«عنصرية الطبقة» (1988)

رغم ما تعطيه التحليلات الأكاديمية للعنصرية من أهمية كبرى لدراسة النظريات العنصرية، فهي تذهب إلى أنّ العنصرية «الاجتماعية» ظاهرة شعبية، وانطلاقًا من هذا الفرض يُنظر إلى نمو العنصرية في أوساط الطبقة العاملة (نموٌّ يبدو للمناضلين الاشتراكيين والشيوعيين كأمرٍ غير طبيعي) كأثرٍ لميلٍ مزعومٍ متأصلٍ في الجماهير. إنّ العنصرية المؤسسية مدمجةٌ في عملية بناءِ هذا الصنف السيكو-اجتماعي المسمّى بـ «الجماهير». علينا، إذًا، محاولة تقديم تحليل لعملية الإزاحة هذه التي تنتقل من الطبقات إلى الجماهير، فتقدم الثانية بصفتها الذات المتميزة بالعنصرية وموضوعها المفضّل.

هل للواحد أنْ يقول بنزوعِ طبقة اجتماعية إلى المعتقدات والسلوكيات العنصرية بسبب وضعها وأيديولوجيتها (ناهيك عن هويتها)؟ أولُ من خاضوا في هذه المسألة عالجوها في ارتباطها مع صعود النازية، فابتدأوا بالتأمل فيها وشرعوا لاحقًا بدراستها بمؤشرات إمبريقية.[1] والنتيجة زخرت بالمفارقات إذ لم تبقى طبقةٌ اجتماعيةٌ لم تلبّس هذا الاشتباه، رغم الولع البيّنِ بـ «البورجوازية الصغيرة». ولكنّ هذا المفهوم اشتهر بغموضه، فهو يكاد يكون تعبيرًا عن معضلاتِ نوعٍ من أنواعِ التحليل الطبقي، يجرى كعملية فرزٍ للسكان بين شرائح متنافرة. ولكن من العقل في مسائل الأصول حيث الجواب تهمةٌ سياسية، أن يقلب السؤال على عقبه، فلا يبتدئ البحث من استكشافِ أسس العنصرية التي تجتاح الحياة اليومية (أو الحركة التي توفّر مركبًا لها) في طبيعة البورجوازية الصغيرة، بل من محاولة فهم العملية التي بموجبها يؤدي نمو العنصرية إلى إفراز كتلة «بورجوازية صغيرة» من تشكيلةٍ متنوعة للوضعيات المادية. وبذلك نستبدل السؤال المغلوط حول الأسس الطبقية للعنصرية بسؤالٍ أهمَّ وأعقد استهدفَ السؤالُ الأول – جزئيًا – توريته، سؤالٌ يتصدّى للعلاقة بين العنصرية (بصفتها مكمّلًا للقومية) وديمومة الصراع الطبقي في المجتمع. وهو سؤالٌ، في رأيي، لا مناص منه: كيف يزيح تطوّر العنصرية الصراعَ الطبقي، أو بالأحرى كيف يتحوّلُ الصراع الطبقي دائمًا وأصلًا بعلاقةِ «عرقنةٍ» اجتماعية؟ وبالمقابل، بأي نحو يمكن الاستدلال على استحالة التوفيق بين الصراع الطبقي وبديله القومي من اتخاذِ هذا الأخير شكلَ العنصرية تحديدًا؟ وبالطبع لا يعني ذلك انتفال النظر في مسألة كيف تحدّد الشروطُ الطبقيةُ (المكونة من الشروط المادية للوجود والعمل، ومعها التقاليد الأيديولوجية والعلاقات العملية السياسية) في مرحلةٍ معينةٍ آثارَ العنصرية في مجتمع، مثل: وتيرة «التصرف بدافع» العنصرية وأشكال ذلك، والخطاب الذي يعبّر عنها، والعضوية في الحركات العنصرية المنظَّمة.

فعند فحص تاريخ العنصرية على المستوى الكوني، سنعثر على أثرِ التحديد المفرط للصراع الطبقي وعلى أثرٍ مكافئٍ للتحديد القومي، فكلاهما متّصلان في كل مكان بالمعنى الجوهري لخيالاتها وممارساتها. وهذا كافٍ لإثبات أنّ التحديد الذي نتعامل معه أقربُ عينيّةً وأشدُّ حسمًا بكثير من التعميمات العزيزة على علماء اجتماع «الحداثة»، فمن القصور الشديد أن ننظر للعنصرية (أو زوج القومية-العنصرية) بصفتها أحد التعبيرات المتناقضة للفردانية أو المساواتية المفترض اتّسام المجتمعات الحديثة بها (اتّباعًا للثنائية القديمة للمجتمعات «المغلقة» و«الهرمية» مقابل المجتمعات «المفتوحة» و«الحركية») أو حتى بصفتها رد فعلٍ دفاعي ضد الفردانية، وكأنها تعبيرٌ عن حنين لمنظومة اجتماعية مستندة إلى وجود «الجماعة».[2] فلا وجود للفردانية إلّا في الأشكال العينية لتنافس السوق (بما في ذلك التنافس بين قوى العمل) في توازن متقلقلٍ مع رابطة الأفراد، تحت قيود الصراع الطبقي. ولا وجود للمساواتية إلّا في الأشكال المتناقضة للديموقراطية السياسية (إنْ وجدت) و«دولة الرفاهية» (إنْ وجدت)، واستقطاب شروط الوجود، والفصل الثقافي واليوتوبيا الإصلاحية أو الثورية. وهذه المحددات، وليس الرموز الأنثروبولوجية، هي ما يضفي بعدًا «اقتصاديًّا» على العنصرية.

ومع ذلك، تطرأ لدينا مشكلةٌ من اللاتجانس الذي تتصف به الأشكال التاريخية للعلاقة بين العنصرية والصراع الطبقي، فطيفُ الأشكالِ ممتدٌ بين طرفٍ تطوّرت فيه معاداة السامية لتغدو «مناهضة رأسمالية» زائفة متمحورة حول موضوع «المال اليهودي» وطرفٍ امتزج فيه الوصم العرقي والكراهية الطبقية – كما نشهد اليوم – في صنف الهجرة. ولا يقبل أيٌّ من هذه الإعدادات (والمراحل) الاختزالَ، ما يحول دون تعريف علاقةٍ «تعبيرية» (أو علاقة استبدال) بسيطة بين العنصرية والصراع الطبقي.

وما نجده في تقنيع معاداة السامية بقناع معاداة الرأسمالية، الأمر الذي حصل غالبًا بين عامي 1870 و1945 (ويجب ألا ننسى أنَّ هذه الفترة كانت فترة المواجهة الرئيسة بين الدول البورجوازية الأوروبية والأممية البروليتارية المنظّمة)، لا يقتصر على انتقاء كبش فداءٍ وجعله هدفَ الانتفاضة البروليتارية، أو استغلال الانقسامات داخل البروليتاريا، أو إسقاط أمراض نظامٍ اجتماعي مجرّد على شخصيّةٍ متخيّلة للمتحكمين به وتجسيدها فيهم (رغم أن هذه الآلية آليةٌ جوهرية لعمل العنصرية).[3] بل ونجد «صهرًا» لسرديتين تاريخيتين كلاهما قادرةٌ على العمل كصورةٍ مجازية للأخرى: الأولى سرديةُ تشكيل الأمم على حساب الوحدة الفقيدة لـ «أوروبا المسيحية»، والثانية سردية الصراع بين الاستقلال الوطني وتدويل العلاقات الاقتصادية الرأسمالية، الأمر الذي صاحبه خطر تدويل الصراع الطبقي. وهذا السبب وراء جنوح المخيّلة، بنحوٍ يعيد تنشيط أثر الوحدة الفقيدة هذه، إلى مساواة اليهوديّ مع «كوزموبوليتانية رأس المال» التي تهدد الاستقلال الوطني لكل بلادٍ، فهو عنصرٌ داخليٌّ مُستبعَدٌ تشاركته كل هذه الأمم، ويُصوّر بموجب كراهيةٍ ثيولوجيةٍ، هو موضوعها، شاهدًا سلبيًّا على ذاك الحبِّ المزعومِ توحيدهُ «الشعوب المسيحية».[4]

ولكنّ الهيئة تختلف تمامًا عندما تنجز العنصرية المعادية للمهاجرين تماهيًا عظيمًا بين الوضعية الطبقية والأصل الإثني (والأسس الحقيقية تعود هنا إلى حركة الطبقة العاملة عبر الأقاليم والأوطان والقارات، التي تتعاظمُ حينًا وتصغر حينًا أخرى دونَ أنْ تتلاشى، لأنها إحدى السمات الخاصة بالشرط البروليتاري). فتَمزجُ هذه المماهاةَ عندئذ مع توليفة وظائف اجتماعية متخاصمة: تُربط ثيمات «غزو» المغاربيّين للمجتمع الفرنسي أو تحميل الهجرة المسؤولية عن البطالة، بثيمات أموال شيوخ النفط الذين يشترون مؤسساتـ «ـنا» التجارية وأسهمـ «ـنا» العقارية ومصايفـ «ـنا». وذلك يفسر جزئيًا شيوع تسمية الجزائريين أو التونسيين أو المغربيين بـ «العرب» (ويجب ألا ننسى أنّ هذا الدال، وهو محورٌ حقيقيٌّ للخطاب، يربط هذه الثيمات بثيمات الإرهاب والإسلام وما إلى ذلك). ويجب ألّا ننسى الإعداداتِ الأخرى، بما فيها تلك الناتجة عن قلبِ المصطلحات: ثيمة «الأمة البروليتارية»،[5] على سبيل المثال، التي تعود على الأرجح إلى الحركة القومية اليابانية في عشرينيات القرن العشرين وقُدِّرَ لها أن تؤدي دورًا في تبلور النازية، لا بدّ من أخذها في الحسبان عند التحقيق في طرق انبعاثها الأخيرة.

يغنينا تعقيد هذه الترتيبات سببًا للإحجام عن الاعتقاد الخالص والبسيط بفكرة توظيف العنصرية ضدّ «الوعي الطبقي» (وكأنما هذا الأخير سينتج طبيعيًا وبالضرورة من الشرط الطبقي، لو لم يُحجب أو يُخطف أو يُمسخ بالعنصرية)، دون أنْ نتخلى عن الفرضية المبدئية الضرورية القائلة بتمثيلِ «الطبقة» و«العرق» قطبين متضادّين لجدليةٍ دائمة، تقع في صلبِ التمثيلات الحديثة للتاريخ. ونظنّ أنّ تفسير الحركة العمّالية أو منظِّريها للعنصرية تفسيرًا ذرائعيًا أو مؤامراتيًّا (وقد نبّهنا فيلهلم رايش بما يترتب على ذلك من تكلفة عالية، فهو من أوائل من تنبؤوا بها) ورديفه التفسير الميكانيكي الذي ينظر للعنصرية كـ «انعكاس» لشرط طبقي معين، فيهما إنكارٌ لحضور القومية في الطبقة العاملة ومنظّماتها، أو بعبارة أخرى: إنكارُ الصراع الداخلي بين القومية والأيديولوجية الطبقية الذي يرتهن إليه الصراع الجماهيري ضد العنصرية (والصراع الثوري ضد الرأسمالية). أسعى هنا إلى تبيان تطوّر هذا الصراع الداخلي عبر مناقشة بعض الجوانب التاريخية لـ «عنصرية الطبقة».

شدد العديد من مؤرّخي العنصرية (ليون بولياكوف، ميشيل دويشت وماديلين روبيرو، كوليت غوليمن، إيريك ويليامز متصدّيًا للعبودية الحديثة، وغيرهم) على حقيقة أنّ المفهوم الحديث للعرق عندما ابتدأ بالاستثمار في خطاب الازدراء والتمييز وإعمال هذا الخطاب لتقسيم الإنسانية بين شريحةٍ «فوق الإنسان» وشريحةٍ «دون الإنسان»، لم يبتدئ بدلالةٍ قومية (أو إثنية) بل بدلالة طبقية، أو بالأحرى (ولأن المقصد هو تمثيل تفاوت الطبقات الاجتماعية كتفاوتٍ في الطبيعة) بدلالة كَسْتيّة1النظام الكَسْتِي: نظام اجتماعي يفرز فيه الناس بين طوائف طبقية ووظيفية متوارثة (كستات). (caste).[6] من هذه الزاوية، للمفهوم أصلان: الأول يعود إلى التمثيل الأرستوقراطي للنبالة المتوارثة كـ «عرقٍ» فوقي (وهذه واقعًا هي السردية الأسطورية التي تُطَمئن بها الأرستوقراطية نفسها بشرعية امتيازاتها السياسية في وجه المخاطر التي هددت سيطرتها وتبتدع الحكايات حول استمرارية نَسَبِها المشكوك في أمرها)، والثاني يعود إلى تمثيلِ ملّاك العبيد للجمهرات التي أخضعتها للنخاسة كـ «أعراق» دونية مقدّرٌ لها بالعبودية الأبدية والعجز الأبدي عن إنتاج حضارة مستقلة. وهذا أساس خطاب الدم ولون البشرة والتهجين. ولم تأتِ «أثننةُ» مفهوم العرق إلّا بعد ذلك بغيّة إدماجهِ في المجمّع القومي، وتلك هي نقطة انطلاق تحوّلاته المتوالية. ومن هنا يتّضح اتصال التمثيل العنصري للتاريخ بالصراع الطبقي منذ البداية. لكن قيمة هذه الحقيقة لن تتجلى كاملةً إلّا عند معاينة الطريقة التي تطوّر بها مفهوم العرق وأثر القومية عليه منذ الهيئات الأولية لـ «عنصرية الطبقة»، أو بعبارة أخرى: عند فحص تحديده السياسي.

لم تتصور الأرستقراطية نفسها، أو تقدّم نفسها، بادئًا باعتبارات «العرق» وصنفه، فهذا الخطاب لم ينشأ إلّا في مرحلة متأخرة،[7] اتّخذ فيها وظيفةً دفاعية جليّة، فقد تطوّر في فرنسا مثلًا (حيث نلاحظ ما ألّفته النبالة المتوارثة من أساطير حول «زرقة دمائها» ورجوع أصولها إلى «الإفرنج» أو «الجرمان») مع مركزةِ الملكية المطلقة للدولةِ على حساب الأسياد الإقطاعيين وبدئها بـ «خلق» واحتضان أرستقراطية إدارية ومالية جديدة برجوازية الأصل، ما طبع خطوةً حاسمة في تشكيل الدولة-الأمة. ولنا في إسبانيا العصر الكلاسيكي مثالٌ ملفتٌ وأهم، استنادًا لتحليل بولياكوف: كان اضطهاد اليهود بعد «الاسترداد» نقطةَ انطلاقٍ ضرورية لتأسيس الكاثوليكية كدِيْن الدولة، وكان في آنٍ أثرَ محاربة الهَسْبَنة (أو بالأحرى: القَشْتَلة) للثقافة «المتعددة القوميات». وها هنا يظهر الارتباط الوثيق بين هذا الاضطهاد وتشكيل هذا النموذج الأولي للقومية الأوروبية. ولكن معنى العرق ازدادَ تأرجحًا مع توليده «تشريعات نقاء الدم» (limpieza de sangre) التي ورثها خطاب العنصرية الأوروبية والأمريكية بكافة أشكاله: كان في إسنادِ التعريف الوراثي للعرق (la raza) إلى إنكار التزاوج القديم مع الموريين واليهود، وما صاحب ذلك من تحقيقات لتحديد المستحقين لشهادة النقاء، تسهيلٌ لأمرين: فرزُ أرستقراطية داخلية، وإضفاء طابع نبالة اعتبارية (noblesse fictive) على كامل «الشعب الإسباني» وجعله «شعبَ أسياد» في زمن إمساكه بكبرى الإمبراطوريات الاستعمارية وتوسعته إياها بالإرهاب والإبادة والعبودية والإجبار على الدخول في المسيحية. وما مرّت به عنصرية الطبقة من تحويلٍ – دونما اضمحلال – إلى عنصرية قومية حاضرٌ في هذا المتجه النموذجي.[8]

لكنّ الفيصل في موضوع النقاش هو ما نشهد حدوثه من انقلابٍ في القيم منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر. إنّ العنصرية الأرستقراطية هي النموذج الأولي لما يسمّيه بعض المحلّلون اليوم «العنصرية ذات المرجعية الذاتية» التي تنطلق من ترقية المجموعة المتحكمة بالخطاب إلى منزلة «العرق»، وذلك سرُّ أهمية إرثها الإمبراطوري في السياق الاستعماري: سيرى البريطانيون في الهند والفرنسيون في أفريقيا أنفسهم جميعًا كأعضاء لنبالةٍ حديثةٍ، مهما بلغت أصولهم من ضعةٍ ومصالحهم وسلوكهم من سوقيةٍ. إنّ هذه العنصرية مرتبطةٌ أصلًا بنحوٍ غير مباشر بالمراكمة البدائية لرأس المال، وإنْ فقط بموجب وظيفتها في الأمم الاستعمارية. إنما مع خلق الثورة الصناعية لعلاقاتٍ رأسماليةٍ تحديدًا للإنتاج، خلقت العنصرية الجديدة للعصر البرجوازي (وهي تاريخيًا أوّلُ «عنصرية جديدة»): العنصرية التي استهدفت البروليتاريا في حالتها الثنائية كجمهرة معرّضة للاستغلال (أو حتى فرط الاستغلال قبل الدولة الاجتماعية) وكجمهرةٍ تحمل في طيّاتها تهديدًا سياسيًّا.

يقدّم لوي شوفالييه وصفًا مفصّلًا لشبكة الدلالات المعنية.[9] فعند هذه النقطة تغدو فكرة العرق، فيما يتعلق بـ «عرق العمّال»، منفصلةً عن مضامينها اللاهوتية-التاريخية لتدخل حقل المعادلة بين سوسيولوجية «الجسد الاجتماعي» وسيكولوجيته وبيولوجيّته المتخيلة وباثولوجيته. سيلاحظ القارئ هنا الثيمات الهوسية للأدبيات البوليسية والطبية والفيلانثروبيّة، وبعدها عموم الأدبيات (فهذه بالنسبة للأدبيات إحدى الينابيع الدرامية الأساسية وإحدى المفاتيح السياسية لـ «الواقعية» الاجتماعية). فحينئذٍ، ولأول مرّة، كُثِّفَت الأوجه الاعتيادية لعمليّات عرقنة المجموعات الاجتماعية في خطابٍ واحد: البؤس المادي والروحي، والنزعة الإجرامية، والخطيئة الخَلْقيّة (إدمان الكحول والمخدرات)، والعيوب الجسدية والأخلاقية، والنجاسة، والانحلال الجنسي، والأمراض التي تهدد البشرية بـ «الانحطاط» – بتذبذبٍ ذائعٍ: فتارةً يعدّ العمّال أنفسهم عرقًا منحطًا، وتارةً يعدُّ وجودهم أو الاحتكاك بهم أو حتى ظروف العمل نفسها خميرة انحطاط «عرق» المواطنين وأبناء الأمة. ومن خلال هذه الثيمات تؤسس المعادلة المخيالية بين «الطبقات العاملة» و«الطبقات الخطيرة»، ويصهر الصنف السوسيو-اقتصادي بالصنف الأخلاقي والأنثروبولوجي، فيوضع قاعدةً لكافة أشكال الحتمية السوسيو-بيولوجية (بل والنفسانية أيضًا)، عبر تَقلّد مؤهلاء علمية زائفة من النظرية الداروينية للتطور والتشريح المُقارِن وسايكولوجية الجماهير، وخصوصًا عبر الاستثمار في شبكة متماسكة ومُحكمة لمؤسسات الرقابة والتحكم الاجتماعي.[10]

التحَمت عنصرية الطبقة بالعمليات التاريخية الأساسية التي تطورّت بنحوٍ غير متكافئ حتى يومنا هذا. لا يسعني هنا إلّا ذكرها بإيجاز: أولًا، تتصل عنصرية الطبقة بِمشكلة سياسية لازمت تكوّن الدولة-الأمة. أثارت «الثورات البرجوازية» – وتحديدًا الثورة الفرنسية وما حملته من مساواتيّة قانونية جذرية – مسألة الحقوق السياسية للجماهير بنحوٍ لا رجعة فيه. فصارت قضية قرنٍ ونصف القرن من الصراع الاجتماعي. ففكرة الاختلاف في الطبيعة بين الأفراد أصبحت متناقضةً – إن لم تكن مستبعدةً – قانونيًا وأخلاقيًا، لكنّها ظلت ضروريةً سياسيًّا ما دام من الواجب إقصاءُ «الطبقات الخطيرة» (التي شكلت تهديدًا لمِلكيّة «النخب» وقوّتها ونظامها الاجتماعي القائم) بالقوة والقانون، من «الأهلية» السياسية وإبعادهم إلى هوامش الكيان السياسي – أو بالأحرى: ما دام مهمًّا حرمانهم من المواطنة عبر تبيان «افتقارهم» تكوينيًّا لميزات الإنسانية العادية أو الإنسانية الكاملة (وإقناع الواحد نفسه بذلك). تتصارعُ هنا أنثروبولوجيّتان: أنثروبولوجيّة المساواة في الولادة وأنثروبولوجية التفاوت المتوارث، ما يتيح إعادة تطبيع الخصومات الاجتماعية.

وهذه العملية، منذ بدايتها، تحددها علويًّا الأيديولوجيةُ القومية. ولنا تلخيصٌ لذلك في شرح ديسرائيلي[11] (الذي فاجأنا في نصوص أخرى بنزعته الإمبريالية، عبر التنظير لـ «فوقية اليهود» حتى على «العرق المتفوق» الأنجلو-ساكسوني) لمشكلة الدول المعاصرة كمشكلةٍ ميلِ تشكيلةٍ اجتماعيةٍ واحدةٍ إلى الانقسام إلى «أمَّتيْن». يشير في شرحهِ إلى مسلكٍ يُتاح، إثرَ الانقسام، للطبقات السائدة عند مواجهة التنظيم التقدّمي للصراع الطبقي يمكنها اعتماده: أولًا تقسيم جماهير «الفقراء» (خصوصًا بِنَسبِ مِيز الأصالة القومية، والصحة الجيدة، والنزاهة الأخلاقية والتماسك العرقي – أي: نقائضُ الباثولوجيا الصناعية تحديدًا – للفلّاحين وأصحاب الحِرَف «التقليدية»)، وبعدها الإزاحة التدريجية لوصمات الخطورة والوراثة من مجمل «الطبقات العاملة» وحصرها بالأجانب، خصوصًا المهاجرين والمُستعمَرين، في الوقت الذي ركّز فيه نظام الاقتراع العام في مجال الجنسيةِ التمييزَ بين «المواطنين» و«الرعايا». ولكنّ عملية الحصر اتصفت بتأخرٍ ملحوظٍ (حتى في بلدان مثل فرنسا حيث الجمهرة القومية لم تكن مفصولةً مؤسسيًّا ولم تخضع لنظامِ فصلٍ عنصري أصليّ، إلّا إنْ وسّعنا الإطار ليشمل كامل أراضي الإمبراطورية): استمرّت عنصرية الطبقة ضد الطبقات الشعبية (وظلَّت هذه الطبقات، بالتالي، عُرضَةً للوصم العرقي، وتردّدت بشدة في موقفها إزاء العنصرية). وهنا نستشعر وجهًا دائمًا آخر من وجوه عنصرية الطبقة.

أشير هنا إلى ما لا بدّ من تسميته باسمه الدقيق: العَرْقَنةُ المؤسسية للعمل اليدوي. من السهل تقصّي الأصول العتيقة له فهي بعراقة المجتمع الطبقي نفسه. ومع عراقتها فلا فرق بين ما عبرت عنه النخب الفلسفية اليونانية أيام العبودية من ازدراءٍ للعمل اليدوي والقائمين به وما قاله رجلٌ مثل فريدريك تايلور في 1909 بوجود نزعةٍ طبيعية لدى أفراد معينين نحو المهام المكررة القذرة المُنهِكة التي تستلزم قوّةً جسدية دون ذكاء أو حس مبادرة (وفي كتاب «مبادئ الإدارة العلمية» يطلق عليه مسمى «الرجل-الثور»؛ ومن المفارقة أنّه ينسب لهذا الرجل نفسه ميلًا متأصِّلًا لـ «التلكؤ الممنهج»، ما يستلزمُ «رجلًا يشرف عليه» لكي يعمل بما يتوافق مع طبيعته).[12] ولكن حصلت إزاحةٌ هنا إثر الثورة الصناعية والعمل المأجور الرأسمالي، فلم يعد العمل اليدوي بحد ذاته موضوع الازدراء أو مصدر المخاوف (بل على العكس، أضفت عليه الأيديولوجيات الأبوية القديمة مثاليةً نظريةً تحت مسمّى «العمل الحِرفي»)، بل العمل الجسدي، أو على وجه الدقة: العمل الجسدي المُمَكنن، الذي أضحى «ملحقًا بالماكنة» ومن ثمَّ معرضًا لعنفٍ جسدي ورمزي لا سابقةَ مباشرة له (ولم تمحُه المراحلُ الجديدة للثورة الصناعية، بل حُفظ بأشكال «حديثة» و«مُثقفة»، وبقيت الأشكال «القديمة» نفسها في كثيرٍ من قطاعات الإنتاج).

تغيّر هذه العملية حالة الجسم الإنساني (والحالة الإنسانية للجسم): إنها تخلق الرجل-الجسد، رجلٌ ذو جسد-ماكنة؛ جسدٌ مُشظَّى ومسخّرٌ ومستخدمٌ لتنفيذ وظيفة أو حركةٍ واحدةٍ مفرزة، تماسكه مدمّر مع تصنيمه، مضمورٌ مع تضخيم أعضائه «النافعة». ويلازم هذا العنف، مثل كافة ضروبه، مقاومةٌ وشعورٌ بالذنب. فبموجب الصراع وإثره تُحدَّد الكمية «العادية» للعمل وتستخلص من جسد العامل: القاعدة هي فرط الاستغلال، والميل لتدمير الكائن الحي (الذي سيُشار إليه بمجاز «الانحطاط») وفي أقل الأحوال: الإفراط في قمعِ الوظائف الذهنية الداخلة في العمل. عمليةٌ لا يطيقها العمّال أبدًا، بل ولا «يتقبلها» أسياد العمل دون شرحٍ أيديولوجيّ ومخيالي: فوجودُ رجالٍ-أجساد يعني وجود رجال دون أجساد. كون الرجال-الأجساد رجالًا ذوي أجسادٍ مشظّاة ومبتورة (حتى وإن اقتصر ذلك على «فصلهم» عن الأذهان)، يستلزم تزويد هؤلاء بـ جسدٍ علوي (sur-corps) وتنمية الفحولة الرياضية المتبخترة لدرءِ المخاطر المُحدِقة بالعرق الإنساني[13] . . .

فقط بهذا الوضع التاريخي وبهذه العلاقات الاجتماعية، لا بسواهما، سنتمكن من فهم عملية استجمال الجسد (ومن ثم، بالنمط التصنيمي، جنسنته) الداخلة في العنصرية الحديثة، فتارةً تؤدي إلى توصيمِ «العلامات الجسدية» للدونية العرقية، وتارةً إلى مثلنةِ «النوع الإنساني» للعرق الفوقي. وبهما يُسلّط الضوء على المعنى الحقيقي للجوء إلى البيولوجيا في تاريخ النظريات العنصرية، لجوءٌ لا علاقة له البتة بأثرِ الاكتشافات العلمية، فهو محضُ مجازٍ للخيال الجسدي ومثلنةٌ له. يمكن للبيولوجيا الأكاديمية وغيرها العديد من الخطابات النظرية أن تلبّي هذه الوظيفة، بشرط مَفْصلتِها بمرئيةِ الجسد، بطرائق كونه وسلوكه، بأطرافه وأعضائه الرمزية. انطلاقًا من فرضٍ طرحناه سابقًا حول العنصرية الجديدة وارتباطها بالطرق المستحدثة لفرز العمل الفكري بين عملياتٍ منعزلة، علينا تمديد تحقيقنا بوصف «جَسْدَنَة» القدرات الذهنية، وبالتالي عَرْقَنَتِها، وهي عملية بائنةٌ في كل مكان – من توظيف حاصل الذكاء (IQ) وحتى استجمال «الكادر» كصانع قرار ومثقّف ورياضي.[14]

ولكن في تكوين عنصرية الطبقة وجهٌ محدِّدٌ آخر. الطبقة العاملة جمهرةٌ لامتجانسة ومتغيّرة، و«حدودها» بموجب التعريف تفتقر للدقة، فهي مرهونة بالتحوّلات المتوالية دون انقطاع لسيرورة العمل وتحرّكات رأس المال. وهي خلاف الكستات الأرستقراطية بل والقطاعات القيادية للبرجوازية أيضًا، ليست كَسْتَةً اجتماعيّةً. ولكنّ ما تميل عنصرية الطبقة (ومن باب الأولى: عنصرية الطبقة القومية إزاء المهاجرين) إلى إنتاجه يرقى لانغلاقٍ كستيٍّ لجزء واحد من الطبقة العاملة على الأقل. ولنتوخى الدقة ولا نغفل جسامة القضية، إنها تغلق نظام «الحراك الاجتماعي» أضيق ما أمكن وتفتح تدفّقات التكديح (البرلتة) أوسع ما أمكن.

بعبارةٍ أخرى، ينطوي منطق مراكمة رأس المال على وجهين متناقضين هنا: فمن جهة يداوم على تحريك شروط الحياة والعمل وزعزعة استقرارها، لكي يضمن المنافسة في سوق العمل ويستقطب قوّة عمل جديدة من «الجيش الاحتياطي الصناعي» ويحافظ على فيضٍ نسبيٍّ للسكان. ومن جهة أخرى: يثبّت الجماعات العمّالية على المدى الطويل (على مدى عدة أجيال) لـ «تعليمهم» لأجل العمل و«قرنهم» بالشركات (ولتفعيل آليةِ تناظر بين هيمنةٍ سياسية «أبوية» و«نزعةٍ أسريّةٍ» عُمّالية). فمن جهة، إن الشرط الطبقي المرتبط حصرًا بعلاقةِ الأجر، لا صلة له بالسلف ولا بالخلف، ففي آخر المطاف حتى مفهوم «الانتماء الطبقي» خالٍ من أي معنى عمليٍّ، فلا أهميةَ إلّا للوضعية الطبقية، الآن وهنا. ومن جهةٍ أخرى، لا بدّ أنّ بعض العمّالِ على الأقل من أبناءِ العمّال، وبالتالي لا بدّ من خلق وراثة اجتماعية.[15] ولكن بخلقها، من ناحيةٍ عمليةٍ، تزدادُ إمكانيات المقاومة والتنظيم.

وقد ولَّد التصدي لهذه المقتضيات المتناقضة، سياساتِ الديموغرافيا والهجرة والفصل الحضري (التي أطلق عليها دانييل بيرتو مسمى: الممارسات الأنثرواقتصادية) التي فرضها أربابُ العملِ والدولةُ منذ منتصف القرن التاسع عشر،[16] بوجهيها الأبويّ (المتصل اتصالًا وثيقًا بالبروباغندا القومية) والرقابيّ، المتمثلين في «الحرب الاجتماعية» على الجماهير الهمجية و«نشر الحضارة» (بكلِّ معاني الكلمة) في هذه الجماهير نفسها، ولنا شرُّ مثالٍ اليوم في التعامل الاجتماعي-البوليسي المزدوج مع «ضواحي» (بونليو) باريس و«غيتوهاتها». فليس من قبيل المصادفة استطعامُ المجمّع العنصري المعاصر لـ «المشكلة السكانية» (بما تحمله من سلسلة مضامين: معدل الولادة، هجرة السكان وفيض السكان، «التهجين»، التمدين، الإسكان الاجتماعي، الصحة العامة، البطالة) وتفضيلهُ التركيز على مسألة تلك الفئة المسمّاة خلافًا للدقة بـ «المهاجرين» من الجيل الثاني، بهدف استكشاف ما إذا كانت ستخطو خطى الجيل السابق (الممكن تسميته بدقة بـ «العمّال المهاجرين») – وما يحمله ذلك من خطر تنمية روحٍ قتالية اجتماعية أقوى بمستويات، لمزجها مطالبَ طبقية بمطالبَ ثقافية، أو ما إذا كانوا سيدخلون عِداد «المُسَفَّلين»، الذين يحتلّون منزلةً متقلقلةً بين البروليتاريا السفلى و«الإخراج» من الطبقة العاملة. وهذا هو محور عنصرية الطبقة عند الطبقة المسيطرة والطبقات الشعبية نفسها: وصمُ جمهراتٍ قدّر لها بالاستغلال الرأسمالي – أو يراد إبقاؤها كجيشٍ احتياطيٍّ له – برموزٍ عامة حينما تنتزعهم السيرورة الاقتصادية من تحكم المنظومة المباشر (أو ببساطة، في لحظة تسبيب العطالة الواسعة لتعطيل قدرات التحكم القائمة أيضًا). وإبقاءُ من لا مكان محدد لهم، من جيلٍ لجيل، «في مكانهم»؛ ما يستلزم أنْ يكون لهم نَسَب. وتُوحَّد في المتخيَّل المقتضياتُ المتناقضة للترحال والوراثة الاجتماعية، وتُدَّجَن الأجيال، وتنقض شرعية مقاومتها.

إنْ كان أساس هذه الملاحظات متينًا، فقد تسلّط بعض الضوء على جوانب (متناقضة أيضًا) لأمرٍ أنا واثقٌ في تسميته بـ «العرقنة الذاتية» للطبقة العاملة، المتمثلة في جملةٍ من التجارب الاجتماعية والأشكال الأيديولوجية: من تنظيم تجمّعاتِ العمّال حول رموز الأصل الإثني أو القومي، وحتى تمحور بعض طرق العمّالويّة حول معايير الأصول الطبقية (وبالنتيجة على مؤسسة الأسرة العمّالية، على رابطٍ بين «الفرد» و«طبقته» لا تصيغه إلّا الأسرة) والتجليل المبالغ للعمل (وبالنتيجة للفحولة التي لا تُكتَسب إلّا به) لتعيد بذلك إنتاج جزء من مجموعة تمثيلات «عرق العمّال» تحت عنوان «الوعي الطبقي».[17] صحيحٌ أنّ أغلبية من أنتج الأشكال الجذرية للعمّالوية (في فرنسا على الأقل) كانت جماعات المثقّفين والأجهزة السياسية الرامية إلى «تمثيل» الطبقة العاملة (من برودون وحتى الحزب الشيوعي)، وليس العمّال أنفسهم، ولكن ذلك صاحبَ ميلًا عند الطبقة العاملة لتشكيل نفسها كـ «جسم» مُغلَق، للحفاظ على المكاسب التي نالتها والتقاليد النضالية ولِقلبِ دلالات عنصرية الطبقة للمجتمع البرجوازي ضدّه. ومن هذا الأصل الانفعالي ينبعث التردد الظاهر على العمّالوية: الرغبة في الهروب من شرط الاستغلال وَرَفض الازدراء الذي تتعرض له. ولا مثالَ لهذا التردد أبرزُ من علاقتها بالقومية وكره الأجانب (الزينوفوبيا). ففي رفض العمّال (في ممارستهم) القومية الرسمية (أو: في حال رفضوها)، ينتجون الخطوط العريضة لبديلٍ سياسيٍّ لهذا التشويه للصراعات الطبقية. ولكن حين يُسقِطون على الأجانب مخاوفهم وسخطهم، يأسهم وعصيانهم، فحربهم ليست – كما يقال – حربًا ضدّ المنافَسة فقط، بل والأحقّ أنهم يحاولون إبعاد استغلالِهم. ما نراه هو كراهيةٌ لأنفسهم، بصفتهم كادحين، من حيث هم عرضة للاقتياد إلى مطحنة التكديح. 

خِتامًا، مثلما بين القومية والعنصرية علاقة تحديد متبادل دائمة، بين «عنصرية الطبقة» و«العنصرية الإثنية» علاقةُ تحديدٍ متبادل، وهاذان التحديدان ليسا مستقلَّين. كلٌّ منهما له تأثيراته النسبية على حقل الآخر وتحت قيودٌ يفرضها الآخر. في تقفينا فرط التحديد هذا في خطوطه العريضة (وفي محاولتنا تبيان ما يكشفه من تمظهرات عينية للعنصرية ومن تكوين خطابها النظري)، هل أجبنا على الأسئلة المطروحة بدايةَ هذا المقال؟ من الأدق القول إننا أعدنا صياغتها. مكوّن العنصرية هذا، الذي سمّي في أماكنَ أخرى بالإفراط في القومية، يبدو عجزًا لدى الصراع الطبقي. ولكن رغم ارتباط هذا الإفراط بحقيقة تشكيل القومية بتعارضٍ مع الصراع الطبقي (حتى وإن وظَّفَت ديناميته)، ورغم ارتباط العجز بحقيقة قمعِ الصراع الطبقي بالقومية، فالواحد منهما لا ينوب عن الآخر، بل الواقعُ أن آثارهما تتمازج. ليس المهم أن نستقرّ على ما إذا كانت القومية في المقام الأول وسيلةً لِتخيّل وحدة الدولة والمجتمع والسعي نحوها، ترتطم بتناقضات الصراع الطبقي، أو ما إذا كانت أساسًا ردّةَ فعلٍ على العقبات التي يضعها الصراع الطبقي في طريق الوحدة القومية. بل المهم هو ملاحظةُ أنّه عند اجتماع الفجوة غير القابلة للجسر بين الدولة والأمة مع الخصومات الطبقية أبدية الانبعاث، في الحقل التاريخي، تأخذ القومية بالضرورة شكلَ العنصرية، شكلٌ يتنافس أحيانًا مع أشكال أخرى (مثل القومية اللغوية) ويتخالط معها أحيانًا أخرى، فيزاول اندفاعًا طائشًا سرمديًا. وحتى حين تبقى العنصرية كامنة، حاضرةً في قلةٍ فقط من الأوعية الفردية، فهي أصلًا ذلك الإفراطُ الداخلي للقومية الذي يشي بتمفصلها مع الصراع الطبقي، ومن ثمّ مفارقتها المتكررة أبدًا: تخيُّلها دولةً-أمة تسلسليًّا حيث الناس طبيعيًّا في «ديارهم»، لأنهم «بين أهلهم» (أمثالهم)، وجعلُها هذه الدولة غير صالحة للسكن؛ سعيُها لإنتاج جماعةٍ متّحدة في وجهِ الأعداء «الخارجيين» والاكتشاف مرارًا وتكرارًا بأنّ العدو «داخليٌّ»، يمكن التعرف عليه بدلالاتٍ ليست إلّا شرحًا طيفيًّا لانقساماتِها هي. إنَّ مجتمعًا كهذا، بمعنى حقيقي، هو مجتمعٌ مُغرَّبٌ سياسيًّا. ولكن هل من مجتمعٍ معاصرٍ لا يصارع، بدرجةٍ ما، تغريبه السياسي الخاص؟

[1] Pierre AYÇOBERRY, La Question nazie. Essai sur les interprétations du national-socialisme, Seuil, Paris, 1979.

[2] أنظر تنظيرات: Karl Popper, The Open Society and Its Enemies (2 vols), 5th edn (revised), Routledge & Kegan Paul, London 1966؛ ومؤخرًا: Louis Dumont, Essais sur l’individualisme. Une perspective anthropologique sur l’idéologie moderne, Seuil, Paris, 1983..

[3] تبدأ شخصنةَ رأس المال، وهو علاقة اجتماعية، مع شخص الرأسمالي نفسه. ولكن ليسَ ذلك كافيًا بالمرة لتحريك العواطف. ولذلكَ، واتّباعًا لمنطق «الفائض»، تتراكم سماتٌ تخيلية-حقيقية أخرى: أسلوبُ الحياة، السلالة (المئتين أسرة)، الأصول الأجنبية، الاستراتيجيات السرية، الخطط العرقية (الخطة اليهودية «للهيمنة على العالم»)، وهلم جرًا. ومن الجليّ أن لا مصادفة في عمل الشخصنة، خصوصًا فيما يتعلق بحالة اليهود، باندماجٍ مع عملية تصنيم المال.

[4] الأمور تزدادُ تعقيدًا مع تمثيل فقدان وحدة أوروبا «المسيحية»، وهو ترميز خرافي لـ «أصول حضارتها»، باصطلاح العرق في لحظة شروع أوروبا بمهمتها في «نشر الحضارة إلى العالم»، أي إخضاع العالم لسيطرتها، عبر التنافس المحتدم بين الأمم الأوروبية.

[5] انظر مثلًا: Benedict Anderson, Imagined Communities, Verso, London 1983, pp. 92-93.

[6] L. POLIAKOV, Histoire de l’antisémitisme, Le Livre de poche, « Pluriel », Paris, 1981 ; M. DUCHET, M. REBÉRIOUX, « Préhistoire et histoire du racisme », in P. DE COMARMOND et Cl. DUCHET (dir.), Racisme et société, F. Maspero, Paris, 1969 ; C. GUILLAUMIN, L’Idéologie raciste. Genèse et langage actuel, Mouton, Paris/La Haye, 1972 ; « Caractères spécifiques de l’idéologie raciste », Cahiers internationaux de sociologie, vol. LIII, 1972 ; « Les ambiguïtés de la catégorie taxinomique “race” », in L. POLIAKOV (dir.), Entretiens sur le racisme, t. I : Hommes et bêtes, Mouton, Paris/La Haye, 1975 ; Éric WILLIAMS, Capitalism and Slavery, The University of North Carolina Press, Chapel Hill, 1944.

[7] والذي يستبدل في الحالة الفرنسية «أيديولوجية الطبقات الثلاث»، وهي أيديولوجية ثيولوجية وقانونية أساسًا، تعبر بالمقابل عن المكانة العضوية التي احتلتها الطبقة النبيلة في بناء الدولة («الإقطاعية» حقًّا).

[8] L. POLIAKOV, op. cit, t. I, p. 95 sq.

[9] Louis CHEVALIER, Classes laborieuses et classes dangereuses à Paris pendant la première moitié du XIXe siècle, Le Livre de poche, « Pluriel », Paris, 1984.

[10]  أنظر مثلًا: G. NETCHINE, « L’individuel et le collectif dans les représentations psychologiques de la diversité des êtres humains au XIXe siècle », in L. POLIAKOV, Entretiens sur le racisme, t. II : Ni juif ni grec, Mouton, Paris/La Haye, 1978 ; L. MURARD et P. ZYLBERMAN, Le Petit Travailleur infatigable ou le prolétaire régénéré. Villes-usines, habitat et intimités au XIXe siècle, Recherches, Fontenay-sous-Bois, 1976.

[11] أنظر مثلًا:H. ARENDT, Antisemitism, 1re partie de The Origins of Totalitarianism, Harcourt, Brace and World, New York, 1968, p. 68 sq. ; L. POLIAKOV, Histoire de l’antisémitisme, op. cit., vol. II, p. 176 sq. ; Karl POLANYI, La Grande Transformation, Gallimard, 1983, appendice XI : « Disraeli, les “Deux Nations” et le problème des races de couleur ».

[12] Frederick Winslow Taylor, Principles of Scientific Management, 1911. انظر تعليقات: Robert Linhart, Lenine, les paysan, Taylor, Seuil. Paris 1976; and Benjamin Coriat, L’atelier et le chronometre. Christian Bourgeois. Paris 1 979. وانظر دراستي: ‘Sur le concept de la division du travail manuel et intellectue’ in Jean Belkhir et al . . L’intellectuel. l’intelligentsia et les manuels, Anthropos, Paris 1983.

[13] من الواضح أنّ «وحشية» العبد بقيت واستمرت مشكلةً منذ أرسطو ومعاصريه وحتى تجارة العبيد الحديثة (والجنسنة المفرطة الداخلة فيها شاهدٌ وافٍ)، لكن الثورة الصناعية أتت بمفارقة جديدة: قلَّت «وحشية» جسد العامل حيوانيّةً وازدادت تقنيّةً وبالتالي أُنسِنَت، وبالتالي فالذعر من الأنسنة المفرطة للرجل (في جسده وذكائه الذي «تجسّمه» العلوم الإدراكية وطرقها للانتقاء والتدريب)، لا من دونيّته، أو – على أي حال – في انقلابِ هاذين، هو الذي يُستفرغ في أوهام الوحشية وينتهي إلى تفضيل العامل ذو حالة «الغريب»، ما يضفي عليه في آنٍ سماتِ «الذَكر الآخر»، «المنافِس».

[14] أنظر الفصلين 1 و3 أعلاه.

[15]  ليس بمعنى البنوّة الفردية فقط، بل بمعنى «جمهرة» تميل إلى ممارسة الزواج الداخلي، وليس بمعنى نقل المهارات فقط (بوساطة التعليم والتدريب والانتظام الصناعي) بل معنى «أخلاقيات جماعية» أيضًا، مبنية في مؤسسات وعبر التماهي الذاتي. وإلى جانب الأعمال سالفة الذكر، أنظر: J.-P. de Gaudemar. La Mobilisation générale, .Éditions du Champ urbain, Paris 1979

[16] Daniel Bertaux, Destins personnels et structure de classe, PUF. Paris 1977.

[17] C. G . Noiriel, longwy: Immigrés et prolétaires. 1880-1980. P U F. Paris 1 98 5 ; J. Fremontier, La Vie en bleu : Voyage en culture ouvrière Broché, Fayard, Paris 1980; Françoise Duroux, ‘La Famille des ouvriers: mythe ou politique?’, unpublished thesis, Université de Paris VII, 1982.

تعريب:

هذا المقال جزء من منشور  «جدل تاريخي: الدولة وعناصرها».

afac

نشر هذا المقال في كتاب Race, nation, classe: Les Identités ambiguës وحصلت جمعية الهامش للأبحاث الاجتماعية على رخصة لنشر ترجمته من دار نشر (La Découverte).

copyright : © La Découverte, Paris, 1988, 2018.

Skip to content