباس من: James Walvin, Questioning Slavery (London, 1996), 79. لا يعني هذا القول إنّ كل العبيد كانوا سودًا، بل أنّ الميل كان منحازًا إلى هذا الاتجاه، مع انخفاض استعباد الهنود وانتهاء استعباد البيض. ومن فيضٍ من الأدبيات أنظر مثلًا: A. Leon Higginbotharm, Jr., In the Matter of Color: The Colonial Period (Oxfod, 1980); Ira Berlin, “From Creolo to African: Atlantic Creoles and the Origins of African-American Society in Mainland North America,” William and Mary Quarterly, 3rd ser., 53 (1996): 251-99 299 (حيث يربط الاتجاه بنشأة المزارع الاستعبادية); David Brion Davis, The Problem of Slavery in Western Culture (Ithaca, N.Y. 1966), 245. ومن الضروري التنويه هنا إلى أهمية عدم الخلط بين الأشكال التصنيفية والمحتوى الديمغرافي عند قراءة هذه الأطروحات. ففي جنوب كارولينا في القرن الثامن عشر مثلًا: «اختفى العبيد الأمريكيون الأصليّون من كتب الإحصاء ودفاتر اليوميّات، حيث اتجه ملّاك المزارع ببساطة إلى تصنيف عبيدهم الهنود كأفارقة». Ira Berlin, Many Thousands Gone: The First Two Centuries of Slavery in North America (Cambridge, Mass., 1998), 145.

[38] كان الهدف المنشود لحالة ماريلاند الاستثنائية هو زيادة الحيازات من العبيد، فنسلُ الامرأة البيضاء من رجلٍ عبدٍ سيكون مستعبدًا أيضًا. أنظر: Nancy F. Cott, “Givign Character to Our Whole Civil Polity: Marriage and the Public Order in the Late Nineteenth Century,” in Linda K. Kerber, Alice Kessler-Harris, and Kathryn Kish Sklar, eds., U.S. History as Women’s History: New Feminist Essays (Chapel Hill, N. C., 1995), 107-21, 383-84 (n. 45); Davis, Problem of Slavery in Western Culture, 277; Stanley M. Elkins, Slavery: A Problem in American Institutional and Intellectual Life, 2d edn.(Chicago, 1968), 55; Barbara J. Fields, “Slavery, Race and Ideology in the United States of America,” New Left Review 181 (1990): 95-118, 107; Wiecek, “Statutory Law,” 262-63. For wider legislative context, see Jonathan L. Alpert, “The Origin of Slavery in the United States—The Maryland Precedent,” American Journal of Legal History 14 (1970): 189-221; Karen A. Getman, “Sexual Control in the Slaveholding South: Implementation and Maintenance of a Racial Caste System,” Harvard Women’s Law Journal 7 (1984): 115-52, 127-30.

[39] «وعلى حد تعبير القاضي ويليام هاربر من جنوب كارولينا، في رأيه في قضية مونك ضد جينكينز: «شرعنا قائمٌ على افتراض الحكم ضدّ حرية الزنجي».» Thomas C. Holt, Black over White: Negro Political Leadership in South Carolina during Reconstruction (Urbana, Ill., 1977), 43. وصل هذا الفرض أوجه بالطبع في 1856 في قضية دريد سكوت. أنظر: Don E. Fehrenbacher, The Dred Scott Case, Its Significance in American Law and Politics (New York, 1978) . مع أنّ مساواة السواد والعبودية لم توضع صراحةً في الدستور الأمريكي، فقد افترض ذلك في مداولات صاغتِه: «طوال المؤتمر الدستوري استخدم الصاغة مفردتي «السود» و«الزنوج» و«العبيد» كمرادفات، بل واستخدم الصاغة المصطلحات العرقية أكثر من مصطلح «عبد»، وبالمثل استخدمت مفردة أبيض بدل «حر»، وفي النهاية آثروا عدم استخدام أيٍّ من هذه المفردات أملًا في أنّ الجوانب المؤيدة للعبودية في الدستور ستخفى على عيون الناخبين في الشمال. فالعرق إذًا حاضرٌ حتى لو غابت كلمة «أسود» و«زنجي» و«أبيض»». Paul Finkleman, “The color of Law,” Northwestern University Law Review 87 (1993): 973-91, 958-59. وكما أشار ليون هيغنبوثام: «لم تذكر كلمة «العبودية» في دستور الولايات المتحدة حتى 1865، أي مع وضع التعديل الثالث عشر وإنهاء العبودية». Higginbotham, Shades of Freedom: Racial Politics and the Presumptions of the American Legal Process (New York, 1996), 71.

* مولاتو (mullato): مولّد.

[40] بعد صولة وجولة، اختفى صنف «مولاتو» من الإحصاء الأمريكي في عام 1920. George Reid Andrews, “Racial Inequality in Brazil and the United States: A Statistical Comparison,” Journal of Social History 26 (1992): 229-63, 234; Paul R. Spickard, “The Illogic of American Racial Categories,” in Maria P. P. Root, ed., Racially Mixed People in America (London, 1992), 12-23, 433, n. 27.

[41] Holt, Black over White, 66; Peter H. Wood, Black Majority: Negroes in Colonial South Carolina from 1670 through the Stono Rebellion (New York, 1974), 131-66. في ضوء ذلك، من الاتساق الربط الذي حصل بين تزايد الهجرة البيضاء وانحسار ما أطلق عليه ديفد د. كوهين وجاك ب. غرين مسمّى «المنزلة الوسطى الصغيرة». “Introduction” in Cohen and Green, eds., Neither Slave nor Free: The Freedmen of African Descent in the Slave Societies of the New World (Baltimore, Md., 1972), 1-18, 16.

[42] وهذه الإمكانية النظرية لا يبدو أنها تحققت أبدًا. أنظر: A. Leon Higginbotham and Barbara K. Kopytoff, “Racial Purity and Interracial Sex in the Law of Colonial and Antebellum Virginia,” Georgetown Law Journal 77 (1989): 1967-2029, 1979; Winthrop D. Jordan, “Modern Tensions and the Origins of American Slavery,” Journal of Southern History 28 (1962): 18-30; Wiecek, “Statuary Law,” 261.

[43] David Theo Goldberg, Racial Subjects: Writing on Race in America (New York, 1997), 35-42; Paul R. Spickard, Mixed Blood: Intermarriage and Ethnic Identity in Twentieth-Century America (Madison, Wis., 1989), 433, n. 27; Gilbert Thomas Stephenson, Race Distinctions in American Law (London, 1910), 13. في معرض طرحه حجه أنّ ألاباما «تسامحت مع الزنوج الأحرار» قبل الحرب الأهلية (إلى حدّ «السماح للعديد من المولاتو الأحرار بعبور الفاصل اللوني إلى المجتمع الأبيض رغم سماتٍ جسدية زنجية وأصلٍ معروف»)، طعن غاري ب. ميلز في الرابط الذي أكّده إيرا بيرلين بين الاستقطاب الفئوي واضمحلال صنف الأسود الحر، ولكنّ ألاباما قبل الحرب الأهلية، استنادًا إلى سردِ ميلز نفسه، كانت مجتمعًا مستقرًّا حيثُ مؤسسة العبودية راسخة، ونسبة السود الأحرار، على أيّة حال، كانت أقلّ من أن يصح وصفهم بـ «العديد»، فتعدادهم لم يتجاوز 1 بالمئة، ما يعني أنّ حالتهم لا تتميز عن حالة «حافة الانقراض» التي طرحها بيرلين. وحالما ألغيت العبودية بالطبع، لا نجد أيًّا من هذا التسامح في المواقف العرقية لألاباما البيضاء. وفيما يخصّ الحجة التالية تحديدًا، أشار ميلز (n. 37) إلى أنّ «76 بالمئة من «الملوّنين الأحرار» الذين دخلوا صفوف البِيض وخرجوا منها في ألاباما الإنجليزية كانوا من انحدارٍ هنديٍّ وزنجيٍّ إلى درجةٍ ما، والعديد ممن أرادوا التنصّل من التمييز العرقي . . . لم يعترفوا إلّا بأصلهم الهندي». Mills, “Miscegenation and the Free Negro in Antebellum ‘Anglo’ Alabama: A Reexamination of Southern Race Relations,” Journal of Ameircan History 68 (1981): 16-34, 29, 31-32. اضمحلّ صنف المولاتو في الجنوب في العقد السابق للحرب الأهلية. «بينما لم يرتفع تعداد العبودية السوداء إلا بمقدار 19.8% في العقد (خمسينيات القرن التاسع عشر)، فقد ازدادت عبودية المولاتو بنسبةٍ صادمةٍ قدرها 66.9%». Joel Williamson, New People: Miscegenation and Mulattoes in the United States (New York, 1980), 63.

[44] Davis, Problem of Slavery in the Age of Revolution 305. أطّلع كذلك على المرجع التالي: George M. Fredrickson, The Black Image in the White Mind: The Debate on Afro-American Character and Destiny, 1817-1914 (New York, 1971), 4-5; Jordan, White over Black, 313; Stephenson, Race Distinctions, 36-39; Tocqueville, Democracy in America, 1: 299. ولأجل أطروحة شاملة اطّلع على النص التالي: Leon F. Litwack, North of Slavery: The Negro in the Free States, 1790-1860 (Chicago, 1961). ومقابل ذلك اطّلع على تشكيك ستيفين ريغل في التحليل المحوريّ الذي قدمه س. فان وودوارد في كتابه الأخير: The Strange Career of Jim Crow (New York, 1955) وذلك في مقال: Riegel, “The Persistent Career of Jim Crow: Lower Federal Courts and the ‘Separate but Equal’ Doctrine, 1865-1896,” American Journal of Legal History 28 (1984): 17-40.  من المهم تذكر أنّ مناهضة العبودية لم تتناشز مع معاداة السود، لسببٍ بسيطٍ هو أنّ العبودية تضمنت وجود السود. ولهذا رأى لاري كينكيد في خوف الشماليين من أن يغمرهم محيطٌ من السود المحرّرينَ كأحد حوافز إعادة البناء: «لو ضمنت الأمة للسود الحريةَ في الجنوب مثلما في الشمال (أو حريةً أكبر مما فيه)، فسيثنيهم ذلك عن مغادرة الجنوب . . . بل وترقب بعض الشماليين الانتقال القريب للسود الشماليين إلى الجنوب». Kincaid, “Two Steps Forward, One Step Back: Racial Attitudes during the Civil War and Reconstruction,” in Gary B. Nash and Richard Weiss, eds., The Great Fear: Race in the Mind of America (New York, 1970), 45-70, 57. وثقت جوان بوب ميليش بمنهجيةٍ أرصن، إنما بعد عقدين منه، «الانزعاج الكمين عند البِيْض الشمالين إزاء الحضور الفعليّ والجسديّ للأفراد الملوّنين في الحواضر». Melish, Disowning Slavery: Gradual Emancipation and “Race” in New England, 1780-1860 (Ethaca, N.Y., 1998), xxi.

[45] وكما عبرت عن ذلك دورثي روبيرتس في «The Genetic Tie» في University of Chicago Law Review 62 (1995): 228: «أغلب السود كانوا عبيدًا، وجميعهم كانوا مُتْبَعين للبِيْض». والمنطق الوحشيّ للوضع يستحثّ صيغًا بليغة. أنظر على سبيل المثال: Ariela J. Gross, “Litigating Whiteness: Trials of Racial Determination in the Nineteenth-Century South,” Yale Law Journal 108 (1988): 109-88, 177; Cheryl Harris, “Whiteness as Property,” Harvard Law Review 106 (1993): 1709-91, 1717; Jordan, White over Black, 410; Woodward, Strange Career, 93.

[46] أي أنّ ضمور السمات العرقية يحبط النظام، ولا يتقدم به، وعلى حدّ قول تشيرل هاريس في (“Whiteness as Property”, 1711)، فهي في الواقع «لا تقف عند ذلك، بل تذهب لاستباحة حدود النظام».

[47] Melish, Disowning Slavery, 5. لاحظت بيغي باسكو أنّه «لم تضحِ قوانين امتزاج الأجناس الأساسَ الحيوي لنظام الاستعلاء الأبيض وتتجسَّد في تشريعاته، إلا عندما هُجِرت العبودية». Pascoe, “Race, Gender, and the Privileges of Property: On the Significance of Miscegenation Law in the U.S. West,” in Valerie J. Matsumoto and Blake Allmendinger, eds., Over the Edge: Remapping the American West (Berkeley, Calif., 1999), 216. في سياقٍ متصل حاججت مارثا هودس بأنّه نظرًا للعبودية، «كان بإمكان الجنوبيين البيض التجاوب مع الممارسات الجنسية بين النساء البِيْض والرجال السود بدرجةٍ من التسامح؛ مع حرية السود تحديدًا صارت هذه الممارسات تستحث قلقًا شبه حتميّ، تراكمٌ بلغَ ذروته في العنف الأبيض المهول في تسعينيات القرن التاسع عشر فما بعد». Hodes, White Women, Black Men: Illicit Sex in the Nineteenth-Century South (New Haven, Conn., 1997), 1-2. وبما يتسق مع هذه الحجة لم يُنظَر للجنس بين الأعراق في مدينة نيو يورك قبل الحرب الأهلية بعين التسامح أبدًا. أنظر: Leslie M. Harris, “From Abolitionist Amalgamators to ‘Rulers of the Five Points’: The Discourse of Interracial Sex and Reform in Antebellum New York City,” in Martha Hodes, ed., Sex, Love, Race: Crossing Boundaries in North American History (New York, 1999), 191-212.

[48] قارن مع تعليق روبيرت برينت توبلن حول البرازيل بعد العتق: «يظهر على البِيْض اهتمامٌ كبيرٌ بالتعريف العرقي في السنوات التالية للتحرير، فعندما انتفت حالة العبودية كوصمٍ للدونية، زحفَ اللون ليتولى هذا الدور التعريفيّ. وتحت الشروط الجديدة بدأ المثقفون البرازيليون بتقبل الأفكار العنصرية الأوروبية التي ربطت التقدمات التكنولوجية للحضارة الغربية بالفوقية الذهنية المزعومة للبيض». Toplin, The Abolition of Slavery in Brazil (New York, 1972), 263. وقد شرح توماس هولت نقطةً مقارنة فيما يتعلق بالعتق في جامايكا. أنظر: Holt, The Problem of Freedom: Race Labor, and Politics in Jamaica and Britain, 1832-1938 (Baltimore, Md. 1992).

[49] P. J. Staundenraus, The African Colonization Movement, 1816-1865 (New York, 1961). في هذا السياق يجب الإقرار بأنّ فكرة الاستعمار حظيت بتأييدٍ بين السود، في الزمن نفسه (بول كوف وجون ب. روسوورم) ولاحقًا (ماركوس غارفي، الذي اعتنق شكلًا من أشكال الفصل العنصري أيضًا).

[50] في: J. A. Rogers, Sex and Race: Negro-Caucasian Mixing in All Ages and All Lands, 3 vols. (New York, 1940-44), 2: 186.

[51] وكما سنجادل أدناه، ناتجٌ ثقافيًّا أيضًا.

[52] لأطروحة نشرت مؤخرًا، أنظر: Rebecca J. Scott, “Fault Lines, Color Lines, Party Lines: Race, Labor, and Collective Action in Louisiana and Cuba, 1816-1912,” in Thomas C. Holt, Scott, and Frederick Cooper, eds., Beyond Slaver: Explorations of Race, Labor and Citizenship in Postemancipation Societies (Chapel Hill, N.C., 2000), 61-106.

[53] Gary B. Nash, Red, White, and Black: The Peoples of Early North America, 3d edn.(Englewood Cliffs, N.J., 1992), 297. ولا يعني ذلك بالطبع الذهاب إلى أنّ البِيْض فشِلوا في استغلال عمل الهنود، فقد استغلّوه حيثما توفّر. فكرتنا هي أنّ حضورَ العمل الهندي كان بالرغم من نتيجة الميل الأساسي للسياسة الاستيطانية الاستعمارية، لا بسببها.

[54] «في الولايات المتحدة، جرت الحرب الأهلية والعتق جريان نهر الأردن على صفحات التاريخ الأمريكي». Cooper, Holt, Beyond Slavery, 2-3.

[55] في كارولينا الشمالية أيام جيم كرو مثلًا، كان المختلطَون عرقيًّا «يجتازون الخطوط العرقية كرًّا وفرًّا، وعصى التحكم الاجتماعي بهم». Glenda Elizabeth Gilmore, Gender and Jim Crow: Women and the Politics of White Supremacy in North Carolina, 1896-1920 (Chapel Hill, N.C., 1996), 71.

[56] يستشهد جورج فريدريكسون (Black Image, 58) بعدد السوابق قبل الحرب الأهلية ليشكك بفكرة «أنّ نوع العنصرية «الصارمة» ذاك المتمثل في صورة «الزنجيّ كوحش» تكوّنَ في عهد الفصل العنصري لأواخر القرن التاسع عشر». ولكن إنْ نحيّنا مسألة الأصول جانبًا، فقد تقلّدت خرافة/ذريعة (الشعار الأبيض) للوحش الأسود المغتصِب أهمية متجددة ومتشددة في أواخر الثمانينيات فما بعد. Jacqueline Dowd Hall, “ ‘The Mind That Burns in Each Body’: Women, Rape, and Racial Violence,” in Ann Snitow, Christine Stansell, and Sharon Thompston, eds. Powers of Desire: The Politics of Sexuality (New York, 1983), 328-49, 335. وبالإضافة إلى هول، أنظر مثلًا: W. Fitzhugh Brundage, Lynching in the New South: Georgia and Virginia, 1880-1930 (Urbana, Ill., 1993), 58-71; Glenda E. Gilmore, “Murder, Memory and the Fight of the Incubus,” in David S. Cecelski and Timothy B. Tyson, eds., Democracy Betrayed: The Wilmington Race Riot of 1898 and Its Legacy (Chapel Hill, N.C., 1998), 73-93; I. A. Newby, Jim Crow’s Defense: Anti-Negro Thought in America, 1900-1930 (Baton Rouge, La. 1965), 137-38; Robyn Wiegman, “The Anatomy of Lynching,” Journal of the History of Sexuality 3 (1993): 445-67, 458-61; Joel Williamson, The Crucible of Race: Black-White Relations in the American South since Emancipation (New York, 1984), 307-09.

[57] رفع هومير بليسي، رجلٌ أسود فاتح البشرة، دعوة خاسرة ضدّ شركة قطار لأنّ موظفها لم يسمح له بالجلوس في عربة الدرجة الأولى المخصصة للبِيْض، «وتوقع أنه سينجح في نيو أورلينز، حيث من نسبة سواده 18 يعتبر أبيضَ نوعًا ما. دائمًا ما نشير إلى هذ القرار كقرار «منفصلون ولكن متساوون»، ولكن واقعه إقرارُ المحكمة العليا بقاعدة القطرة الواحدة». غليندا غيلمور، تواصلٌ شخصيٌّ مع المؤلفة. لأجل النظر في القضية نفسها أنظر: Brook Thomas, ed. Plessy v. Ferguson: A Brief History with Documents (Boston, 1997).

[58] F. James Davis, Who Is Black? One Nations Definition (University Park, Pa., 1991). في هذا النص يدعي ديفس امتلاكَ قاعدة القطرة الواحدة هيمنةً كاملةً، ولكنّه يتجاهل بعض الأمثلة المضادة المهمة، وبالتالي من الواجب مقاربة طرحه بحذر، ولهذا لست أقول إلّا بوجود ميلٍ مستقر. ولأجل تقييمات ولأمثلة مضادة وتنوّعات مناطقية، يمكن إلقاء نظرة على التالي مثلًا: Finkelman, “Color of Law,” 954-57; Ian F. Haney Lopez, White by Law: The Legal Construction of Race (New York, 1996), 118-19; C. Harris, “Whiteness as Property,” 1738-39; A. E. Jenks, “The Legal Status of Negro-White Amalgamation in the United States,” American Journal of Sociology 9 (1915-16): 666-78; Charles S. Mangum, Jr., The Legal Status of the Negro (Chapel Hill, N.C., 1940) 245-47; and especially Pauli Murray, ed., States’ Laws on Race and Color (1950; Athens, G., 1997), passim.

[59] مقتبس في (Higginbotham, In the Matter of Color, 23) الذي يلاحظ أننا لا نعرف ما إذا كان شريكُ ديفس ذكرًا أو أنثى، عبدًا أو حرًٌا، أو ما إذا كان ديفس نفسه عبدًا، مستخدمًا، أو حرًّا.

[60] Woodward, Strange Career, 93.

[61] William Waller Hening, The Statutes at Large: Being a Collection of All Laws of Virginia from the First Session of the Legislature in the Year 1619, 13 vols. (Philadelphia, 1809-23), iii, 87.

[62] Fredrickson, Black Image, 130-64.

[63] دخل مصطلح «أبيض» في وثيقة «مواد الاتحاد» (المادة 9) لكنه لم يدخل في الدستور (Higginbotham, Shades of Freedom, 71).

[64] Higginbotham and Kopytoff, “Racial Purity,” 2020-21.

[65] لا مجال لإثبات هذه النقطة هنا، ولكن يجوز قول الأمر نفسه إزاء الخطابات المعنية بالأفرو-برازيليين والبرازيليين الأصليين، خصوصًا فيما يتعلق بقضايا الاستعباد والإدخال في الكاثوليكية. ولأجل تحليلاتٍ إيضاحية لا تعالج المسألتين معًا، يمكن إلقاء نظرة على: Marvin Harris, Patterns of Race in the Americas (New York, 1964), 13-17; Stuart B. Schwartz, Sugar Plantations in the Formation of Brazilian Society: Bahia, 1550-1835 (New York, 1985), 66.

[66] مقتبس في James Hugo Johnston, Race Relations in Virginia and Miscegenation in the South, 1776-1860 (Amherst, Mass., 1970), 170 الذي يقتبس بدوره الكولونيل ويليام بيرد ليصل إلى النقطة نفسها تقريبًا.

[67] ويشهد على هذه الهشاشة البياضُ المتصدّع للإيبيريين، الأنداد الإمبرياليين ذوي الدم المتلطّخ بالكاثوليكية، والإقطاعية، والملكية المطلقة، والبقايا المورية أيضًا.

[68] Alden T. Vaughan, Roots of American Racism: Essays on the Colonial Experience (New York, 1995), 32. وبنحوٍ أكثر اقتضابًا شخّص فيليب ج. ديلوريا السياسة الاجتماعية والسياسية الأمريكية تجاه الهنود على أنها «كرّ وفرّ بين الإدماج والتدمير على مرّ مئتي عام»، كلاهما «استهدفا محو الهنود من المشهد الطبيعي». Deloria, Playing Indian (New Haven, Conn., 1998), see also 103-04.

[69] «إنْ وضّبت الظروف بنحوٍ ملائمٍ، يمكن للهنود أن يصبحوا بيضًا، والحقّ أنه تحوّلٌ محمود. وهذا التحول تحديدًا هو ما اعتقد جيفرسون باستحالة تمكن الزنوج من إنجازه. فبمداومة جيفرسون على ردِّ إحدى المجموعتين إلى البيئة والأخرى إلى الطبيعة، وسَّع فعليًّا الفجوة التي وضعها الأمريكيون دائمًا بين الاثنتين». Jordan, White over Black, 478. ونجد في ملاحظة فوغان أنّ المراسي الأعمق لتمييز جيفرسون توحي بتشابهٍ «في سلبيّةِ» توصيفاتِ الإنجليز، في القرنين السادس والسابع عشر، للأمريكيين الأصليين «مع طروحاتهم حول الأفريقيين، ولكن انتقاداتهم كانت موجهة للتقاليد، وليس الأجساد، للتربية، وليس الطبيعة». Vaughan, Roots of American Racism, 11. أنظر أيضًا: Brian W. Dippie, The Vanishing American: White Attitudes and U.S. Indian Policy (Hanover, N.H., 1982), 248-58.

[70] Ronald T. Takaki, Iron Cages: Race and Culture in Nineteenth-Century America (New York, 1979), 79.

[71] وهذا لا يعني غضّ النظر عن امتلاك الغرب أفريقيين مناعةً ضد الأمراض الأوروبية والاستوائية أيضًا التي أهلكت المجتمعات الهندية.

[72] Orlando Patterson, Slavery and Social Death: A Comparative Study (Cambridge, Mass. 1982).

[73] Joe Gray Taylor, Negro Slavery in Louisiana (New York, 1963), 5. ولأمثلة مشابهة من أمريكا الشمالية البريطانية أنظر: Higginbotham, In the Matter of Color, 160-61.

[74] مع أنّ التمييز العرفي بين السلطان (dominion) أو السيادة (sovereignty) من جهة، والحيازة/حقّ الانتفاع (possession/usufruct) من جهة أخرى، يخصص السيادة عمومًا للقوة الأوروبية المستكشفة (أنظر: Francis Paul Prucha, The Great Father: The United States Government and the American Indians [Lincoln, Neb., 1984], 7) فكما أقرّ قاضي المحكمة العليا في قضية «جونسون ضدّ ماكينتوش» (21 U.S. [8 Wheat] 584 [1823])، حقّ الأولوية يقلّل (ولا يستبعد أو يستنفد) «حقّ [القبائل الهندية] في السيادة الكاملة، كأمم مستقلة». أنظر على سبيل المثال: Milner S. Ball, “Constitution, Court, Indian Tribes,” American Bar Foundation Research Journal (1987): 24-25.

[75] في مقابل حالة ماريلاند الاستثنائية حيثُ أورث السواد أبويًّا، من المفاجئ أنّ لا تمييز يذكر نتج عما إذا كان الوالد هنديًّا أم الوالدة. لم ينشر حول ذلك إلا النزر القليل (ونحن ننتظر كتاب بيغي باسكو القادم)، ومع ذلك يبدو أنه لا شبهة في القول – وإنْ مبدئيًّا – إنّ التمييز كان تمييزًا متدرّجًا، فالهنود الذكور الذين اختارتهم النساء البِيْضُ المحترمات أزواجًا كانوا في غاية الانسياق الثقافي، ليكونَ أبناؤهما أشدَّ ميلًا للاندماج. وتجربة هامبتون خيرُ شاهدٍ على على ذلك. أنظر: Katherine Ellinghaus, “Assimilation by Marriage: White Women and Native American Mn at Hamtpon Institute, 1878-1923,” Virginia Magazine of History and Biography 108 (2001): 279-303.

[76] في هذا الصدد سبقتِ التجربة الأمريكية بمدة قرنٍ أو حواليه، تجربة المراكز الاستعمارية الأوروبية ما بعد الحرب العالمية الثانية التي اجتذبت هجراتٍ مهولة من المستعمرات والمستعمرات السابقة.

[77] لعلّه من الأنسب اختيار قانون الجرائم الكبرى السبع لعام 1885 تاريخًا لبداية العملية الأوسع للتفكيك التشريعي للقبيلة بصفتها الوحدة الأساسية أو السيادية للمجتمع الهندي، وأما في ما يتعلق بخصخصة الملكية القبلية تحديدًا، فالعملية التي تتلخص بالعودة إلى قانون دوز لعام 1885، تتضمن التعديلات والتوسعة التي نفذت عام 1891 على قانون دوز (التي مكّنت تأجير الأراضي الهندية)، وتأسيس لجنة دوز لعام 1893، وقانون كورتس لعام 1898، وقانون الهندي الميت لعام 1902، وقانون بورك لعام 1906، وقانون الهندي غير المؤهل لعام 1907. أنظر على سبيل المثال: Elise Mitchell Rushmore, The Indian Policy during Grant’s Administrations (New York, 1914); Hagan, American Indians, 165; Russel Thornton, American Indian Holocaust and Survival: A Population History since 1492 (Nornman, Okla., 1987), 122-23.

[78] «وبالتالي إنّ من يسيّج الأرض ولديه وفرة من رفاهيات الحياة أكثر من عشرة فدّانات، يمكن أنْ يأخذَ مِن مئةٍ تُرِكت للطبيعة، من الحقّ القول أنّه وهب [!] تسعين فدّانًا للإنسانية». John Locke, Two Treatises of Government (1698, Cambridge, 1963), 321. وللروابط الأوثق بين النظرية اللوكية والمصالح الاستعمارية الإنجليزية في أمريكا، أنظر: Barbara Arneil, John Locke and America: The Defence of English Colonialism (Oxford, 1996).

[79] Graham D. Taylor, The New Deal and American Indian Tribalism: The Administration of the Indian Reorganization Act, 1934-45 (Lincoln, Neb., 1980); Donald L. Parman, Indians and the American West in the Twentieth Century (Bloomington, Ind., 1994), 53. مكَّن القانون جعل الهنود الذين حازوا على الحصص أو آثروا العيش بانفصالٍ عن قبائلهم مواطنين. Theodore H. Haas, “The Legal Aspects of Indian Affairs from 1857 to 1957,” Annals of the American Academy of Political and Social Science 311 (1957): 12-22, 13.

[80] Janet A. McDonnell, The Dispossession of the American Indian, 1887-1943 (Bloomington, Ind., 1991); Hagan, American Indians, 165; M. Annette Jaimes, “Federal Indian Identification Policy: A Usurpation of Indigenous Sovereignty in North America,” in Jaimes, ed., The State of Native America: Genocide, Colonization, and Resistance (Boston, 1992), 123-38, 126; Parman, Indians and the American West, 9; Prucha, Great Father, 227.

[81] Felix S. Cohen, Handbook of Federal Indian Law (Washington, D.C., 1942), 130; Michael G. Lacy, “The United States and American Indians: Political Relations,” in Vine Deloria, Jr., ed., American Indian Policy in the Twentieth Century (Norman, Okla., 1985), 83-104, 92-93; Prucha, Great Father, 338; Ernest L. Schusky, The Right to be Indian (San Francisco, 1970), 21.

[82] Laurence A. French, The Winds of Injustice: American Indians and the U.S. Government (New York, 1994), 65-67; Russel Thornton, Gary D. Sandefur, et al., The Urbanization of American Indians: A Critical Bibliography (Bloomington, Ind., 1982), 228-31; Thornton, American Indian Holocaust and Survival, 225-30.

[83] ولكن بحلول خمسينيات القرن العشرين حين تأسس التفكيك كسياسةٍ، خسر الهنود أغلب الأراضي الزراعية النافعة التي امتلكوها سابقًا، وعليه انعطفت القضية من مسألة ملكية الأرض إلى مسألة الوصول إلى الموارد (الصوفان، والماء، والمعادن) التي احتوتها أراضيهم التي لا أهميةَ معتبرة أخرى لها. فما دامت قطعة أرضٍ جزءًا من محمية هندية فلا حاجة لإخضاع الأنشطة القائمة فيها لتنظيمات الولايات المعنية بالسلامة والبيئة.

[84] Joyotpaul Chaudhuri, “American Indian Policy; An Overview,” in V. Deloria, American Indian Policy, 29.

[85] Jaimes, “Federal Indian Identification Policy,” 137. وتدنوها باتريشا ليمريك في بلاغة القول: «حَدِّد النسبة الدموية عند الربع، اعتمِدها تعريفًا صارمًا للهنود، دع تمازج الأجناس يستمر لقرون، وفي آخر المطاف لن يولد طفلٌ واحدٌ داخلَ التعريف، وعندما يحصل ذلك سيفرج كربُ الحكومة الفيدرالية بعتقها من «مشكلتها الهندية» المزمنة». Limerick, Legacy of Conquest, 338. أنظر أيضًا: Ward Churchill, “The Crucible of American Indian Identity: Native Tradition versus Colonial Imposition in Postconquest North America,” in Duane Champagne, ed., Contemporary Native American Cultural Issues (London, 1999), 39-67, esp. 48-58. ولنقاشٍ عامٍّ أنظر مثلًا: William T. Hagan, “Full Blood, Mixed Blood, Generic, and Ersatz: The Problem of Indian Identity,” Arizona and the West 27 (1985): 209-26; Russel Thornton, “Tribal Membership Requirements and the Demography of ‘Old’ and ‘New’ Native Americans,” Population Research and Policy Review 7 (1997): 1-10; Pauline Turner Strong and Barrik Van Winkle, “Indian Blood: Reflections on the Reckoning and Refiguring of Native North American Identity (Resisting Identities),” Cultural Anthropology 11 (1996): 547-77; Melissa L. Meyer, “American Indian Blood Quantum Requirements: Blood Is Thicker Than Family,” in Matsumoto and Allmendinger, Over the Edge, 231-49.

[86] مقتبس في: Thornton, American Indian Holocaust and Survival, 188. لأمثلة أسبق، أنظر: Churchill, “Crucible,” 48-49.

[87] تُظهِر المسيرة المؤسسية لمكتب العلاقات الهندية بنحوٍ رتيبٍ أعراضَ زحف الاحتواء على الأمم الهندية في القرن التاسع عشر، فعند إنشائه في 1824 وُضِعَ المكتب صراحةً تحت وزارة الحرب، ولكن في 1849 نُقِل تحت إدارة وزارة الداخلية حديثة النشأة. أنظر: Bolt, American Indian Policy and American Reform, 54; Donald L. Fixico, Termination and Relocation: Federal Indian Policy, 1945-1960 (Albuquerque, N.Mex., 1986), x.

[88] Vine Deloria, Jr., and Clifford M. Lytle, The Nations Within: The Past and the Future of American Indian Sovereignty (Austin, Tex., 1984), 24-25.

[89] «أخذ قانون دوز للتخصيص لعام 1887 ما كان حاصلًا لسنين طويلةً بالتجزئة، وكرّسه كسياسة عامة». Hagan, American Indians, 159.

[90] ومن هنا تأتي الأهمية الثقافية لكلمة الجينيرال فيل شيريدان الخالدة: «لا هندي جيّد إلّا الهندي الميت». ومن المثير أنّ السمة الهندية الأكثر ألفةً في الثقافة الشعبية الغربية، إن استثنينا سلخ فروة الرأس، هي سمةٌ أُخرَويّة: أرضُ الصيدِ السعيدة، عليها موتهم لا يشوبه كربٌ أو بؤس.

[91] R. Halliburton, Jr., Red over Black: Black Slavery among the Cherokee Indians (Westport, Conn., 1977); Holt, Black over White, 63; Theda Perdue, Slavery and the Evolution of Cherokee Society, 1540-1966 (Knoxville, Tenn., 1979); Annie H. Abel, The American Indian as Slaveholder and Secessionist: An Omitted Chapter in the Diplomatic History of the Southern Confederacy (Cleveland, 1915); J. H. Russell, “Colored Freeman as Slave Owners in Virginia,” Journal of Negro History 1 (1916): 233-42. حضرت ظاهرة السّود مُلّاك العبيد بنحوٍ رئيسٍ في لويزيانا (وبدرجةٍ أقل في جنوب كارولينا). أنظر: Eugene D. Genovese, “The Slave States of North America,” in Cohen and Green, Neither Slave nor Free, 258-77, 269. وفي حالة الهنود «ملّاك العبيد»، فالنموذج الأقرب هو السخرة، فالعبيد (وأبناؤهم خصوصًا) كان بإمكانهم في كثيرٍ من الحالات أن يتزوّجوا من الجماعة الآسِرة ويصيروا كاملي العضوية فيها، بل وقادةً من قاداتها، كما في الحالة الشهيرة لـ «انتفاضة» سيمينول، ولعلها أقوى وأنجع مقاومة مسلّحة شنّتها أمّة هندية، قيادتها تضمنت نسبةً عالية من العبيد السابقين، سواءً الهاربين منهم أو الأفارقة المملوكين سابقًا من أسيادَ سيمينول. Kenneth W. Porter, “Relations between Negroes and Indians with the Present Limits of the United States,” Journal of Negro History 17 (1932): 297-367, 235-50; John K. Mahon, History of the Second Seminole War, 1835-1842 (Gainesville, Fla., 1967).

[92] في الحالة المتأخرة للراديكاليين، سيُعبّر عن هذا «الخوف» بنحوٍ أنسب كأملٍ، أو لربما هدف. أنظر: Williamson, Crucible of Race, 111-19.

[93] رُسِّمَت هذه المعارضة في تشريعات بعضِ الولايات. أنظر مثلًا: Magnum, Legal Status, 253, n. 105 (5 states); Vaughan, Roots of American Racism, 267, n. 96 (3 states); Nash, Red, White, and Black, 283 (2 states). أنظر أيضًا: David D. Smits, “ ‘Abominable Mixture’: Toward the Repudiation of Anglo-Indian Intermarriage in Seventeenth Century Virginia,” Virginia Magazine of History and Biography 95 (1987): 157-92. ولحالات التشجيع (وحالةُ جيفرسون أشهرها)، أنظر: Chaplin, “Natural Philosophy,” 252; Jordan, White over Black, 163; Gary B. Nash, “The Hidden History of Mestizo America,” Journal of American History 82 (1995): 941-62, 943.

[94] «سيحرَّم قانونًا إذًا زواج أيّ شخصٍ أبيض في هذه الولاية من أيِّ شخصٍ ما عدى غيره من البِيْض، أو شخصٍ لا يختلط مع دمه الأبيض إلّا دمٌ أمريكيٌّ هنديٌّ». (1924 Va. Acts, Chap. 371, sect. 5). أنظر أيضًا: Higginbotham and Kopytoff, “Racial Purity,” 1977, n. 48; Peggy Pascoe, “Miscegenation Law, Court Cases, and Ideologies of ‘Race’ in Twentieth-Century America,” Journal of American History 83 (1996) 44-69, 59.

[95] في هذا الصدد حادثةٌ من دِقّتها تبدو خرافية: في العام نفسه الذي وضع فيه قانون فيرجينيا، مرر مجلس الشيوخ الأمريكي قانون المواطنة الهندية، الذي أمدّ المواطنة لكلّ الهنود المولودين داخل الحدود القطرية للولايات المتحدة، وقانون جونسون-ريد للهجرة المستند إلى عقيدة تحسين النسل.

[96] ولذلك علينا تجاوز التفسيرات الثقافوية كتلك التي جازف بها ليون هيغينبوثام وباربرا كوبيتوف: «لماذا اختلفت المعالجة القانونية للاختلاط الأبيض والهندي والاختلاط الأسود والزنجي؟ لعلّ السبب ارتبطَ بدرجةِ قُرب مظهر الفرد مختلط العرق إلى البياض في عين الفيريجينيين البِيْض في القرن الثامن عشر. ولربما لأن عموم الأوروبيين اعطوا للهنود منزلة أعلى من الزنوج في ميزان الخلق، وإنْ كانت أقلّ من منزلتهم». Higginbotham and Kopytoff, “Racial Purity,” 1977.

[97] فيما يتعلق بتدمير مجلس الشيوخ لحكومات القبائل المتحضّرة الخمس، أكّد فيليكس كوهين: «هذه الحكومات انتهى وجودها كحكوماتٍ بنحوٍ رئيسٍ لأنّها قبلت في مواطنتها وحقوق السكن في أراضيها عددًا كبيرًا من الرجال البِيْض، حتى لم تعد الجماعات الهندية الأصلية قادرةً على الإبقاء على وجودٍ قوميٍّ منفصلٍ عن المستوطنين البِيْض». Cohen, Handbook of Federal Indian Law, 131.

[98] وفي بعدٍ أعمق من بعدِ الخطاب، فارقٌ بسيطٌ يفصل القِران الهندي-الأسود من عموم القرانات البينية التي تتضمن بيضًا، شرحه ويليام لورين كاتز ببلاغة: «دخل الأوروبيّون مجرى الدم الأفريقي عنوةً، لكنّ الأمريكيين الأصليين والأفارقة تخالطوا بالاختيار، بالدعوة، وبالحُب». Katz, Black Indians: A Hidden Heritage (1986; New York, 1991), 2.

[99] Jack D. Forbes, Black Africans and Native Americans: Color, Race and Caste in the Evolution of Red-Black Peoples, 2d edn. (Urbana, Ill., 1993), 91; Magnum, Legal Status, 6.

[100] وبالتالي فقاعدة القطرة الواحدة مركزيّةٌ في الإنتاج التاريخي للبياض، الذي اتّسع – كما وصف عددٌ متزايدٌ أبدًا من الباحثين – من «الأشخاص البِيْض الأحرار» الأنجلو-ساكسونيين لقانون التجنيس لعام 1790 ليلتحق به الألمان، والقلط، والسلافيون، والألبيون، والمتوسّطيون، واليهود، وبعدهم مجموعاتٌ غير أوروبية مثل الأرمن، والسورييين، والهندوس في الصنفِ «القوقازي» الأوسع. أنظر مثلًا: Theodore W. Allen, The Invention of the White Race, Vol. 1: Racial Oppression and Social Control (London, 19994); Ruth Frankenberg, “Whiteness and Americanness: Examining Constructions of Race, Culture, and Nation in White Women’s Life Narratives,” in Steven Gregory and Roger Sanjek, eds., Race (New Brunswick, N.J., 1994), 62-77; Noel Ignatiev, How the Irish Became White (New York, 1995); Jacobson, Whiteness of a Different Color (London, 1991); David R. Roediger, The Wages of Whiteness: Race and the Making of the American Working Class (London, 1991). أو صحيفة إغناتييف التي لا يشق لها غبار (Race Traitor). رغم ضخامة موضوع العمل الخطابي المتضمن في إدراج هذه الأصناف التي ابتدأت منفصلةً تحت العنوان الأوسع للبياض، فالفروقات التي ميزت هذه الجماعات المهاجرة عن بعضها البعض لم تنتمي للمستوى نفسه الذي عزل السّود. وأنا أقلُّ يقينًا (ومعرفةً) بما يتعلق بعرقنة الصينيين، خصوصًا في الساحل الغربي للولايات المتحدة.

[101] Forbes, Black Africans and Native Americans, 203; see also Thornton, American Indian Holocaust and Survival, 210-20. Hurston quoted by Spickard, Mixed Blood, 323. See also, Cohen, Handbook of Federal Indian Law, 2-5.

[102] Raymond T. Diamond and Robert J. Cottrol, “Codifying Caste: Louisiana’s Racial Classification Scheme and the Fourteenth Amendment,” Loyola Law Review 29 (1983); Virginia R. Dominguez, White by Definition: Social Classification in Creole Louisiana (1986; New Brunswick, N.J., 1994).

[103] William A. Green, British Slave Emancipation: The Sugar Colonies and the Great Experiment, 1830-1865 (Oxford, 1976); Green, “The Perils of Comparative History: Belize and the British Sugar Colonies after Slavery,” Comparative Studies in Society and History 26 (1984): 112-19. قارن مع: O. Nigel Bolland, “Systems of Domination after Slavery: The Control of Land and Labor in the British West Indies after 1838,” Comparative Studies in Society and History 23 (1981): 591-619.

[104] أدين بهذه الملاحظة لجيريمي بيكيت.

[105] Forbes, Black Africans and Native Americans, 258.

[106] حسب قراءتي للنعت المزدوج الذي صاغه ناثانيل فيلد: «فيرجينيا البرّية، أفريقيا السوداء» يعبر فيه بنحوٍ أساسيٍّ عن هذا التعارض بين الأرضيّة والجسديّة، أو بين الاستيطان والاستعباد، وليس (حسب تفسير فوغان) عن الطواعية النسبية لكلا للجَمْهَرتين (Roots of American Racism, 13).

[107] البرازيل ليست متجانسة. غفل عدد من الباحثين المتحدثين بالإنجليزية، الاختلافات المعتبرة بين الأنواع المختلفة للعبودية الحاضرة في المناطق المختلفة (باهيا وميناس جيرايس، مثلًا)، والصناعات المختلفة (العبودية في إنتاج السكر، والتعدين، والقهوة، والخدمة المنزلية)، وبين الحواضر والأرياف، وبين الحقب التاريخية المختلفة. والتحليل التالي يشير إلى صناعة السكر في باهيا، وهي كانت محط تركيز فريري ومعقل تجارة العبيد الأطلسية، وبالتالي فـ «البرازيل» تتضمن دائمًا تلك الصناعة، ولا تتضمن كافة الأخريات دائمًا.

[108] هذه القائمة ليست مستفيضة، فقد عثر مارفين هاريس على 490 تصنيفٍ كهذا: Harris, “Referential Ambiguity in the Calculus of Brazilian Racial Identity,” in Norman E. Whitten, Jr., and John F. Szwed, eds., Afro-American Anthropology: Contemporary Perspectives (New York, 1970), 75-85، مع أنّه من الواجب الإقرار بأنّ هذه المفردات ليست واسعة الانتشار أو الرواج، فما يهمّنا هنا فحسب هو الإشارة إلى التعقيد المقارِن للنظام (وهو تعقيدٌ يصعب التشكيك فيه حتى بمعايير لويزيانا أو المكسيك أو جامايكا).

[109] Frank Tannenbaum, Slave and Citizen: The Negro in the Americas (New York, 1946); Elkins, Slavery; Winthrop D. Jordan, “Unthinking Decision: Enslavement of Negroes in America to 1700,” in T. H. Breen, ed., Shaping Southern Society: The Colonial Experience (New York, 1976). ولقراءة انتقادات لهذا المنظور، اقرأ مراجعة سيدني مينتز لنصّ إيلكينز (Slavery) في: American Anthropologist 63 (1961): 579-87; Davis, Problem of Slavery in Western Culture, 224-25 n.؛ وقارن: Arnold Sio, “Interpretations of Slavery: The Slave Status in the Americas,” Comparative Studies in Society and History 7 (1961): 289-308. وزعمُ آرنولد توينبي بأنّ «الشعور العرقي» في الغرب المعاصر لا سابقة له في أوروبا القرون الوسطى، التي تشمل إسبانيا والبرتغالي الاستعماريتين ولا تشمل إنجلترا الاستعمارية، فيه أوجه شبهٍ واضحةٍ مع أطروحة فريري/تابينباوم إنما دون أثرٍ واضح على صيغته. Toynbee, A Study of History (Oxford, 1934), 1:223-25.

[110] «الاستعمار البرتغالي أنتج بنيةً سائلة، مُمَكّنًا التحوّل من طبقة إلى طبقة، من عرقٍ إلى عرق، ومنتجًا نوعًا بيولوجيًّا جديدًا، وقِيمًا جديدةً للجمال الإنساني . . . في البرازيل وأمريكا الإسبانية لم يضع القانون والكنيسة والتقاليد إلّا حواجزَ قليلة أمام الرقيّ العرقي والطبقي، بل وفي بعض الأوجه حفّزوه. في أنظمة العبودية البريطانية والفرنسية والأمريكية حاول القانون تثبيت نسق الطبقات الاجتماعية والمجموعات العرقية وتهريمها». Tattenbaum, Slave and Citizen, 119-20, 127.

[111] تحدد الأطروحات المعاصرة مدة الحياة المتوقعة للعبد في البرازيل في القرن الثامن عشر بين سبع سنوات وخمسة عشر سنة. C. R. Boxer, The Golden Age of Brazil, 1695-175-: Growing Pains of a Colonial Society (Berkeley, Calif., 1962), 174; Robert Edgard Conrad, World of Sorrow: The African Slave Trade to Brazil (Baton Rouge, La., 1987), 17، ولكنّ هذه التقديرات حققت فيها إيميليا فيوتّي دا كوستا  (The Brazilian Empire: Myths and Histories (Chicago, 1985), 134-35)، وطعنَت فيها، وإنْ اقتصر تحقيقها على العقد اللاحق لإلغاء تجارة العبيد عام 1851: Robert Slenes, “The Demography and Economics of Brazilian Slavery, 1850-1888” (PhD dissertation, Stanford University, 1976), 370.

[112] عبارة «النظام الديمغرافي السلبي» مستعارة من: Stuart B. Schwartz, Slaves, Peasants, and Rebels: Reconsidering Brazilian Slavery (Urbana, Ill., 1992), 11. والاقتباس مأخوذٌ من: Shwartz, Sugar Plantations, 373. وعلى حد تعبير المهاجر الفرنسي شارل أوغست توني في 1839، البرازيل «ابتلعت» الأفارقة: «لو لم يزوّدهم الاستيراد المستمر، لاختفى العرق سريعًا من أوساطنا»؛ Stanley J. Stein, Vassouras: A Brazilian Coffee County, 1880-1900: The Roles of Planter and Slave in a Plantation Society (1957; Princeton, N.J., 1985), 227. أنظر أيضًا: C. R. Boxer, The Portuguese Seaborne Empire, 1415-1825 (New York, 1969), 173-75; Mary C. Karasch, Slave Life in Rio de Janeiro, 1808-1850 (Princeton, 1987), 92-110; Joseph C. Miller, Way of Death: Merchant Capitalism and the Angolan Slave Trade, 1730-1830 (Madison, Wis., 1988). ويجب مقاربة الأرقام الأساسية بحذرٍ بالطبع، خصوصًا وأنّ نسبةً عاليةً من العبيد البرازيليين المستبدلين بجددٍ من أفريقيا انتهت عبوديتهم نتيجة العتق، لا الموت.

[113] «ديمومة العبودية في الولايات المتحدة وتوسّعها دون إضافات معتبرة من الاستيراد حالةٌ فريدةٌ في التاريخ العالمي للعبودية». Carl N. Degler, Neither Black nor White: Slavery and Race Relations in Brazil and the United States (New York, 1971), 61. الاستيراد إلى الولايات المتحدة مُنِع جملةً وتفصيلًا منذ 1808.

[114] مقتبس في: Robert Edgard Conrad, The Destruction of Brazilian Slavery, 1850-1888 (Berkeley, Calif, 1972), 24.

[115] Richard Graham, “Action and Ideas in the Abolitionist Movement in Brazil,” in Magnus Mörner, ed. Race and Class in Latin America (New York, 1970), 51-69, 63.

[116] George Reid Andrews, Blacks and Whites in Sao Paulo, Brazil, 1888-1988 (Madison, Wis., 1991), 37-49; Slenes, “Demography and Economics,” 549-51; Robert Brent Toplin, “Upheaval, Violence, and the Abolition of Slavery in Brazil: The Case of Sao Paulo,” Hispanic American Historical Review 49 (1969): 635-55, 655; Ademir Gebara, O mercado de trabalho livre no Brasil, 1871-1888 (Sao Paulo, 1986), 99.

[117] Boxer, Golden Age of Brazil, 173; Conrad, World of Sorrow, 14-15; Carl N. Degler, “Slavery in Brazil and the United States: An Essay in Comparative History,” AHR 75 (April 1970): 1004-28, 1018; قارن مع: Slenes, “Demography and Economics,” 370.

[118] Robin Blackburn, The Making of New World Slavery: From the Baroque to the Modern, 1492-1800 (London, 1997, 170). الرحلة من أنغولا إلى باهيا مدتها أربعون يومًا ; José Honório Rodrigues, “The Influence of Africa on Brazil and of Brazil on Africa,” Journal of African History 3 (1972): 49-67, 55.

[119] Luiz Felipe de Alencastro, “The Apprenticeship of Colonization,” in Barbara L. Solow, ed., Slavery and the Rise of the Atlantic System (Cambridge, 19991), 151-76, 167-68; Joseph C. Miller, “Some Aspects of the Commercial Organization of Slavery in Luanda, Angola—1760-1830,” in Henry A. Gemery and Jan S. Hogendorn, eds., The Uncommon Market: Essays in the Economic History of the Atlantic Slave Trade (New York, 1969), 77-106, 105.

[120] Franklin W. Knight, “Slavery and Lagging Capitalism in the Spanish and Portuguese American Empires, 1492-1713,” in Solow, Slavery and the Rise, 62-74, 69.

[121] هذا الاعتبار يقدم دافعًا إضافيًّا، يندر ذكره في الأدبيات، لتفضيل العمل الأفريقي على العمل الهندي. وكما لاحظ لوسيو كواريك (الذي يذكره بالفعل): «المفارقة هي أنّ المفتاح لفهم العبودية الاستعمارية الأفريقية هي تجارة العبيد، وليس العكس». Kowarick, The Subjugation of Labour: The Constitution of Capitalism in Brazil, Kevin Mundi, trans. (Amsterdam 1987), 12.

[122] من المهم التمييز بين منظورات المستعمِرين للتهديد الذي شكّله العبيد والواقع وراء هذه المنظورات، فالخوف ليس بالضرورة واقعيًّا. وحقيقة (إنْ كانت حقيقةً) أنّ أغلب النشاط التمرّدي شنّه عبيدٌ أفريقيّو المولد لا يعني أنّ هواجس ملّاك المزارع ستمتثل لها تلقائيًّا (فهم لم يستشيروا بالضرورة نفس الإحصائيات التي راجعها مؤرخوهم). شدّد البعض على أهمية الجهد الذي كابده الملّاك لإنجاز خليطٍ لِعبيد الجيل الأول من خلفيّات أفريقية مختلفة (Boxer, Golden Age of Brazil, 176-77; Degler, “Slavery in the Brazil and the United States,” 1016). ولكنّ هذا يدل على خوفٍ من التجانس، لا خوفٍ من أفريقية المولد بحد ذاتها، وهذا استنتاجٌ متّسقٌ مع الشاغل المحدّد الذي ظهر على الملّاك فيما يتعلق بالإسلام – شاغلٌ كان واقعيًّا على الأقل في باهيا، بروحها المتمرّدة في أوائل القرن التاسع عشر (João José Reis, Slave Rebellion in Brazil: The Muslim Uprisings of 1825 in Bahia, Arthur Bakel, trans. [Baltimore, Md., 1993]; Clóvis Moura, Rebeliões da senzala [Sao Paulo, 1959]). وللأسباب المتنوعة لمصادر النشاط التمردي (بما في ذلك الهرب وتأسيس معسكرات الكويلومبو، أو مواطن المارون)، أنظر مثلًا: Andrews, Blacks and Whites, 36-37; Michael Craton, Testing the Chains: Resistance to Slavery in the British West Indies (Ithaca, N.Y., 1982), 165; Reis, “Slave Resistance in Brazil, Bahia, 1808-1835,” Luso-Brazilian Review 25 (1998): 111-44, 111; Schwartz, Plantations, 342. يذهب يوجين جينوفيس إلى أنّ نقلةً معممةً في المبادرة بالتمرد، من الجماعات أفريقية المولد إلى الجماعات الكريولية، ومن التمرد إلى شيءٍ أقرب إلى الثورة، بدأت بالنشوء في أواخر القرن الثامن عشر. Genovese, From Rebellion to Revolution: Afro-American Slave Revolts in the Making of the Modern World (Baton Rouge, La., 1979), 18-19.

[123] لا يستثني هذا بالطبع الدوافع الأخرى والإضافية للعتق، مثل جاذبية العمل المأجور الأكثر مرونةً، وأتعاب الحفاظ على العبيد كبار السن أو الواهنين أو مدمني الكحول، والحاجة لتوفير حافزٍ للمُخبرين، والوازع الذي يوفره العتق المشروط أو المؤخر، ومشاعر الودّية، والفائدة النقدية (من شراءِ العبيد حرّيتهم)، والقلق الديني من الخلاص، أو الشعور بالذنب أو الامتنان. للاطلاع على جملة من الدوافع، أنظر مثلًا: Cohen and Greene, “Introduction,” 10-11; Jan Fiola, Race Relations in Brazil: A Reassessment of the Racial Democracy Thesis (Amherst, Mass., 1990), 3; Karasch, Slave Life in Rio, 338-64; Anthony W. Marx, Making Race and Nation: A Comparison of South Africa, the United States, and Brazil (Cambridge, 1998(, 62); Katia M. de Queiros Mattoso, “Slave, Free, and Freed Family Structures in Nineteenth-Century Salvador, Bahia,” Luso-Brazilian Review 25 (1988): 69-84, 71; Stuart B. Schwartz, “The Manumission of Slaves in Colonial Brazil, Bahia, 1684-1745,” Hispanic American Historical Review 54 (1974): 603-35, 627-30.

[124] اطّلع مثلًا على التالي: Andrews, Blacks and Whites, 126-27; Nelson do Valle Silva, “Updating the Cost of Not Being White in Brazil,” in Fontaine, Race, Class and Power in Brazil, 42-55; Florestan Fernandes, “The Weight of the Past,” in John Hope Franklin, ed., Color and Race (Boston, 1968), 283-301, 291; Carlos A. Hasenbalg, “Race and Socioeconomic Inequalities in Brazil,” in Fontaine, Race, Class and Power in Brazil,25-45, 28-39; Peggy A. Lovell, “Race, Gender and Development in Brazil,” Latin American Research Review 29 (1994): 7-35, 19-22; Max, Making Race and Nation, 253; Thomas E. Skidmore, Black into White: Race and Nationality in Brazilian Thought (1974; Durham, N.C., 1993), 376. وكما خلص إليه دو فالي سيلفا في عبارته الجافة في (“Updating the Cost,” 55): «إنْ لخصنا نتائجنا، نحن الآن نعرف تكلفة ألّا تكون أبيضَ في «الديمقراطية العرقية» البرازيلية: حوالي 566 كروزيرو شهريًّا في 1976». وفي تحديثٍ لهذه الأرقام أجراه بيتر فراي عبر جمع جملةٍ مصدّقة من الدراسات ترسم خريطة للحرمان الأفرو-برازيلي على محاورَ منيرةٍ منها معدل وفيات الرضع، والتحصيل التعليمي، والدخل («معدل دخل السّود والميستيزو [المولاتو] أقل من نصف معدل دخل البِيْض»)، والسجن. Fry, “Politics, Nationality, and the Meanings of ‘Race’ in Brazil,” Daedalus 129 (2000): 82-118, 92. اطّلع أيضًا على: John Burdick, Blessed Anastácia: Women, Race, and Popular Christianity in Brazil (New York, 1998), 1-2.

[125] Schwartz, Sugar Plantations, 342.

[126] «أنشأ المجتمع الاستعبادي الاستعماري مجموعةً من التقسيمات العرقية والمستندة إلى المنزلة حَرَّمت التعاون فعليًّا . . . المِيز بين الكريولو والأفارقة وبين السود والمولاتو لم تكن ارتجالاتٍ من مندوبي التعداد السكاني أو تعييناتٍ وصفية، بل كانت تصنيفاتٍ مهمة وصفت التقسيمات المتعددة والمعقدة للمجتمع الباهي وقيّدت الفعل السياسي». Schwartz, Sugar Plantations, 473.

[127] «السمات التي ميزت الكريول الأطلسيين – خِفّتهم اللغوية ومطواعيتهم الثقافية ورشاقتهم الاجتماعية – كانت بالتحديد السمات التي احتقرها كبار الملّاك في العالم الجديد وهابوها . . . فقد كان الرجال والنساء الذين فهموا عمليات النظام الأطلسي ببساطة أخطر منْ أنْ يُوثق بهم في الهشيم البشري الذي خلقته ثورة السكر». Ira Berlin, “From Creole to African: Atlantic Creoles and the Origins of African-American Society in Mainland North America,” William and Mary Quarterly, 3d ser., 53 (1996): 263.

[128] وعلى حد تعبير ديفيد بارونوف تمثل القرار في «إلغاء العبودية دون عتق الأفارقة». Baronov, The Abolition of Slavery in Brazil: The “Liberation” of Africans through the Emancipation of Capital (Westport, Conn., 2000), 166. اطّلع أيضًا على: Emília Viotte da Costa, Da senzala à colônia (Sao Paulo, 1966), 466.

[129] Andrews, Blacks over Whites, 249.

[130] كانت هذه محور سياسة «التبييض» الرسمية. اطّلع على: Skidmore, Black into White, esp. 68; Thomas E. Skidmore, “Racial Ideas and Social Policy in Brazil, 1870-1940,” in Richard Graham, ed., The Idea of Race in Latin America, 1870-1940 (Austin, Tex., 1990), 7-36, 12, 23; Andrews, Blacks and Whites, 135-36, 177-78. ولسابقةٍ أقدم اطّلع على: Karasch, Slave Life in Rio, 321.

[131] لاحظ عدد من الباحثين أنّ المعارضة من العبيد والعبيد السابقين وفرت ذريعةً لبرنامج الهجرة. يمكن الاطلاع مثلًا على: Fernandes, “Weight of the Past,” 282-301, 285; Robert M. Levine, “ ‘Turning on the Lights’: Brazilian Slavery Reconsidered One Hundred Years after Abolition,” Latin American Research Review 24 (1989): 201-17, 207.

[132] Lúcio Kowarick, Capitalismo e marginalidade na América atina, 3d. edn. (Rio de Janeiro, 1983

[133] George Reid Andrews, “Black and White Workers: Sao Paulo, Brazil, 1888-1928,” in Rebecca J. Scott, et al., The Abolition of Slavery and the Aftermath of Emancipation in Brazil (Durham, N.C., 1988), 85-118, 103-07, 115-18; Andrews, Blacks and Whites, 55, 58, 151. في باهيا وغيرها من الأماكن التي عانت من كساد ولم تجذب المهاجرين البيض، أبقت نسبةُ البطالة العاليةِ الأجورَ منخفضةً، وحينما قصَّرت هجرة البِيْض (قي أثناء الحرب العالمية الأولى مثلًا) أبقت الهجرة الداخلية من هذه المناطق على تخمة العمل في المناطق الدينامية مثل ساو باولو. (Kowarick, Subjugation of Labour, 81,88).

[134] Florestan Fernandes, The Negro in Brazilian Society (New York, 1969); Fernandes, A revolução burguesa no Brasil (Rio de Janeiro, 1975); Viotti da Costa, Da senzala à colônia, 466.

[135] أدرج مدير متحف ريو دي جانيرو الوطني جواو باتيستا لاسيردا نسخةً من هذه الرسمة لموديستو بروكوس، من مدرسة الفنون الجميلة في ريو دي جانيرو، في مقدمةٍ لورقةٍ دعي لإلقائها في المؤتمر العالمي الأول للأعراق، الذي أقيم في لندن عام 1911. وكان وصفه للصورة: «الزنجي يعبر ويتحول إلى أبيض في الجيل الثالث نتيجة التداخل العرقي». مأخوذةٌ من: Lilia M. Schwarcz, The Spectacle f Races: Scientists, Institutions, and the Race Question in Brazil, 1870-1930, Leland Guyer, trans. (New York, 1993), 3-4.

[136] وفيما يتعلق بـ «مهرب المولاتو» (mulatto escape hatch)، يمكن الاطلاع على: Degler, Neither Black nor White, esp. 224-25. في جوابٍ مهمٍّ، اقترح إيدواردو دي أوليفييرا إي أوليفييرا وضع مفردة (alcapao) محلّ (mulatto escape hatch)، بحكم أنّ الأولى تحمل معنى مخرج طوارئ وشركٍ للحيوانات: «لعله مخرج طوارئ من النظام نفسه، لكنّه سجنٌ للمولاتو، العاجز عن حيازة ضميره الخاص [um consciência própria]». Oliveira, “O Mulato, um obstáculo epistemológico,” Argumento 1, no. 3 (1974): 70.

[137] قبل قرابة نصف القرن ميّز موراسي نوغويرا بذكاءٍ بين المتعصّبين المستندين إلى «السيماء» وإلى «الأصل»، المرتبطين بالتوالي بالتصنيفات الاجتماعية البرازيلية والأمريكية. فتعصّب السيماء يستند إلى المظهر الخارجي (وبالتالي يمكن تصنيف شقيقين بتصنيفين مختلفين)، في حين تعصّب الأصل يستند (انتقائيًّا) إلى الوراثة التي قد تكون متناغمة أو متناشزة مع المظهر الخارجي، والتي تصنّف الأشقاء التصنيف نفسه بالضرورة. Nogueira, “Procenceito racial de marca e preconceito racial de origem,” Anals do XXXI Congresso Internacional de Americanistas (Sao Paulo, 1955); Nogueira, “Skin Color and Social Class,” in Pan American Union, Plantation Systems of the New World (Washington D.C., 1959), 164-78.

[138] اطّلع خصوصًا على: Stoler, “Making Empire Respectable”.

[139] وبالتالي فمصائر الجماعة الملوّنة ستكون مؤشرًا مهمًّا على المدى الطويل عما إذا كانت القطيعة التي أنجزتها حكومة المؤتمر الوطني الأفريقي كاملةً أم لا.

هذا المقال جزء من منشور  «جدل تاريخي: الدولة وعناصرها».

afac

Wolfe, Patrick, “Land, Labor, and Difference: Elementary Structures of Race,” The American Historical Review, 2001, Vol. 106, No. 3, 866-905, by permission of Oxford University Press.

Skip to content