العبودية والعرق والأيديولوجية في الولايات المتحدة الأمريكية (1990)

فُصِل المذيع الرياضي الأمريكي جيمي شنايدر، الملقّب بـ «اليوناني»، من وظيفته قبل عامين بسبب إذاعته العلنية (على التلفزيون) لآرائه حول الاختلافات «العرقية»، ففي معرضِ إجابته على سؤالٍ حول قلّة أعداد المدرِّبين السود في كرة السلة، قال إنّ الرياضيين السود يملكونَ الأفضلية كلاعبين كرة سلة لأنّ فخوذهم أطول من الرياضيين البِيْض، نتيجةَ التوليد المتعمّد لأجدادهم زمنَ العبودية بهذا الاتجاه، أو حسب شرح جيمي اليوناني: «أتعلم؟ الأمر يرجع إلى الحرب الأهلية، ففي أثناء تجارة العبيد . . . كان المالك، مالكُ العبد، يولّدُ أسودَهُ الكبير مع امرأتِه الكبيرة لكي يمتلك طفلًا أسودَ كبيرًا». قد تنزل هذه الملاحظة كالصاعقة على بعض الآذان، لكن شنايدر استقصد مدحَ الرياضيين السود. ولم يختتم شنايدر مقولته هنا، بل أتبع قائلًا إنّ الرجال السود لو شغلوا مجال التدريب أيضًا، فلن يعود للرجال البِيْض مكانٌ في كرة السلة بتاتًا. ولما تسبب به هذا التعبير الفظيع والصريح للعنصرية في أشدّ أشكالها جهلًا من حَرجٍ للمحطة التلفزيونية، طُردَ جيمي اليوناني من وظيفته. فلا بدّ أن المحطة قررت أنّه حتى الحمقى يعرفون أن أشياء كهذه لا تقال إلا في خصوصية الحجرات المغلقة لنوادي البِيْض، لا على الميكرفون وأمام الكاميرا. وبالطبع جيمي اليوناني لم يدّعي يومًا أنه عالمٌ أو متعلم. فقبل توظيفه لترفيه الجمهور في أثناء اللحظات المملة للفعاليات الرياضية المتلفزة، اشتهر بعمله كوكيل مراهنات، وخبرته المعرفية تكمن في صفحات الاحتمالات والنقاط، لا التاريخ أو البيولوجيا أو الجينات. ولكنّ الواقع أنّ أدعياء العلم والتعلّم أنفسهم (الموظّفون على هذا الأساس) يشاركون جيمي اليوناني معتقداته. فرواج الاعتقاد بالحقيقة البيولوجية للعرق يفوق الاعتقاد بالأبراج، وهي الخرافة التي تحتل المركز الثاني في التنافس على المغفّلين المتعلّمين ظاهريًّا. كتب ريتشارد كوهين – الليبرالي المقيم في الواشنطن بوست – عمودًا يدافع فيه عن الافتراضات الكامنة وراء ملاحظة جيمي اليوناني، دون الدفاع عن محتواها الدقيق. وحسب كوهين، كان خطأ جيمي اليوناني في مبالغته تقدير ما يمكن إنجازه بالتوليد الموجَّه للبشر، لا في إيمانه بالعرق الجسدي، فافتتح مقاله بالقول: «في أيامي الجامعية، تحارشت مع الأنثروبولوجيا. وفي الأنثروبولوجيا الجسدية كان علينا القيام بشيءٍ يسمى «تحديد النوع العرقي والجنسي» للجماجم، ما تضمن معاينةَ جمجمةٍ وتحديدَ ما إذا كانت جمجمةُ رجلٍ أو امرأة – ومن أي عرق». لم يتنبه كوهين أو ينزعج وقتها، ولا في استذكاره هذا، من المنطق الدائري الذي يبدأ بتعريف سماتٍ معينة كسمات «عرقية» ومن ثمّ تقديم الاختلافِ في تلك السمات نفسها كدليلٍ على اختلاف «الأعراق». ففي هذا الإيمان الأشبه بالإيمان الديني، لا وزن للمنطق. اختتم كوهين هذا الاستعراض المُشين بعبارةٍ شائعة كان لا بدّ أن تحذره من المستنقع الفكري الذي ضلّ طريقه إليه: «نعم يا فيرجينيا، الأعراق مختلفة جسديًّا».[1]

يتذكر أغلب الأمريكيين (ولربما غيرهم آخرون) قصة هذه العبارة. فقبل سنوات عدة، أجاب محرر صحفي على سؤال من طفلة قلقة كانت تمرّ بأول شكوكها المؤلمة حول ما إذا كان بابا نويل شخصًا حقيقيًّا، وكتبت سؤالًا للجريدة للحصول على جواب موثوق. والجواب أتى بعنوان تحريريٍّ شهير: «نعم يا فيرجينيا، بابا نويل موجودٌ حقًّا». وكانت استعارة كوهين أدقّ مما أدركَ في مساواته حاجتَهُ – ومعها حاجة قرّائه على الأرجح – للإيمان بالعرق، مع حاجة طفلةٍ للإيمان ببابا نويل. فأيُّ شخصٍ يواصل الإيمان بالعرق كسمةٍ جسديةٍ للأفراد رغم النفي الرائج من علماء الأحياء والجينات،[2] لن يكون غريبًا عليه الإيمان ببابا نويل وأرنب عيد الفصح وجنّية الأسنان، وبثبات الأرض ودوران الشمس حولها.

وللصحفيين والإعلاميين الحقّ فيما يحلو لهم من تفاهة واستهتار، وهذا ما لا ضرر فيه عادةً، إذ لا عاقل سيدير لهم بالًا (وريتشارد كوهين أكَّد أمّيته العلمية بحديثه عن «الجينات البيضاء» – وهي كيانات لم يسمع بها أي عالم جينات أعرفه).[3] ولكن في مايو 1987 قدمت المحكمة العليا للولايات المتحدة مثالًا أكثرَ جدّيةً بكثير – وهو أكثر جدّية تحديدًا لأنّها المحكمة العليا، لا محض صحفيٍّ غِر. نظرت المحكمة العليا في قضية معنية بِحق الأمريكيين العرب واليهود في المطالبة بالانتصاف بموجب قوانين الحقوق المدنية لما يتعرضون له من تمييز، وبدلًا من إسناد موقفها إلى مبدأ عدم التسامح مع التمييز ضد أي فئة في ظل نظام ديمقراطي، راحت تسأل ما إذا كان اليهود والعرب يمتازون عرقيًّا عن «القوقازيين». وكان قرارها هو: بحكم أنّ اليهود والعرب ومعهم عددٌ من الجنسيّات الأخرى اعتُبروا فئاتٍ عرقية في أواخر القرن التاسع عشر، يمكن اعتبارهم اليوم كذلك.[4] بعبارة أخرى، لم تعرف المحكمة سوى إعادة تكريس خرافات العقيدة العرقية للقرن التاسع عشر، طريقًا ملائمًا لتصحيح الظلم الواقع نهاية القرن العشرين. والواقع هو أنّ المحكمة العليا لم يكن لديها خيار، فليس لها إلا أنْ تحتكم إلى السابقة والتاريخ الأمريكيين – أي بالأحرى: إنها محكومة بمشاركتها في تلك الممارسات التي تخلق العرق وتعيد خلقه يوميًّا بشكله الأمريكي المميز. فالمحكمة العليا تعمل – مثلما يعمل جيمي اليوناني بالضبط – بموجب الافتراضات (مهما كان سخفها) التي تكوّن الأيديولوجية العرقية في الولايات المتحدة. ولسوء الحظ يتشارك المؤرّخون وغيرهم من المختصّين الأكاديميين مع المحكمة العليا وجيمي اليوناني في ذلك. إنْ أرادوا القيام بأعمالهم، فهم بحاجة مميتة لترك هذه الافتراضات.

«العرق» الوحيد

أحد أهم هذه الافتراضات السخيفة، التي يقبلها ضمنًا أغلب الأمريكيين، مفاده هو أنّ العرق عرقٌ واحدٌ في الواقع: العرق الزنجي. ومن هنا أتت حاجة المحكمة للجوء إلى البهلوان الفكري لإثبات إمكانية تصوير غير الزنوج كأعضاء لعرقٍ ما، بغية استنتاج أحقيتهم بالحماية تحت قوانين تحرّم التمييز العرقي. يعتبر الأمريكيون الناسَ ذوي الانحدار الأفريقي المعروف أو المظهر الأفريقي المرئي كعرق، ولا يعتبرون الناس ذوي الانحدار الأوروبي المعروف أو المظهر الأوروبي المرئي كذلك. ولهذا في الولايات المتحدة، تجد الباحثين، والباحثين السود، النساء، والنساء السود. سول بيلو وجون آبدايك كاتبان، وأما رالف إيليسون وتوني موريسون فهما كاتبان أسودان. جورج بوش ومايكل دوكاكيس كانا مرشّحين للرئاسة، وأما جيسي جاسكون فكان مرشحًّا أسودَ للرئاسة.

ويضاف على ذلك أنّ الناس في الولايات المتحدة لا يصنّفون الناس ذوي المظهر (أو الانحدار) اللا-أوروبي واللا-أفريقي كعرقٍ، إلا بهدف التباين المباشر أو المداور مع ذوي الانحدار الأفريقي، وحتى في تلك الحالة فما يُستخدم من مصطلحات من الأرجح أنْ يحيل إلى الجغرافيا أو اللغة، لا إلى البيولوجيا: آسيوي أو هسباني.[5] وحتى حين تشير مفردات الجغرافيا إلى ذوي الانحدار الأفريقي، فمعناها مختلفٌ عما تعنيه عند تطبيقها على الآخرين. فطلّابيَ يتعجبون من إشارتي إلى مستعمِري شمال أمريكا بمسمى الأورو-أمريكيين، ولكنهم يرتاحون لاستخدام مسمّى أفرو-أمريكيين، وهي مفردةٌ – في مرحلة الاستعمار وتجارة العبيد – لا منقبة لها. فمن السهل على الطلاب فهم أنّ لا أحد كان أوروبيًّا حقًّا، فالأوروبيون ينتمون إلى جنسيات مختلفة، لكن من المفاجئ لهم أنّ لا أحد أفريقيٌّ أيضًا، مع أنّ الأفريقيين – مثل الأوروبيين – ينتمون إلى جنسيّاتٍ مختلفة أيضًا.

يسلّمُ افتراضٌ سخيفٌ ثانٍ، لا ينفصل عن العرق بشكله الأمريكي المميز، بأنّ كلّ شيءٍ يقوم به ذوو الانحدار الأفريقي أو يفكرون به أو يقولونه هو شيءٌ عرقيٌّ بطبيعته. وبالتالي فمن يتبع التعليقات الإخبارية حول الانتخابات الرئاسية التمهيدية لعام 1988 سيتعلم أنّ الأفرو-أمريكيين، بموجب التعريف تقريبًا، سيصوّتون لجيسي جاكسون بسبب التماهي العرقي (رغم أنّ استطلاعات الرأي بينت أن مؤيدي جاسكون، أكثر من مؤيدي أي مرشح آخر، أيدوه لما رأوا فيه من تأييد للقضايا التي تهمهم. وأما مؤيّدو الآخرين لم يستقرّوا مرشّحٍ واحدٍ لمواقفه، بل تنقّلوا بين هذا وذاك استجابةً لإعلانٍ جذّاب أو إشاعة منفرة).[6]

لعل الافتراض الأشد إعاقةً فكريّةً هو الافتراض الثالث، ومفاده: أيّ حادثةٍ أو وضعٍ يتضمن أناسًا ذوي انحدارٍ أوروبي وأناسًا ذوي انحدارٍ أفريقي فهو يقع تلقائيًّا تحت عنوان «العلاقات العرقية». بدلَ إقامة الحجة بالتحليل في القضايا المعنية بالناس ذوي الانحذار الأفريقي، تُقام الحجة بالتعريف والغائية. لعلّ أغلبيّة المؤرخين الأمريكيين يفكّرون بالعبودية في الولايات المتحدة في الأساس كنظام علاقات عرقية (وكأن الشاغل الأساسي للعبودية كان إنتاج الاستعلاء الأبيض بدلًا من إنتاج القطن والسكر والأرز والتبغ). وأحد المؤرخين جازف بالقول وصرح أن العبودية هي «الفاصل الأعظم»،[7] دون أنْ يسأل نفسه: لماذا سيبذل هؤلاء الأوروبيون كلّ هذا الجهد وهذا المال لنقل الأفارقة عبر المحيط إنْ كان الهدف هو وضع الوسيلة «الأعظم» لفصلهم، مع أنّ الطريقة الأبسط لتحقيق ذلك كانت ترك الأفارقة في أفريقيا؟ لا أحد يجرؤ على تحليل صراع الإنجليز ضدّ الإيرلنديين كمشكلة في العلاقات العرقية، مع أنّ منطق الإنجليز الذي صيغ في تبرير قمع الإيرلنديين «الهمج» استخدم حرفًا بحرف كمنطقٍ لتبرير قمع الأفارقة والهنود الأصليين.[8] ولا أحد يجرؤ على تحليل القنانة في روسيا أساسيًّا كمشكلة علاقات عرقية، مع أنّ الطبقة النبيلة الروسية ابتكرت أساطيرَ حول تفوّقها الفطري الطبيعي على الأقنان، منافاتها للعقل تضاهي أساطير العنصريين الأمريكان.[9]

التفكير الرخو حول هذه القضايا يقود إلى لغة مستخفة، تروج بدورها للمغالطات. أحد المناهج الرائجة للتاريخ الأمريكي، كتبه مؤرخون بارزون للغاية، يلخص فقرة الثلاثة أخماس للدستور الأمريكي (المادة 1، القسم 2) كالتالي: «للأغراض الضريبية والتمثيلية معًا، تقرر حساب كلّ خمسة من السودِ بما يعادل ثلاثة من البيض».[10] لا تميّز فقرة الثلاثة أخماس بين السود والبيض، ولا حتى بلطيف العبارة: بين الناس السود والبِيْض. (بل ومفردتا أسود وأبيض – أو حتى زنجي وقوقازي – لا تظهران في أي سطرٍ من سطور الدستور، وليس ذلك من المفاجئ فلغةٌ عاميةٌ كهذه تفتقر الدقة الملائمة لوثيقةٍ قانونية). إنّ فقرة الثلاثة أخماس تميّز بين الأشخاص الأحرار – الذين قد ينحدرون من أصلٍ أوروبي أو أفريقي – والأشخاص الآخرين، مواراةً لمفردة العبيد. والقضية المتصدى لها هي قضية ما إذا كان المواطنون مُلّاك العبيد سيحوزونَ أفضليةً على المواطنين الذين لا يملكون عبيدًا، أو بدقيق العبارة: تقرير ما إذا كان العبيد سيُحسبون ضمن مجمل السكان أم لا، بهدف محاصصة التمثيل في الكونغرس (وهي نقطة قوة لملّاك العبيد في الولايات ذات العدد الكبير من العبيد) وتقييم المسؤولية للضرائب المباشرة (وهي نقطة ضعف لهم). أجاب الدستور بنعم، إنما بنسبة ثلاثة أخماس بدلًا من الخمسة أخماس التي كان ملّاك العبيد ليفضلوها فيما يتعلق بالتمثيل أو الصفر أخماس التي كانوا ليفضلوها فيما يتعلق الضرائب. بينما يؤكد أصحاب النوايا الحسنة – لأسباب بلاغية – أنّ الدستور أعلن أنّ الأفرو-أمريكيين ثلاثةُ أخماس إنسانٍ، فهم يتركبون خطأً على المؤرخين أنفسهم أن يتحمّلوا مسؤوليته.

إنْ تمسّك مجتمعٌ – بمن فيهم من أدعياء الفكر والعلم – بالإيمان بأطروحاتٍ ينكشف سخفها عند أضحل تدقيق، فالسبب ليس الهلوسة أو الوهم ولا حتى النفاق؛ إنّه الأيديولوجية. ومن المستحيل على أيّ شخصٍ تحليل الأيديولوجيّة عقلانيًّا إنْ ظلّ محبوسًا في تضاريسها.[11] ولهذا ما زال التعامل التاريخي مع العرق أمرًا عسيرًا على المؤرخين، فيلجؤون لمعاملته بمفردات الميتافيزيقيا، أو الدين، أو البيولوجيا الاجتماعية (أي بالأحرى: البيولوجيا الزائفة).

لا شيء يكشف تلك الاستحالة مثلما تكشفها القناعة الرائجة لدى باحثين عقلاء (عقلاء إنْ نحّينا هذه القناعة جانبًا) بأنّ العرق «يفسّر» الظواهر التاريخية، وتحديدًا: إنه يفسر سبب تعرّض ذوي الانحدار الأفريقي على وجه التحديد لمعاملة مختلفة عن الآخرين.[12] لكنّ العرق ليس إلا الاسم المعين للظاهرة، فهو لا يفسّر بقدر ما لا «تفسّر» المراجعة القضائية سبب تمكن للمحكمة العليا الأمريكية من إعلانِ أنّ قانونًا وضعه الكونغرس مخالف للدستور، أو «تفسير» الحرب الأهلية سبب مقاتلة الأمريكيين بعضهم البعض بين 1861 و1865.[13]

فعند تعريف العرق كانحيازٍ فطريٍّ وطبيعيٍّ إلى اللون، لن ينتج عن التماسه كتفسيرٍ تاريخيٍّ إلا تكرار السؤال بصفته جوابًا. وعندها تبرز مشكلةٌ عصية على الحل: منذ أنّ العرق ليس أمرًا مبرمجًا جينيًّا، فالانحياز العرقي لا يمكن أنْ يكون مبرمجًا جينيًّا هو الآخر، إنما – مثل العرق نفسه – لا بدّ أنْ ينتج تاريخيًّا. وأذكى من يلتمسون العرق تفسيرًا تاريخيًّا – مثل جورج فريدريكسون ووينثروب جونسون – يدركون هذه الصعوبة. والحل المفضل هو الذهاب إلى أنّ العرق بعد أنْ نشأ تاريخيًّا، لم يعد ظاهرةً تاريخيّةً وصار بدلًا من ذلك محرّكًا خارجيًّا للتاريخ، على منوال تلك الصيغة الحمقاء الرائجة: إنه «قطعَ حبْلهُ السرّي» (took on a life of its own).[14] بعبارة أخرى، حالما يُكْتَسب تاريخيًّا، يصير العرق متوارثًا. يوفر التعبير المجازي المستهلك بذلك تمويهًا لهذه النسخة المعاصرة من اللاماركيّة.

تاريخ أيديولوجية

العرق ليس عنصرًا من عناصر البيولوجيا الإنسانية (مثل تنفس الأوكسجين أو التكاثر الجنسي) أو حتى فكرةً (مثل سرعة الضوء أو قيمة π) يمكن بشكلٍ معقول تخيّلها تعيشُ حياتها الخاصة الخالدة. العرق ليس فكرةً بل أيديولوجية. أتت للوجود في لحظة تاريخيةٍ قابلة للتحديد لأسباب تاريخية مفهومة عقلانيًّا، وخاضعة للتغيّر لأسباب مماثلة. يمكن اعتبار المئويتين الثوريتين الثانيتين التي احتفل بهما الأمريكيون بحماسة (المئوية الثانية للاستقلال في 1976 والمئوية الثانية للدستور في 1989) المئوية الثانية للأيديولوجية العرقية أيضًا، فأيام ميلاد الثلاثة ليست متباعدةً. في العصر الثوري تواطأ مؤيدو العبودية ومعارضوها في انتخابِ الإعاقة العرقية للأفرو-أمريكيين تفسيرًا للاستعباد.[15] والأيديولوجية العرقية الأمريكية – مثل أمريكا نفسها – إحدى الابتكارات الأصيلة للمؤسسين. فمن يؤمن بأنّ الحرية غير قابلة للتصرف ويتصرّف بحرّية الأفرو-الأمريكيينَ، ليس من الغريب انصرافه إلى أنّ العرق حقيقةٌ بديهية. ومن هنا، علينا أنْ نبدأ بإرجاع العرق – أي: النسخة الأمريكية للعرق – إلى تاريخه الصحيح.

إن أردنا ملخصًا موجزًا لهذا التاريخ، ولمجتمع المزارع الاستعبادية في شمال أمريكا البريطانية، فإنّ فيرجينيا في القرن السابع عشر لا تقلّ عن سواها مكانًا مناسبًا للانطلاق. تعثرت فيرجينيا في سنواتها المبكرة ولم تنجُ إلا بالنوايا الحسنة للهنود الأصليين، وحين استنفد المستعمِرون ذلك، بانتزاع الضريبة منهم. ولكن في العقد الثاني للقرن السابع عشر اكتشفت فيرجينا وظيفتها: زراعة التبغ. حصلت الطفرة الأولى فيما سيصبح لاحقًا الولايات المتحدة في العقد نفسه، وأسندت أعمدتها على ظهور المسخّرين الإنجليز، لا العبيد الأفارقة. ولم يبدأ ملّاك الأراضي بشراء العبيد بأعداد كبيرة إلا مع نهايات القرن، بعد انتهاء الطفرة، حيث ابتدؤوا بالإتيان بهم من جزر الهند الغربية، وبعد 1680 من أفريقيا نفسها.[16] وفي سنوات الطفرة كان الإنجليز «المولودين أحرارًا» هم «الماكينة التي تصنع التبغ لصالح آخرين» حسب وصف أحد المؤرخين.[17]

استخدمَ المسخَّرون لمُددٍ أطول في فيرجينيا من أقرانهم في إنجلترا، وتمتعوا بكرامة أقلّ وحمايةٍ أضعف تحت القانون والأعراف. يمكن بيعهم وشراؤهم كالمواشي، يتخطفون ويسرقون، ويوضعونَ كرهاناتٍ في ألعاب الورق، ويمنحونَ كجوائز للفائزين في قضايا قانونية (حتى قبل أن تطأ أقدامهم أمريكا). وبخلَ التجّار الطمّاعون (ومن منهم ليس كذلك؟) عليهم في الطعام وغشّوهم في مستحقات الحرية، بل وخاتلوهم حتى في حرّيتهم نفسها عندما انتهت مدة سخرتهم. وقد تعرض الخدم للضرب والإعاقة بل وحتى القتل بإفلاتٍ كاملٍ من العقوبة. وقد تضمّنت العقوبات القضائية الصادرة بحقّ المسخّرين على جريمة الإدلاء بآراء لا يحبّذها الحاكم ومجلس الحكم، كسرَ ذراعا رجلٍ وخرِم لسانه بمثقاب، وقُطعت أذن آخر ومدّدت محكومية سخرته سبع سنوات أخرى في خدمة عضوٍ في المجلس الذي حكم في قضيته.[18]

أيًّا كانت الحقائق التي بدت بديهيةً في تلك الأيام، لم يكن منها الحق في الحياة والحرية غير القابلة للتصرف، ولا تأسيس الحكومة برضى المحكومين. كانت فيرجينيا مشروعًا ربحيًّا ولا أحدَ كان ليربح من زراعة التبغ بطرقٍ ديمقراطية. لم يكن ليربح في طفرة التبغ إلّا من سيجبر عددًا كبيرًا من الناس على زرع التبغ، فلا الجِلد الأبيض ولا الجنسية الإنجليزية صانت المستخدمينَ من أبشع أشكال الوحشية والاستغلال. والمهانة الوحيدة التي أعفوا إياها هي الاستعباد الأبدي، وتأبيد قضيتهم؛ المصير الذي حلّ على أحفاد الأفارقة.

يقول الباحثون أحيانًا إنّ المسخّرين الإنجليز تجنبوا المصير الذي راح الأفارقة ضحيته بسبب نأي الأوروبيين عن اجتيازِ خطوطٍ معينةٍ في اضطهاد أبناء جلدتهم. ولكنهم لا يؤمنون بفولكلور كهذا إلا حين يسبحون في عتمة الأيديولوجية العرقية، عتمةٌ حتى المحكمة العليا للولايات المتحدة تفقد بصيرتها فيها. وحالما يتبدد الظلام، تأتي المعرفة الحقة. فهم يعلمون أنّ اليونان والرومان استعبَدوا أبناء لونهم، وأنّ الأوروبيين استخدموا أوروبيين آخرين عبيدًا وأقنانًا، وأنّ القانون أيام إنجلترا التيديورية شرَّع استعباد المشرّدين. ويعلمون أنّ الإنجليز لم يقصّروا في وحشيّتهم بهدف إخضاع الإيرلنديين الهمجيين زعمًا وفاتحي البشرة حقًّا. وقد اقتاد أوليفر كرومويل الناجين من مجزرة دروغيدا إلى العبودية في باربادوس، وانتهج عملاؤه ممارسة بيع الأطفال الإيرلنديين إلى ملّاك المزارع في جزر الهند الغربية. ومعسكرات الاعتقال النازية لم تبتلع اليهود والغجر فقط بل حتى المناضلين والمقاومين والشيوعيين، فئاتٌ حتى المحكمة العليا الأمريكية ستعجز عن تصنيفها كفئاتٍ عرقية. من بيترلو وحتى سانتياغو تشيلي، وكوانغجو بكوريا الجنوبية، وساحة تيانانمين وأحياء سان سالفادور، تعلمت الإنسانية مرارًا وتكرارًا أنّ تشارك اللون والجنسية لم يضع حدًّا تلقائيًّا للاضطهاد. وفي آخر المطاف الرادع الوحيد للاضطهاد هو قوّة المقاومة وفعاليّتها.

المقاومة لا تشير فقط إلى القتال الذي يشنّه الأفراد، أو تجمّعاتهم، في أي لحظة زمنية ضدّ من يحاولون التسلَّط عليهم، بل تشير إلى ما يسبق ذلك من حصيلة تاريخية للنضال أيضًا، حصيلةٌ مِنْ قِدَمها تقدَّست في الأعراف أو ترسَّمت في القوانين (بصفتها «حقوق الإنجليزي» مثلًا). لم تكن حريّات الإنجليزي من الطبقة الدنيا (والحرّيات الأقل نسبيًّا للإنجليزية من الطبقة الدنيا) هباتٍ من الطبقة النبيلة الإنجليزية، منحتها لهم رأفةً بإخوتهم في اللون أو الجنسية. بل خرجت من قرونٍ من النزاع اليوميّ، العلني والسري، المسلّح والأعزل، المسالم والقهري، لتتجاوز الحدود القائمة حينًا. فالمواعظ الأخلاقية حول ما يمكن وما لا يمكن فعله بالطبقات الدنيا لم تكن إلّا الواجبات والممنوعات المستخلصة من هذه التجربة التاريخية الجمعية، التي طُقِّست في قواعد السلوك أو نُظِّمَت في القانون العام – وإنْ كانت خاضعةً دومًا للتفاوض والإرجاع رهانًا في حلبة القتال.[19] وكلُّ تقدّمٍ جديدٍ للحرية اعتبرته الطبقات الدنيا حقًّا لها مثّلَ حصيلةً مؤقتةً لآخرِ جولةٍ في مباراةٍ مستمرةٍ، يؤسس الوزن القتالي للخصوم في الجولة التالية.

العرف والقانون

في الجولة التي جرت في بدايات فيرجينيا الاستعمارية خسر المستخدمونَ العديد من مكتسبات الكرامة والرفاهية والراحة التي انتزعها أقرانهم في إنجلترا، ولكنهم لم يخسروها جميعًا. فقد كان خفضُ مكانةِ جملةِ المستَخدمين إلى الاستعباد ليدفع بعجلة النضال، وهو مشروع خطيرٌ نظرًا لتوفر السلاح لديهم، ولغلبتهم العدديةه على أسيادهم، وسهولة استغلال الهنود للحرب التي سينتجها ذلك بالضرورة بين الأعداء. بل وإنْ بلغ إنجلترا خبرُ استعبادِ المهاجرين حالَ وصولهم، لهدّد ذلك مصادر الهجرة المستقبلية. وحتى أجشع المتربّحين وأقصرهم نظرًا سيرى كارثية سياسةٍ كهذه. ونظرًا لسرعة الوفاة في فيرجينيا، فمدة الحياة العاملة لأغلب العبيد كانت أقلَّ من سنوات الخدمة السبع (فمع هجرة 15,000 نسمة بين 1625 و1640 لم يزدد التعداد السكاني إلّا بمقدار يترواح بين 1,400 نسمة، و7,000 أو 8,000 نسمة كحدٍّ أقصى).[20] ولم يكن من الممكن التطلّع لذريّة المستعبَدين مستقبلًا كأمرٍ سيعوّضُ عن الوفيات المؤكدة للمهاجرين البالغين في الحاضر، ففُرص الولادة نادرة نظرًا لقلة النساء المستقدمات في سنوات الطفرة.[21]

وبعض هذه الاعتبارات نفسها ذهبت حجّةً ضد توظيف ذوي الانحدار الأفريقي كعبيدٍ مدى الحياة على مستوى واسع، وبعضها الآخر لم يؤدي هذا الغرض. ومن نافلة القول أنّ الدعاية السلبية لم تهدد مصادر الهجرة القسرية مثلما هددت مصادر الهجرة الطوعية. والأهم من ذلك بكثير: لم يشارك الأفارقة وأفارقة جزء الهند الغربية في التاريخ الطويل من التفاوض والتنازع الذي أمَّنت به الطبقات الدنيا الإنجليزية علاقةً معينة مع أربابها، وبالتالي فالعرف والقانون الذي جسَّد ذاك التاريخ لم ينطبق عليهم. بعبارةٍ أخرى: حينما دخل الخدم الإنجليز الحلبة في فيرجينيا، لم يدخلوها وحيدين، بل دخلوها وإلى جانبهم أجيالٌ سبقتهم في الصراع؛ وحصيلة تلك الصراعات السابقة أسست أحكامَ أحدثِ الصراعات وشروطه. ولكن الأفارقة وأفارقة جزر الهند الغربية دخلوا الحلبة وحيدينَ فعلًا. فأسلافهم خاضوا صراعاتهم في حلبة أخرى، لا أثر لها على هذه الحلبة. ومهما كانت التنازلات الممكن لهم انتزاعها، فعليهم الابتداء من الصفر، في مباراةٍ غير متكافئة، على بعد محيطٍ من أيّ ناصرٍ أو معين.

أتيحَ الأفريقيون وأفارقة جزء الهند الغربية للاستعباد السرمدي بنحوٍ لم يكن متاحًا مع الخدم الإنجليز. بل وكان للفيرجينيين شراؤهم باستعبادٍ وتأقلمٍ مسبق، وقد فعلوا ذلك في أوائل سنوات النخاسة. ولكن هذه المسألة لم تمسِ مسألة ما نسمّيه اليوم بالعرق إلّا في وقتٍ متأخرٍ جدًّا. بل والوقت الذي استلزم لتحويل ذلك إلى منهج عبودية كان طويلًا. رغم تدرّج وصول العبيد الأفارقة أو ذوي الأصل الأفريقي منذ 1619 فما بعد، فالقانون لم يعترف بشرط العبودية أو يحدد تعاملًا خاصًّا ممنهجًا للخدم ذوي الأصل الأفريقي حتى 1661، ما يعني تمتّع العبيد الأفارقة ما بين 1619 و1661 بحقوقٍ لم يتمتّع بها حتى السّود الأحرار في القرن التاسع عشر.[22] كان البعدُ العملي العنصرَ المحدِّد في القضية، فقبل أنْ تصبح العبودية ممنهجةً لم توجد حاجة لقانون استعبادٍ ممنهج. ولم تكن العبودية لتصبح ممنهجةً ما دامت تكلفة الأفريقي المستعبَد مدى الحياة ضعف تكلفة استخدامِ  مسخّرٍ إنجليزيٍّ لخمسٍ سنواتٍ من المرجّح وفاته قبل انقضائها.[23]

لم تتغير هذه الحسابات المروّعة حتى ستينيات القرن السابع عشر مع تغيّر أمورٍ أخرى أيضًا: انهارَ سعر التبغ، ومعه أعداد الخدم الإنجليز المهاجرين إلى أمريكا، وحياةُ الأفرو-أمريكيين بدأت تطول بما فيه الكفاية لتعوّض عن تكلفة الاستعباد مدى الحياة، وأما الأورو-أمريكيين فحياتهم بدأت تطول بما فيه الكفاية ليطالبوا بالحرية ومستحقات الحرية (بما في ذلك الأرض) المتعهّد لهم بها مع انتهاء مدة سخرتهم. وهذه النقطة الأخيرة استحثت إجراءاتٍ مضادة نفّذها من أسّسوا ثرواتِهم على عمل الخدم، وأحد هذه الإجراءات هو اختلاق الأعذار لتمديد محكومية الخدم، الأمر الذي عمد عليه تجمّع فيرجينيا بروحٍ انتقاميةٍ في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وكان أحد الإجراءات الأخرى هو إغراق كل الأراضي المتوفرة بمياه المحيط، ما أجبر الخدم المُعْتَقين على أمرين: الاستئجار من ملّاك الأراضي (وبالتالي مواصلة العمل عند مالك الأرض ولربحه) أو استيطان المناطق الحدودية، البعيدة عن محطات الماء والمعرضة للهجمات الانتقامية من الهنود، فأنّى لهم أنْ يقبلوا بهذا الزحف الجديد من الغرباء الذين طردوهم أصلًا من المناطق الساحلية. وبحلول السبعينيات واجه حكّام فيرجينيا مشكلةً قد تنفجر في أي لحظة: طبقةٌ كبيرة من العتقاء (البِيْض) الشباب الساخطين، لا أرض عندهم ولا عوائل، وكلّ ما لديهم هو السلاح.[24]

ولم يمر وقتٌ طويلٌ حتى انفجرت. في 1676 أطلقت مجموعة من هؤلاء، ومعهم خدمٌ وعبيدٌ أيضًا، أكبر انتفاضةٍ شعبية في أمريكا الاستعمارية: نهبوا ثروات الأغنياء، وأحرقوا رؤوس مالهم، فلاذ الحاكم الملكيُّ وأعوانه بالفرار إلى ساحل فيرجينيا الشرقي. ولكنّ هربه لم يطل، فالانتفاضة أخمدت بسرعة، دون تحقيق – أو محاولة أو اقتراح – تغييرات في نظام القوة والسلطة القائم. ما أنجزته هو زرع الريبة والخوف في عقول أصحاب الثروة والشوكة من الطبقة الدنيا البيضاء النامية.[25]

كانت لحظةَ حظٍّ – للبعض على أيّةِ حالٍ – توفَّر فيها الأفارقة وأفارقة جزء الهند الغربية للعمل في المزارع الاستعبادية حينما صار شراء العبيد مدى الحياة أمرًا عمليًّا، وقت ما صعُب استخدام الأوروبيين كمصدرٍ رئيسٍ لعمل المزارع وبعث بالمخاطر. أتاح استيراد العبيد الأفارقة بأعدادٍ متزايدة الحفاظَ على فيالق كافية من عمّال المزارع دون صنع عبوّة ناسفة من الإنجليز المسلّحين الساخطين من حرمانهم حقوق الإنجليز، والتخلص من الموارد المادية والسياسية التي جعلت سخطهم محسوسًا.[26]

ومع مرور الوقت زحف الاستيطان الأوروبي إلى الداخل، وصار ممكنًا للعتقاء حيازة أراضٍ لهم، وأعدادهم كانت في انخفاضٍ على أي حال مع انحسار هجرة الخدم . ومع استبدال عمالة المستعبَدين أبدًا لعمالة المستخدَمين حينًا، ذهبت مشكلة التموين للعتقاء إلى غياهب النسيان (إلى درجة أنّ مسألة تعويض العتقاء حين رجعت إلى جدول أعمال الأمة، في أثناء الحرب الأهلية، لم تستحضر أبدًا السابقة القديمة لمستحقات الحرية. وحين تكلم أبراهام لينكون ومعاصروه عن العتق المعوّض، لم يروا حاجةً لتوضيح هوية المستفيد من هذا التعويض. لم تنبت شفةٌ بكلمتَيّ مستحقات الحرية؛ كل ما تحدثوا عنه كان التحذير من وهب الزنوج «هدية» ليسوا أهلًا لها).

من الاضطهاد إلى الدونية

لم يأتِ العرق، بصفته أيديولوجية متماسكة، إلى الوجود بتزامنٍ مع العبودية، لكنه اتخذ وقتًا أطولَ منها ليغدو ممنهجًا. أحد الشوائع التي يندر معاينتها تقول: يسهل اضطهاد الناس إنْ شاع النظر إليهم كدونيين بالطبيعة. ولكن العكس هو الصحيح: تسهل رؤية للناس كدونيين بالطبيعة إن شاع النظر إليهم كمضطهَدين. قد يكون الأفارقة وأحفادهم، في أنظار الإنجليز، كفّارَ دينًا، أجانبَ جنسيّةً، وغرباء مظهرًا. لكن ذلك لم ينتج أيديولوجيةَ دونيّةٍ عرقيةٍ حتى أضيفَ مكوّنٌ تاريخيٌّ إضافيٌّ إلى الوصفة: إلحاق الأفارقة وأحفادهم في كيانٍ سياسيٍّ ومجتمعٍ افتقروا فيه لحقوقٍ لم تكن فقط أمرًا مفروغًا منه بالنسبة لآخرين، بل اعتبرها هؤلاء حقًّا لهم بموجب قانونٍ طبيعيٍّ بديهي.[27]

كل المجتمعات البشرية تفترض، ضمنًا أو جهرًا، أنّ الطبيعة جبلت ترتيباتهم الاجتماعية. أو بعبارة أخرى: جزءٌ من فهم البشر لكلمة «طبيعة» ينطوي على الشعور بالحتمية الذي يرتبط تدريجيًّا بالروتينات الاجتماعية المتوقعة والمتكررة: «عاداتٌ، من قِدمها، تبدو طبيعةً»، على حد قول ناثانيال هاوثورن. كان النبلاء الإقطاعيون للعصور الوسطى المبكرة عبارة عن أناسٍ أقوى من أقرانهم بملكيتهم للسلاح أو الأرض أو كلاهما. لكن لا أحد في ذاك الوقت، ولا حتى هم أنفسهم، اعتبروا فوقيّتهم فوقيةً بالدم أو المولد، بل وكان ذلك ليُعتبر هرطقة. ولكنّ عادةَ النبيل على قيادة الآخرين، المكرسة في الروتين اليومي وبالتالي المتوارثة جيلًا بعد جيلٍ، ولَّدت في آخر المطاف قناعةً بأنّ فوقيةَ النبلاء تعود إلى الطبيعة، وأنّ من حقّهم الحكم على الكائنات الحقيرة بالفطرة. ومع نهاية القرن الخامس عشر ما كان هرطقةً في عصرٍ مضى صار – فعليًّا – أحدَ أصول العقيدة.[28] لم يقع الفلّاحون تحت سلطان النبلاء بسبب نظرةٍ لهم بأنهم أدنياءُ بالفطرة. بل العكس: صار ينظر إليهم بأنهم أدنياءُ بالفطرة لأنهم وقعوا تحت سلطان النبلاء.

والسطوة التي تملكها حقائق الطبيعة الناتجة عن حاجاتٍ أيديولوجية على عقول الناس أكبر أحيانًا من سطوة حقائق الطبيعة الناتجة عن الطبيعة نفسها. فقد آمن بعض النبلاء في روسيا القيصرية إيمانًا صادقًا بأنّ عِظامهم بيضاء، في حين عظامُ الأقنانِ سوداء،[29] ومع شيوع العنف في تلك الأزمان، لنا أنْ نفترض وفرة الفرص المتاحة للنبلاء ليروا عظام الأقنان بأمّ أعينهم. فالأشياء الواجب أيديولوجيًّا أنْ تكون حقيقيّةً، متينةٌ لدرجة تعجز أيّ ملاحظةٍ إمبريقية عن تفنيدها. ولكن لعدم شيوع فكرة المساواة المطلقة المستندة إلى القانون الطبيعي في روسيا القيصرية، لم تبرز فيها، كما تطوّر في الولايات المتحدة إثر الثورة، حاجةٌ إلى نسخةٍ متسّقة أو جذريّة لِـلّا-مساوة المطلقة المستندة إلى القانون الطبيعي.[30] فإنْ كانت الحريةُ مضمونةً بالقوانين البديهية للطبيعة، فلا يمكن تبرير حرمانها إلا بما يضاهيها من القوانين الطبيعية.

فمن الممكن للمؤرخ أنْ يرى المستعمِرين الأمريكيين في طور تجهيز الأرضية للعرق دون أنْ يدركوا مسبقًا ما سيُشيَّد على الأسس التي وضعوها. أسّس أحد القوانين الموضوعة في مستعمرة ماريلاند في 1664 الحالة القانونية للعبودية مدى الحياة، وجرّب تعيين حالة الاستعباد استنادًا إلى حالة الوالد. لكن تلك التجربة لم تستمر طويلًا. الأبوّة، على عكس الأمومة، دائمًا غامضة. وسرعان ما أدرك ملّاك العبيد المنفعة في قاعدةٍ مختلفةٍ وحاسمةٍ للنسب، قاعدةٌ ستضمن للمالكِ كافة ذرّية المرأة المستعبَدة، مهمن كان والدهم، وإنْ على حسابِ خسارة ذرّية الوالد المستعبَد والمرأة الحرّة. ولكن هدف التجربة الأولى واضح: منع تضاؤل حقوق مِلكية ملّاك العبيد الذي كان ليَنتج لو توفّر الحق في الحرية لذرّية النساء البِيْض الأحرار والرجال المستعبَدين. ولغة ديباجة القانون توضح أنّ الهدف لم يكن العرقَ بعد: «فلو نسيت النساء الإنجليزيات المولودات أحرارًا حالتهن الحرّة، وألحقن العار بأمّتنا بالتزاوج مع عبيدٍ زنوجٍ، سينتج عن ذلك قضايا متنوّعة تمسّ هؤلاء النساء، ووقعَ ضررٌ عظيم على أسياد هؤلاء الزنوج . . .».[31]

نسيت «النساء الإنجليزيّات المولودات أحرارًا» (وليس النساء البِيْض) شرطهن الحر، وألحقن بذلك العار بأمتهن (فلم ينسين لونهن ولم يلحقن العار بعرقهن بعد). ومن نِسْيانهن وعارهن نتجت «قضايا متنوّعة» و«ضرر عظيم» بحقّ ملّاك العبيد. العرق لا يفسّرُ القانون. بل القانون يكشف عن مجتمعٍ في طورِ ابتكاره للعرق.[32] فما استحثّ القانون كان المقتضيات العملية (مقتضى توضيح حقوق ملكيّة ملّاك العبيد والحاجة لثني الأحرار عن التخالط مع العبيد). وحالما يتكرر تطقيس حاجاتٍ عملية بما فيه الكفاية إما كسلوكٍ شائع أو كعقابٍ لمخالفة السلوك الشائع، تكتسبُ هذه الحاجات عقلنةً أيديولوجية تُفَسَّر للمشاركين في الطقس تلقائيةَ الفعل وطبيعيته.

حينما بلغت إمبراطورية القطن أوجها في القرن التاسع عشر، واصلت العبودية تنفيذ الخدمة التي تصدرتها في الزمن الاستعماري: تقليص حاجة المواطنين الأحرار (أي بالأحرى: البِيْض) لاستغلال بعضهم البعض مباشرةً، وبالتالي تعريف الاستغلال الطبقي بالاستغلال العرقي. ولكن خدماتها كانت أكثر بكثير. أمَّنَ سلطانُ المزارع الاستعبادية على المجتمع الجنوبي، الحيزَ الاجتماعي الذي يمكن فيه لليَوامِنة البِيْض (yeomanry) – أي: صغار المزارعين والحرفيين الذين شكّلوا ثلاثة أرباع العائلات البيضاء في الجنوب الاستعبادي قبل الحرب الأهلية – التمتع باستقلال اقتصادي ودرجةٍ كبيرةٍ من تحديد المصير على مستوى محلّي، لتحصينهم ضدّ عالم مجتمع السوق الرأسمالي. وبهذه الخدمة أتاحت العبودية واقتضت من الأكثرية البيضاء تطوير شكلها المميز الخاص للأيديولوجية العرقية.

اليوامنة البِيْض

كان ثلثا سكّان الجنوب القديم أحرارًا وبِيْضًا. ومن هؤلاء أغلبهم لم يمتلكوا عبيدًا، والقلة الذين امتلكوا عبيدًا استخدموهم غالبًا لصيد الحيوانات والأسماك، وللأشغال الزراعية والمنزلية، وليس لزراعة المحاصيل التجارية كالقطن والتبغ. وكانت الأغلبية تعيش في مناطق شبه نائية لا تهم ملّاك المزارع الاستعبادية، مناطق كثيرة المنحدرات أو كثيرة الصخور أو الرمال، قاحلة أو باردة أو بعيدة جدًّا عن المياه القابلة للملاحة. بل وكثيرٌ من هؤلاء كانوا أبناءَ وأحفاد الذين هُجِّروا من أراضٍ أفضلَ زحفت عليها المزارع الاستعبادية غربًا.[33] ولأسباب متعلقة بمصالحهم الشخصية لم يرغب ملّاك المزارع الاستعبادية بخلق خصومة مع هؤلاء اليوامِنة الذين يقطنون تلك الملاذات النائية (فأعداد اليوامنة، وبالتالي أصواتهم، أكثر من ملّاك العبيد) أو التدخل في تلك الملاذات. فالمدارس والطرق وسكك الحديد وغيرها من التحسينات في تلك المناطق ستستلزم على الملّاك فرض الضرائب على أنفسهم، الأمر الذي أعرضوا عنه لمدة طويلة. وكانت لدى اليوامنة بدورهم غيرةٌ على استقلالهم وتقرير مصيرهم محلّيًّا، فقد أبوا أنْ تفرض الدولة عليهم إرسال أبنائهم إلى المدارس، وارتاب كثيرٌ منهم من سكك الحديد وما قد تجلبه معها من مضاربين بالأراضي وقراصنة سكك الحديد وقاطراتهم التي قد تتسبب بالحرائق في الحقول أو تدهس أطفالهم وماشيتهم.[34]

في مجتمعاتهم المحلية كوَّن البِيْض الذين لا يملكون عبيدًا طريقةَ حياةٍ مختلفةً عن الملّاك المزارعين، ومختلفةً بالمثل عن مزارعي الولايات الشمالية حيث سادت الزراعة الرأسمالية منذ وقتٍ مبكر، فالمحاصيل التجارية (القطن أو التبغ حصرًا، بحكم أنّ الأرز والسكر كانت محاصيل المزارع الاستعبادية أساسًا) زُرِعت للاستخدام المنزلي أو لتسديد قيمة تلك المشتريات القليلة التي استلزمت نقودًا. وأغلبيتهم ركّزوا على المحاصيل الغذائية (كالحبوب والبطاطا والخضروات) ورعاية المواشي. سمحت إحدى التقاليد، التي عفا عليها الزمن في الولايات الشمالية، لأي شخص برعي المواشي أو الصيد على أي أرضٍ غير مسيجة – سواءً كانت عمومية أم خصوصية. وبالتالي فحتى من لا يملك أرضًا أو كانت أرضه صغيرة يمكنه أن يرعى المواشي. وكان غير المستعبِدين يتاجرون في الأسواق المحلية، لا الأسواق الوطنية أو الدولية، وعادةً على أساس المقايضة أو مبادلة العمل (ويقصد بذلك أنْ يصلح المرء سقف حضيرة جاره مثلًا، مقابل أنْ يضع جاره عجلةً جديدةً على عربته أو يصنع له جزمةً جديدة). وأما بضاعة الدكاكين المحلية فاقتصرت غالبًا على ما لا يمكن للمجتمع المحلي إنتاجه – مثل السلاح والذخيرة والدبس والمسامير – لأنه في الغالب مجتمعٌ مكتفٍ ذاتيًّا من ناحية الغذاء والأثاث والأحذية والملابس، فقد كان لدى كلّ منزلٍ تقريبًا مغزل، يمكن غزل القطن المنسوج محلّيًّا به لتحاك ملابس العائلة. وشبكةُ الدَّين ربطت المجتمع بعضه ببعض، بقدر ما أنتجت من جدالات وقضايا قانونية: كلّ واحدٍ عليه دَينٌ لآخر. والدكّان المحلّي لم يفرض فائدةً إلا بعد سنةٍ من الاستدانة. وقد أقرّ القانون نفسه بقواعد العدالة الأساسية التي سادت في مجتمعات اليوامنة، فأغلب الولايات في أداني الجنوب كان عندها قانون عرف باسم «استثناء المنازل»، بموجبه لا يحقّ للدائنين أنْ يجرِّدوا ربَّ المنزل من منزله وأثاثه وأرضه – ما يكفي للسماح له بالحفاظ على استقلاله الاجتماعي والاقتصادي.

قاد الإيمان القوي بقيمة الاستقلال الاجتماعي اليوامنة إلى مشاركة الملّاك ازدراءهم للعمال المستأجرين في الشمال والعبيد المستبضَعين في الجنوب، ونمَّى فيهم غريزة مساواةٍ ترفض القبول الخانع لحقّ الرجل الأبيض الأرستقراطي في حكم غيره من الرجال البِيْض (حقٌّ لم يشك الملّاك بحيازتهم إياه تجاه الطبقات الدنيا بكافة ألوانها). فالأيديولوجية العرقية لليوامنة، إذًا، لم يكن لها أنْ تجتر أيديولوجية الملّاك. بل نشأت كناتج جانبيٍّ للسير اليومي العملي لحياة اليوامنة.

ولعل هذه اللحظة مناسبة لشرح مختصر لما هو بأيديولوجية وما هو ليس بأيديولوجية، فبِلا فهمٍ لما هي الأيديولوجية وما تفعله، وكيف تنشأ وكيف تدوم، لا فهمٌ تاريخيٌّ حقيقيٌّ للعرق. إنْ عرَّفنا الأيديولوجية بتعريفها الأفضل، فهي المعجم الوصفي للوجود اليومي، عبره يدرك الناس الواقع الاجتماعي الذي يعيشونه ويخلقونه يومًا بعد يوم. إنها لغة الوعي التي تناسب طريقةً محددة لتعامل الناس مع غيرهم. إنها تفسيرٌ للعلاقات الاجتماعية في الفكر، عبره يخلق الناس ويعيدون خلق كيانهم الجماعي، بكافة الأشكال المتنوعة التي قد يتخذها هذا الكيان: العائلة، العشيرة، القبيلة، الأمة، الطبقة، الحزب، الشركة، الكنيسة، الجيش، النادي، وهلم جرًّا. وعليه فالأيديولوجيّات ليست أوهامًا بل هي حقيقية، حقيقيةٌ كالعلاقات الاجتماعية التي تنوب عنها.

الأيديولوجيات حقيقية، ولكن لا يتبع من ذلك أنها دقيقة عِلميًّا، أو أنها توفر تحليلًا للعلاقات الاجتماعية معقولًا لأيّ شخصٍ لا يتشارك طقوس تلك العلاقات الاجتماعية. فسَّرت بعض المجتمعات (منها نيو إنجلترا الاستعمارية) العلاقات الإشكالية بين الناس بأنها نتاج الشعوذة أو المسّ بالشيطان. وهذا التفسير معقولٌ لمن يعيشون حياةً تنتج الشعوذة وتعيد إنتاجها، ولا يمكن لأيّ «دليل» عقلانيٍّ مهما كان دامغًا دحض ذلك. فالشعوذة في هكذا مجتمع بديهيةٌ مثلما العرق حقيقةٌ طبيعيةٌ بالنسبة لريتشارد كوهين ابن الواشنطن بوست. ولكن للناظر من الخارج، أنْ تُعتبر الشعوذةُ تفسيرًا لسقوط حملٍ، أو فشل محصول زراعي، أو مرضٍ مفاجئ، أو موتٍ، سيبدو أمرًا منافيًا للعقل، مثلما سيبدو العرق كتفسيرٍ للعبودية منافيًا للعقل لأيّ شخصٍ لا يُنتج العرق طقوسيًّا يومًا بعد يوم كما يفعل الأمريكيون. ليست الأيديولوجيات بحاجة لأنْ تكون معقولةً للغرباء (ناهيك عن أن تكون مقنعةً لهم)، فهي تقوم بعملها حينما تساعد أهلها على عقلنة ما يفعلونه ويرونه على أساسٍ يوميٍّ (طقوسيًّا، مرارًا وتكرارًا).

وبعد الإسهاب في ما هي الأيديولوجية، فلندخل في ما ليست عليه. إنها ليست كيانًا مادّيًا، شيءٌ ما، يمكنك تمريره كما الملابس القديمة، تُعدي الآخرين به كما لجرثومة، تنشره كالإشاعة، أو تفرضه كقواعد اللبس وآداب السلوك. وليست مجموعةً من المعتقدات المنفصلة – مفردة «مواقف» (attitudes) هي المفردة التي يحبذها علماء الاجتماع الأمريكيون ومن تبعوهم من مؤرخين – يمكنك استخلاصها من سياقها، وقياسها بأبحاثَ مسحية راهنة أو بأثر رجعي. (يومًا ما ستبدو تشيئةُ التصرف والسلوك في «المواقف» أمرًا عتيقًا وباليًا مثلما تبدو الآن تشيئتها في «الأخلاط» الجسدية – البلغمي والصفراوي والكئيب والمتفائل). وليست وحشَ فرانكشتاين خارجًا عن أي عقال.

والأيديولوجية والبروباغندا ليستا بالشيء نفسه. فعندما يقول أحدهم إنّ «أيديولوجية مناهضة العبودية تسللت بين العبيد عبر الجرائد الإلغائية الممنوعة» فهو يتحدث عن البروباغندا، لا الأيديولوجية، فأيديولوجية مناهضة العبودية عند العبيد لا يمكن تهريبها إليهم في جرائد غريبة. يستنتج الناس أيديولوجيتهم ويتحققون منها في الحياة اليومية. لم يكن لأيديولوجية مناهضة العبودية إلّا أنْ تنشأ بين العبيد من حياتهم في ظل العبودية ومن علاقاتهم اليومية مع الملّاك وغيرهم من أعضاء المجتمع الاستعبادي.[35] لم يكن فريدريك دوغلاس يطرح مفارقةً بل يدلي بالحقيقة البسيطة حين قال إنّ أولَ محاضرة سمعها ضد العبودية ألقاها سيّده في معرض شرح الأخير هذا لعشيقته لماذا يجب ألا يُعلَّم العبيدُ القراءة. وعلى نفس المنوال، عندما قرر العبيد عند إطلاق الطلقة الأولى في الحرب الأهلية – أو حتى قبل ذلك مع انتخاب لينكون – أنّ التحرير صار الآن على جدول أعمال الأمة، لم يكن ذلك استجابةً إلى البروباغندا الشمالية الرائجة (التي لم توعد بأيِّ شيءٍ من هذا القبيل في ذاك الوقت). إنّ تجربتهم مع ملّاك العبيد – وبالأخص نظرةُ ملّاك العبيد للحزب الجمهوري والإلغاء بنحوٍ هستيريٍّ كمترادفتين – هي ما جعل العبيد يرون في لينكون محرِّرًا قبل أن يرى ذلك في نفسه. بل وأضيف أنّ العبيد، من جرّاء عملهم بموجب هذا العلم المسبق، أجبروا لينكون على أنْ يصير المحرِّر.

الأيديولوجية، البروباغندا، والدوغما

هذا الإصرار على أنّ الأيديولوجية والبروباغندا ليستا الشيء نفسه لا يعني افتراض عدم ترابطهما. فأكثر البروباغانديين نجاحًا هو من يفهم أيديولوجية من يستهدف أدلجتهم فهمًا ضليعًا. فعندما أكد دُعاةُ الانفصال قبل الحرب الأهلية الأمريكية على خطر تعدّي الشماليين على حقّ الجنوبيين في تقرير المصير، وقع تأكيدهم على موضوعٍ ذي صدى مع عالَم اليوامِنة وعالم ملّاك العبيد معًا، مع أنّ العالمين مختلفان اختلاف الليل والنار. «لن نكون عبيدًا لأحد» كان شعارًا ناجحًا للبروباغندا الجنوبية، فلو قال الانفصاليون: «لن نسمح لهم بأخذِ عبيدنا»، لكانت بروباغندا ضعيفة، ولم يغِب ذلك عن أذهانهم؛ ذلك أشبه بما يروج في يومنا هذا من عبارات مثل «مبادرة دفاعية استراتيجية»، وهي دعاية جيدة لبرنامج تسليح لن تضاهيها فَعاليةً عباراتٌ مثل «مبادرة هجومية استراتيجية» أو «مبادرة هجمة أولى».

والأيديولوجية ليست هي هي العقيدة أو الدوغما. قد تقول عقيدة العبودية مثلًا: للشخص الأبيض الكلمة العليا على الشخص السود. لكن واقع التدافع اليومي في عمل أي مالكٍ سيخبره (أو يخبرها) أنّ بعض الأوضاع تستلزم القبول بكلمة العبد على كلمة المشرف.[36] فالمشرفون يأتون ويرحلون، أما العبيد فباقون؛ والهدف كان إنتاج القطن أو السكر أو الأرز أو التبغ، لا إنتاج الاستعلاء الأبيض. فإنّ ارتبطَ الإتباع التام للعبد إلى المشرف بإنتاجٍ ضعيف، سيسبب ذلك كارثة للمالك. وعليه فأيديولوجية المالك – أي المعجم اليومي للعمل والتجربة – لا بد أن يتيح المجال للنزاع والصراع (المصاغ على الأرجح بلغةٍ أبويةٍ أو عنصرية)، حتى لو حددت العقيدةُ هرميةً أبديةً. وقد يكون من الممكن فرضُ العقيدة أو الدوغما، وكثيرًا ما يحصل ذلك بالفعل: يُطرَد المعارضون من الكنيسة أو الحزب. لكن الأيديولوجية هي خلاصة التجربة. وحيثما تغيب التجربة، تغيب معها الأيديولوجية التي لا يمكن إلا للتجربة الغائبة أن تستحضرها. كان من المحال إذًا على الملّاك في الجنوب القديم فرض فهمهم للعالم على اليوامنة أو العبيد، إلا لو حوّلوا حياةَ اليوامنة والعبيد إلى نسخةٍ من حياتهم.

لا بدّ من أنْ تُخلق الأيديولوجية ويُتحقق منها في الحياة الاجتماعية؛ فإنْ لم تكن الحال كذلك، ستموت، حتى لو بدت متجسّدةً بأمانٍ في شكلٍ يمكن توريثه.[37] ما زال الاعتقاد رائجًا بين المسيحيين اليوم بأنّ الجلوس على الركبتين وشبك الأصابع هي الهيئة المناسبة للدعاء، لكن قلّةً تعرف السبب؛ حتى القلة التي تعرف لا يمكنها بقرارٍ منها أنْ تعيش معنى هذه الهيئة كما عاشهُ أناسٌ كانت جزءًا من الأيديولوجية الحقيقية لحياتهم الاجتماعية اليومية. فقد عفا الزمن على العلاقات الاجتماعية التي أعطت معنىً صريحًا للهيئة الطقسية لخضوع التابع إلى اللورد، و إتباعًا، على المعجم الأيديولوجي (بما فيه هيئة الدعاء) الذي عاشت فيه تلك العلاقات الاجتماعية.

من هذا الشرح تثار مسألة كيف يمكن لِفهمِ مجموعة معيّنةٍ للواقع، لأيديولوجيتها، أن يتسيد على أفهام أخرى فيما يتعلق بالقوة السياسية الحقيقية والفعالة. اعتمادًا على من هو السائل، إنها إما مسألة نظام اجتماعي، أو تحويل القوة إلى سلطة، أو مسألة هيمنةٍ سياسية. الجواب الأكثر بداهة – القوّة الجبرية – ليس جوابًا. فلا يتوفر لأي أحدٍ قوة جبرية كافية لإنجاز ذلك، خصوصًا مذ أنّ الإخضاع، بحدّ ذاته، يندر أنْ يكون الهدف. لو أنتجَ ملّاكُ العبيد الاستعلاء الأبيض دون أنْ ينتجوا القطن، لاضمحلّت طبقتهم بين ليلةٍ وضحاها. والحاكم الاستعماري لا يريد للمستعمَرين أنْ يركعوا إجلالًا لسيّدهم الجديد، بل أنْ يوفّروا الطعام ويدفعون الضرائب ويعملون في المناجم والمزارع ويقدّمونَ المجنّدين للجيش ويصدّونَ القوى المنافسة. ولكي تنفذ هذه الأنشطة لا يكفي أنْ يخضع المستعمَرون، لا بدّ من تعاونهم. وحتى في الحالات النادرة حيث الخضوع هو الهدف بحد ذاته، فالقوة الجبرية ليست كافية بحد ذاتها. فقد تسنى لملّاك العبيد، والحكّام الاستعماريين، وحرّاس السجن، وشرطة الشاه أن يكتشفوا: إنْ لم يبقَ لديكَ إلا القوّة، فلا شيء لديكَ إطلاقًا. إنّ حكم أي جماعة، وقوة أي دولة، تستند إلى القوة الجبرية في آخر المطاف. وأيُّ تفكير وإنْ كان ضحلًا في القضية سيصل إلى هذا الاستنتاج، ولن يصعب على مفكّرين متخالفين في نواحٍ أخرى – مثل فيبر وماركس ومكيافيلي وماديسون – الاتفاق على ذلك. الحكم يستند دائمًا إلى القوة الجبرية في آخر المطاف. لكن الجماعة الحاكمة – أو الدولة – التي تتكل على القوة الجبرية في آخر المطاف، هي جماعة تعيش في حالة حصارٍ أو تمرّدٍ أو حربٍ أو ثورة.

ولن يؤدي الغرض افتراضُ أنّ الجماعة القوية تأسر قلوب الضعفاء وعقولهم، مستحثّةً إياهم على «استبطان» الأيديولوجية الحاكمة (إنْ استعرنا ذاك الوصف المبهم الذي صيغ به هذا التملّص الساذج من إجابة فعلية). إنّ افتراض ذلك يعني تخيّل الأيديولوجية أمرًا يمكن تمريره كما الملابس القديمة، تفشّيه كما الجرثومة، نشره كما الإشاعة، أو فرضه كما قواعد اللبس. وأيّ من هذه يعني التسليم المسبق بأنّ تجربة العلاقات الاجتماعية يمكن نقلها بالطرق نفسها، وذلك أمرٌ محال.

ومع ذلك فالقوة، بطريقةٍ ما، تصبح سلطة. فالإشارة الحمراء أو الكفّ المرفوعة لضابط المرور توقفان الناس (على الأقل في الأماكن التي يجنح الناس فيها إلى الانصياع لهما) ليس بممارسة القوة – فليس للإشارة ولا للكفّ أنْ يوقفا سيارةً متحرّكة – بل بممارسة السلطة. لماذا؟ بالطبع الأمر ليس لأنّ الكل يتشارك اعتقادًا، «موقفًا»، حول قداسة القانون، أو يحمل الفهم نفسه لواجبات المواطن. فالعديد من المواطنين الذين يتوقفون دون تردد عند إشارةٍ حمراء، حتى عند تقاطع مهجور في الثانية بعد منتصف الليل، سيبذلون قصارى جهدهم في حساب تكاليف ومنافع خرق القوانين المعنية بالتلوث البيئي أو التداول الداخلي للأوراق المالية أو تقارير الدخل لدائرة الإيرادات الداخلية (المعنية بالضرائب)، ومن ثمّ يمتثلون للقانون أو يخرقونه وفق نتائج حساباتهم.

ما يوقف الناس عند الإشارة الحمراء ليس معتقدًا أو موقفًا مجرّدًا. بل هو اكتشافُ الناس منفعة وضعٍ حيث أفعالُ البقية عند تقاطعٍ مزدحمٍ متوقّعةٌ. أو بعبارةٍ أدق: إنهم نشأوا في مجتمعٍ يطقّس هذا الاكتشاف باستمرار – بدفع الناس للتوقف مرارًا وتكرارًا عند الإشارات الحمراء – دون أن يحتاج كل شخصٍ للوصول إلى هذا الاكتشاف من جديد بحسابٍ ارتجاليٍّ عند كل تقاطع. الجانبان ضروريّان: المنفعة المثبتة للتوقف والتكرار المستمر للسلوك المناسب (تكرارٌ ينزع المسألة من عالم الحساب إلى عالم الروتين). التكرار الطقوسي للسلوك الاجتماعي المناسب هو ما يمكّن استمرارية الأيديولوجية، لا «تسليم» الناس بـ «مواقف» لائقة. هنا أيضًا يكمن مفتاح تفسير ما قد يبدو تنصّلًا فجائيًّا للناس من أيديولوجية ظهر عليهم الخضوع لها. الأيديولوجية ليست مجموعة من «المواقف» التي يمكن للناس «حملها» مثلما يحملون فيروس الزكام، ويتخلصون منها كذلك. يعيش البشر في المجتمعات البشرية عبر التفاوض على تضاريس اجتماعية معينة، يُبقون خريطتها على قيد الحياة في عقولهم عبر التكرار الجماعي والطقوسي لأنشطة عليهم الشروع بها للتفاوض على هذه التضاريس. فإنْ تغيرت التضاريس، لا بد لأنشطتهم، ومن ثمّ الخريطة نفسها، أن تتغير.

تهيئة التضاريس

 فلنسهب في هذا التشبيه بالتضاريس، ابتداءً بتخيّل مشهدٍ طبيعيٍّ: أشجارٌ هنا، نهرٌ هناك، جبال، سهول، رمال متحرّكة، صحراء، وهلم جرًّا. فلنتخيّل مُراقِبًا من ارتفاع قمرٍ اصطناعيٍّ، يمكنه بقدرة قادرة تتبع خطوات الناس على التضاريس دون رؤية تفاصيل المشهد. يرى المراقب الناس يختفون تحت شيء ما في ناحية، وآخرين يتسلقون في ناحية أخرى، وغيرهم يهرولون يمينًا وشمالًا، وجماعة أخرى تتحرّك كما لو أنها تسبح، وخامسة تغرق دون صخبٍ وكأنّها في رمالٍ متحركة. ولو أعطي المرء بعضًا من التدريب في التقليد الأرثودوكسي للتاريخ الأمريكي، لاستنتجَ أنّ الناس في هذه الناحية من التضاريس يحملون «مواقف» تستدعي هذه الحركة، في حين غيرهم في ناحيةٍ أخرى يحملون «مواقف» تستدعي حركةً أخرى – وكلّ هذه «المواقف» مقطوعة الحبل السري. ولو أعطي بعضًا من الحكمة، لأدرك أنّ مفتاح فهم حركة الناس هو تحليل التضاريس.

وها هنا يكمن المفتاح لفهم كيف تحوز جماعةٌ دون سواها على السلطة أو تفرض النظام أو تنجز الهيمنة. ممارسة الحكم تعني القدرة على تهيئة التضاريس. فلنفترض أنّ جماعةً حاكمة تريد كل الناس في مشهدنا هذا أن يتحركوا شرقًا، وبالتالي تُشعل حرائق في الغابات الغربية. أنجزت المهمة: الكل سيتحرك شرقًا. هل لأنهم كلهم يتشاركون قناعةً – «موقفًا» – يعظّم مناكب التحرك شرقًا؟ ليس بالضرورة. كل ما يستلزمه النظام أو السلطة أو الهيمنة هو أنّ تتقاطعَ مصلحةُ الجمهور في ألا يموتوا حرقًا مع مصلحة الحكّام في تحريك الجميع شرقًا. ولو أصبحت الحركة الشرقية نتيجة ذلك جزءًا من الروتين الذي بموجبه ينظّم الجمهور حياته باستقلالٍ عن حكّامه، أي: أنْ تصبح هذه الحركة جزءًا من روتين اجتماعي مداوم على التكرار، فسرعان ما سيَشرح معجمٌ – ليس تحليليًّا، بل وصفيًّا – للجمهور معنى الحركة الشرقية. وليس من الواجب أو الممكن أنْ يكون هذا المعجم مطابقًا لما يصرح به الحكّام.

وقد كانت الأيديولوجية العرقية السبيل لتفسيرِ العبودية لدى جماعة تقطن تضاريس جمهورية مؤسسةٍ على العقيدتين الجذريتين للحرية والحقوق الطبيعية، والأهم من ذلك أنّها جمهوريةٌ حيثُ بدت هاتان العقيدتان وكأنهما – على وجه التحديد – العالم الذي يعيش فيه الجميع، باستثناء أقليةٍ. فقط عندما صار الحرمان من الحرية أمرًا شذوذه جاهرٌ حتى لضعيفي الملاحظة والتدبّر من أعضاء المجتمع الأورو-أمريكي، شرحت الأيديولوجية هذا الشذوذ بنحو ممنهج. فالعبودية تناغمت لمئة سنة بعد تأسيسها دون العرق عقلًا أيديولوجيًّا لها. السبب بسيط: شرحََ العرقُ وبرّرَ حرمانَ البعضِ مما سلَّمَ به البقيةُ حقًّا لهم (أي: الحرية) كهبةٍ جليّةٍ من آلهة الطبيعة. لكن ضرورة الشرح لا تبرز إلا عندما يتحقق هذا التسليم بالحرية كحقٍّ لدى الأغلبية، وأنّى للعمال المسّخرين والمعتقين المحرومين في أمريكا الاستعمارية التسليم بذلك؟ ولم تبرز الحاجة لتفسيرٍ جذريٍّ في مجتمعٍ حيث كلّ شخصٍ يحتلّ علاقةَ تبعيّةٍ متوارثةٍ مقابل شخصٍ آخر: الخادم للسيد، القنّ للنبيل، التابع للسيد الإقطاعي، والسيد للملك، والملك لملك الملوك أو سيد الأسياد.

ولم يكن الأفرو-أمريكيّون بحاجةٍ للتفسير العرقي، فهم ليسوا من ابتكروا أنفسهم عرقًا. كان الأورو-أمريكيون هم من حلَّ التناقض بين العبودية والحرية بتعريف الأفرو-أمريكيين كعرق، وأما الحلّ الذي طرحه الأفرو-أمريكيون كان أقلَّ تعقيدًا: المطالبة بإلغاء العبودية. من عصر الثورات الأمريكية والفرنسية والهاييتية فما بعد طالبوا بالحرية حقًّا طبيعيًّا لهم.[38] والفيض الكبير من أدبيات القرن التاسع عشر التي تزعم إثبات دونيّتهم البيولوجية لم تكن من إصدارهم، بل هم بأغلبيتهم رفضوا القبول بها. المعجم خدّاع. استخدم الأفرو-أمريكيّون والأورو-أمريكيون جميعًا كلماتٍ تشير اليوم إلى العرق، لكنهم لم يفهوا الكلمات بالطريقة نفسها. فهمَ الأفرو-أمريكيون أنّ سبب استعبادهم، على حد تعبير فريدريك دوغلاس، «ليس لونًا، بل جريمةً».[39] لم يبتكر الأفرو-أمريكيون أنفسهم كعرقٍ، بل كأمة. لم يستشكلوا، كما يستشكل الباحثون المعاصرون، استخدام المعجم العرقي للتعبير عن حسّهم القومي. فحينما أطلق الجنود الأفرو-أمريكيون دعواتهم بالنيابة عن «هذه الأمة الملونة الفقيرة» وأشاروا لأنفسهم قائلين: «نحن، أمة العرق الملون الفقيرة»، لم يروا في اللغة تضاربًا.[40]

في مجتمعٍ حيث يبرز الاستعباد استثناءً لحرّيةٍ معرّفةٍ جذريًّا ومألوفةٍ بحيث لا يحتاج المرء لإجهاد المخيّلة ليسلّم بها، ليست الأيديولوجية العرقية بشكلها الأمريكي الجذري بالأمر المستغرب. إنها الأيديولوجية اللائقة لمجتمعٍ «حرٍّ» استثني من حرّيته الأحفاد المستعبَدون للأفارقة. لا تناقض هنا، بل معقوليةٌ شائعة ووجيهة. بل وأجازف بالقول إلى ما هو أبعد من ذلك: حازت الأيديولوجية العرقية أهميتها الكبرى في المجتمع البرجوازي الحر للولايات الشمالية إثرَ الثورة الأمريكية، حيث صارت العبودية ووجود الأفرو-أمريكيين استثناءين متضائلين.[41] ولم تكن نوبة العنف العرقي التي اعترت الجنوب في السنوات التالية للتحرير ومعها السَنّ القانوني المسهب للمحظورات العرقية، إلّا لحظتين لتأميم العرق، أيديولوجيةٌ انطبعت على الشمال البرجوازي أقربَ مما انطبعت على الجنوب الاستعبادي.

ولمن عاشَ في المجتمع الاستعبادي الناضج للجنوب، لم يكن للأيديولوجية العرقية بشكلها الأمريكي الجذري أن تفسر المشهد الاجتماعي تفسيرًا وافيًا. ففيه لم تكن العبودية استثناءً ثانويًّا بل المبدأ التنظيمي المركزي للمجتمع، الذي لا يحدد الحيز الاجتماعي الخاص بملّاك العبيد والعبيد فقط، بل حتى السكّان السود الأحرار[42] والأغلبية البيضاء التي لا تملك عبيدًا أيضًا. ولم تعتبر اللا-مساواة شرًّا لا بد منه، لا يُتسامح معه إلا في حالة الزنوج غير المتحضّرين، ولم يشع استمداد ضرورتها من العلم البيولوجي (في الجنوب، لم تأتِ ذروة العنصرية العلمية – والذكورية العلمية أيضًا – إلا بعد العبودية، لا في ظلها).[43] في هذا المجتمع، اللا-مساواة قضاءٌ من الله، لا من العِلم، سيّرهُ على علاقات المالك والعبد، مثلما سيّره على علاقاتِ الرجال والنساء، والنخبة الزراعية والأكثرية التي لا تملك عبيدًا. ولم تكن الديمقراطية وحكم الأغلبية ضمن الطموحات العليا للطبقة الزراعية.[44] بل وقد شعر المثقفون العضويون للطبقة الزراعية (الذين ضاهوا إنجلز في دعايتهم المستنكِرة لمعاناة العمّال في ظلّ الرأسمالية الصناعية) بالأسى من عُسر إدراج العمّال الفقراء البِيض لمجتمعهم في النظام الرحيم للعبودية – وإنْ أطلقوا على هذه العملية توريات لطيفة مثل «كفالة دون تمييز إثني» و«عبودية بالمعنى المجرد». فقد كان من الصعب، في أي حالٍ من الأحوال، أن تخبر أغلبية بيضاء مسلّحة وحرّةً أنها، هي الأخرى، ستكون أفضل حالًا لو كانت مستعبَدةً.[45]

العرق اليوم

تردُّد المثقفين المؤيدين للعبودية في الإدلاء باستنتاجهم هذا جهرًا وصراحةً يفسر أسباب فشل الولايات المتحدة في تطوير توجه سياسيٍّ محافظٍ صادقٍ، متّسقٍ، ومتكامل. فلو كان لتربةٍ تاريخية أنْ تغذّي تقليدًا كهذا، فهو المجتمع الاستعبادي للجنوب، لكنه تلوث بالحاجة إلى مداراة الطموحات الديمقراطية للأكثرية البيضاء المسلحة، الحرة، وصاحبة الأملاك. قلّةٌ قليلةٌ ممن يسمون أنفسهم بالمحافظين من سياسيي الولايات المتحدة سيجرؤون على القول (علنًا على الأقل) إنّ مصير الأكثرية لا بدّ أنْ يكون توارثَ اللامساواة والتبعية. وبدلًا من ذلك من يُعدِّ العدة للدفاع عن اللامساواة سيتسلح بنسخة زائفة من ليبرالية السوق الحر، تضاف عليها الحتمية العرقية أو الإثنية أو الجنسية لاحقًا بنحوٍ غير متسق.

وعندها يرتطم المؤمنون بالحقيقة والعدالة (رغم نواياهم الحسنة) في الحتمية البيولوجية – درع العدو – حينما يرون المؤشرات القبيحة على استمرار العنصرية وازدهارها في عالمنا. لأنّ النضال أنهكهم، يرفعون أيديهم يأسًا ويعلنون أنّ العنصرية، وإنْ لم تكن مبرمجةً في جيناتنا، فهي فكرةٌ من قِدمها وترسّخها تمكنت من قطعِ حبلها السري وتحررت من أيّ عقال. وبالتالي يقتربون أكثر مما يدركون إلى آراء من يزعمون معارضتَهم. ورغم مكروهيّةِ نسب الإعاقة البيولوجية إلى من يصنَّفونَ عرقًا اليوم، فالموضة الآن هي نسب الإعاقة البيولوجية – أو أي رديفٍ وظيفيٍّ آخر – إلى من تثبُت عنصريّتهم. وفي كلتا الحالتين يضحي الأفارقة وأحفادهم صنفًا خاصًا مميزًا بالبيولوجيا: تارةً ببيولوجيّتهم، وتارةً أخرى ببيولوجيّة ظالميهم.

ولكن العرق ليس بيولوجيًّا وليس فكرةً امتصتها البيولوجيا بالوراثة اللاماركية. إنها أيديولوجية، والأيديولوجيّات لا تعيش مقطوعةَ الحبل السري. ولا يمكن تمريرها ولا توريثها: يمكن توريث العقيدة، أو الاسم، أو الممتلكات، ولكن ليس الأيديولوجية. فإنْ كان العرق حيًّا اليوم، فحياته ليست لأننا ورثناه من أسلافنا للقرن السابع أو الثامن أو التاسع عشر، بل لأننا نواصل خلقه اليوم. لقد تحلى ديفد بريون ديفس بالشجاعة والصدق حين أدلى بأطروحته المقلقة حول عصر الثورة الأمريكية: تواطأ معارضو العبودية مع مؤيديها في الاتفاق على العرق تفسيرًا لها. لا بدّ أنْ نتحلى بالشجاعة والصدق اللازمين للاعتراف بالمثل فيما يتعلق بزماننا وعملنا.

ليس من يخلق العرق ويعيد خلقه اليوم وحدها تلك الغوغاء التي قتلت شابًّا أفرو-أمريكيًّا في أحد شوارع بروكلين، ولا أعضاء «الكو كلكس كلان» ولا «النظام الأبيض»، بل ومعهم الكتّاب الأكاديميون الذين، باستدعائهم «المواقف» المدفوعة ذاتيًّا وبأخطائهم الكارثية، يعيّنون للأفارقة وأحفادهم صنفًا خاصًّا يحصرهم في عالمٍ خارج التاريخ؛ شكلٌ من أشكال الفصل العنصري الفكري، رغم ما يتقلّدهُ من زخارف النزاهة (أو الاعتداد بالنفس)، ليس أقلَّ قُبحًا أو ظلمًا مما يمارسه العنصريونَ ذوي المرجعية البيولوجية أو الثيولوجية، بل ويَطلب الامتنان من ضحاياه، مثلما طُلِب من عبيد الزمن السابق. من يخلقها هم «ليبراليو» الأكاديميا و«تقدّميوها»، إذ تحلّ رمزيّات محايدة مثل الاختلاف والتنوع، في النسخة الخاصة بهم للعنصرية، محل كلماتٍ مثل العبودية والظلم والاضطهاد والاستغلال، ما يحيد النظر عن تاريخ هذه الكلمات الأبعد ما يكون عن الحياد. من يخلقها هم المحكمة العليا والمتحدثون الرسميون باسم التمييز الإيجابي، في عجزهم عن مناصرة العدالة أو حتى تعريفها إلا بتوطيد سلطة العرق وإعلاء مكانته، الأمر الذي سيداومون عليه ما دام الهدف الأكثر جذريّةً للمعارضة السياسية يقف عند إعادة توزيع البطالة والفقر والظلم بدلًا من إلغائها جميعًا.

ومن بين من يخلق العرق ويعيد خلقه، شابّةٌ قهقهت بامتنان حين أجاب ولدها ذو الأربعة أعوام على سؤالِ عما إذا كان صديقه الذي كان يتحدّث عن مآثرهِ أسودَ، بالقول: «لا، إنه أسمر». ضحكت تلك الضحكة الخيرة على براءة طفولته، فأفسدتها حالًا. فرغم النية الحسنة سرّعت الضحكة الفسادَ الذي تَرثي حتميته، فقد علَّمت بهذه الضحكة الفتى الصغير أنّ وصفه الإمبريقي ظريفٌ ولكن غير لائق. ففعّلت فيه، بطريقةٍ تعجز عنها الصور النمطية للتمرير، حقيقةَ أنّ الوصف الجسدي يتبع العرق، وليس العكس. فمن طقوسٍ صغيرةٍ، غير مؤذية كهذه، تتكرر على الدوام، تمارَس – في كثيرٍ من الأحيان – بأصدق النوايا، تعادُ ولادةُ العرق كلّ يوم. فالشرُّ قد ينتج من النوايا الحسنة، مثلما من النوايا السيئة. هنا تكمن منزلقات التاريخ البشري ومأساته – أو لو استخدمنا معجمًا آخر: جدليّته.

لا يمكن لأيّ شيء أورث من الماضي إبقاء العرق حيًّا لو لم نعد ابتكاره وتطقيسه باستمرارٍ ليناسب تضاريسنا. فإن كان العرق حيًّا اليوم فالفضل يعود لاستمرارنا في خلقه وإعادة خلقه في حياتنا الاجتماعية، واستمرارنا في تثبيته، وبالتالي استمرارنا في الحاجة إلى معجمٍ اجتماعيٍّ يتيح لنا أنْ نعقل لا ما فعله أجدادنا يومًا، بل ما نختار فعله اليوم.

[1] Richard Cohen, ‘The Greek’s Offense’, Washington Post National Weekly Edition, 25–31 January 1988.

[2] على سبيل المثال، أنظر: Stephen Jay Gould, The Mismeasure of Man, New York 1981; Richard Lewontin, Steven Rose and Leon Kamin, Not in Our Genes, New York 1984.

[3] كوهين ليس حالةً فريدةً البتة، فلدينا حالة إذاعة (NBC) التلفزيونية التي قدمها الساذج توم بروكاو في ربيع 1989، ودافع عنه أحد منتجي الحلقة بشراسة في صفحات النيو يورك تايمز، أكد فيه على جوهر الانحياز الغريزي لجيمي اليوناني. وشارك في الإذاعة طبيب إسرائيلي ادعى أنه يمكنه قياس الحركات العضلية للرياضيين العالميين لتحديد الصفات «العرقية» النموذجية. لم يطرح أحدٌ أي سؤالٍ عما إذا كان الناس العاديين يستخدمون عضلاتهم مثل الرياضيين العالميين – أي عما إذا كانت التجربة تُثبت أمورًا معنيّة بالصفات العرقية النموذجية أو أمورًا معنية برياضيين استثنائيين. ولم يطرح أحدٌ أي سؤال عما إذا كان أكثر الرياضيين المصنّفين سودًا يرجّح أنهم تدرّبوا على يد مدرّبين ورياضيين آخرين مصنّفين سودًا أيضًا، خلافَ أقرانهم البِيْض – أي ما إذا كانت التجربة قد عالجت العرق أو التدريب. ومن نافلة القول أنّ لا أحد تجرّأ على طرح السؤال الأكثر إحراجًا، السؤال الذي أثقل كاهل العنصريين العلميين في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين: كيف يُحدَّد للعيّنة موضوع الدرس «عرق» دون الآخر، دون افتراض التمايز العرقي نفسه الذي تحاول التجربة إثباته؟ فرغم الكَلِّ والتعب فشلَ العنصريون العلميون في الماضي في اكتشاف أي معيارٍ موضوعي يمكن بموجبه تصنيف الناس، وما قضّ مضاجعهم هو أنّ كل معيارٍ جرّبوه تنوّع داخل كلّ «عرق» اختلقوه أكثر مما تنوّع بين هذه الأعراق. ومن الأرجح أنّ العنصري الجديد على شاكلة بوركاو سيجد أن الحال نفسها تنطبق على الحركات العضلية لو كان لديه الصدق أو الذكاء اللازم لطرح السؤال.

[4] St. Francis College, et al. v. Majid Ghaidan Al-Khazraji, and Shaare Tefila Congregation v. John William Cobb et al., 18 May 1987.

[5] لا يُستَدل على ذلك إنكار الانزعاج المبرر للأمريكيين اليابانيين والصينيين والكوريين والفيتناميين والهنود من تصنيفهم معًا كأمريكيين آسيويين، أو بدقّة أقل من ذلك حتى: آسيويين فحسب. ولا يعني ذلك التغاضي عن الهراء المزدهر بترفٍ حول محاولة تثبيت مفرداتٍ لغوية وجغرافية إلى جانب مفردةٍ يدعى تمثيلها عرقًا بيولوجيًّا. يكثر القائمون بالأبحاث المسحية في الحكومة الأمريكية سؤال «الهيسبانيين» عما إذا كانوا يريدون أن يعتبروا أنفسهم «بِيْض» أم «سود»، لينتج عن ذلك تقسيمات تفرّقُ أعضاء العائلة الواحدة. وفي حالات كثيرة ينتهي تقرير النتائج، رغم السؤال، بتمييز الهيسبانيين عن السود والبيض. ويضاف على ذلك أنّ الحكومة تعتبر البرازيليين المتحدثين بالبرتغالية «هيسبانيين» وتلزمهم بتعريف أنفسهم كذلك عند التقديم على رقم التأمين الاجتماعي، مثلما اكتشف الروائي البرازيلي خورخي أمادو في زيارة قريبة.

[6] New York Times, 10 March 1988, A26.

[7] John Anthony Scott, ‘Segregation: A Fundamental Aspect of Southern Race Relations, 1800–1860’, Journal of the Early Republic 4, Winter 1984, p. 425. لم يبتدع سكوت هذا القول المنافي للعقل، لكنه تبناه بحماسة.

[8] Edmund S. Morgan, American Slavery, American Freedom: The Ordeal of Colonial Virginia, New York 1975, ch. 1; Leonard P. Liggio, ‘English Origins of Early American Racism’, Radical History Review 3, 1976.

[9] See Peter Kolchin, Unfree Labor: American Slavery and Russian Serfdom, Cambridge, Mass. 1987, pp. 170–91.

[10] Winthrop D. Jordan, Leon F. Litwack et al., The United States, combined edition, 5th edition, Englewood Cliffs, N.J. 1982, p. 144.

[11] بين لي مؤرخ معروف هذه الحقيقة مرةً في معرض إنكاره لها. ففي معرض تحديه إياي لإدلائي بمقولة مشابهة في مقال سابق (Barbara J. Fields, ‘Ideology and Race in American History’, in Region, Race, and Reconstruction: Essays in Honor of C. Vann Woodward, ed. J. Morgan Kousser and James M. McPherson, New York 1982)  أعلن: «يمكن للواحد أنْ يقبل بالأدلة على التفاوت العرقي في حاصل الذكاء ويحافظ على إيمانه بالإدماج». نيته حسنة لكنه عالقٌ في الأيديولوجية العرقية، وعاجز عن التشكيك في علمية العرق نفسه، ناهيك عن حاصل الذكاء. وعجز رغم خبرته الطويلة في الأساليب الإحصائية عن إدراك مغالطة الدراسات الإحصائية التي تزعم أنها حيدت المحددات الاجتماعية للذكاء وعزلت المحددات الجينية، فتضطر للابتداء باستخدام معايير اجتماعية – فليس من غيرها – لتخصيص «عرقٍ» لائق لكل عينةٍ.

[12] لا ينفصل عن هذه القناعة تشييء العرق الذي يدفع العديد من الباحثين لتولي تلك المهمة التي لا معنى لها: تحديد ما إذا كان العرق أكثر أم أقل «أساسيةً» للشرح التاريخي من غيره من التصنيفات (المُشيَّأة بالمثل) – من ثم فرضُ هذه المهمة على الآخرين، كواجبٍ تَقَوي؛ وهي مضيعةٌ للوقت لفتُّ النظر إليها في (“Ideology and Race in American History”, p. 158). عسى المرء أن يشرع ببحثٍ تجريدي لتحديد ما إذا كان البسط أو المقام أهمَّ لفهم الكسر، بدلًا من حسم المهمة الأعقل لمحاولة تعريف وتحديد كلٍّ منهما، وإدراك اختلافاتهما وعلاقتهما ولزومهما المشترك للوصول إلى نتيجة. نجد مثالًا صادرًا مؤخرًا: (‘ “Labor in White Skin”: Race and Working-Class History’, in Reshaping the US Left: Popular Struggles in the 1980s, ed. Mike Davis and Michael Sprinker, Verso, London 1988, pp. 287–308). فيه يبدو أن روديغر يؤمن أنّ التمييز التحليلي بين العرق والطبقة يفترض بالضرورة «منح الامتياز» لأحدهما على الآخر (إنْ أردنا استخدام هذه اللغة). وبدفاعه عن وصف العنصرية بـ «الخطأ الكارثي» الذي يساعد على تفسير التاريخ الأمريكي (بدلًا من أنْ يكون جزءًا من التاريخ الذي يحتاج التفسير) يخلط روديغر بين أداةٍ بلاغية وتفسير تاريخي.

[13] Alden T. Vaughan, ‘The Origins Debate: Slavery and Racism in Seventeenth-Century Virginia’, Virginia Magazine of History and Biography 97, July 1989. هذا النص مثالٌ جيد على التفسير بتلك الحقائق نفسها التي تحتاج إلى تفسير. فالحجة تنتهي بِغائيةٍ صريحة: «لعله من الأنجع رؤية العنصرية الأنجلو-أمريكية كشرطٍ مسبقٍ ضروريٍّ لنظامِ عبوديّةٍ مستندٍ إلى الأصل ولون البشرة». أيّ بالأحرى: العنصرية الأنجلو-أمريكية هي شرط مسبق ضروري للعنصرية الأنجلو-أمريكية. هذه الحجة تنتهي بِلا-أدريّة بشعة حول إمكانية تفسير عقلاني: «كانت العنصرية أحد أسبابِ نوعٍ معيّنٍ للعبودية، ولكن لعله من الأفضل تجنب الحديث عن التسبيب، بحكم أنّ السببية مفهومٌ متداعٍ في الأوضاع المعقدة». الجمل المقتبسة تظهر في الصفحة 354.

[14] حاول جورج فريدريكسون تجديد الإطارات القديمة مرةً أخرى في (“Race, Class and Consciousess”)، مقدمة مجموعة مقالاته المعنونة: The Arrogance of Race: Historical Perspectives on Slavery, Racism, and Social Inequality, Middletown, Conn. 1988. أنظر أيضًا: Winthrop D. Jordan, White Over Black: American Attitudes Toward the Negro, 1550–1812, Chapel Hill, N.C. 1968.

[15] عيّن ديفد بريون ديفس بطريقة بديعة لحظة تبلور الأيديولوجية العرقية في الولايات المتحدة في عصر الثورة الأمريكية، وتحلى بالشجاعة اللازمة للإقرار بأنّ المحرّضين والناشرين ضدّ العبودية كانوا متواطئين مع أقرانهم المؤيدين لها في تأسيس العرق كإطار النقاش. أنظر: The Problem of Slavery in the Age of Revolution, 1770–1823, Ithaca, N.Y. 1975, esp. chs. 4, 6, and 7.

[16] يقدّر إيدموند س. مورغان أنّ تعداد السكّان السود في فيرجينيا لم يزد عن 500 في 1645 و2,000 في 1660. American Slavery, American Freedom: The Ordeal of Colonial Virginia, New York 1975, p. 298.

[17] السابق، ص. 129.

[18] السابق، ص. 30-114.

[19] أنظر مثلًا: Rodney Hilton, Bond Men Made Free: Medieval Peasant Movements and the English Rising of 1381, London 1977; Thomas A. Green, Verdict According to Conscience: Perspectives on the English Criminal Trial Jury, 1200–1800, Chicago 1985; and C.S.L. Davies, ‘Slavery and Protector Somerset: The Vagrancy Act of 1547’, Economic History Review, 2nd ser., 19 December 1966.

[20] Morgan, p. 159.

[21] فاقت نسبة الرجال للنساء الخمسة أضعاف في 1624. Morgan, p. 111.

[22] Willie Lee Rose, ed., A Documentary History of Slavery in North America, New York 1976, pp. 16–18; Morgan, pp. 154–57.

[23] Morgan, pp. 197–98.

[24] Morgan, pp. 297, 215–49, 404; Allan Kulikoff, Tobacco and Slaves: The Development of Southern Cultures in the Chesapeake, 1680–1800, Chapel Hill, N.C. 1986, ch. 1.

[25] Morgan, pp. 250–70.

[26] أتى العبيد المستوردَون إلى فيرجينيا أولًا من جزر الهند الغربية ومن ثم تزايدت نسبة المستقدمين من أفريقيا ابتداءً بثمانينيات السابع عشر، وبحلول العقد الأول للقرن الثامن عشر كان ثلاثة أرباع السود في فيرجينيا أفارقة الأصل. Ira Berlin, ‘Time, Space, and the Evolution of Afro-American Society on British Mainland North America’, American Historical Review 85, February 1980, p. 71.

[27] أنظر: Fields, ‘Ideology and Race in American History’, pp. 143–77.

[28] Jerome Blum, Our Forgotten Past: Seven Centuries of Life on the Land, London 1982, pp. 34–36.

[29] Kolchin, Unfree Labor, p. 170.

[30] في معرض شرحه لأسباب تطوير ملّاك العبيد في الجنوب الأمريكي أيديولوجيّةً مؤيدةً للعبودية أكثر تفصيلًا وإسهابًا من أسياد الأقنان الروس، يوشك كولتشين على بلوغ هذا الاستنتاج، وإذا به يتراجع عنه لاجئًا إلى الغائية، فيذهب إلى القول بأنّ عدم وجود ذاك التمايز «العرقي» بين المالك والعبد، في علاقة السيد والقن، يفسّر «جزئيًّا» الاختلاف. لكنه يستدرك بسرعة ويقول إنّ ملّاك العبيد ذوي الأصل الأفريقي في البلدان الأخرى للأمريكيتين لم يطوِّروا هم أيضًا حجّة مفصّلةً أو متّسقة تأييدًا للعبودية. التمايز العرقي لم «يوجد» لا في الجنوب الأمريكي ولا روسيا، بل ابتكرَ في واحدةٍ ولم يبتكر في الأخرى. لا يفسّر التمايز «العرقي» بين الملّاك الجنوبيين وعبيدهم أيّ شيء، بل هو جزءٌ مما يلزم تفسيره.

[31] ‘An Act Concerning Negroes & other Slaues’, in Willie Lee Rose, ed., A Documentary History of Slavery in North America, New York 1976, p. 24.

[32] إحدى القوانين التي نفذت في فيرجينيا الاستعمارية تبين منزلق المفارقة التاريخية التي تنتظر المؤرخين الذين لا يعالجون موادًا كهذه تاريخيًّا، فتحت عنوان «زنوج» في مؤشر لمجموع قوانين فيرجينيا يرجع القرّاء إلى قانونٍ يستهدف منع الزنوج من «مدّ اليد على رجلٍ أبيض»، وهكذا يصف إيرا بيرلين القانون. (Slaves Without Masters: The Free Negro in the Antebellum South, New York 1974, p. 8.) لكنّ المؤشر حُضِّرَ لمجموع نشر في عام 1823، والقانون نفسه، الذي نفذ في 1680، يضع عقوبة على «أيّ زنجي أو عبدٍ آخر يتجرأ على رفع يده على أي مسيحي». William Waller Hening, The Statutes at Large; Being a Collection of All the Laws of Virginia, From the First Session of the Legislature, in the Year 1619, vol. 2, New York 1823, pp. 481, 602.

[33] Ulrich B. Phillips, ‘The Origin and Growth of the Southern Black Belts’, in Phillips, The Slave Economy of the Old South: Selected Essays in Economic and Social History, ed. Eugene D. Genovese, Baton Rouge, La. 1968.

[34] نقاشي لملّاك العبيد البِيْض يستند إلى حدٍّ كبيرٍ على عمل ستيفن هان، بما في ذلك: The Roots of Southern Populism: Yeoman Farmers and the Transformation of the Georgia Upcountry, 1850–1890, New York 1983, esp. part 1; ‘Common Right and Commonwealth: The Stock-Law Struggle and the Roots of Southern Populism’, in Region, Race, and Reconstruction: Essays in Honor of C. Vann Woodward, ed. J. Morgan Kousser and James M. McPherson, New York 1982; and ‘Hunting, Fishing, and Foraging: Common Rights and Class Relations in the Postbellum South’, Radical History Review 26, 1982. أنظر أيضًا: Orville Vernon Burton and Robert C. McMath, eds., Class, Conflict, and Consensus: Antebellum Southern Community Studies, Westport, Conn. 1981, and Michael P. Johnson, Toward a Patriarchal Republic: The Secession of Georgia, Baton Rouge, La. 1977. J. Mills Thornton III, Politics and Power in a Slave Society: Alabama, 1800–1860, Baton Rouge, La. 1978, and Lacy K. Ford, Jr., Origins of Southern Radicalism: The South Carolina Upcountry, 1800–1860, New York 1988، وأعمالهم تضع تفسيرات لليوامِنة البِيض تختلف عن هان، لكنّ كثيرًا من أدلّتهم تميل إلى تأكيد قوله.

[35] نشأ دين العبيد بالطريقة نفسها. في فقرةٍ بليغة وفذّة يشخّص دونالد ج. ماثيوز خطأ افتراض أنّه كان من الممكن أنْ ينقل للعبيد نسخة «صحيحة» للمسيحية من وكالةٍ خارجية. إنّ الذهاب إلى هذا المقولة – يصرّ ماثيوز مصيبًا الهدف – يعني حمل افتراضٍ بأنّ العبد يمكن له «الانسلاخ من عبوديته، أجداده، طرقه التقليدية لرؤية العالم، وإحساسه بالنفس من أجل أنْ يفكر بتفكير مضطِّهِده اتّباعًا له. . . . وصف الفعل حيث يتوقع من العبد البقاء خاملًا يستقبل جسدًا مفصّلًا من الأفكار والمواقف الموجودة بانفصالٍ من الشروط الاجتماعية والثقافية يكشف أحد أفدح الأخطاء الفرضية التي يرتكبها الباحثون». Religion in the Old South, Chicago 1967, p. 187.

[36] Genovese, Roll, Jordan, Roll: The Word the Slaves Made, New York 1974, p. 16.

[37] يتخيل البعض أنّ الأيديولوجية يمكن تمريرها بالفعل على هيئة القانون. ولو كان الحال كذلك لما كان القانون بحاجة إلى المحاكم أو المحامين أو القضاة أو هيئات المحلّفين.

[38] Eugene D. Genovese, From Rebellion to Revolution: Afro-American Slave Revolts in the Making of the Modern World, Baton Rouge, La. 1979; C.L.R. James, The Black Jacobins, 2nd ed., rev., New York 1963; Willie Lee Rose, ‘The Impact of the American Revolution on the Black Population’, in Rose, Slavery and Freedom, ed. William W. Freehling, New York 1982.

[39] Frederick Douglass, My Bondage and My Freedom, New York 1969 (orig. ed. 1855), p. 90.

[40] Sargint Wm. White et al. to Dear President, 3 July 1866, document 333, and Capt. G.E. Stanford et al. to Mr. President and the Ceterry of War, 30 May 1866, document 341, in Ira Berlin, Joseph P. Reidy, and Leslie S. Rowland, Freedom: A Documentary History of Emancipation, 1861–1867, ser. 2, The Black Military Experience, Cambridge, 1982, pp. 764, 780.

[41] رالف والدو إيميرسون مثالٌ جيّدٌ جدًّا لكيف تصبح أيديولوجية عرقية كهذه عقيدةً عرقيةً ممنهجةً وقبيحةً بنحوٍ مروّع على يد مثّقفٍ شماليٍّ من الدرجة الأولى. وليويس ب. سيمبسون يتفحص بعناية وتبصر آراء إيمرسون العنصرية تجاه الأفرو-أمريكيين (وفي السياق نفسه، تجاه الجنوبيين البِيْض) في: Mind and the American Civil War: A Meditation on Lost Causes, Baton Rouge, La. 1989, esp. pp. 52–57, 65–69, 72–73.

[42] في خمسينيات القرن التاسع عشر وضعت ولاية جورجيا ضريبة ملكية قدرها 39 سنت على كلّ عبدٍ وضريبة رؤوس قدرها 5 دولار على كلّ شخص أسود حر. (وبالنسبة للبِيْض كانت ضريبة الرؤوس 25 سنت ولم تطبق إلا على الرجال). ووضعت رسوم استخدام الشوارع على الرجال المستعبدين والبِيْض للفئة العمرية 16 إلى 45 عامًا، وأما للنساء والرجال السود الأحرار كانت الفئة العمرية 15 إلى 60 عامًا. (Peter Wallenstein, From Slave to New South: Public Policy in Nineteenth-Century Georgia, Chapel Hill, N.C. 1987, pp. 41, 93.) في يوليو 1861 تشكى مواطن أبيض من لينشبرغ فيرجينيا إلى جيفيرسون ديفس، رئيس الكونفدرالية حول «العدد الكبير للزنوج الأحرار»، واصمًا إياهم في جملة واحدة بـ «العرق المنحط والأسوأ من عديمي الفائدة» و«الطبقة . . . الأسوأ من عديمي الفائدة». (John Lenaham to Hon. Jeff. Davis, 15 July 1861, document 299, in Ira Berlin, Barbara J. Fields, Thavolia Glymph, Joseph P. Reidy, and Leslie S. Rowland, Freedom: A Documentary History of Emancipation, 1861–1867, series 1, volume 1, The Destruction of Slavery, Cambridge 1985, p. 760.). في عين ذاك الفيرجيني والولاية وقانون المحافظة في جورجيا، لم يكن العبيد والأحرار من الأصل الأفريقي ينتمون إلى «العرق» نفسه، ولم يكن للبيولوجيا أو الأصل أو الانحياز اللوني دورٌ في ذلك. فبالكلمة والفعل أثبت المواطنون البِيْض للمجتمع الاستعبادي أنهم – على العكس من العديد من الباحثين – لم تخدعهم لغة العرق وتعميهم عن جوهره.

[43] تلقى جوسياه س. نوت ردة فعلٍ عدوانية من أقرانه من مؤيدي العبودية الجنوبيين عندما قدّم نظرية علمية للعنصرية جاهرة في مخالفتها للنص الديني. أنظر: Drew Gilpin Faust, The Ideology of Slavery: Proslavery Thought in the Antebellum South, 1830–1860, Baton Rouge, La. 1981, pp. 206–38; Gould, The Mismeasure of man, pp. 69– 72. وحول طبيعة حجج الجنوبيين البِيْض لأجل تبعية النساء في أثناء العبودية وبعدها، أنظر: Elizabeth Fox-Genovese, ‘The Conservatism of Slaveholding Women: A Comparative Perspective’, Porter L. Fortune Chancellor’s Symposium on Southern History, University of Mississippi, 11–13 October 1989.

[44] على سبيل المثال، عقيدة جون س. كالهون لـ «الأكثرية المتفقة» صممت صراحةً لإحباط إرادة الأكثرية المعارضة للعبودية في حال تولت هذه الأخيرة حكومة الولايات المتحدة، بضمان حيازة الأقلية المالكة للعبيد حقّ النقض مهما كبرت الأكثرية العددية المصطفة ضدها. أنظر: Calhoun’s ‘A Disquisition on Government’, ed. Richard K. Crallé, in The Works of John C. Calhoun, vol. 1, New York 1968. والعديد من المؤرخين، اتباعًا لجورج فريدريكسون، يصفون الجنوب الاستعبادي بمسمى «ديموقراطية شعب الأسياد» (harrenvolk democracy). إنه مفهوم خادع يفشل في احتساب طرق تقليص العبودية للحريات السياسية للأكثرية البيضاء التي لا تملك عبيدًا، من يدعى أنهم شعب الأسياد. ونجد مثالًا واضحًا على ذلك في التمثيل المفرط لملّاك العبيد الذي أمِّنَ بمادة الثلاثة أخماس لدستور الولايات المتحدة (الذي استنسخه دستور الكونفدرالية). ومثالٌ آخر هو الإلزام بإيداع كفالة نقدية – تتراوح بين 1000$ و500,000$ – بدل مؤهلات المِلكية لموظفي المقاطعات، لضمان أنّ المواطنين البسطاء لن يمسكوا منصبًا إلا بكفالة الأغنى منهم. أنظر: Steven Hahn, ‘Capitalists All!’, review of James Oakes, The Ruling Race: A History of American Slaveholders, in Reviews in American History 11, June 1983.

[45] طور يوجين د. جينوفيز هذه الحجة منذ زمن طويل في مقاله عن جورج فيتزهيو: ‘The Logical Outcome of the Slaveholders’ Philosophy’, in Genovese, The World the Slaveholders Made: Two Essays in Interpretation, New York 1969. استخف عدد من المؤرخين في البداية من حجته على أساس أنّ فيتزهيو كان حالةً شاذة (تهمة تكررت حتى يومنا هذا). أنظر مثلًا: George C. Rable, Civil Wars: Women and the Crisis of Southern Nationalism, Urbana, Ill. 1989, p. 291n. بيَّنت أعمالٌ لاحقة أنّ فيتزهيو، مع أنّه حالةٌ مميزةٌ بالفعل في بعض الجوانب، لم يكن حالةً شاذة في اعتباره المجتمع الاستعبادي أفضل أخلاقيًّا من المجتمع الرأسمالي («التجارة الحرة» في اصطلاحه) بغضّ النظر عن جنسية العبيد أو أصلهم. أنظر: Drew Gilpin Faust, ‘The Peculiar South Revisited: White Society, Culture, and Politics in the Antebellum Period, 1800–1860’, in Interpreting Southern History: Historiographical Essays in Honor of Sanford W. Higginbotham, ed. John B. Boles and Evelyn Thomas Nolen, Baton Rouge, La. 1987, esp. pp. 102–105; Simpson, Mind and the American Civil War, pp. 30–32.

هذا المقال جزء من منشور  «جدل تاريخي: الدولة وعناصرها».

afac

المصدر:

Fields, B. (1990). Slavery, Race and Ideology in the United States of America. New Left Review. Available at: https://newleftreview.org/issues/I181/articles/barbara-jeanne-fields-slavery-race-and-ideology-in-the-united-states-of-america.

Skip to content