نحن، الجيل الخطأ: الحراك ما-بعد الحزبي في تونس

إلى رولى الصغير.

«عشر سنوات ونحن ننتظر، ومستعدون للانتظار عشر سنوات أخرى وأكثر، ولكن بكثير من الغضب سننتظرهم».

بهذه الكلمات يعبّر أحد جرحى الثورة التي اندلعت منذ عشر سنوات، وإلى الآن لم تصدر قائمة رسمية تضم أسماء جرحى الثورة وشهدائها، وما تغيّر عن السابق هو أنّ النظام أصبح يحاربـ[ـنا] بدون حياء، وبالتالي قرر[نا] أن نبول عليهم بلا حياء.

يوم 14 جانفي، ذكرى الثورة التونسية المجيدة، أعلن هشام المشيشي رئيس الحكومة التونسية حجرًا صحيًا شاملًا لمدّة أربعة أيام، وقد أجمعت عديدٌ من التيارات السياسية وبعض أعضاء اللجنة العلمية لمجابهة الجائحة أنّ هذه الأيام الأربعة لن تغير أي شيء من نسق العدوى، فهي لم تكن سوى محاولة منه لمصادرة الشارع وتأجيل الغضب الشعبي حول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المترديّة، فقد كان يوم 14 جانفي اعتبر تاريخًا لاستئناف المظاهرات والمسيرات التي شهدتها العاصمة وبعض الولايات الأخرى بتنفيذِ بعض الأحزاب والنشطاء وأبناء الأحياء الشعبية، والمختلف هذه المرة عن السابق هو بروز لاعب قديمٍ جديد في الساحة، ألا هو: «الجيل الخطأ».

الجيل الخطأ؛ ثمار أجيال الماضي

تعتبر لحظة 14 جانفي منعرجًا هامًا في تاريخ تونس المعاصر، حيث شكّلت تلك المناسبة فرصة حاسمة لانفجار تراكمات وأوزار الماضي وتفريغ المكبوت والمسكوت عنه، ما خلق مساحاتٍ هامّة للتنظّم والتعبير، فمن جهة التنظّم تأسست العديد من الأحزاب البدائل اليسارية والحركات الأفقية أو تحصلت على التأشيرة القانونية للنشاط، ومن جهة حرية التعبير انبثقت الحركات الفنية والأدبية ووضع حدٌّ لإلجام الأصوات المعارضة. ولكن رغم هذا الهامش المتّسع للتعبير والتنظّم، فشلت التنظيمات السابقة (الجبهة الشعبية على سبيل المثال) في ملء الفراغ وفرضِ نفسها كقوّةٍ سياسيةٍ، أو حتى كمساحة ينخرط فيها الشباب الغاضب، وفشلُ الأحزابِ هذا ساهمَ في بروز حركات شبابية أفقية (مثل: «حركة مانيش مسامح» الرافضة لقانون المصالحة الاقتصادية، و«حركة باسطا» ضد غلاء المعيشة، و«فلقطنا» ضد الاغتصاب) ما جعل من الأحزاب الأحزاب مجرد دكاكين ضيّقة تورّثُ أخطاء الأجيال الماضية وعُقَدِه.

في هذا السياق برزت حملة «الجيل الخطأ» التي رأت النور منذ شهرٍ ونصف الشهر على شبكات التواصل الاجتماعي كحركة أفقية يسارية تهدف إلى إسقاط النظام واجتثاث الإرث الاستعماري الإمبريالي القابع على البلاد، وتقدّم الحركة نفسها كتجمع للغاضبين/ات ، والكويريين/ات، وأطياف متعدّدة من اليسار الراديكالي، وتسعى لمناهضة القمع البوليسي والدولة الأبوية والرجعيات الدينية والليبرالية، وقد فرضت الحركة نفسها كبديلٍ شبابيٍّ جدّيٍّ، ومع ما تحمل من إرث الأجيال الماضية، فيمكن اعتبارها على وجه الخصوص من ثمارَ الثورة (ثورة 2011)، لتنطبق عليها مقولة غي روشيه تأكيدًا على الامتدادية الزمنية للثورات «الثورة حدث تاريخي يتجاوز مداهُ الزمني مدّة اندلاع الشرارات الأولى، فالتغيّرات التي تُحْدِثها تظهر على المدى البعيد على نحوٍ لا مألوفٍ وعسير التصوّر». وهكذا إذن يمكن النظر للحراك الاحتجاجي الأخير الذي برز فيه «الجيل الخطأ» والأشكال الجديدة للتظاهر والاعتراض باعتباره نتيجة من نتائج الثورة، يقول مختار بونومة (اسم مستعار لأحد متابعي الحركة) عن سياق التأسيس والتنظّم في «الجيل الخطأ»:

بدأت فكرة جيل الخطأ في شهر أكتوبر مع قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين، نزلنا إلى الشارع كشباب، رفعنا شعارات بِلُغات أجنبية، وقمنا بقطيعة مع الماضي بما تحمله الكلمة من مضمون، كنّا صِداميين، سوقييّن في ألفاظنا، دون أي شعور من الخوف. قمنا قبل التحرك بصياغة بصمة تجديد في الخطاب والتنظّم والهيكلة، ولكن أهم محور في بَصْمَتنا، هو القيام بثورة على اللغة الكلاسيكية التي تمنعنا من التعبير بشكل جذري، أو تلك الأطر التي تحصرنا في إطار محدد بشكل مسبق.

ويضيف بونومة حول طبيعة انتماء الحملة:

بيننا من شارك في الحملة، هنالك نوع من الانتماء إلى اللا انتماء، ليس بالمعنى الأناركي، بل بمعنى البحث عن الحرية التامة في التعبير على حالة وجودية وجدانية، والتي لا تتوافق مع الحركات الموجودة الآن. هنالك تقاطع مع الحركات الحالية من ناحية المبدأ، وكذلك مع مبادئ الأحزاب اليسارية، ومع الاشخاص الذين مهدوا لنا الطريق مثل مناضلي الأجيال السابقة، بعضنا انتمى لهم في مراحل سابقة، ولكن دون أي تبعيّة لهم، فما يجمعنا عمومًا هو مقارعة الاستبداد الاجتماعي والسياسي.

هذه الشهادة توفر لنا مؤشرًا لفهم هوية التحرك وشكل الوعي الذي يرافقه، فليس الاستبداد السياسي (سابقًا) إلا إنعكاسًا للاستبداد الاجتماعي، وهو ما ساهم في خلق جيل ثائر من خَلفيات مختلفة ومرجعيات ومتعددّة، واختلافها لا يقف عند تصوراتها السياسية أو الأيديولوجية، بل هو جِهويٌّ واجتماعيٌّ أيضًا، فقد ضمّ الحراك الاحتجاجي الأخير شبابَ الأحياء الشعبية، مثل حي التضامن، وأصوات الهوامش، وكذلك اليسار الأناركي، والنشطاء الكوير، وإن اختلفت هذه الذوات فقد اجتمعت على كراهية الأجهزة القمعية للدولة ومناهضتها، ما أكسب الحراك الأخير فَرادة من ناحية التقاء «النخبوي» مع «الشعبي» و«الهامش» بـ«المركز».

يضيف بونومة:

هناك عفوية وتلقائية في التنظم، ليس هنالك عضو/ قائد، الجميع قادة وأعضاء في آن. الاحظ شخصيًا نبذًا للإتيكيت التقليدية، أي تلك المفروضة لحظة الانتماء لحزب معين والتي يتفرع عنها قمع لفردانية الشباب أو تقمع أفكاره وحماسه. ببساطة تقمع طريقته الخاصة في التعبير عن نفسه. هذه النزعة الفردانية التي كنت أحدثك عنها، جعلتنا نتحرك كجسد واحد، كأن هنالك اتفاق معد مسبقًا، أو ثقافة تحتية، تنتظر ترجمة لها ووصفها والتعبير عنها.

من هنا كان الصراع في «الجيل الخطأ» مع كل ما هو تقليدي أو قديم غير مجدي في جانب ما صراع هووي، وهكذا جاء الاسم. كانت هنالك حاجة للوصف، لذلك سُمّينا «الجيل الخطأ»، حيث غادرنا المعادلة المانوية، محاولة لتأسيس سردية جديدة، ثقافة جديدة بالمعنى الدولوزي. ستلاحظ مثلًا على الصفحة على الفايسبوك خطًا تحريريًّا لا يكترث لأي شيء: هزل، سخرية، ميمز، إضافةً إلى استعمالٍ لغوي مفتوح للجميع (تشومسكي، فوكو)، غايتنا ليست تبسيط اللغة ولكن مخاطبة الجميع والتوجه إلى أكبر جمهور ممكن عن طريق مزيج بين الجد والهزل، طريقة لمخاطبة دون تقزيم.

هكذا إذن، نجد الفردانية التي يتحدث عنها «الجيل الخطأ» كنوع من رجع الصدى لحديث نوربرت إلياس في كتابه «مجتمع الفردانية» عن تحول في التوازن بين الـ«أنا» والـ«نحن» في المجتمعات الحديثة، وأن من آثارهِ تحوّلُ جزء كبير من أشكال المراقبة والضبط الاجتماعي من خارج الذات الفردية إلى داخلها، وما يميز «مجتمع الأفراد» حسب توصيف إلياس ليس تقلّص مظاهر تبعيته، كما نعتقد، إنما على العكس من ذلك: تكثّف أشكال تبعية الأفراد بعضهم لبعض وتعقدها، وهذه التبعية المتبادلة في تشكلاتها المعقدة هي ما يفسح للأفراد مجالًا لإثبات الذات والشعور بالاختلاف والفرادة.

مياه كثيرة جرت بعد الثورة، خيبات وتوجّسات في زمن من الاضطراب، وبروز جيل جديد وحكومات تورّث الفشل، ففي الوقت الذي كان فيه جيل الشباب  الأجرأ هو من فجّر الثورة، فقد كان الجيل الأكبر منه سنًا هو من قاد المرحلة الانتقالية وتولى المناصب الرسمية. كل هذا خلق ذلك قطيعةً وفجوةً كبيرةً بين الشباب والكبار، وساهم في خلق فَرَادةِ هذا الجيل، هذه الفكرة التي نجد لها حضورًا كبيرًا في كتابات الصحفي محمد بالطيب الذي ينظر لنشأتنا بأنها نشأةٌ في عائلات تقليدية نوعًا ما، ودراستنا في المدارس العمومية لا زالت تحمل قيمةً ووعودًا اجتماعية، فقد قابلنا المعلّم باعتباره صاحبَ سلطة وهيبة، وقيمُ احترام كبير السن والتقاليد الاجتماعية وتبعيّة للمؤسسات الاجتماعية التقليدية مثل العائلة والعشيرة والأقارب والحي وصولًا للدولة. درسنا بلغة فرنسية لطيفة تحمل حضارة عتيقة وحاملة لقيم فكرية وفنية انسانية وتنويرية، كبرنا على ثقافة المطالعة والمكاتب العمومية، عكس الجيل الحالي، جيل اللغة الإنجليزية والثقافة الأمريكية الخفيفة والتافهة واليوتيوب والفري فاير والمراهنات الإلكترونية والأكلات السريعة والملاوي والهيب هوب المتحرر من كل شيء تقريبًا حتى من العائلة، وهذا الجيل سيقوم بأكبر قفزة في التاريخ، وستكون قفزة مدويّة على كل الأفكار العتيقة والكلاسيكية والمحنطة لعلماء الاجتماع الذين يتحدثون عن تونس كأنهم في السبعينيات.

No description available.

حرب الكلّ ضد الكلّ

كان الانطباع الأول عن «الجيل الخطأ» أنّه مجرّدُ حركةٍ اجتماعية كلاسيكية، أي: حركة تحتج ضد مشاريع قانونية أو ضد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لكنّه في الواقع رسمَ مسارًا ثوريًّا راديكاليًا ضد المجتمع والعادات والأخلاق والتقاليد وكل ما يشدنا إلى الماضوية من محاولات لإعادة إنتاج البنى الاضطهادية وأَخْلَقَة الحركات الاجتماعية أمام مجتمع مازال مشدودًا إلى نظامٍ أخلاقيٍّ تقليديٍّ تجذبه قوة التقاليد وتسيطر عليه ذهنيات التحريم الديني  وما تحتويه من اختزال النساء في هويتهن النسائية المفترضة، أو من خلال شيطنتهم، فحتى بعض الأطراف المحسوبة على اليسار شاركت في شيطنة المسيرات تحت ذرائع متعددة مثل «الانحلال الأخلاقي» و«خدش الحياء»، وبعد هذه الشيطنة بدر منها تجاهلٌ معرفيٌّ في تعاطيها مع التطورات الاجتماعية والتغيرات الفكرية داخل تونس، شمل تجاهل أطروحاتِ اليسار النظري التي تؤكد ترافق الحراك الاجتماعي والوعي المقموع، وضرورة مقاربة التاريخ بدرس التغيّرات التي تقوم بها المجتمعات عبر الأحداث التي تغير نسق معرفتها الاجتماعية (حسب توصيف فوكو)، ولكن اليسار التنظيمي لم يتعاطى مع الحراك الاحتجاجي بشكل كافٍ، أي نفس اليسار الذي فشل لسنين في خلق قياداتٍ نسائية وشبابية جديدة. وهكذا مثّل الاحتجاج محاولة لكسر الأخلاقوية.

إلى وقت كتابة هذا المقال، كان «الجيل الخطأ» قد شارك في حوالي 10 تحركات احتجاجية، قوبلت بحملة اعتقالات واسعة في صفوف نوى الحركة وفي صفوف المحتجين العفويين من الأحياء الشعبية بلغت حدود 1,400 اعتقال، في سابقة من نوعها منذ الثورة، ولكنّه خلّف بصمةً وفرادة في الاحتجاج، فقد تمظهر في الاحتجاجات لقاءٌ بين المتناقضات والمتضادّات وأشكال احتجاجية جديدة طرحت جدلًا وأسئلة كثيرة وتُهمًا أخلاقية مستقاة من المعاجم الدينية والمحافظة الأخلاقية الفيكتورية تنمّ على مفارقة كبيرة وانفصام حادّ، فمن شيطن الحركة الاحتجاجية اليوم كان في مرحلة سابقة من أكبر الدعاة لها.

نلاحظ اليوم تعاملًا مع الحركات الاحتجاجية الأخيرة بمنظورٍ انتقائيٍّ ومُجزّءٍ وبِوجهة نظر ذكورية، فالحرية مثلًا، بما تعنيه من حرية أخلاقية ودينية وتعبيرية وجنسية كانت وما تزال معالجتها حكرًا على الرجال، وتُعالج بوجهة نظر اجتماعية ودينية محافِظة للغاية، مثلها مثل مفاهيم المساواة والتنوير والحداثة التي أسيءَ استعمالها وفهمها وترويجها كثيرًا في الخطابات السياسية لتساعد في الترويج للاستبداد الذكوري، فالتمييز الجنسي – كما تقول الباحثة عواطف قطيطي – يشكل الخيط الرفيع الذي يربط الاستبداد الذكوري في البنية الأسرية والعشائرية بنمط الحكم السلطوي على المستوى السياسي، ومن خلال مصادرة الجسد الأنثوي وتطويعه وإلغاءه في الفضاء العام، وشحن الجسد الأنثوي بحمولة جنسية عن طريق وظيفة مفترضة وتقسيم جندري ولغوي لها، بالإضافة إلى عبء أخلاقي وديني ورموز جنسية كالشرف حول جسد المرأة يلغي أي مساهمة لها في الحركة الاجتماعية أو في الشأن العام، ويجعلها مجرّد تابعة، وتلاحظ قديري أنّ استهداف المرأة بالعنف الجسدي والتحرش والاغتصاب والتهديد والعنف الرمزي عبر التحقير والشتم والتهميش تشكل عوارض لأزمات عديدة معقدة ومتشعّبة تعكس خللًا جسيمًا في المنظومة القيمية المتعلقة بتمثل صورة المرأة والعلاقة بين الجنسين.

No description available.

إن هذه الصور، المأخوذة من التحرّك الأخير الذي تمّ خلال يوم 6 فيفري تمثل خرقًا للتابهوات المجتمعية وخلق نوع مغاير من الاحتجاج والتمرّد ضد السلطة، أو ما يسميه جورجيو أغمبان بعبارة: «الجسد العاري في مواجهة السلطة» وبالرجوع إلى ما كتب حول ذلك في ثقافتنا الأفريقية-العربية، علينا مراجعةُ أفكار آمال قرامي أو فاطمة المرنيسي التي تؤكد على كيفية حيازة جسد المرأة «المسلمة» على منظومات أخلاقية ومفاهيمية حول العفة والشرف.

No description available.

وهكذا نجد أن التقبيل، والتعري، ورفع الإصبع الأوسط، وتدخين الحشيش كرسائلَ ورمزيّات تُترجم توقًا لرفض منظومة الاستبداد ضد المرأة والتصوّرات المجتمعية المحافظة المشحونة بالبعد الأخلاقي التي ترى في ما حدث في المسيرة مجرّدَ انحلال، أو ما يصطلح عليه ايرفينغ غوفان بـ«الاستعراض الإيثولوجي» وهو مصطلح مركّب يستمده من تصور إميل دوركايم وعلم السل الحيواني أي استعراض أفعال مبسّطة ومنمطة توفر لأحد أفراد الأنواع وسيلة فعالة لتبليغ قصده في وضعيّة معيّنة. وكذلك صياغة شبابية للحراك بعيدًا على التحركات الكلاسيكية، فرفع الشعارات بالإنجليزية، في الوقت الذي يجيد فيه الجيل الأكبر سنًا اللغة الفرنسية، يتميز الشباب بإتقانهم للغة الإنجليزية ومطالبتهم أن تكون اللغة الثانية في تونس بدل الفرنسية، ومن خلال الاختلافات التنظيمية في الحركة الاجتماعية وتسلسلها الهرمي أو من خلال نسيجها المتنوع من أحياء شعبية وطلبة جامعيين وفنانين/ات وباحثين/ات وعمال وعاملات بالفكر والساعد.

دعوة لانتفاء الحزب

ربما النقطة الأهم التي يجب الوقوف عليها من خلال التأمل في حملة الجيل الخطأ هي فَرادتها وتجاوزها للأحزاب، بل وتبشيرها بانتفاء الأحزاب، ففي الوقت الذي فشلت فيه الأحزاب على الإيفاء بوعودها الانتخابية، أمام تدهور القدرة الشرائية وارتفاع نسبة البطالة، مثلت الحملات الاحتجاجية والحركات الشبابية بديلًا عنها، وهذا ما يؤكد عليه تشارلز تيلي: على عكس الأحزاب السياسية التي لها أهداف خاصّة وتقاطعات ومصالح تحتكم إليها، فإن الحركات الاجتماعية تمارس من خلال فعلها الاحتجاجي – مهما كان الشكل الذي أخذه – ما يعرف بالـ «ميتا-سياسي» (ما-وراء السياسة)، فأهدافها لا تقتصر على مساءلة الحكومة في المسائل السياسية فحسب، بل هي تسعى إلى فرض تغييرٍ أعمق يمسّ كافة أوجه الحياة الاجتماعية وأولوياتها (التشغيل، العدالة الاجتماعية، السِّيادة).

ومن هنا كانت حملة الجيل الخطأ راديكالية وجذريةً أكثر من الأحزاب اليسارية نفسها، وذلك من خلال شعارات «فاسدة المنظومة، من الحاكم إلى الحكومة»، أو «تحت الزليز برشا تكريز»، ولا نستطيع الوقوف عند هذه الشعارات دون تمثّل حجم الغضب القابع بينها، وهو غضب فشلت الأحزاب اليسارية في ترجمته داخل المعادلة السياسية حيث سارت في منحى إصلاحيٍّ أكثر منه ثوريٌّ، ربما يعود ذلك اإى خلل ذاتي في تركيبة الناشطين في الأحزاب اليسارية، أو يعود إلى الزمن كمعطىً موضوعيٍّ لم يستطيعوا مجاراته. ونجد أبلغ ما كتب في هذا السياق حول مصائر اليساريين العرب والمغاربة هو شهادة عالم الاجتماع المغربي عبد الكريم الخطيبي حين قال:

بعضنا  انهار واستسلم لعبودية وقتنا، وآخرون أصرّوا على المحافظة على المهمة السياسية مهما كان الثمن، بشكل ضروري ضمن إطار حزب ما، أو اتحاد نقابة العمال، أو منظمة سرية نوعًّا ما، وآخرون ماتوا من جراء التعذيب الذي فُرِضَ عليهم، أو نجوا منه لغاية اليوم. ولكن من منّا، سواء كنا مجموعات أم أفراد، تولى العمل الفعال المتحرر من الاستعمار في بُعده العالمي والتفكيكي لصورة الهيمنة الخارجية والداخلية لدينا؟ لكننا لا نزال في فجر التفكير العالمي، وكبرنا في ظل المعاناة التي تدعونا لاستخدام قوة الكلمة وإشعال نيران الثورة.

تجاوز شباب اليوم الغاضب إذن المسيرة َالبطيئة للأجيال التي سبقته، ولنا أن نلاحظ هذا حتى في المرجعيات الفكرية بين الجيل القديم والجيل الحالي، فبينما يمثل المصلح التونسي الطاهر الحداد مرجعًا للنخب الحالية، تمثل لينا بن مهني وسفيان شورابي ونذير كسيكسي مرجعًا وقدوة يستلهم منها الجيل الحالي نضالهم. وهذه الفجوة تمكننا من فهم عجز النخب الحالية، فالحملات الاجتماعية في تونس ما بعد الثورة تبشّر بتراجع دور الأحزاب لصالح الحملات واستيلائها على الحراك الثوري، وفي حقيقة الأمر سبق الثورة حين نطّلع على تجارب المدونين التونسييت، لكنّ ما بعدها دعّم هذا الميل، ففي الوقت الذي فشلت فيه هيئة أكتوبر للحقوق والحريات في انتزاع الحقوق من النظام، نجح المدوّنون في تسليط الضوء على الوضع الاستبدادي والقمعي في تونس والتشهير بالنظام عن طريق مدوّنات يديرها مجموعة من الشباب المستقل في معزل عن العمل السياسي والنقابي، واستمر هذا الاحتجاج بعد الثورة حيث تدعّم وتطوّر من خلال الحملات الشبابية التي استطاعت التحرّك والتأثير بشكل أكبر من الأحزاب والنقابات والتنظيمات الكلاسيكية.

يؤكد مختار بونومة في تقييمه للحملات والحركات السابقة أنّها منهلٌ كبيرٌ نستلهم منه، لكنّ كثيرًا من قصورها علينا تفاديه، «أولها تفادي الإعلام بأشكاله المختلفة، فقد حاولت عديد القنوات محاورتنا ورفضنا، هنالك وسائل إعلام صديقة ونثق فيها ولكن اشترطنا عليها الحوار مع عائلة الموقوفين قبل  ذلك»، فمع رفع الحركة علم مناهضة الفاشية، فهو يؤكد  أنّهم ليسوا ضد الفاشية فقط بل يؤكدون ضرورة المواجهة المنفردة لكل «مظاهر الطغيان والظلم والفاشية»، ويضيف أنّ «أهم فعل نضالي قمنا به هو الخروج من حي التضامن والالتحاق الفعلي مع الأحياء الشعبية، من يمثلون لب المجتمع، المنسيون، حين يقع اعتقالهم لا يتحدث عنهم أحد»، ولهذا رفعت الحملة في المسيرات الاحتجاجية شعار «الحرية للموقوف/ة الذي لا نعرفه/ا».

خاتمة

مثّلت حملة «الجيل الخطأ» فرصة لقاء واسع بين عديد المتناقضات، وهي تحيلنا الى تصوّر آصف بيات حول «ثورة دون ثوّار» مع إضافة بسيطة: الحملة تطمح إلى ثورة يقودها الجميع، فقد التقى المثلييون/ات، بشباب الألتراس، والطَلَبة والعمّال والموظفين/ات، فمن البديهي أن نطرح أسئلة حول هذا اللقاء بين المطالبين بالحريات الفردية ومشجعي النادي الإفريقي وأبناء الأحياء الشعبية وجرحى الثورة، يمكن أن تقدّم لنا دوناتيلا ديلا بورتا وماريو دياني توضيحًا نظريًا حول ذلك: لا يُمكن اعتبار نشأة تلك القضايا عمليةً بديهية، فهي تنبثق، على النقيض من ذلك من صراعٍ رمزي وثقافيٍّ متواصِل بين مختلف الأطراف الفاعلة.

هذه الحملة ليست حملةً شبابية، فمن الأفكار المغلوطة نسبها لهذا الجيل وحده، فكل جيل يولد حراكه الخاص به ويعادي سلطته، ولهذا تميّزت هذه الحملة بوجود الشباب فقط، ولذلك تمثّل انتصارًا للمهمشين والفئات المسحوقة أمام جشع منظومة يمينية سلطوية وصياغة خطّ ثالث أمام المعادلة المانوية المطروحة بين يمين ديني ويمين ليبرالي، لتقدّم التنظيم الذاتي التلقائي دون التعويل على أي قيادة، فهكذا تدعو الحملة إلى التجربة، وإلى أن نخطئ ونتعلم من الأخطاء، ونكرّس الكرامة والحرية للأحياء الشعبية.

حريّ بنا الآن، أن نضم صوتنا الى حيدر حيدر، ليكون سؤلنا: الإنسان أولًا أم المجتمع؟ وهل بالإمكان بناء عالم جديد بإنسان قديم؟


***************

أتوجه بالشكر الى المصور الصحفي آزر منصري لاتاحته استغلال هذه الصور في المقالة

أنصح بالإطلاع على العمل الرائع للزميل سفيان جاب الله الذي يحمل عنوان ««مانيش مسامح، فاش نستناو، باستا» مقاربة سوسيولوجية للحملات الشبابية في تونس» ضمن الكراس عدد 2، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تونس، 2019

قطيطي، عواطف؛ إشكاليات الجسد والجندر والسلطة، الفكر الجديد، العدد الرابع، تونس، أكتوبر 2015، ومن المهم العودة لهذا النص

غوفمان، إيرفينغ؛ البناء الاجتماعي للهوية الجنسية، ترجمة هدى كريملي. مؤمنون بلا حدود، الرباط، 2019

المليتي، عماد؛  التحولات الاجتماعية والحريات الفردية لدى الشباب التونسي، دورية عمران للعلوم الاجتماعية، العدد الثاني والثلاثين، الدوحة، أفريل 2020

تيلي، تشارلز، الحركات الاجتماعية، ترجمة ربيع وهبة، المجلس الأعلى للثقافة، مصر 2005.

دوناتيلا ديلا بورتا وماريو دياني، الحركات الاجتماعية: مقدمة، ترجمة نيرة محمد صبري، مؤسسة هنداوي، 2019.

Skip to content