شكل الأمة: التاريخ والأيديولوجية (1988)

«ماضٍ» ما كان حاضرًا، ولن يكون أبدًا. – جاك دريدا[1]

الجزء الأول: الاصطلاح

سنناقش نظريّة الأمة هنا ولكن ليس لغايات هذا النقاش نفسه، بل لإيضاح مسألةٍ أخرى: مسألة أسباب البُنى «العميقة» للعنصرية المعاصرة. لقد أعادنا التفكير بالعنصرية إلى القومية، والقومية أعادتنا بدورها إلى الحيرةِ الكامنة في الوقائع التاريخية للأمة وتصنيفها. هذه الحيرة هي – بالطبع – نتيجة التأريخ الحديث، لأنّ حصره «موضوعات» دراسته، وتحقيباته الزمنية، واختياره للحدود الحيزية، أرست جميعًا أساسَ الخطاب السائد حول الأمة (وحول أممٍ معيّنةٍ على وجه التحديد). وفي نسخته الأقوى، يقول إنّ الأمم وحدها لها تاريخ، أي: سيرورات أو تحولات يمكن أنْ تُعطى «معنى» ما – الأمم أو «الخصوصيّات» الأخرى التي يمكن بناؤها بطريقة مماثلة. يمكننا أن نبيّن صحّة توصيفنا حتى حينما يميل التأريخ المعاصر، بانقطاعِه عن «تاريخانيّة» الحقب السابقة أو «وضعيتها»، إلى تركيز بحثه على التحولات الاجتماعية-الاقتصادية ذات المدى الطويل التي تظهر سابقة (en deçà) للتفرقة القومية. لكن صحة التوصيف تتبين حتى حينما يفضّل التأريخ التركيز على الظاهرة «الثقافية» أو دراسة «عقلياتٍ» يظهر عليها تعدّي (au delà) التفرقة القومية، عبر توظيف مجمَّعاتٍ أنثروبولوجية أوسع حجمًا وأقلّ تقيّدًا بالحدود «السياسية» (ما «الغرب»؟ من هؤلاء الذين ندرس أفكارهم عن الموت أو أنساقِ الزواج إنْ لم يكونوا الغلافَ الخارجي لطقمٍ معيّنٍ من الأمم؟).

سأتطرق بعد قليلٍ إلى المشاكل المحددة التي طرحها التأريخ الماركسي، لكنها لا تغيّر أساسيًّا أي شيء في هذا الصدد، نظرًا إلى حقيقةِ كونها أقيمت منذ بدايتها على قلبِ كلّ مفهومٍ على عقبه. ومع ذلك فما يجب أنْ تدل عليه قراءةٌ ناقِدة لخطابنا التاريخي الموروث – كما يبدو لي – ليس يوتوبيا التاريخ «غير-القومي». بل علينا البدء بأنْ نستوضح بدقّة الخطوط التي بنيت عليها «الأمة» الموضوع في بادئ الأمر (وبادئًا، بمناقشةٍ مفصّلةٍ لظروف وهيئات تعريفها المؤسسي)؛ من هنا يمكن لعِلم التاريخ أنْ يبدأ بتحليلِ قوميّته.

فلنبدأ أولًا – كما ينبغي علينا – بمفهوم الدولة. «حقيقتان» متناقِضتان تُؤكَّدان هنا. فمن جهة، يُقال إن الدولة الحديثة هي دولة-أمّة، أو دولة قومية. ومن جهة أخرى، يُقال إنّ التوافقَ بين «الدولة» و«الأمة» دائمًا منقوصٌ، نقصانًا متفاوت الدرجة بالطبع لكنّه دائم الحضور. والخلاصة هي أنَّ الدولَ تميلُ لأنْ تصير أممًا، لكنَّ الأمم لا تشكل دولًا في كل الحالات، أو أنّ الدول، على الأقل، لا توفي كافة أوجهها «السوسيولوجية».

ويبدو واضحًا أن تصور درجة التوافق يعتمد على الحقبة التاريخية، والمنظور الاجتماعي أو السياسي، والدور الذي يؤدّيه بناء أمّةٍ معيّنة في الحلبة الدولية، وهلم جرًّا. لكنّ كلتا الحقيقتين دائمًا معقولتانِ إلى درجةٍ ما، فهما تشيران – كما يبدو لي – إلى نفسِ الحقيقة. في استخدامنا الحديث (الذي تبلور في حقبة الثورات البرجوازية أو عُلِّم فيها، ابتداءً في القرن الثامن عشر)، تُقدَّم نشأة الأمم في التاريخ على هيئة تتابعٍ لتشكيلاتِ دولٍ أو محاولاتِ تشكيلِ دولة. وتلازمًا، كان صير هذه الدول دولًا قومية شرط تحويل نفسها – بنحوٍ كاملٍ تقريبًا – إلى ما نسمّيه بالدولة الحديثة: بأيديولوجيّتها وسيادتها الجمعية، وبعقلانيّتها الإدارية والقضائية، وبنمطها الخاص لضبط الصراعات الاجتماعية وتنظيمها، خصوصًا الصراعات الطبقية، وبأغراضها «الاستراتيجية» في إدارة موارد إقليمها وسكّانها لتحسينِ قوّتها الاقتصادية والعسكرية. هذا التلازم نفسه هو ما يحتوي جرثومة الإبهام في مفهوم «الدولة-الأمة»، ما يعني أنّ اتحادها دائم الانقسام إلى وجهين متعارضين.

ولذلك، في النهاية، فالأمم التاريخية هي مجتمعاتٌ تأخذ الشكلَ السياسيَّ لدولةٍ هي «قومية». وإمّا أنْ تجيء هذه الدول إلى الوجود «داخليًّا»، بشكلٍ يبدو مستقلًّا ذاتيًّا، بتماشٍ مع سيرورة تأميم الدولة المتموقعة أصلًا في ذاك الإقليم، أو تأتي إلى الوجود عبر حركاتٍ «قومية» (أو: «تحرّرٍ قومي»)، بالصراع ضد دولٍ قومية أخرى موجودةٍ أصلًا أو في طور التأسيس، أو ضدّ دولٍ سياسية «غير قومية» (مثل الإمبراطوريات «متعددة القوميات»، ما يُبدي هذه الأخيرة كشيءٍ عفا عليه الزمن). الواقع هو أنّ فكرة الأمم التي لا دولةَ لها، أو الأمم «السابقة» للدولة، هي تناقضٌ في المصطلحات، وذلك لأنّ الإطار التاريخي لأي تشكيلةٍ قومية دائمًا ما يتضمن دولةً ما (حتى لو لم تنحصر بالضرورة داخلَ حدود إقليم التشكيلة). لكن هذا التناقض تخفيه حقيقة أنّ الدول القومية – وتماسكها يعاني من صراعاتٍ داخلية تهدد بقاءها (صراعاتٌ مناطقية، وخصوصًا: صراعات طبقية) – تعزّي وجودها السياسي إلى اتّحادٍ «إثنيٍّ» أو «شعبيٍّ» سابقِ الوجود (إلى الماضي، وإلى أعماقِ المجتمع «المدني»). أو أنّ مثل هذه التجمّعات التاريخية، التي تصارع ضد دولٍ قوميّة، تبرّر حقّها في الاستقلال الذاتي برسم متّجهٍ مثالي يبدأ من أصلٍ أسطوريٍّ نسبيًّا (لغوي، ديني، ثقافي، عرقي) نحو نهايةٍ تُعتبر الإمكانية التاريخية العادية الوحيدة: خلقُ بُنيةِ دولة قومية خاصةٍ بها. بعبارةٍ أخرى، مهما «نجح» بناء دولة-أمةٍ أو «فشل»، ومهما كُبِحَ (لفترةٍ قد تكون طويلةً جدًّا)، يؤكَّدُ وجود تناغمٍ سابق التأسيس بين مجتمعٍ «قومي» ودولةٍ «حديثة»، ويُؤكَّدُ بالتزامن مع ذلك – ورغمًا عنه – الاستقلال الذاتي النسبيّ لكلٍّ منهما. ويضاف على ذلك أنّ كلًّا من هاتين (الدولة، الأمة) يمكن أن تخدم الأخرى بصفتها القطبَ النقيض للاتحاد الذي يحتاجه المجتمع ليتجاوزَ خصوماته.

لا بدّ أنّ هذه الانقسامات المتوازية تبقي مسألة الأصول دونما حسم، أي: أيّهما أتى أولًا؟ الأمة التي خلقت الدولة أم الدولة التي خلقت الأمة؟ وكأنّ أحد هاذين المفهوميْن أو الآخر، منبعثًا بإعجازٍ من الماضي بِهويّته الخاصة («فرنسية»، «ألمانية»، «جزائرية»)، وجب أنْ يكون نموذج الآخر أو سببه. هذه المعضلة، بدورها، تحثّ المؤرخين وعلماء الاجتماع على إقحام مفاهيم أخرى، مثل: الفكرة القومية (أو الوعي، أو الأيديولوجية، أو الثقافة)، أو على الطرف الآخر: الاقتصاد القومي (أو السوق، أو تقسيم العمل، أو التنميات غير المتكافئة). ومن المذهل حقًّا كيف تُستخدم مفاهيم كهذه لتدعيم أيٍّ من هاتين الإجابتين المعياريتين على مسألة الأصول: الدولة تخلقُ الأمة من فكرة، أو استجابةً لقيودٍ اقتصادية، أو الأمة تبني الدولة في سبيل تلبية حاجات وعيها الجمعي، أو سعيًّا وراء مصالحها المادية، وفي كلتا الحالتين الواحدة «مرآة» الأخرى.

في هذا الصدد، وجد التأريخ الماركسي نفسه في مفارقةٍ صعبة. لعلّنا توقّعنا منه التمكن من الخروج من هذه الدائرة (لعبة الصد والرد لتحديد موقع «أصول» الأمة في الدولة والعكس بالعكس) لسببين على الأقل:

        • المتغيِّر التفسيري المفتاح للماركسية هو الصراع الطبقي، وهو نوعٌ من الاحتراب التاريخي المتعامد مع فكرة الوحدة القومية (التي من السهل رؤية وظيفتها الدائمة، وإنْ اختلفت هيئتها: إضفاء طابع النسبيّة على أهمية الصراع الطبقي، إن لم تنكر وجوده بالجملة)

        • مشروعها النظري هو إعادة بناءِ منشأ الأشكال السياسية على أساسِ أسبابها المادية، الواقعة، في التحليل الأخير، في دينامية علاقاتِ الإنتاج.

    والحقّ يقال، ظلَّت النتيجة النهائية للتحليلاتِ الماركسية الكلاسيكية هي إعادة إنتاج البديلين المعياريين للتأريخ «البرجوازي» بِلُغةٍ مختلفةٍ: تذبذبٌ بين مقولةٍ وظيفيّةٍ (الأمة بصفتها التعبير عن التقسيم الرأسمالي للعمل، ومرحلةً محددةً في تطور القوى المنتجة، وأداةً للهيمنة البرجوازية) ومقولةٍ تاريخانيّة (الأمة وِحدةٌ أنثروبولوجية، استقرارها بحدّ ذاته يحملُ أثر التحديد العلويِّ على الصراع الطبقي، بتموينه بإطارٍ «طبيعي»، أو بالعكس: بأن يضيف عليه أثرَ هذه «الناجيات» المُخِلّ).

    تحت الضغط المستمر للأحداث المباشرة، والعجز المستشري عن التريّث في إجراء تحليلٍ موضوعي، مالت المناظرات الماركسية حول الأمة مرارًا نحو مأزق المنطق المتذبذب بين الجزم والنفي. وفي بعض الأحيان أعادوا تقديم الظاهرة التاريخية للجنسية أو الإثنية بصفتهما الطابق السفلي «الحقيقي» الذي استبدله صنفا الرأسمالية أو الاشتراكية بمجرّدات (ولكن هذا «الحقيقي» عُرِّفَ حينها بأشدِّ الطُرق تقليديّةً). وفي بعض الأحيان سعوا إلى اشتمال هذه الظواهر داخل مفهوم «الأيديولوجية»، إنما بتكلفة اختزالهما في الحالة العابرة للخطاب، أو شكل من أشكال الوعي، بل وحتى الوهم. وبالمثل، وباستثناء نقاشاتٍ وجيزةٍ بديعة، تحديدًا من غرامشي، تأرجح الماركسيّون بين موقفيْن متساويين في التجريد تجاه العلاقة بين البِناء القومي والصراع الطبقي. فإما نسبوا دورَ البَنَّاء القومي «الطبيعي» إلى طبقةٍ ما، وُهِبَت هويةً تاريخيةً مستقلةً ذاتيًّا (عادةً: البرجوازية، ومؤخرًا الفلّاحون أو حتى البروليتاريا)، أو وصفوا البِناء القومي بصفته الشكل التاريخي الذي في داخله – مجازيًّا أو حرفيًّا – يذوب الصراع الطبقي في تأسيس «شعبٍ كامل»، وِحدةُ مصالحه وثقافته تتغلب على تقسيماته الطبقية.[2] ومن النادر أن تمكّن التحليل من تجاوز هاذين المذهبين ودراسة الوحدة القومية بصفتها حقيقةً تاريخيّةً واقعُها مقسّمٌ بسبب الاستراتيجيات الطبقية المتخاصمة، أو بصفتها الأثر الطويل الأمد لتحوّلٍ متواصلٍ للهويات «الطبقية» والتوازنات غير المستقرة التي تتأسس بين مصالحٍ متعارضة.

    يمكننا بلا شك التفكير بأسبابٍ عدة وراء صمود هذا العائق الإبستمولوجي رغم كافة محاولات تجاوزه، أولها هو أنَّ الماركسية نشأت في وضعٍ سياسيٍّ – وضعُ النصف الأول من القرن التاسع عشر – حيث «المسألة الاجتماعية»، التي احتدّت بسبب الثورة الصناعية، نوقِشَت بصفتها مسألة مفهوميْنِ مُبَاشريِّ التعارض للتاريخ الكوني، إحداهما وريثُ الكوزوموبوليتانية الثورية والآخر توليفةٌ بين قوميةٍ ومُحَافظةٍ سوسيولوجية، فَطُرِحت «الطبقة» و«الأمة» كمرشّحيْنِ متنافسيْنِ على منصب «الذات التاريخية»، وعلى الواحد الاختيار بينهما. وعلى ذلك تضاف حقيقة أنّ الصراع بين البروليتاريا الثورية المنظَّمة والطبقات المسيطرة المتحكمة بدولةٍ صارت الآن مُؤسَّسَةً على شكل دولةٍ قومية، استلزمَ – تقريبًا – الالتباس التاريخي بين الأمة والدولة. وعندها لم تملك الماركسية خيارًا سوى تحديد تطلّعات «نهاية» الدولة القومية بـ «نهاية» الدولة بحد ذاتها. وعليه جُهِّزَ المسرح دون قصدٍ في داخلها لـ «العودة» – النظرية والسياسية – إلى الدولة والأمة، المرتبطتين دائمًا ارتباطًا لا ينحل. فبعد الرفض الأولي لصنفِ الأمة (حتى إنْ ظلّ كامنًا في تحليلات «التشكيلات الاجتماعية» وبرامجها الثورية)، أُجبِرَت بعدها على إعادة تنظيمه، بنحوٍ غير ناقد، على هيئة «واقع» لا يتزحزح، عبر التأميم اللاحق للبروليتاريا، والحزب، والدولة الاشتراكية.

    ورغم ذلك، ففي خضم المغامرات الشقية للماركسية في مواجهتها مع «المسألة القومية» طوال قرنين من التاريخ الاجتماعي، خضعت الماركسية في أثناءها للقومية، حتى حولت نفسها إلى نقيض الأخيرة، كاللغة الناجعة للقومية الثورية، في ذلك توجد إمكانيةٌ استثنائية لإعادة التفكير بأصنافنا التأريخية. وإعادة التفكير هذه يجب أن تكون ناقدة، ما يتضمن وجوب التفكيك الجذري لمفهوم «القومية التاريخية»[3] بصفتها تشويهًا للنضال الطبقي (بل واللحظة الأساسية لهذا التشويه) ومعه مفهوم «المادية التاريخية» في اختزاله العلاقات الاجتماعية في تمثيلٍ مجرّدٍ للخصومات الاقتصادية. هذا هو الاتجاه الذي أنوي انتهاجه، مُركّزًا التحليل على ما ظل النقطة العمياء لمواجهتهما.

    التشكيلة الاجتماعية، شكلُ الأمة، منظومة الدول

    نجد نقطة بداية لا غنى عنها في ثلاثة مفاهيمٍ عامة – تجريدات أولية. الأول هو التشكيلة الاجتماعية. في اللغة الموروثة من ماركس، ليس هذا المفهوم إلا التوأم العُلمائي لمفهوم المجتمع، أو المجتمع المدني. أي بالأحرى: إنه يتجاهل طبيعة المؤسسات السياسية، ومن ثم يضفي عليها الحالة المشتقَّة للبنى الفوقية. يَظلّ المفهوم حابلًا بثنائية المُنظِّرين الليبراليين، الذين يفرّقون بين الاجتماعي والسياسي. وبعيدًا عن ماركس، يحتوي المفهوم معنى آخر، هو الميزة التاريخية، إنما بتكلفة القبول البسيط والخالص بالكيانات المثالية التي تطرحها أيديولوجيات الدول. فحينما يتحدث المرء عن التشكيلة الاجتماعية «الروسية» أو «الفرنسية» أو «الصينية» وكأنها معطى طبيعي، معنى ذلك هو أنّ المرء قد أدرج بشكلٍ مباشر المسلَّمة القائلة بوجود الأمم العابر للتاريخ، جاعلًا إياها الإطار الذي ضمنه يحدث تاريخ أنماط الإنتاج. من الحريّ بنا استخدام التشكيلة الاجتماعية بمعنى: بناءٌ ذو اتحادٍ دائم الإشكالية، وترتيبٌ معني بطبقاتٍ اجتماعيةٍ متخاصمة منقوصُ الاستقلالية، لا يصير مميزًا إلّا نسبيًّا في تعارضه مع تشكيلات اجتماعية أخرى وعبر صراعات القوّة، ومجموعات المصالح والأيديولوجيات المتضاربة التي تنشأ على المدى الطويل عبر هذه الخصومة نفسها.

    المشكلة التي يطرحها وجود التشكيلات الاجتماعية ليست فقط مشكلة بدايتها أو نهايتها، بل هي أساسيًّا مشكلة إعادة إنتاجها، أي: الشروط التي فيها تحافظ على هذه الوحدة المتصارعة التي تخلق استقلاليتها على مدى حقبٍ تاريخيةٍ طويلة. والمسألة هي مسألة الشروط التي بموجبها، رغم الإزاحة المتواصلة للبنى الطبقية و«تمسّخها»، تظلّ كياناتٌ كهذه محدّدةً بـ «تخوم» لدرجة مواصلتِنا تسميتها بالاسم نفسه، وبالتالي نعطيها «هويّةً». مسمّياتٌ كهذه («فرنسا»، «ألمانيا»، «الولايات المتحدة الأمريكية») سياسيّةٌ بالطبع. وفي هذه الحالة: لن يقودنا مفهوم التشكيلات الاجتماعية إلى تصنيم الدولة أو الهوية القومية، لأنّه سيحثّنا على السؤال: لماذا، وفي حدود أي زمكان، اكتسبت الأسماء الخاصة بالدول هويّةً اجتماعيةً. فالتاريخُ مقبرةٌ ضخمة لأسماء دولٍ وأممٍ لم تكسب استقلاليّةً قط، أو خسرتها. لكنّ هذه المقاربة تلزمنا بتحليل «مركزية» الدولة في تاريخ العلاقات الاجتماعية، أي: أن ننظر إلى تحوّل الدولة لا بصفته ظاهرةً ثانويةً بل كـ «تقطيرٍ» لمختلف الخصومات الاجتماعية.

    إذن، أكرر هنا، هل كلّ تشكيلة اجتماعيّةٍ «قوميّةٌ» كما قد توحي لنا التصويرات السابقة؟ لا بالطبع. أولًا لما هو واضحٌ من وجود أشكالٍ سياسية متعددة تاريخيًّا، إما تتابعت أو تنافست مع بعضها البعض، قبل تبلور الدولة القومية وانتشارها من كيانٍ إلى آخر، وقادت إلى نشوء حركاتٍ جماعية «قومية» أو «دون-قومية» – وذلك إن تجاهلنا المسألة القديمة المعنيّة بـ «المجتمعات اللا-دولتية». ومن ثم، فالسبب الآخر هو أنّ شكل الدولة القومية، حتى يومنا الحاضر، أو على الأقل حتى وقتٍ قريبٍ منه، لم يكن الشكل الوحيد الموجود. وإن لم نضع ذلك بعين الاعتبار لن نتمكن من استيعاب تطوّره غير المتكافئ – الذي نسجّله لاحقًا بالقول إنّ بعض الدول أكثر «تقدّمًا» وأخرى أكثر «تخلّفًا» في بناء الأمة – وفي المقام الأول، لن نفهم المقاومات والصراعات العنيفة البارزة المحيطة بهكذا بناءٍ للأمة (يمثل الاستعمار وإلغاء الاستعمار صراعاتٍ كهذه، أو يشعلانها، لكنهما ليسا اللحظتين الوحيدتين لذلك، رغم بروزهما الاستثنائي). وأخيرًا، لا شكّ أنّه من الوارد أنّنا نشهد اليوم بأعيننا خلقَ تشكيلات اجتماعية «ما-بعد قومية» نسعى لتوقُّعِ مستقبلها ونحاول تحديد أشكالها (عابرة للقوميات؟ فوق-قومية؟).

    لكي نزيد من ملموسية الفكرة العامة جدًّا للتشكيلة الاجتماعية، نحتاج إلى مفهومٍ آخر: شكل الأمة. علينا التأمل في البروز التدريجي لشكل الأمة في التاريخ: «مكانُه» والشروط التي ينشأ منها، وأسباب انتشاره وتنوّعاته. مثلما الأمر عليه في مسائل التصنيف التاريخي، نُبحر هنا بين ضحضاحيّ الجوهرانية والشكلانية. فشكل الأمة بالتأكيد لم يظهر من العدم، متشكّلًا بِكمالٍ (حتى لو وجدت نماذج أولية بمعنى ما، أدت دورًا حاسمًا في إعطائه اسمه). لكنّه لم يكن لامتناهي البلاستيكية (حتى لو أنّ توازن القوى في العالم، صار بعد لحظةٍ معينة – قريبة نسبيًّا – على نحوٍ تغلَّب فيه نموذج «العلاقات الدولية» واستلزمَ كونَنَة بناء-الدولة واستقلالية التشكيلات الاجتماعية). أؤمن أنّ ممرًا وسيطًا معقولًا بين هاذين الضحضاحين يمكن أن نجده لو سمحت لنا فكرة «شكل الأمة» بتبيان التالي ومَفْصَلَتِه:

          • تحليلات السيطرة – أن نفهم لماذا صارت أشكالٌ سياسية معيّنة تسيطر على أخرى، فإما تلغيها أو تسخرها لإعادةِ إنتاجها؛

          • تحليل المُتّجهات المتحولة – أن نفهم سبب امتناع الهويات التاريخية للتشكيلات الاجتماعية الحديثة، رغم تحركها باتجاه التشابه مع بعضها البعض، عن الالتمام الكامل في حيّزٍ «عالميٍّ» متجانسٍ واحد، مع أنّ الضخّ الرئيس للاقتصاد الرأسمالي، القوّة الرئيسة في إلغاء بنية العلاقات الاجتماعية القائمة، هو تنظيم نفسه على هيئة اقتصادٍ عابرٍ للأمم؛

          • تحليلات الانتقال – ولست فقط أعني (ما سأناقشه أدناه من) حاجتنا إلى فهم ماهية الطريقة التي «يرسخ» بها شكل الأمة تغييراتٍ اجتماعيةٍ معيّنةٍ (ما يفسّر هالة الدوام، الوهمية جزئيًّا، التي يضفيها على تاريخ التجمّعات البشرية)، بل وماهية طريقة تأمينه المرور من عالمٍ تاريخيٍّ إلى آخر، من عالم ما قبل الأمم إلى عالم ما بعدها، دون أن نحاول فرض نموذجٍ جاهز التأسيس على هذا التطوّر.

      حينما أتحدث عن شكل الأمة بصفته الشكل المسيطر لما يسمّى «تحديث» (modernization) التشكيلات الاجتماعية، وعن كونه شكلًا من أشكال الانتقال التاريخي، فأنا أكرر: لست أفكّر بمجموعةٍ من سماتِ شكل الأمة، بل بالمسائل التي علينا الإجابة عليها لإعطاء هذا المفهوم اتّساقًا نظريًّا. لكن هذه المسائل مرتبطة بمفهومٍ ثالث، وهو: منظومة الدول، أو للدقة: منظومة الدول المتنافسة، فهي علاقةٌ مضطربة لتوازنٍ تصارعي.

      إنْ احتجنا دليلًا على أنّ لهذه المنظومة وقعٌ لا مفر منه، فسنجده في شكل الحرب الذي صار اعتياديًّا في عصر الدول القومية، الحروب على الأقاليم والحروب الاقتصادية والثقافية، أي: حروبٌ «شاملة» تُكرَّس في سبيلها كافة الموارد المادية والأخلاقية بما قد يشمل كل السكّان، بتأثير ارتدادي حال خلق اتّحادٍ سياسي. هذا النوع من الحروب لم تألفه لا مدن العصور القديمة ولا حتى الإمبراطوريات أو الكيانات السياسية التي وحّدتها الأديان «الكونية» للعصور الوسطى (بحروب وراثة العروش، والحروب السلالية، والحروب المقدسة). ولعل شكل الحرب هذا قد يبلغ حدوده التاريخية اليوم، إنما مع عددٍ لامتناهٍ من «الناجيات».[4]

      ما يدخل مجال رؤيتنا عبر ذلك أولًا، هو أنّ شكل الأمة لا يتحقق إلّا داخل تعدّديةٍ للأمم. ومن ثمّ إنّ التطابق بين شكل الأمة وكل الظواهر الأخرى التي يميل إليها، يحمل كشرطه المسبق تقسيمًا كاملًا (لا «يغفل» شيئًا) وغير متداخل لأقاليم العالم وسكّانه (ومن ثم: موارده) بين الكيانات السياسية، إلى درجةٍ لا تهرب عندها أيّ «مِلكية» اجتماعية – مادية أو فكرية – من التحديد القومي ولا يمكن أنْ يعتليها تحديدٌ قوميٌّ آخر. لكلِّ فردٍ أمّةٌ، ولكلِّ أمّةٍ أبناؤها (nationals). وقد كان مبدأ «لكل إقليمٍ دينه» (cuius regio eius regio) أصلًا خطوةً في هذا الاتجاه، استبدله «مبدأ الجنسيّات» المستند إلى التطابق المثالي للشعوب، والدول، واللغات، والعُملات، وهلم جرًّا. وأخيرًا، لقد كانت حقيقةُ الاستحالة التاريخية لتقسيمٍ دقيقٍ كهذا – بسبب تخالُج الحدود اللغوية، والهجرة، والمزاعم السلالية، والصراعات حول المستعمرات، والثورات، وحروب الدين، وهلمّ جرًّا – هي ما جعل الشكل العام لتاريخ الدول القومية هو عدم استقرار حدودها وتوالي «إعادة رسمها»، بما يحمله ذلك من وقعٍ مباشرٍ على التصوّر الخارجي والداخلي لـ «الهوية القومية». في مدن العصور القديمة كانت التخوم غير قابلةٍ للتغيير. وأما «الاستعمار» فقد نُفِّذ عبر خلق مدينة جديدة. وفي الإمبراطوريات القديمة التي – بالعكس تمامًا – وسّعت هيمنتها على أقاليم وجَمْهَراتٍ لامتجانسة، ظلَّت فكرة التخوم أساسيًّا غير دقيقة، متّصلة بمتسلسلةِ درجاتٍ من الولاء والخراج، يتكرر إبطالها وإعادة تأسيسها على خطوطٍ جديدةٍ تمامًا، تارةً على مرِّ قرون، وتارةً في يومٍ واحد. (على هذا النحو، يمكن أنْ تمر مصر، بعد تدمير إمبراطوريتها، من يدِ الفرس إلى الإغريقيين، ومن الإغريقيين إلى الرومانيين، وإلى العرب، ومن ثم الأتراك). كان عصر الدول القومية – بإمبرياليّتها الخاصة – عصر «تقسيم» العالم بين مراكز متنافسة لـ «تأميم» المجتمع (أي: تأميم الأفراد فيه)، هي – بتزامنٍ – مراكز استغلال القوى العاملة و«تسليع» العلاقات الاجتماعية. وسُمِّيَت التخوم تخومًا «طبيعية».[5]

      مغزى كل هذه الاعتبارات الاصطلاحية هو تجهيز المسرح للنقاش. فإن أردنا صوغ مقترحاتٍ أدق، علينا الاتجاه إلى تاريخ شكل الأمة.

      الجزء الثاني: التاريخ

      يُقدَّم لنا تاريخُ الأمم – بما فيها أمتنا – دائمًا وأصلًا على شكل سردية تضفي على هذه الكيانات صفة استمرارية الذات. ولذلك يبدو تشكيل الأمة بصفته تحقيقًا لـ «مشروعٍ» يمتدّ لعدة قرون، فيه مراحل مختلفة ولحظات فورةِ الوعي بالذات، تَقطفُ منها تحيّزاتُ مختلفِ المؤرخينَ هذه اللحظة أو تلك وتصوّرها كاللحظة الحاسمة (فأين نضع، مثلًا، أصول فرنسا؟ عند أجدادنا الغول؟ أو عند المملكة الكابيتية؟ أم ثورة 1789؟) لكنها جميعًا، على أي حال، تقع ضمن مُخطّط (schema) متطابق: مُخطَّط التمظهر الذاتي للشخصية القومية. من الجلي أن تمثيلًا كهذا يشكل وهمًا بأثر رجعي، لكنه يعبّر عن حقائق مؤسسية مُقيِّدة أيضًا. هذا الوهم وهمٌ ثنائي. إنه يتكون من الاعتقاد بأن أجيالًا تلت أجيالًا على مر القرون، في أرضٍ ثابتة إلى حد معقول، وبمسمى معناهُ واحدٌ إلى حد معقول، أورثوا بعضهم البعض جوهرًا لا-متغيرًا. ويتكون من الاعتقاد بأنّ سيرورة التطوّر التي ننتقي منها جوانب بأثرٍ رجعي، لنرى أنفسنا كذروة تلك السيرورة، إمكانها الوحيد، تمثل مصيرًا. فالمشروع والمصير رمزان متوازيان في وَهمِ الهوية القومية. ليس عند «فرنسيي» 1988 – والثلثُ منهم رُبعُ أجدادهِ، على الأقل، «أجانب»[6] – ما يوصلهم جماعيًّا بالملك لوي السادس عشر (ناهيك عن الغول) ما عدى تَتابع أحداثٍ عَرَضية لا علاقة لمسبباتها لا بِمصير «فرنسا»، ولا بِمشروع «مَلِكها» أو حتى بطموحات «شعبها».

      لكن هذا النقد لا يجب أن يزيغ بصرنا عن القوة – المحسوسة حتى يومنا هذا – لأساطير الأصول القومية. والحقّ أن الثورة الفرنسية إحدى الأمثلة القاطعة على ذلك، بدليل ما تسخّر له من استحواذات متناقضة. فمن الممكن القول (على خطى هيغل وماركس) إنه في تاريخ كل أمة حديثة، حيثما ينطبق الوصف، يستحيل وجود أكثر من حدثٍ ثوريٍّ تأسيسيٍّ واحدٍ (ما يفسر الرغبة الدائمة بتكرار أشكاله، وتقليد حلقاته وشخصياته، والرغبة الكامنة لدى الأحزاب «المتطرفة» بقمعه، إما من خلال إثبات أن الهوية القومية مشتقة مما قبل الثورة أو من خلال التطلع لتحقيق تلك الهوية عبر ثورةٍ جديدة تُكمِّل عمل الأولى). وإنْ سهل علينا رؤية أسطورة الأصول والاستمرارية القومية وهي تُرسَى في التاريخ المعاصر للأمم «الشابّة» (مثل الهند أو الجزائر) التي أتت مع نهاية الاستعمار، فنحن نميل إلى نسيان أنها لُفِّقَت على مر القرون الأخيرة في حالة الأمم «القديمة» أيضًا؛ هذه الأسطورةُ شكلٌ أيديولوجيٌّ فعّالٌ، إذ بها تُبنى الفَرَادةُ المتخيَّلة للتشكيلات القومية يوميًّا عن طريق الرجوع من الحاضر إلى الماضي.

      من الدولة «ما-قبل القومية» إلى الدولة-الأمة

      كيف لنا أن نأخذ هذا التشويه في الحسبان؟ إن «أصول» التشكيلة القومية ترجع إلى عددٍ من المؤسسات المنتمية إلى فتراتٍ تاريخية كبيرة التباعد والاختلاف، وبعض هذه المؤسسات طاعنٌ في القدم. ففي أوروبا، تعود مؤسسة لغات الدولة إلى العصور الوسطى العليا، وهذه المؤسسات ابتدأت لأغراض إدارية صرفه، ومن ثم أصبحت لغات الأرستقراطية، وهي لغاتٌ متمايزة عن اللغات المقدسة لِرجال الدين وعن اللهجات «المحلية». وهي متّصلة بالسيرورة التي غدت بها السلطة المَلكية مستقلةً ومقدسة. وعلى منوالٍ مشابه، أفضى التشكّل التصاعدي للمَلَكية المطلقة إلى الاحتكار النقدي، والمَرْكَزة الإدارية والمالية، ونسبيًّا إلى درجةٍ من توحيد معايير النظام القانوني و«التهدين» الداخلي. وأدى كل ذلك إلى خلق ثورةٍ في مؤسستيّ الحدود والإقليم. وقد ساهم عصرا الإصلاح والإصلاح المضاد في تعجيل نقلةٍ من تنافس الكنيسة والدولة (تنافس بين الدولة الكَنَسِيّة والدولة العلمانية) إلى تكاملهما (في الحالة القصوى، على شكل دينِ الدولة).

      تبدو لنا كل هذه البنى – بأثر رجعي – كبنى ما-قبل قومية، لأنها أتاحت إمكانَ سماتٍ معيّنة للدولة-الأمة، ولأنها أُلحِقت بها في آخر المطاف، بدرجاتٍ متنوعة من التعديل. يمكننا إذن الإقرار بحقيقة أن التشكيلة القومية نتيجةُ «ما-قبل تاريخ» طويل. ولكنّ التاريخ الماقبليّ هذا يختلف في سماته الجوهرية عن الأسطورة القومية للمصير الخطّي. أولًا، إنه مكوّنٌ من عدّةِ أحداثٍ متمايزة عن بعضها البعض نوعيًّا ومتباعدة زمنيًا، ولا يقتضي أيٌّ منها أيَّ حدثٍ يليه. ثانيًا، لا ينتمي أيٌّ من هذه الأحداث في طبيعته إلى تاريخ أمّةٍ محتومة واحدة. فقد حصلت هذه الأحداث في إطار وِحداتٍ سياسية غير تلك التي تبدو لنا اليوم مُنعمةً بشخصية إثنية أصلية (مثلما استبقت أجهزةُ الحقبة الاستعمارية للقرن العشرين أجهزةَ دول «الأمم الشابة»، شهدت العصور الوسطى الأوروبية نشأةَ الخطوط الأولية للدولة الحديثة في إطار «صقلية»، «كتلونيا»، أو «برغونية»). ولا تنتمي هذه الأحداث بطبيعتها حتى إلى تاريخ الدولة-الأمة، بل إلى أشكال أخرى غريمة (مثل الشكل «الإمبراطوري»). فمسلكها ليس ملسك تطوّرٍ ضروريٍّ، بل سلسلة علاقاتٍ ظرفية نُقشَت لاحقًا في ما-قبل تاريخ شكل الأمة. إنّ السمة المميزة للدول بكافة أنواعها، هي تمثيل النظام الذي تؤسسه كنظامٍ سرمدي، رغمَ أن الممارسة تبين أن العكس هو الصحيح، بشكل أو بآخر.

      تظل الحقيقة أن كل هذه الأحداث، بشرط تكرارها، أو إلحاقها ببنى سياسية جديدة، أدَّت فعليًّا دورًا في تكوين التشكيلات القومية. وسبب ذلك بالتحديد هو السمة المؤسسية لهذه الأحداث، وحقيقة دفعها الدولة للتدخل بالشكل الذي اتخذته في لحظة محددة. بعبارة أخرى، أنتجتْ أجهزةٌ غير قومية للدولة، في أثناء سعيها وراء أهداف أخرى تمامًا (سُلالية مثلًا)، الدولةَ-الأمة تدريجيًّا، أو فلنقل: إنّها «أُمِّمَت» قسرًا وشَرَعت بتأميم المجتمع – ونجدُ أمثلةً على ذلك في إعادة إحياء القانون الروماني، والميركانتيلية، وترويض الأرستقراطيات الإقطاعية. وكلما نقترب من الفترة الحديثة، تبدو القيود المفروضة عبر تراكم هذه العناصر أعظمَ، وهذا ما يثير مسألةً محورية: مسألة عتبة اللا عودة.

      عند أي لحظة اختُطيت هذه العتبة ولأيّ سببٍ كان؟ أو بالأحرى: ما الحدث الذي سبّبَ، من جهة، نشأة إعدادٍ لمنظومة الدول السيادية، وسبّب، من جهةٍ أخرى، فَرْضَ الانتشار التدريجي لشكل الأمة على كل المجتمعات البشرية تقريبًا، على مر قرنين من الصراع العنيف؟ أُقرُّ بأن هذه العتبة – التي يتعسر بديهيًا تعريفها بتاريخٍ وحيد[7] – تتوافق مع تطوّر بنى السوق والعلاقات الطبقية الخاصة بالرأسمالية الحديثة، وتتوافق تحديدًا مع تكديح القوى العاملة بالإضافة إلى سيرورةٍ استخرجت أعضاء هذه القوى تدريجيًا من العلاقات الإقطاعية والنقابية القديمة. لكن هذه المقولة الشائعة القبول بحاجة إلى تقويمٍ من عدة نواحي.

      من المستحيل «استنباط» شكل الأمة من علاقات الإنتاج الرأسمالية، فالتدوير النقدي واستغلال العمل المأجور لا يستلزمان شكلًا واحدًا محتومًا للدولة. وأضيف على ذلك أنَّ حيّز التحقيق الذي تتضمنه مراكمة (السوق الرأسمالي العالمي) يضمر ميلًا جوهريًا لتجاوز أيّ حدود قومية قد تُؤسسها قطاعاتٌ محدَّدة من رأس المال الاجتماعي أو تفرضها وسائل «لا-اقتصادية». هل من الجائز، في هذه الشروط، أن نبقي على نظرتنا لتشكيل الأمة بصفته «مشروعًا برجوازيًّا»؟ يبدو من الممكن أنَّ هذه الصيغة – التي نهلتها الماركسية من الفلسفات الليبرالية للتاريخ – هي الأخرى أسطورةٌ تاريخية. ولكن يبدو أننا قد نتجاوز هذه الصعوبة إنْ عُدنا إلى منظور بروديل وَوالرشتاين، الذي يرى أنَّ تأليفَ الأمم ليس معقودًا بتجريد السوق الرأسمالي، بل بشكله التاريخي الملموس: أي «الاقتصاد العالمي» الذي هو دائمًا وأصلًا مُنَظّمٌ هرميًّا إلى «مركز» و«طرف»، لكلٍّ منهما طرقٌ مختلفة للمراكمة واستغلال قوة العمل، وبينهما تتأسس علاقاتٌ غير متكافئة للمبادلة والسيطرة.[8]

      انطلاقًا من المركز، تتشكل الوحدات القومية من البنية الكلية للاقتصاد العالمي بوصفها وظيفةً للدور الذي تؤدينه في تلك البنية في فترة معينة، أو تحديدًا: تتشكل الوحدات ضد بعضها البعض كأدواتٍ متنافسة في خدمةِ سيطرة المركز على الطرف. هذا التقويم الأول تقويمٌ محوري لأنه يستبدل الرأسمالية «المثالية» عند ماركس – وتحديدًا عند علماء الاقتصاد الماركسيين – بـ «رأسمالية تاريخية»، حيث تؤدي الأشكالُ المبكّرة للإمبريالية وتَمفصُلُ الحروبِ مع الاستعمار دورًا حاسمًا. إلى حدٍّ ما، كل أمة حديثة هي نتيجةُ الاستعمار، أي أنها دائمًا ما كانت، إلى درجةٍ ما، مستعمَرة أو مستعمِرة، وأحيانًا الاثنين معًا.

      لكن من الضروري إجراء تقويمٍ آخر: فيما يتعلق بتاريخ الرأسمالية، تكمن إحدى أهم مساهمات بروديل وَوالرشتاين في تَبْيانهما نشوءَ أشكال أخرى للدولة غير الدولة-الأمة،وتنافس هذه الأشكال الأخرى مع الدولة-الأمة لوهلة، حتى قُمِعَت أو سُخِّرت أداةً لها، مثل شكل الإمبراطورية، أو الشكل الأهم: شكل المجمع التجاري-السياسي العابر للحدود، المتمركز حول مدينةٍ واحدة أو أكثر.[9] يبين هذا الشكل لنا عدم اقتصار الأشكال السياسية البرجوازية على شكلٍ سياسي واحد «برجوازي» الجوهر (ولنا أنْ نستدل على ذلك في الرابطة الهانزية، ولعلّنا نعثر على مثالٍ أفضل في تاريخ الأقاليم المتحدة في القرن السابع عشر، فقد حَدَّدهُ تحديدًا وثيقًا هذا البديل الذي انتشرت أصداؤه في كامل حياتها الاجتماعية، بما في ذلك الدينية والفكرية). بعبارة أخرى، يبدو أن هذه البرجوازية الرأسمالية الناشئة «ترددت» – اعتمادًا على الظروف – ما بين أشكال عديدة للهيمنة، أو فلنقل: وُجِدت برجوازيات مختلفة، كلٌ منها متصلة بقطاعٍ مختلف من قطاعات استغلال موارد الاقتصاد العالمي. وإن كانت «البرجوازيات القومية» قد انتصرت فعلًا في آخر المطاف حتى قبل الثورة الصناعية (رغم أنّ انتصارها كان على حساب «التأخر الزمني» و«المساومات» وبالتالي الاندماج مع الطبقات المُسيطِرة الأخرى)، فسبب ذلك على الأرجح هو حاجتها لاستخدام القوات المسلحة – خارجيًّا وداخليًّا – للدول القائمة، وكونها احتاجت لإخضاع طبقة الفلاحين للنظام الاقتصادي الجديد ولاختراق الريف، مُحوِّلةً إياه إلى سوق تُستهلَكُ فيها البضائع الصناعية ويتوفّر فيها احتياطيّ قوة عمل «حرة». وفي التحليل الأخير، ما يفسر تكوين الدول-الأمم، كلٌّ بتاريخها الخاص، والتحويلَ المصاحب للتشكيلات الاجتماعية إلى تشكيلات قومية، هو الإعدادات الملموسة للصراع الطبقي، وليس المنطق الاقتصادي «النقي».

      تأميم المجتمع

      الاقتصاد العالمي ليس منظومةً مُنظَّمةً ذاتيًّا ومتماهية عالميًّا، ولا يمكن اعتبار تشكيلاتها الاجتماعية مجرد آثار محلية. إنها منظومة قيود خاضعة لديالكتيك تناقضاتها الداخلية الذي لا يمكن توقعه. من الضروري عالميًّا، وبما يتضمن حيّز المراكمة بأكمله، أن يُمارسَ التحكمُ بتدوير رأس المال في المركزِ، لكن شكل تفعيل هذا التركّز لم ينفكّ قطّ محلًّا للصراع. إنَّ الوضع المتميز لشكل الأمة مُشتقٌّ من حقيقة أنّ هذا الشكل – محليًّا – أتاح التحكّم بالصراعات بين طبقات غير متجانسة (على الأقل لفترة تاريخية كاملة)، ولم يُتِح فقط تكوين «طبقة رأسمالية» من هذه الصراعات، بل أتاح تكوين البرجوازيات الحقَّة أيضًا: برجوازياتُ دولٍ قادرة على الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية، وهذه البرجوازيات هي، بدورها، نِتاجٌ لهذه الهيمنة أيضًا. إن البرجوازية المسيطِرة والتشكيلات الاجتماعية البرجوازية شكّلت بعضها البعض تبادليًّا في «سيرورةٍ بِلا ذات»، وذلك عبر إعادة بناء الدولة في الشكل القومي وعبر تعديل حالة كافة الطبقات الأخرى. وذلك يفسّر تزامن نشأة القومية والكوزوموبوليتانية.

      مهما كانت بساطة هذه الفرضية، فلها أثرٌ جوهريٌّ واحدٌ على تحليل الأمة كشكلٍ تاريخي: علينا تركُ مخطّطات التطوّر الخطّي، وَدون رجعة، ليس فقط فيما يتعلق بأنماط الإنتاج، بل فيما يتعلق بالأشكال السياسية أيضًا. لا مانع الآن إذًا من إجراءِ مراجعةٍ لاحتماليّة تشكيل بُنى دولةٍ غريمةٍ للدولة-الأمة في مرحلة جديدة من الاقتصاد العالمي مرةً أخرى. يحمل وهمُ التطور الخطي الأحادي الضروري للتشكيلات الاجتماعية، واقعًا، ارتباطًا ضمنيًّا وثيقًا مع القبول دونَ تمحيص بالدولة-الأمة كـ «الشكل النهائي» للمؤسسة السياسية، مصيرها هو التخليد المؤبد (إذ لم تحل محلها «نهاية الدولة» المفترضة).[10]

      سنستهدف هنا إبراز اللا-حتمية النسبية لِسيرورة تكوّن شكل الأمة وتطوّره، ولذلك سنقارب الموضوع من منظور سؤالٍ واعٍ باسثتارته: عمَّن فات الأوان اليوم؟ أو بعبارة أخرى رغم القيود العالمية للاقتصاد الدولي ونظام الدول الناتج عنه، ما التشكيلات الاجتماعية التي لم يعد ممكنًا تفعيل تحويلها الكامل إلى أممٍ إلا بالمعنى القانوني المحض وبتكلفة صراعاتٍ لا منتهية لا تقبل الحسم؟ يستحيل بلا شك إعطاء جوابٍ بديهي، أو حتى جواب عام، لكن من الجلي أنَّ السؤال لا يَبرز فقط فيما يتعلق بـ «الأمم الجديدة» التي تكونت بعد إلغاء الاستعمار وتدويل رأس المال والاتصالات، وإنشاء آلات حرب كوكبية وما إلى ذلك، بل حتى فيما يتعلق بـ «الأمم القديمة» المتأثرة اليوم بنفس الظواهر.

      قد يجنح الفرد للقول إنه فات الأوان بالنسبة لتلك الدول المستقلة، المتساوية رسميًا، صاحبة التمثيل في المؤسسات المسمّاة بالـ «أممية« على وجه التحديد، لأنْ تصبح جميعها أُممًا متمركزة على ذاتها، كل واحدةٍ بِلغة (أو لغاتٍ) قوميةٍ ثقافية وإدارية وتجارية، وَبِقواها العسكرية المستقلة، وسوقها الداخلي المحمي، وعملتها وشركاتها المتنافسة على المستوى العالمي، وتحديدًا: بِبرجوازيتها الحاكمة (سواءً أكانت برجوازية رأسمالية خاصة أو نومنكلاتورا دولة)، إذ أنّه مهما كانت الاختلافات، فكل البرجوازيات هي برجوازيات دولة. ومع ذلك، قد يجنح الفرد لقول العكس أيضًا: لم يعد اليوم مجالُ إعادةِ إنتاج الأمم وَنَشرِ شكل الأمة مفتوحًا إلا في الأطراف وأشباه الأطراف القديمة، وأمّا فيما يتعلق بـ «المركز» القديم فقد دخل بدرجات متفاوتة في مرحلةٍ جديدة من انحلال البُنى القومية التي كانت مرتبطة بأشكال السيطرة القديمة، حتى إن كانت نتيجة هكذا انحلال بعيدة المنال وغير مؤكدة. ولكن يبدو جليًّا – إنْ قَبِل المرء بهذا الفرض – بأن أممَ المستقبل لن تكون مثل أممِ الماضي. وما نشهده اليوم من تصاعد عامٍّ للقومية (في الشمال والجنوب والشرق والغرب) لن يمكّننا من حل معضلاتٍ كهذه: إنها جزء من الكونية الشكلية للمنظومة الأممية لِلدول. مهما كانت لغة القومية المعاصرة، فهي لا تفصح عن أي شيء بشأن العمر الحقيقي لشكل الأمة نسبةً إلى «الزمن العالمي».

      في الواقع، إن سلّطنا بعض الضوء على هذا السؤال، فعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار سمةً إضافية لتاريخ التشكيلات القومية: أسمّيها التأميم المتأخر للمجتمع، وهو يتعلق بادئًا بالأمم القديمة نفسها، وتأخيره يبلغ درجةً تجعله يبدو كمهمة لا نهاية لها. لقد بيّن مؤرخون مثل يوجين ويبر (مثلما بيّنت دراسات لاحقة أيضًا) أنَّ التعليم العام وتوحيد العادات والمعتقدات عبر الهجرة العمّالية العابرة للأقاليم والخدمة العسكرية، وإتباع الصراعات السياسية والدينية بالأيدولوجية الوطنية، لم يحدث في فرنسا إلا مع بواكر القرن العشرين.[11] فدراسته تشير إلى كون طبقة الفلاحين الزراعية لم «تُؤَمَّم» إلا عندما شارفت على الاختفاء كطبقة الأغلبية (رغم أن هذا الاختفاء – كما نعلم – أخّرته الحمائية، وهي سمة جوهرية للسياسات القومية). وتبيّن أعمال جيرارد نويريل الأخيرة بدورها أنَّ «الهوية الفرنسية» ظلت منذ نهاية القرن التاسع عشر معتمِدةً باستمرارٍ على القدرة على إدماج الفئات المهاجرة، ما يثير مسألة ما إذا كانت تلك القدرة قد شارفت على بلوغ حدودها اليوم أو ما إذا كان من الممكن واقعًا مواصلة ممارستها بالشكل نفسه.[12]

      في سبيل تحديد أسباب الثبات النسبي للتشكيلة القومية، لا تكفي الإشارة إلى العتبة الأولية لنشأتها. علينا أن نسأل أيضًا: أنّى لها أن تغلبت على مشاكل النمو غير المتكافئ بين المدينة والريف، وعلى مشاكل الاستعمار وإلغاء الاستعمار، والحروب والثورات التي أشعلتها أحيانًا، وتأليف الكتل العابرة للقوميات وما إلى ذلك، فهذه كلها أحداثٌ وسيروراتٌ تضمنت – على الأقل – خطر انزلاق الصراعات الطبقية إلى خارج الحدود الممكن في داخلها تقييدها بسهولة نسبية بـ «إجماع» الدولة القومية. يمكننا القول إنّ ما أتاح حلّ التناقضات التي جلبتها الرأسمالية في فرنسا – مثلما في التشكيلات البرجوازية القديمة الأخرى وإنْ باختلافات ضرورية – والبدء في إعادة تكوين شكل الأمة في نقطةٍ لم يكن قد اكتمل فيها حتى (أو ما منعه من التفكك قبل اكتماله) هو تأسيس الدولة الاجتماعية-القومية، أي: تأسيس دولة «تتدخّل» في صُلب إعادة إنتاج الاقتصاد وخصوصًا في تشكيل الأفراد وبُنى الأسرة وبُنى الصحة العامة وفي كامل حيز «الحياة الخاصة» بشكل أعم. وهذا ميلٌ كان حاضرًا منذ بدايات شكل الأمة (وهي نقطةٌ سأعود إليها أدناه) لكنه أضحى مسيطرًا في القرنين التاسع عشر والعشرين، ونتيجته هي الإتباع الكامل لِوجود الأفراد، من كل الطبقات، إلى حالتِهم كمواطني الدولة-الأمة، أي إلى واقع كونهم «أبناء الأمة» (nationals).[13]

      إنتاج الشعب

      لا تعيد تشكيلة اجتماعيةٌ إنتاج نفسها كأمة إلا إلى الحد الذي يُؤسَّس فيه الفرد، من خلال شبكة أجهزة وممارسات يومية، كالإنسان الأممي1 الإنسان الأممي أو الإنسان ذو الأمة: فكرة تقول بأنّ لكلِّ إنسانٍ أمة. (homo nationalis) من المهد إلى اللحد، في نفس الوقت الذي يؤسَّس فيه كالإنسان الاقتصادي، السياسي، الديني . . . لهذا السبب تصبح مسألة أزمة شكل الأمة، إن غدت الآن مفتوحة، في نهاية المطاف مسألة تحديد تلك الشروط التاريخية التي تمكّن تأسيس شيء كهذا: بمقتضى أي علاقات قوة داخلية وخارجية؟ وبمقتضى أي أشكال رمزيةٍ مستثمَرةٍ في ممارسات مادية أولية؟ إن طرح هذه المسألة هي طريقةٌ أخرى لسؤال أنفسنا عن النقلة الحضارية التي يترافق معها تأميم المجتمع، وعن هيئات الفردانية التي تتحرك بينها الجنسية (nationality).

      وهنا نصل إلى النقطة المحورية: ما الذي يجعل من الأمة «جماعة»؟ أو فلنقل، بأي طريقة يتمايز شكل الجماعة التي تؤسسها الأمة تحديدًا عن غيرها من الجماعات التاريخية؟

      فلنستغني سريعًا عن المتضادّات المرتبطة تقليديًّا بذلك المفهوم، وأولها التضاد بين الجماعة «الحقيقية» و«المتخيلة». كل جماعة اجتماعية تنتجها وظائف المؤسسات هي جماعة متخيلة، أو بالأحرى: يستند هذا المفهوم على إسقاط الوجود الفردي على نسيج سردية جمعية، وعلى الإقرار بِاسمٍ شائع وتقاليدَ عاشوها كأثرٍ لتاريخ لا تُذكر بدايته (حتى حين تكون مختلقة ولم تطبع إلا في الماضي القريب). لكن ذلك يؤدي في النهاية إلى القبول بأنه، في شروطٍ معينة، وحدها الجماعات المتخيلة حقيقية.

      في حالة التشكيلات القومية، المتخيل الذي ينقش نفسه في الحقيقي بهذه الطريقة هو «الشعب». إنه جماعة تقر بنفسها سلفًا في مؤسسة الدولة، تقر بأن الدولة هي «دولتها» خلافًا للدول الأخرى، بل تنقش نضالاتها السياسية تحديدًا داخل أفق الدولة – عبر تشكيل طموحاتها للإصلاح والثورة مثلًا كمشاريع لتحويل «دولتها القومية». بدون ذلك، لا يمكن لـ «احتكار العنف المنظم» (ماكس فيبر) أو لـ «إرادة شعبية قومية» (غرامشي) أنْ تكون. لكن لا يمكن لشعب كهذا أن يوجد طبيعيًّا، وحتى حين يكون ميّالًا للتكوّن فهو لا يوجد طوال الوقت. لا تملك أي أمة حديثة أساسًا «إثنيًّا» معينًا، حتى حين تنشأ عن نضال استقلال وطني. وعلاوة على ذلك، مهما كانت «مساواتية»، لا يرافق أيّ أمةٍ حديثةٍ انقراضُ الصراعات الطبقية. المشكلة الأساسية هي إذن مسألة إنتاج الشعب. بشكلٍ أدق، هي مشكلة جعل الشعب ينتج نفسه باستمرار كجماعة قومية. أو، سأكرر هنا: هي مسألة إنتاج أثر الاتحاد الذي بمقتضاه يبدو الشعب «شعبًا» في عيون الجميع: أي أساس القوة السياسية وأصلها.

      كان روسو أول من أجهر بتصوّرٍ للمسألة بهذه المفردات: «ما الذي يجعل الشعب شعبًا؟». لا تختلف هذه المسألة، في صلبها، عن المسألة التي أثرناها قبل لحظة: كيف يؤُّمَّم الأفراد؟ أو بعبارة أخرى: كيف للأفراد أن يُطبَّعوا اجتماعيًّا على الشكل المسيطر للانتماء القومي؟ يمكّننا هذا من التخلص من معضلة أخرى هي في أساسها مُختلقة: ليست المسألة مسألة مواجهة بين هوية جمعية وهويات فردية. كلُّ هويةٍ هي هويةٌ فردية، لكن لا توجد هوية فردية غير تاريخية، أو بعبارة أخرى: لا توجد هوية فردية لا تبنى في ظل حقل قِيَمٍ اجتماعية ومعايير سلوكية ورموز جماعية. لا يعرّف الأفراد أنفسهم ببعضهم البعض أبدًا (ولا حتى في الممارسات «الانصهارية» للحركات الجماهيرية أو «حميمية» العلاقات العاطفية)، ولكن لا أحد يكتسب هوية منعزلةً قط، فهذه فكرةٌ متناقضة جوهريًا. المسألة الحقيقية هي مسألة: كيف للنقاط المرجعية المسيطرة للهوية الفردية أنْ تتغير مع مرور الوقت ومع البيئة المؤسسية المتغيرة؟

      لن يكفي جوابًا على مسألة الإنتاج التاريخي للشعب (أو للفردانية القومية) وصفُ الغزوات وحركات السكان والممارسات الإدارية لـ «الأقلمة» (territorialisation). إما أنْ يتأتى بالأفراد المقدر لهم أن يروا أنفسهم كأعضاء لأمة واحدة من الخارج، من أصول جغرافية متنوعة، مثل حال الأمم المتشكلة عبر الهجرة (فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية)، أو أنهم يتلاقون للإقرار ببعضهم البعض داخل حدودٍ تاريخية احتوتهم جميعًا. يُؤلَّف الشعب من مجموعات سكانية متنوعة تحت قانون عام. ولكن في كل حالة، لا بدّ أن «يستبقَ» تلك الألفةَ نموذجٌ لوحدتهم: عملية التوحيد (وفعاليتها، مثلًا، لا يمكن قياسها إلا بالتعبئة الجماعية وقت الحرب، أي، في القدرة على مجابهة الموت مجتمِعين) تفترض مسبقًا تكوينَ شكلٍ أيديولوجي مميز. لا بدّ أن تكون في الوقت نفسه ظاهرة جماهيرية وظاهرة فردنة؛ لا بدّ أن تفعِّلَ «مناداة الأفراد كذوات» (آلتوسير)، وهو أمر أقوى بكثير من مجرد غرس القيم السياسية في الأذهان، أو فلنقل: إنه يدمج هذا الغرس في عملية أكثر ابتدائية (أو لربما، «أولية») تُكرَّس فيها مشاعر الحب والكره وتمثيل «النفس». يجب أن يصبح ذاك الشكل الأيديولوجي شرطًا مسبقًا للتواصل بين الأفراد («المواطنين») والفئات الاجتماعية – ليس بقمع كل الاختلافات بل بتحويلها إلى اختلافات نسبية ثانوية مقابلهُ، بطريقةٍ يخرج فيها الاختلاف الرمزي بين «نحن» و«الأجانب» منتصرًا ويُعاش اختلافًا متعذر الإلغاء. بعبارة أخرى، وبتوظيف مصطلحات اقترحها فيخته في نص «خطب إلى الأمة الألمانية» الصادر عام 1808، يجب أن تصبح «الحدود الخارجية» للدولة «حدودًا داخلية» أو – بالمعنى نفسه – يجب أن تُتَخيل الحدود الخارجية باستمرار بوصفها إسقاطًا لشخصية جمعية داخلية وحمايةً لها، يحملها كلٌّ منا في داخله وتمكّنه من السكن في حيز الدولة وزمانها، كمكانٍ كان المرء فيه دائمًا، ودائمًا سيكون في «دياره».

      ما هذا الشكل الأيديولوجي؟ اعتمادًا على الظروف المحددة، قد يسمى هذا الشكل وطنيةً أو قومية: الأحداث التي تحفّز تشكيله أو تكشف قوّتَه ستُدون، وأصولها ستُقتَفى إلى منهجيّات سياسية – مزيج «القوة» و«التعليم» (بتعبير ميكافيلي وغرامشي) – تمكّن الدولة من خلق الوعي العام إلى حد ما. لكن هذا الخلق ليس مجرد بُعدٍ خارجي. في سبيل إدراك الأسباب الأعمق لفعاليتها، سننقل اهتمامنا، مثلما انتقل اهتمام الفلسفة والسوسيولوجيا السياسية لثلاثة قرون، نحو القياس مع الدين؛ بجعل القومية والوطنية أحد أديان – بل دينَ – الزمن الحديث.

      في هذا الجواب بعض الحقيقة لا محالة. وليس فقط لأن الأديان، شكليًّا، تؤسس أشكالًا للجماعة انطلاقًا من «الأرواح» والهويات الفردية وتنص على «أخلاقيات» اجتماعية، بل لأن الخطاب اللاهوتي وفّر نماذجًا لتمجيد الأمة وتقديس الدولة أيضًا، ما يتيح خلق رابطة تضحية بين الأفراد، وطبع خَتْميّ «الحقيقة» و«الشرع» على قواعد النظام القانوني.[14] لا بدّ أنّ كل جماعة قومية قَد مُثِّلَت في لحظةٍ أو أخرى كـ «شعب مختار». ولكن الفلسفة السياسية للعصر الكلاسيكي أقرَّت منذئذٍ وهنَ هذا القياس، وذلك بائن بوضوح في فشل محاولات تأسيس «دين مدني»، وفي حقيقة أن «دين الدولة»، في النهاية، لم يؤلّف إلا شكلًا انتقاليًّا للأيديولوجية القومية (حتى مع استمرار هذه النقلة وقتًا طويلًا وإنتاجها آثارًا مهمة عبر تركيب الصراعات الدينية على الصراعات القومية)، وفي حقيقة الصراع اللا-متناهي بين الكونية اللاهوتية وكونية القومية.

      في الحقيقة، الحجة المعاكسة هي الصحيحة. تتضمن الأيديولوجيا القومية بلا شك دالّاتٍ مثالية (أولاها وفي المقام الأول اسم الأمة أو «الوطن» نفسه) يمكن أن يُنقَل إليها حسّ المقدس ومشاعر الحب والاحترام والتضحية التي وطدت الجماعات الدينية، لكن هذا النقل لا يحصل إلا لأن نوعًا آخر من الجماعات داخلٌ هنا. يستند القياس هنا إلى اختلافٍ أعمق، فلو لم يستند إليه، سيستحيل فهم لماذا ينتهي الحال بالهوية القومية ميّالةً إلى استبدال أشكال الهوية الدينية، بدمجها الكامل (تقريبًا)، وإجبارها على «التأمُّم».

      إثنية اعتبارية وأمة مثالية

      أُطبّق مصطلح «الإثنية الاعتبارية» (fictive ethnicity) على الجماعة الي تؤسسها الدولة-الأمة. هذا التعبير تعبيرٌ معقدٌ عمدًا حيث مفردة «اعتبارية» يجب – تماشيًا مع ملاحظاتي أعلاه – ألا أن تؤخذ بمعنى الوهم المحض والبسيط دون آثار تاريخية، بل على العكس، يجب أن تُفهَم قياسًا مع «الشخصية الاعتبارية» (persona ficta) للتراث التشريعي بمعنى أثرٍ مؤسسيٍّ، «تَلْفِيقَة». لا تمتلك أي أمة قاعدةً إثنية طبيعيًّا، بل في أثناء تأميم التشكيلات الاجتماعية، تؤثنَنُ الجَمْهَرات المتضمنة فيها أو المقسمة داخلها أو التي تسيطر عليها – أي أنها تُمَثَّل في الماضي أو في المستقبل كما لو أنها تكونت كجماعة طبيعية، تمتلك بِذاتها تماهيًا في الأصل والثقافة والمصالح التي تتجاوز الأفراد والشروط الاجتماعية.[15]

      الإثنية الاعتبارية لا تماثل ببساطة وتجريدٍ الأمةَ المثالية التي هي موضوع الوطنية، لكن الثانية لا غنى لها عن الأولى، إذ ستبدو الأمة من دونها مجرد فكرة أو تجريدٍ اعتباطي على وجه التحديد؛ لن يوجَّه نداءُ الوطنية لأي أحد. إن الإثنية الاعتبارية هي ما يتيح لك أنْ ترى في الدولة تعبيرًا عن اتّحادٍ سابق الوجود، وتقيسَ الدولة باستمرارٍ مقابل «مهمتها التاريخية» في خدمة الأمة، وبالنتيجة، مقاربةَ السياسة مقاربةً مثالية. بتأليفِ الأيديولوجيات القومية للشعبِ كاتّحادٍ إثني اعتباري على أساس تمثيلٍ كوني يضفي على كل فرد هويةً إثنية واحدة (وواحدة فقط)، تقسّمُ بدورها كامل الإنسانية بين مجموعات إثنية مختلفة يحتمل أنْ يرفقها عددٌ مساوٍ من الأمم، لا تقف الأيديولوجيات القومية فقط عند تبرير الاستراتيجيات التي توظفها الدول للتحكم بالسكان. إنها تزرع مطالبهم مسبقًا في حس «انتماء» بالمعنى المزدوج، أي: ما يجعل الواحد ينتمي لنفسه، وما يجعله ينتمي للآخرين من البشر. هذا يعني أن الواحد يمكن أن ينادى كفردٍ بِاسم المجموع الذي يحمل الفرد اسمه. إن طَبْعَنة الانتماء وتسامي الأمة المثالية جانبان للعملية نفسها.

      كيف للإثنية أن تُنتَج؟ وكيف لها أن تنتج بطريقةٍ لا تبدو اعتباريةً، بل كأكثر الأصول طبيعيةً؟ يبين لنا التاريخ وجود مسارين كبيرين متنافسين: اللغة والعرق. في أغلب الأحيان يشتغل العرق واللغة معًا، فبتكاملهما فقط يتاح تمثيل «الشعب» كوحدةٍ مستقلة تمامًا. كلاهما يعبّران عن فكرة أن الشخصية القومية (ما قد يسمى أيضًا الروح القومية) مُحايِثةٌ للشعب. لكن كلاهما يوفران السبل للتعالي عن الأفراد الفعليين والعلاقات السياسية. إنهما يشكلان طريقتين لإرجاع جذور الجَمْهَراتِ التاريخية إلى حقيقة «الطبيعة» (فيبدو تنوع اللغات وتنوع الأعراق محتومًا)، لكنهما طريقتان لإضفاء معنى على وجود هذه الجَمْهَراتِ المستمر أيضًا، للتعالي عن صُدفيتها المشروطة. ولكن بقوة الظروف، يسيطر أحدهما أحيانًا، وذلك عائد لكونهما غير مستندين على تطور المؤسسات نفسها، ولكونهما لا يُستمدان من نفس الرموز أو المقاربات المثالية للهوية القومية. اختلافُ هاذين التَمَفْصُليْن، إثنيةٌ لغوية غالبًا في كفة، أو إثنيةٌ عرقية غالبًا في كفةٍ أخرى، حقيقةٌ ذاتُ عواقب سياسية واضحة. لهذا السبب، ولإيضاح التحليل، علينا البدء بفحص الإثنين بمعزل عن بعضهما.

      تبدو الجماعة اللغوية الفكرة الأكثر تجريدًا، لكنها واقعًا الفكرة الأكثر محسوسيةً لأنها توصل الأفراد بأصلٍ يمكن إنجازه في أي لحظة، ومحتواه هو الفعل المشترك لتداولاتهم، لتواصلهم الخطابي، باستخدام أدوات اللغة المتحَدّثة والكلامية، كتلةٌ من النصوص المكتوبة والمسجلة ما تنفك مُجدّدةً لنفسها. لا يستدلّ من ذلك على أنها جماعة مباشرة بلا حدودٍ داخلية، ولا على أن التواصل في الحقيقة «شفاف» بين كل الأفراد. لكن هذه الحدود دائمًا نسبية: حتى لو لم يكن الأفراد، ذوي الشروط الاجتماعية المتباعدة، في تواصلٍ مباشر، ستربط بينهم سلسلة غير منقطعة من الخطابات الوسيطة. إنهم ليسوا منعزلين – لا بحكم القانون ولا بحكم الواقع.

      لكن علينا بالتأكيد ألا نوقع نفسنا في الاعتقاد بأن هذا الوضع قديمٌ قِدَم العالم نفسه. فالحال على العكس من ذلك تمامًا؛ إنه جديدٌ بنحوٍ ملحوظ. ظلّت الإمبراطوريات القديمة ومجتمعات الأنظمة القديمة قائمةً على متاخمةِ جَمْهراتٍ منفصلة لغويًّا، على فَرْضِ «لغتين» متضاربتين، إحداهما للمسيطرِين وأخرى للمسيطَر عليهم، للمجال المقدس وللمجال السوقي، توسطَهما بلا شكّ نظامُ ترجماتٍ كامل.[16] إنّ الكتاب والصحفيين والسياسيين والفاعلين الاجتماعيين، في التشكيلات القومية الحديثة، هم المترجمون الذين يتحدثون لغة «الشعب» بطريقةٍ كلما زادوها تمايزًا ظهرت أكثرَ طبيعيةً. أصبحت عملية الترجمة بشكلٍ رئيس عملية ترجمة داخلية بين «مستويات اللغة» المختلفة. يعبر عن الاختلافات الاجتماعية كطرق مختلفة للتحدث باللغة القومية، وبذلك تغدو اختلافاتٍ نسبية، ما يفترض شفرةً عامةً بل ومعيارًا عامًا كذلك.[17] هذا الأخير، كما نعلم، يغرس بالتعليم العام، الذي وظيفته الأولية هي تنفيذ هذه المهمة تحديدًا.

      وهذا سبب الترابط التاريخي الوثيق بين التشكيلة القومية ونشأة المدارس كمؤسسات «شعبية»، ليست محدودة بالتدريب الاختصاصي أو ثقافة النخبة، بل تعمل على تدعيم كامل عملية التطبّع الاجتماعي للأفراد. وكون المدرسة، بالإضافة إلى ذلك، مكان غرس الأيديولوجيا القومية – وأحيانًا مكان التنازع عليها – هي ظاهرةٌ مشتقة، وبالمعنى الدقيق للكلمة، أقلُّ ضروريةً من الأولى. فلنقل ببساطة إن التدريس والمدارس هما المؤسسة الرئيسة التي تُنتِج الإثنية كجماعة لغوية. لكنها ليست الوحيدة: الدولة والمبادلة الاقتصادية والحياة الأسرية كلها مدارسٌ بمعنىً ما، كلها أعضاء حيوية للأمة المثالية الممكن تمييزها من خلال لغةٍ مشتركةٍ «خاصة بها». والفيصل هنا ليس الإقرار باللغة القومية كلغة رسمية فحسب، وهذه قاعدةٌ أعمق، إنما تمكنها من الظهور كعنصر الحياة لهذا الشعب، من الظهور كالواقع الممكن لكل شخص أن يستحوذ عليه بطريقته الخاصة دون أن يدمر هذا الاستحواذ هوية ذاك الواقع. لا يوجد تناقضٌ، بل هو تكاملٌ، بين تأسيس لغةٍ قومية واحدة والتعارض بل والتصارع بين «اللغات الطبقية» التي هي، تحديدًا، ليست لغاتٍ مختلفة. كل الممارسات اللغوية تغذي «حب لغة» وحيد لا يخاطبُ المعايير الدراسية أو استخدامًا محددًا لها، بل يخاطب «اللغة الأم»، أي: يخاطب مَثَل الأصل المشترك المُسقَط على ما وراء التعليم والاستخدام المتخصصَّيْن، وهو بفعل ذلك يصبح مجازًا للحب الذي يشعره أبناء الأمة تجاه بعضهم البعض.[18]

      قد يسأل المرء نفسه إذن، إن نحّينا المسائل التاريخية المحددة التي يثيرها تاريخ اللغات القومية، من مصاعب توحيدها أو فرضها، وحتى شرحها في دارجةٍ خِصالُها «الشعبية» و«التهذيب» في آنٍ، وهي عملية نعلم أنها اليوم، في كل الدول-الأمم، بعيدةٌ عن الكمال رغم جهود مثقفيها ومساعدات مختلف الأجهزة الأممية: لماذا لا تكفي الجماعة اللغوية لإنتاج إثنية؟

      لربما يتعلق ذلك بالخصائص المتناقضة التي يضفيها الدال اللغوي، بحكم بُنيته، على الهوية الفردية. بمعنى ما، إن مناداةَ الأفراد كذوات دائمًا ما تجري في عنصر اللغة، فكل مناداةٍ تعود إلى مستوى الخطاب. تُبنى كل «شخصية» بالكلمات، حيث يُعرب عن القانون والسلالة والتاريخ والخيارات السياسية والمؤهلات الحرفية والسيكولوجيا. لكن البنية اللغوية للهوية، بموجب التعريف، مفتوحة. لا «يختار» أي أحدٍ لغته الأم ولا يمكن له «تغييرها» بإرادته. ومع ذلك، فمن الممكن دائمًا أن يحوز الواحد على لغاتٍ عديدة، وأن يتحول إلى حاملٍ من طرازٍ مختلفٍ للخطاب وتحولات اللغة. تستحث الجماعة اللغوية ذاكرةً إثنية مقيِّدة بنحوٍ فظيع (ذهب رولاند بارتمرةً إلى وصفها بـ «الفاشية»)، لكنها رغم ذلك تمتلك ليونة غريبة: إنها تجنّس (naturalise) المكتسباتِ الجديدة مباشرةً. بل وتقوم بذلك أسرع من اللازم، بمعنى ما. إنها ذاكرة جمعية تُسرمَد على حساب النسيان الفردي لـ «الأصول». يسكن المهاجر من «الجيل الثاني» – وهو مفهومٌ يكتسب دلالة بنيوية في هذا السياق – اللغةَ القومية (ومن خلالها الأمة نفسها) بشكلٍ عفوي و«وراثي» ومتسلّطٍ على وجدانه ومخياله، مثله مثل ابن أحد تلك الأراضي الزراعية (terroirs) التي نعتقد أنها فرنسيةٌ جدًا (وأغلب سكانها قبل فترة قصيرة لم تكن اللغة القومية لغتهم العامية). لغتك «الأم» ليست بالضرورة لغة أمّك «الحقيقية». الجماعة اللغوية هي جماعة في الحاضر، تنتج إحساسًا بأنها لطالما كانت موجودة، لكنها لا توصف مصيرًا للأجيال التالية. مثاليًّا، «تدمج» الجماعة أيا كان، لكنها لا تحتفظ بأحد. ولها، أخيرًا، أثرٌ عميقٌ على الفرد (بطريقة تكوينه نفسه كذات)، لكن خصوصيتها التاريخية مرتبطةٌ حصرًا بمؤسسات قابلة للمبادلة. فحسب الظروف، قد تخدم أممًا مختلفة (كما تفعل الإنجليزية أو الإسبانية أو حتى الفرنسية) أو تعيش رغم الاختفاء «الجسدي» للناس الذين استخدموها (مثل اليونانية «القديمة» أو اللاتينية أو العربية «الأدبية»). فلكي تُربط مع حدودِ شعب معين، إنها بحاجة إلى خصوصيةٍ أعلى، أو مبدأ إغلاق، مبدأ إقصاء.

      هذا المبدأ هو الجماعة العرقية. لكن هنا علينا بالتنبه لكي نفهم بعضنا جيدًا. يمكن توظيف كافة صنوف السمات الجسدية والنفسية، المرئية وغير المرئية، لتكوّن خيال (fiction) هوية عرقية، وتمثّلَ بذلك كاختلافاتٍ طبيعية ومتوارثة بين الفئات الاجتماعية إما في داخل الأمة نفسها أو خارج حدودها. ناقشت في نصوص أخرى، كما فعل غيري من قبل، تطورَ وصمات العرق والعلاقة التي تحملها مع التمثيلات التاريخية المختلفة للصراع الاجتماعي. ما يهمني هنا حصرًا هو النواة الرمزية التي تتيح لنا مماهاة العرق والإثنية مثاليًّا، وتمثيلَ اتّحاد العرق كأصل الاتحاد التاريخي لشعبٍ ما أو سببه. وخلافًا للجماعة اللغوية، هذه الممارسة لا يمكن أنْ تكون شائعة حقًّا بين كافة الأفراد المشكلِّين لوحدة سياسية. التواصل لا يحتلّ أي مكانةٍ هنا. فهذا خيالٌ من الدرجة الثانية. لكنه، مع ذلك، خيالٌ يستمد فاعليته من الممارسات اليومية، من علاقاتٍ تهيكل «حياة» الأفراد بنحوٍ مباشر. والأهم من أي شيءٍ آخر، في حين لا يمكن أن تخلقَ الجماعة اللغوية مساواةً بين الأفراد إلا عبر «تجنيسٍ» متزامن للتفاوتات الاجتماعية للممارسات اللغوية، فالجماعة العرقية تذوّب التفاوتات الاجتماعية في «تشابه» أكثر تضاربًا: إنها تُؤثْنن الاختلاف الاجتماعي، الذي هو تعبيرٌ عن خصوماتٍ غير قابلة للتوافق، عبر منحه شكل انقسامٍ بين ما هو «أصيل» القومية و«زائف».

      أعتقد أن بإمكاننا تسليط الضوء على هذا التناقض بالطريقة التالية. إن النواة الرمزية لفكرة العرق (ولرديفها الديموغرافي والثقافي) هي مُخطّط علم الأنساب، أي: هي ببساطة فكرة أن بُنُوَّة الأفراد تَنْقل من جيل لجيل مادةً بيولوجية وروحية أيضًا، وبالتالي تنقش فيهم جماعةً زمنية تسمى «القرابة». لهذا السبب، حالما تعلن الأيديولوجيا القومية أن الأفراد المكوّنين لشعبٍ واحدٍ أقاربٌ (أو، في النمط التوجيهي: أن عليهم تشكيل دائرة قرابةٍ موسعة)، نحن في محضر هذا النمط الثانوي للأثننة.

       لا شك أن البعض سيعترض هنا بأن تمثيلًا كهذا ينطبق أيضًا على مجتمعات وجماعات لا علاقة للقومية بها. لكن بهذه النقطة تحديدًا تدخل المسرحَ البدعةُ التي تُمفصِل شكل الأمة مع الفكرة الحديثة للعرق. هذه الفكرة مرتبطة بالميل إلى طمس علوم الأنساب «الخاصة»، التي كانت (وما تزال) مدوّنةً في الأنظمة التقليدية للزيجات والأنساب التفضيلية. تظهر فكرة الجماعة العرقية حينما تذوب حدود القرابة على مستوى العشيرة وجماعة الحي و، نظريًا على الأقل، الطبقة الاجتماعية، لتُحمَل خياليًا إلى عتبة القومية، أي بالأحرى: حينما لا يبقى ما يمنع الزواج مع أيٍّ من «الإخوة المواطنين»، وحينما – على العكس من ذلك – يبدو زواجٌ كهذا كما لو أنه وحده «العادي» أو «الطبيعي». تنزع الجماعة العرقية إلى تمثيل نفسها كأسرة كبيرة واحدة أو كغلاف جامع للعلاقات الأسرية (جماعة الأسر «الفرنسية» أو «الأمريكية» أو «الجزائرية»).[19] من تلك النقطة فصاعدًا، يصبح لكلٍ فردٍ أسرته، مهما كانت شروطه الاجتماعية، لكن الأسرة – مثل المُلْكية – تصبح علاقةً صُدفيةً بين الأفراد. وإنْ أردنا الإسهاب في هذه المسألة، لا بد من الانتقال إلى مناقشةٍ لتاريخ الأسرة، مؤسسةٌ تؤدي هنا دورًا مركزيًّا يعادل في مركزيته الدور سالف الذكر للمدرسة، وهو متفشٍّ أيضًا في خطاب العرق.

      الأسرة والمدرسة

      نواجه هنا الثغرات في تاريخ الأسرة، الذي ظلّ خاضعًا لمنظور القوانين المرتبطة بالزواج في كفة، ومنظور «الحياة الخاصة» كموضوعٍ أدبي وأنثروبولوجي في كفة أخرى. إنّ ظهور الأسرة «النووية» أو الصغيرة (المكونة من الزوجين الوالدين وأطفالهما) هو الموضوعة الكبرى للتاريخ الحديث للأسرة، ونحن نناقشها هنا لنستكشف ما إذا كانت هذه الظاهرة ظاهرةً «حديثة» (من القرنين الثامن والتاسع عشر) مرتبطةً بأشكال اجتماعية برجوازية (أطروحة آرييس وشورتر) أو نتيجة لتطورٍ وضعَ أسسهُ قبل وقتٍ طويل القانونُ الكنسي وتحكم السلطات المسيحية بالزواج (أطروحة غودي).[20] يمكن في الواقع الموافقة بين هاتين الأطروحتين. لكن الأهم هو أنهما يعتّمان على ما نعتبره المسألة الأشدّ حسمًا: الرابط الذي أقيمَ تدريجيًّا منذ تأسيس الأحوال المدنية وتقنين الأسرة (حيث كان قانون نابليونالنموذج المبدئي) بين حلِّ علاقات القرابة «الممتدة» وبين الولوج في علاقات الأسرة بتدخل الدولة-الأمة، الذي يمتد من التشريعات المعنية بالوراثة وحتى تنظيمات تحديد النسل. دعونا نتنبه هنا إلى أن علم الأنساب في الجماعات القومية المعاصرة، باستثناء قلة من «مهووسي» علم الأنساب ومن «يحنّون» لأيام الأرستوقراطية، لم يعد يشكل معارف نظرية أو موضوع ذاكرة شفهية، ولم يعد ضمن المجال الخصوصي للتسجيل والحفظ: الدولة اليوم هي من يرسم ويحفظ أرشيف البُنُوَّة والزواج.

      هنا مرةً أخرى علينا التمييز بين المستويين العميق والسطحي. المستوى السطحي هو الخطاب الأسري، الذي أصبح منذ مرحلة مبكرة جدًا مرتبطًا بالقومية في التراث السياسي، خصوصًا في فرنسا (كأحد مكوِّنات النزعة القومية المحافِظة). وأما المستوى العميق فهو النشأة المتزامنة لـ «الحياة الخاصة»، لـ «الخصوصية الأسرية» المحدودة وسياسات الأسرة للدولة، التي تُسقِط على الفضاء العام فكرة السكان الجديدة والتكنيكات الديموغرافية لقياسه والإشراف على صحته وأخلاقه وإعادة إنتاجه. ونتيجة ذلك هي أنّ الخصوصية الأسرية الحديثة هي النقيض للفضاء المستقل الذي عند حدوده تقف بُنى الدولة. إنها الفضاء الذي، بمعونةٍ دائمةٍ من الدولة، تُشَحن فيه العلاقات بين الأفراد مباشرةً بوظيفة «مدنية»، بدءًا بالعلاقات بين الجنسين التي تُنظَّم وفق حاجات التناسل. ومن هذا الموقع يمكننا فهم النبرة الفوضوية التي تكتسبها السلوكيات «المنحرفة» جنسيًّا بسهولة في التشكيلات القومية الحديثة، حيث أكسِبت عادةً نبرة الهرطقة الدينية في الجماعات السابقة. استبدلت الصحة العامة والأمان الاجتماعي أب الاعتراف، لا مصطلحًا بمصطلح، بل بتقديم «حرية» جديدة ومعونة جديدة أيضًا، أي مهمة جديدة وبالتالي مطلبٌ جديد. بالتالي، ما يحل محل القرابة السلالية والتضامن الجيلي والوظيفة الاقتصادية للأسرة الممتدة عند ذوبانها، ليس مجتمعًا-صغيرًا طبيعيًا ولا علاقة تعاقدية «فردانية» محضة. ما يحل محلها هو تأميمُ الأسرة، الذي يقابله مماهاة الجماعة القومية بقرابة رمزية تحدّها قواعد أشبه بزواج الأقارب ولا تميل إلى إسقاط نفسها على سلفٍ واحد بقدر ما تسقط نفسها على خلفٍ واحد.

      ولهذا السبب فكرة تحسين النسل دائمًا كامنة في العلاقة التبادلية بين الأسرة «البرجوازية» والمجتمع ذو الشكل القومي. وهذا سبب الألفة السرية بين القومية والذكورية: ليس كتمظهرين للإرث السلطوي نفسه، بل لما تشكله اللامساواة في الأدوار الجنسية في الحب الزوجي وتربية الأطفال، من نقطة ارتكاز للوساطة التشريعية والاقتصادية والتعليمية والطبية للدولة. وأخيرًا، هذا سبب اجتماع التضليل والتبيان في تصوير القومية كـ «قَبَلِيّة» – البديل العظيم لتصويرها كدينٍ عند علماء الاجتماع. فهو يضلّل لتخيّله القومية كارتداد إلى أشكال جماعات قديمة هي، في الحقيقة، ليست متوائمة مع الدولة-الأمة (ويمكن رؤية ذلك بوضوح في تعثر إنجاز التكون القومي حيثما يوجد تضامنٌ سلالي أو قبيلي قوي). ولكنه يبيّن تعويضًا تنشّطه الأمّة عن قرابةٍ متخيلة بأخرى، وعليه يقوم تحويل الأسرة نفسها. وهو ما يفرض علينا مسألة إلى أي قدر يمكن لشكل الأمة المواصلة في إعادة إنتاج نفسه إلى أجلٍ غير مسمى (على الأقل كالشكل المسيطر) حالما «يكتمل» تحويل الأسرة، أي بالأحرى، حالما تخرج علاقات الجنس والتناسل تمامًا من نظام الأنساب. سنصل حينها إلى حدود الإمكانيات المادية لتصوير ماهية «الأعراق» البشرية ولاستثمار هذا التمثيل في عملية إنتاج الإثنية. لكننا بلا شك لم نصل إلى تلك النقطة بعد.

      لم يكن آلتوسير مخطئًا في تعريفه الأولي لـ «أجهزة الدولة الأيديولوجية» عندما اقترح أن نواة الأيديولوجيا المسيطرة للمجتمعات البرجوازية انتقلت من زوج الأسرة-الكنيسة إلى زوج الأسرة-المدرسة.[21] لكني أود تقديم تصحيحين لتلك الصيغة. أولًا، لا أميل إلى القول بوجود مؤسسة معينة كهذه تعدّ هي بحد ذاتها «جهازًا أيديولوجيًا للدولة»؛ من الأجدر القول إنّ هذه الصيغة تشير إلى الشغل الوظيفي المركب لعديدٍ من المؤسسات المسيطرة. وأود تقديم اقتراحٍ آخر، وهو أن الأهمية المعاصرة للتدريس والخليّة الأسرية لا تستمد حصرًا من الموقع الوظيفي الذي يتخذانه في إعادة إنتاج قوة العمل، بل أيضًا من إتْبَاعِهما إعادة الإنتاج هذا إلى تكوين إثنية اعتبارية، أي بالأحرى: إلى مَفْصَلة جماعة لغوية وجماعة عرقٍ ضمنيةٍ في سياسات الإسكان (ما اسماه فوكو بمصطلح موضحٍ ومغمّض، نظام «السلطة على الحياة»).[22] قد يكون للمدرسة والأسرة جوانب أخرى أو تستحقان التحليل من زوايا مختلفة. فتاريخهما يبدأ قبل ظهور شكل الأمة بكثير وقد يستمر بعده. لكن أهميتهما القومية – أي بالأحرى: أهميتهما المباشرة لإنتاج الإثنية – هي سبب تكوينهما المتشارك للجهاز الأيديولوجي المسيطر في المجتمعات البرجوازية، وذلك ظاهرٌ في تزايد الاعتماد المتبادل بينهما وميلهما إلى تقاسم كامل الوقت المكرس لتأهيل الأفراد. بهذا المعنى، في التشكيلات الاجتماعية البرجوازية، لا «جهاز أيديولوجيّ للدولة» مسيطر إلا هذا الجهاز الواحد، يستخدم مؤسسات المدرسة والأسرة لأغراضه الخاصة، وما يُطعَّمُ بالمدرسة والأسرة من مؤسساتٍ أخرى، ووجودهُ هو أساس هيمنة القومية.

      علينا أن نضيف ملاحظةً أخرى لاختتام هذا الفرض. التمفصل – بل وحتى التكامل – لا يعني التناغم. إنَّ الإثنية اللغوية والإثنية العرقية (أو الوراثية)، بمعنى ما، متنافيتان. اقترحتُ أعلاه أن الجماعة اللغوية مفتوحة، في حين تبدو الجماعة العرقية، من حيث المبدأ، مغلقة (مذ أنها تؤدي، نظريًا، إلى الإبقاء خارج الجماعة أو على هوامشها «الدونية» أو «الأجنبية»، ولأجل غير مسمى حتى نهاية الأجيال، من هم، بموجب معاييرها، ليسوا أصِيلي الانتماء القومي). هذا تمثيلٌ مثاليٌّ في كلا الحالتين. لا شكَّ أن رمزية العرق تمزج عنصر الكونية الأنثروبولوجية الذي تستند إليه (سلسلة الأجيال، القرابة المطلقة الممتدة إلى كامل الإنسانية) مع مِخيال الفصل والمحظورات. لكن في الممارسة الفعلية، دائمًا ما تتجاوز الهجرةُ والزيجات المختلطة الحدودَ المتوقعة (حتى حين تقوم سياساتٌ إكراهية بتجريم «التهجين»). ما يضع العقبة الرئيسة أمام تخالط الجَمْهَرات هو، في الواقع، الاختلافات الطبقية التي تميل إلى إعادة تكوين الظواهر الطائفية (caste). لا بدّ من إعادة تعريفٍ مستمرّة للمحتوى الوراثي للإثنية: بالأمس كان «الانتماء الألماني»، أو «العرق الفرنسي» أو «الأنجلو-ساكسوني»، واليوم هو «الانتماء الأوروبي» أو «الانتماء الغربيّ»، وأما غدًا فلربما يصبح «العرق المتوسطي». بالمقابل، إن انفتاح الجماعة اللغوية انفتاحٌ مثالي، رغم أن دعامته المادية هي إمكانية ترجمة لغةٍ ما إلى الأخرى وبالتالي قدرة الأفراد على توسعة كفاءتهم اللغوية.

      رغم ما يظهر على الانتماء إلى الجماعة اللغوية من شكل المساواة، فهو يعيد خلق تقسيماتٍ ومعايير تمييزية متماشية للغاية مع الاختلافات الطبقية، بسبب مروره بوسيط المؤسسة الدراسية على وجه التحديد. كلما كبر دور النظام التعليمي في المجتمعات البرجوازية، كبر دور الاختلافات في الكفاءة اللغوية (وبالتالي الأدبية و«الثقافية» والتقنية) كاختلافات طائفية، لتخصص بذلك «مصائر اجتماعية« مختلفة للأفراد. في هذه الشروط، ليس من المفاجئ أنها تربط مباشرةً بأشكال الهابيتوس الجسدي (حسب اصطلاح بيير بورديو) الذي يضفي على فعل الكلام، في سماته الشخصية غير القابلة للكوننة، وظيفةَ الوصمة العرقية أو شبه العرقية (وهي ما تزال تحتل منزلةً مهمةً جدًا في تشكيل «عنصرية الطبقة»): اللهجة «الأجنبية» أو «المناطقية»، أسلوب الكلام «الشعبي»، «الأخطاء» اللغوية أو – بالمقابل – «الفصاحة» المُتبجَّح بها، تعرِّفُ مباشرةً انتماءَ المتحدّثِ إلى جَمْهَرةٍ معينة وتحالُ بعفوية إلى أصل أسريٍّ محدد ونزعةٍ وراثية.[23] إنّ إنتاج الإثنية هو عرقنة اللغة ولَفظَنة العرق كذلك.


      إنّ غلبة تمثيلٍ محدّدٍ للإثنية، ليست بالأمر التافه فيما يتعلق بالسياسة المباشرة، وتطور شكل الأمة ودوره المستقبلي في مأسسة العلاقات الاجتماعية، إذ أنها تقود إلى موقِفَين مختلفين جذريًّا إزاء مشكلة التكامل والإدماج، وهما طريقتان لإرساء النظام التشريعي وتأميم المؤسسات.[24]

      منحت «الأمة الثورية» الفرنسية مكانة الامتياز لرمز اللغة في عملية تشكيلها الأولية: ربطت الاتحاد السياسي ربطًا وثيقًا بالتوحيد اللغوي، ودمقرطة الدولة بالقمع الإكراهي لـ «الخصوصيات» الثقافية، مهووسةً باستهداف اللهجات العامية المحلية. وأما «الأمة الثورية» الأمريكية فقد شيّدت مُثُلها الأصلية على قمعٍ مزدوج: إبادة «السكان الأصليين» الهنود-أمريكيين، والاختلاف بين الرجال «البِيْض» الأحرار و«السود» العبيد. لم تكن الجماعة اللغوية الموروثة من «الوطن الأم» (nation mère) الأنغلو-ساكسوني مشكلةً – ظاهريًا على الأقل – حتى منحتها الهجرة من أمريكا اللاتينية أهميةَ الرمزية الطبقية والسمة العرقية. لطالما كانت «الأهلانية» كامنة في تاريخ الأيديولوجيا القومية الفرنسية حتى أدى الاستعمار في كفة، وتكثيف استيراد العمالة وتفرقة العمالة اليدوية وفق الأصول الإثنية في كفة أخرى، إلى تكوين مخيال «العرق الفرنسي»، وذلك عند نهاية القرن التاسع عشر. وذلك على العكس من تاريخ الأيديولوجية القومية الأمريكية التي سرعان ما أبرزته بتمثيلها تشكيل الشعب الأمريكي كبوتقةِ عرقٍ جديد، ولكنها مثلته كذلك كتركيبةٍ هرميةٍ لمساهماتٍ إثنية مختلفة على حساب المقارنات الصعبة بين الهجرة الأوروبية أو الآسيوية والتفاوتات الاجتماعية الموروثة من زمن العبودية والمعزَّزة بالاستغلال الاقتصادي للسود.[25]

      هذه الاختلافات التاريخية لا تفرض بأي شكلٍ من الأشكال نتائج حتمية (فتلك فحوى النضالات السياسية)، بل تغيّر بعمقٍ الشروط التي تُطرَح فيها مسائل الإدماج والمساواة في الحقوق والمواطنة والقومية والأممية. فيما يتعلق بإنتاج الإثنية الاعتبارية، قد يتساءل المرء بِجِدّية عما إذا كان «المبنى الأوروبي» – بقدر سعيه إلى نقل وظائف الدولة-الأمة ورموزها إلى مستوى «الجماعة»2 إشارة إلى «الجماعة الاقتصادية الأوروبية». – سيرجح غالبًا نحو مؤسسة «الاندماج اللغوي الأوروبي»3 الاندماج اللغوي (colinguism): مفردة صاغها رينيه باليبار ويعرفها كالتالي: ارتباط لغاتٍ مكتوبة، عبر التعليم والسياسة، بالتواصل بين شركاء مشرروعين. (وإن كان الحال على ذلك، فأيٌّ منها؟) أو سيرجح غالبًا في اتجاه تصوير مثاليٍّ لـ «الهوية الديموغرافية الأوروبية» مصاغٍ في تعارضٍ مع «الجَمهرات الجنوبية» (الأتراك، العرب، السود).[26] يُجبَر كلُّ «شعب» اليوم، وهو نتيجة عملية أثننة قومية، على إيجاد سُبُله الخاصة لتجاوز الإقصائية أو أيديولوجية الهوية في عالم وسائل التواصل الدولية وعلاقات القوة العالمية. أو بالأحرى: يُجبر كل فردٍ على أن يرى في تحول مخيال شعبـ «ـه» وسيلة مغادرته، من أجل التواصل مع أفرادٍ من شعوب أخرى يتشارك المصالح نفسها معهم، وإلى حد ما، المستقبل نفسه.

      [1] Derrida, Jacques, Marges de la philosophie, Paris, 1972, p. 22.

      [2] يمكن دمج هاذين الاحتمالين بتقديم طبقةٍ معينة بصفتها الطبقة «القومية» الوحيدة، طبقةٌ – في ظل شروطٍ معينة – تعبر عن مصالح كامل الشعب، أو قادرةٌ على فرضٍ دولةٍ على الأخريات تبدو «فوق الطبقات».

      [3] مفردة استعرتها من رينيه غاليسوت (Rene Gallissot).

      [4] Balibar, Etienne (1982). “The Long March for Peace,” in Edward Thompson et al., eds., Exterminism and Cold War. London: Verso, 135-52

      [5] Bazin, Jean; Terray, E., et al. (1982). Guerres de lignage et guerres d’Etat en Afrique. Paris: Ed. des Archives Contemporarines; Joxe, Alain (1979). Le Rempart social. Paris: Ed. Galilée.

      [6] See Gerard Noiriel, Le Creuset français. Histoire d’immigration XlXe-XX siecles, Editions du Seuil, Paris 1988.

      [7] إن وجب علينا اختيار تاريخ رمزي، لربما نشير إلى منتصف القرن السادس عشر: اكتمال الاحتلال الإسباني للعالم الجديد، تفرق إمبراطورية هابسبورغ، ونهاية حروب السلالات الحاكمة في إنجلترا وبجداية حرب الاستقلال الهولندية.

      [8] Fernand Braudel, Civilization and Capitalism, vol. 2, The Wheels of Commerce, transl. Sian Reynolds, Collins, London 1982, and vol. 3, The Perspective of the World, transl. Sian Reynolds, Collins, London 1 984; Immanuel Wallerstein, The Modern World-System, vol. l, Capitalist Agriculture and the Origin of the European World-Economy in the Sixteenth Century, Academic Press, London 1 974, and vol. 2, Mercantilism and the Consolidation of the European World-Economy, Academic Press, London 1 980.

      [9] See Braudel, The Perspective of the World, pp. 97-105; Wallerstein, Capitalist Agriculture, pp. 165 et seq.

      [10] من هذا المنظور، ليس مفاجئًا أبدًا أنّ النظرية الماركسية «الأرثودوكسية» القائلة بالتتالي الخَطِّي لأنماط الإنتاج أصبحت العقيدة الرسمية للاتحاد السوفييتي في النقطة التي انتصرت فيها القومية هناك، خصوصًا لما أتاحه ذلك من تصوير «الدولة الاشتراكية الأولى» كالأمة الكونية الأولى.

      [11] Eugen Weber, Peasants into Frenchmen, Stanford University Press, Stanford, CA 1976.

      [12] Gérard Noiriel, Longwy, Prolétaires et immigrés 1880/1980, 1984, PUF, Paris 1984; Le Creuset francais.

      [13] لبعض الملاحظات الأخرى حول النقطة نفسها، أنظر دراستي: ‘Propositions sur la citoyenneté’, in C. Wihtol de Wenden, ed., La Citoyenneté, Edilig-Fondation Diderot, Paris 1988.

      [14] حول كل هذه النقاط، تحمل أعمال كانتوروفيتش أهمية ضرورية واضحة. أنظر: Mourir pour la patrie et autres textes, PUF, Paris 1985.

      [15] قلت «متضمنةً فيها»، ولكن يجب أن أضيف: «أو مقصيةً منها»، لأن أثننة «الآخرين» تجري بتزامنٍ مع أثننة «أبناء الأمة»: لم تبقى أي اختلافاتٍ تاريخية سوى الاختلافات الإثنية (وبالتالي وجب أن يصير اليهود «شعبًا»). عن أثننة الجَمْهَرات المستعمَرة، أنظر: J.-L. Amselle and E. M’Bokolo, Au cœur de l’ethnie. Ethnies, tribalisme et État en Afrique, La Decouverte, Paris 1985.

      [16] Gellner, Ernest (1983). Nations and Nationalisms. Oxford. Blackwell. Anderson, Benedict (1983). Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism. London: Verso. رغم أن تحليليهما متعارضان تعارضَ «المادية» و«المثالية» كلاهما يؤكدان هذه النقطة، وهما على حق.

      [17] See Renée Balibar, L’institution du français. Essai sur le colinguisme des Carolingiens à la République, PUF, Paris 1985.

      [18] يقدم جون-كلاود ميلنر بعض الأفكار المثيرة حول هذه النقطة، إنما في “Les Noms indistincts” (Seuil, Paris 1983)، صفحة 43 وما يليها، وليس في “L’Amour de la langue” (Seuil, Paris 1978). حول متبادلتي «الصراع الطبقي»/«الصراع اللغوي» في الاتحاد السوفييتي، لحظة استحكام سياسة «الاشتراكية في بلد واحد»، أنظر: F. Gadet, J.-M. Gaymann, Y. Mignot and E. Roudinesco, Les Maitres de la langue, Maspero, Paris 1979.

      [19] دعنا نضيف هنا أن لدينا معيارًا أكيدًا لتبديلية العنصرية والقومية: كلّ خطاب حول الوطن الأم أو الأمة يربط هاذين المفهومين بـ «الدفاع عن الأسرة» – ناهيك عن معدل الإنجاب – هو دائمًا مختبئ في كون العنصرية.

      [20] Ariès Philippe, L’enfant et la vie familiale sous l’Ancien Régime, Pion, Paris 1960, revised edn 1975 (Centuries of Childhood, transl. Robert Baldick, London, Cape 1962); Edward Shorter, The Making of the Modern Family, Basic Books, New York 1975; Jack Goody, The Development of the Family and Marriage in Europe, Cambridge University Press, Cambridge 1983.

      [21] See Louis Althusser, ‘Ideology and State Ideological Apparatuses’, Lenin and Philosophy and Other Essays, New Left Books, London 1971.

      [22] Michel Foucault, The History of Sexuality, vol. I, transl. Robert Hurley, Allen Lane, London 1977.

      [23] أنظر:  P. Bourdieu, Distinction, transl. Richard Nice, Routledge & Kegan Paul, London 1984: Ce que parler veut dire: L’économie des échanges linguistiques, Fayard, Paris 1982; ونقده بواسطة مجموعة “Révoltes logique”: (L’Empire du sociologue, La Decouverte, Paris 1984) وجوهر نقدها يتطرق لطريقة تثبيت بورديوللأدوار الاجتماعية كـ «مصائر» ومنحه المباشر لخصومتها وظيفةَ إعادة إنتاج «الكلية» (الفصل عن اللغة من كتابة فرانسواز كيرلو).

      [24] أنظر بعض أهم الملاحظات حول هذه النقطة عند: Françoise Gadet, Michel Pêcheux, La langue introuvable, Maspero, Paris 1981, pp. 38 et seq. (‘L’anthropologie linguistique entre le Droit et la Vie’).

      [25] حول «الأهلانية» الأمريكية، أنظر:R. Ertel, G. Fabre and E. Marienstras, En marge. Les minorites aux Etats-Unis, Maspero, Paris 1974, pp. 25 et seq. وMichael Omi and Howard Winant, Racial Formation in the United States. From the 1960s to the 1980s, Routledge & Kegan Paul, London 1986, p. 120. من المثير للاهتمام أن نرى حركة نامية اليوم في الولايات المتحدة (موجهة ضد الهجرة من أمريكا اللاتينية) تنادي بجعل الإنجليزية اللغة الرسمية.

      [26] في قلب هذا البديل يقع السؤال التالي الملح حقًا: هل ستقبل المؤسسات الإدارية والتعليمية لـ «أوروبا المتحدة» المستقبلية بالعربية أو التركية أو حتى بعض اللغات الآسيوية والأفريقية الأخرى بمساواة مع الفرنسية والألمانية والبرتغالية، أم أن تلك اللغات ستعتبر «أجنبية»؟

      هذا المقال جزء من منشور  «جدل تاريخي: الدولة وعناصرها».

      afac

      نشر هذا المقال في كتاب Race, nation, classe: Les Identités ambiguës وحصلت جمعية الهامش للأبحاث الاجتماعية على رخصة لنشر ترجمته من دار نشر (La Découverte).

      copyright : © La Découverte, Paris, 1988, 2018.

      Skip to content