الفصل الأول: الأحجية

فلنستمع لأصوات هؤلاء النساء:

إنه شخصان مختلفان. أحس وكأنني أعيش مع الدكتور جيكيل والسيد هايد.1«الدكتور جيكل والسيد هايد»: رواية كتبها المؤلف الأسكتلندي الشهير روبرت لويس ستيفنسون نُشرت للمرة الأولى عام ١٨٨٦، وتدور أحداثها حول محامي يقطن لندن يُدعى السيد أترسون يقوم بالتقصي عن أحداث غريبة تقع لصديقه القديم دكتور هنري جيكل وإدوارد هايد الشرير. يرتبط العمل عمومًا بحالة نفسية نادرة أحيانًا ما يُطلق عليها بطريق الخطأ «انفصام الشخصية»؛ حيث يوجد بداخل الشخص الواحد أكثر من شخصية مختلفة. وفي الحالة التي تطرحها الرواية، توجد بداخل الدكتور جيكل شخصيتان مختلفتان تمام الاختلاف من الناحية الأخلاقية، إحداهما طيبة في الظاهر، والأخرى شريرة. كان للرواية تأثير قوي؛ حتى إن عبارة «جيكل وهايد» أصبحت دارجة لتعني الشخص الذي يختلف توجُّهه الأخلاقي اختلافًا جذريًّا من موقف لآخر. (المصدر: مؤسسة هنداوي)

إنه لا يتقصد إيذائي حقًا. كل ما في الأمر أنه يفقد السيطرة ما بين فترةٍ وأخرى.

كل الناس يرونه إنسانًا عظيمًا، لست أعرف أيُّ عيبٍ فيني يدفعه للغضب.

إنه عادي حين يكون واعيًا، ولكن حالما يسكر، حذارى.

أحسُّ أن لا شيء أقوم به يسعده.

لقد أخافني بضع مرات، ولكنه لم يمس الأطفال بسوءٍ أبدًا. إنه أبٌ رائع.

ينعتني بأكثر الأسماء قبحًا، وبعد ساعةٍ يرغب بممارسة الجنس. لا أدري ما خطبه.

إنه يعبث بذهني أحيانًا.

كل ما في الأمر أنّه يفهمني حقًا.

لماذا يُعنِّف؟

هذه كلمات نساءٍ يصفن قلقهن وصراعاتهن الداخلية حول علاقاتهن. كلّ واحدةٍ تعلم أن هنالك خَطْبًا ما – شديدُ السوء – ولكنها عاجزة عن تحديده. ففي كل مرة تظن أنها فهمت شريكها، أنها فهمت ما يزعجه، شيءٌ ما جديدٌ يحدث، شيءٌ ما يتغير، وقِطَعُ الأحجية لا تعود تتناسب.

كل واحدة منهن تحاول أن تفهم كيف أصبحت علاقتها متقلبة هكذا. فلننظر مثلًا لحالة كريستين:

حين قابلت ماوري أول مرة، كان رجل أحلامي، وقد بدت علاقتنا أفضل من الخيال. كان ساحِرًا وظريفًا وذكيًا بل – والأفضل من ذاك كله – كان مجنونًا في حُبّي. فاتحته وآمنته على ما عانيت منه خلال السنوات الأخيرة، وقابلني بالتعاطف والمحبة. وكان كامل للاستعداد للقيام بأي شيء – مهما كان ما رغباتي، كان مستعدًا للقيام بها. كانت السنة الأولى – أو حواليها – من علاقتنا سنةً عظيمة.

لست أدري بالتحديد متى بدأ بدأت الأمور بالتغيّر، ولكنني أعتقد أن ذلك بدأ حالما بدأنا بالعيش معًا. بدأ التغيُّر بِقوله إنه بحاجة إلى مساحة خاصة أكبر. شعرت وقتها بالحيرة، فقبل ذلك كان هو من يطلب ألَّا نفترق لحظة واحدة.

وبعدها بدأت تأتي انتقاداته وشكاواه واحدةً تلو الأخرى.

بدأ يقول إنني ثرثارة ومتمحورة حول نفسي. لربما أكون كذلك – فأنا حقًا أُكْثرُ في الحديث. ولكنّه سابقًا بدى وكأنه لا يملّ الاستماع لي عن حياتي اليومية. وأصبح يقول لي إنّني لست أقوم بشيءٍ مهمٍّ في حياتي. أعلم أن لديه طموحاتٍ كبيرة، ولربما يكون محقًا، عليَّ أن أكون طموحةً مثله، ولكنّني سعيدةٌ ومقتنعةٌ بما لدي. وتلا ذلك تعليقه على وزني. ولم يعد يكف عن القول أنّ عليَّ أن أتمرن أكثر وعن معايرتي بما آكل وما أشرب. بصراحة، جرحني ذلك أكثر من أي شيء آخر. وبعدها قلَّت رغبته بممارسة الجنس، وإنْ حصل وحاولت مرّةً أن أبتدئ ممارسة الحب، فسيقابلني بالرفض.

ما زلنا مرتبطين، ولكنّي أشعر بأنه سيهجرني. أنا عاجزة عن الارتقاء لمستوى حاجاته، رغم أني أحاول جاهدةً، ولكنه ليس مقتنعًا بذلك. والآن حين يكون غاضبًا جدًا أو محبطًا، يرميني بكلامٍ جارح، فقبل بضعة أيام قال لي: «أنتِ لا تختلفين عن أمِّك في شيء ، كلبةٌ2النعت في النص الأصلي (bitch): لمصطلح كلبة باللغة الإنجليزية مضمونٌ عنصري ضد النساء يختلف بذلك عن رديفه العربي. كسولة تبحثُ عن رجل تقتات من لحم كتفه». لست أفهم لمَ يقول ذلك، فقد ساهمتُ كثيرًا في علاقتنا. لمْ أعمل خلال السنتين الماضيتين منذ أن ولد طفلنا، ولكنّني مستعدة للعودة إلى العمل قريبًا. لا أظن أنّه كان حقًّا يعني ما قاله، ولكن . . .

يقول إنني تغيّرت كثيرًا، ولكنّني لست دائمًا متأكدة أنني أنا من تغير.

أحيانًا، لأيام قليلة، يصبح شبيهًا لذلك الرجل الذي وقعت في حبه، مما يعطيني بعض الأمل، ولكنه، مرةً أخرى، ينزلق ويصبح ذلك الرجل الحانق علي. أنا أثير غضبه لسببٍ ما، ولست أعرف ما هي أخطائي.

أقلقَ كريستين عدّة أسئلة: ماذا جرى للرجل الذي وقعت في غرامه؟ لماذا يرميها دائمًا بالكلام الجارح؟ ما الذي يمكنها فعله لإيقاف انفجاراته؟ لماذا يعتقد أنّها هي من تغيرت، لا هو؟

تروي نساءٌ أخريات قصصًا مختلفة جدًا عن قصة كريستين، ولكنهن يشعرن بنفس الحيرة التي تشعر بها. هنا نجد ما ترويه باربرا:

فران هادئٌ وخجول، ولكنّه جذابٌ جدًا، فقد أعجبت منذ أول لقاء. تطلّب التودد له جهدًا حثيثًا، فقد كان انطوائيًا. نخرج في موعدٍ يومًا ما ونكثر الحديث، وأتوق لرؤيته مرةً أخرى. ولكن تمرُّ ثلاثة أسابيع دون رد، ويخبرني أنه كان مريضًا، أو أنَّ أخته زارته، أو أي شيءٍ آخر. وفي أكثر من مرة، نسي موعدنا.وفي آخر المطاف فاتحني. لقد آذته نساءٌ واعدهن من قبل، آذينه أذيّةً حقيقية. فقد خانته أكثر من واحدة، وقامت أخريات بغيرها من الأفعال اللئيمة، مما جعله يتخوف من التقرُّب من أحدٍ مرّةً أخرى.

شيئًا فشيئًا، بدأ بالتقرُّب منّي، وإن كنت أنا بالتأكيد الساعية إليه. حاولت أن أريه أنني لست كالنساء الأخريات اللّاتي عاشرهن، فلست من النوع الذي يغازل الرجال، ولست ممن تستعرضن جسدهن للرجال الآخرين، فأسلوب الحياة ذاك باختصار ليس أسلوبي. ولكن فران لم يصدقني أبدًا، فتكرر أن اتهمني بتبادل النظرات مع الرجال الجالسين جوارنا في المطعم، أو بتفحص رجلٍ ما مرّ بجانبنا. أشعر بالأسى عليه، فهو لا يشعر بالأمان أبدًا. أمّه خانت أبوه أيام طفولته، مما ضاعف من افتقاره الإحساس بالأمان.

لقد كنت متحمّسةً جدًا للزواج، فقد ظننت أن ذلك سيطمئنُه، يطمئنُه بأنّي له وحده، ولكنه كان مترددًا جدًا في الالتزام بالعلاقة. وحين عقدنا قراننا أخيرًا، ازدادت ثقته بي لبعض الوقت، ولكن الغيرة عادت بعد حين، ومنذئذٍ لم تغادر. كنت أطلبُ منه ما بين الفينة والأخرى أن يراجع أخصّائيًا نفسانيًا، ولكنّه يشتعل غضبًا ويقول إنْ لا خطب فيه.

قبل بضعة أيام ذهبنا إلى حفلة عيد ميلادِ صديقٍ له، ودخلت في محادثةٍ لطيفةٍ جدًا مع أخ صديقه. لم يكن لحديثنا دوافع أخرى سوى الحديث – ذلك الرجل لم يكن جذابًا حتى. ولكن فجأةً أخبرني فران أنَّ علينا العودة إلى المنزل لأنه مصابٌ بصداعٍ سيءٍ جدًا. وفي طريق العودة تبين أنَّ السبب الحقيقي هو الغيرة. بدأ يصرخ في وجهي قائلًا إنّه مشمئزٌ من إهاناتي له أمام الناس «متبخترةً بمفاتِنكِ أمامهم» وما إلى ذلك. كان يضرب بقبضته لوحة عدّادات السيارة، ورمى بي تجاه باب السيارة مرتين أو ثلاث، وكلّما أخبرته أني لم استعرض مفاتني، يشتاط غضبًا. كان أبناؤنا جالسين في الكرسيّ الخلفي. رؤية أبيهم بهذا الشكل أثارت رعبهم.

في عمري هذا، يصعب عليَّ التفكير بتركِه، فمن الصعب عليَّ البدء من جديد. أتمنى فقط لو يذهب لطبيبٍ نفساني.

المشاكل التي عانت منها باربرا مختلفة عن تلك التي عانت منها كريستين. لم لا يثق بها فران؟ ولماذا يعزلها عن الناس الآخرين؟ لماذا لا يتمكن من رؤية المشكلة التي يعاني منها ويحصل على مساعدة أخصّائي؟ هل سيؤذيها جسديًا يومًا ما؟ هل ستتحسن حياتها مستقبلًا؟

من النظرة الأولى، ماوري وفران لا يبدوان متشابهين أبدًا: أحدهما شابٌ محبوب وحيوي وجزّام، أما الآخر فخجولٌ اجتماعيًا وخاملٌ وسهل الإيذاء. فران عنيفٌ جسديًا أحيانًا، بينما ماوري ليس كذلك. ولكن هل اختلافهما صارخٌ كما يبدو أم أنهما يتشاركانِ نفس المشاكل التي تبعثُ بمثل هذه التصرفات؟ هذه بعض الأسئلة التي سنحاول الإجابة عليها في الفصول القادمة.

فلنأخذ مثالًا آخرًا، رواية لورا:

بول رجلٌ جيّدٌ جدًا. تواعدنا لحوالي ستة أشهر، وبعدها انتقلنا للسكن في شقة معًا لفترة أطول من ذلك، وعقدنا بعدها خطوبتنا. أشعر بالأسى عليه، فزوجته السابقة اتّهمته كذبًا وزروًا بالتعسف في المعاملة. لم يخطئ بول بحقها إلا مرّة، فقد حصل وخانها، لكن رغم هذا الخطأ الواحد، عزمت هي بعد ذلك على الانتقام منه، ولن يوقفها شيء. والآن تقول أنّه كان عنيفًا، مُدَّعيةً أنه صفعها بضع مرات وكسر أغراضها. يا للسخف! أنا معه منذ أكثر من سنةٍ، ويمكنني القول لك إنّه ليس كما تصف أبدًا. لم يمد بول يده عليَّ أبدًا. بل إنّه ساعدني في ترتيب أمور حياتي، ووقف إلى جانبي وقفةً أقدرها جدًا. كنتُ في حالٍ يرثى له عندما قابلته، فقد كنت مكتئبةً وأُكْثِر من الشراب، أما الآن فقد تحسنت كثيرًا، وكل ذلك بفضله. أكرهُ تلك الكلبة. كيف لها أن تتهمه بتلك التهم. سنتعاون أنا وإياه للحصول على حضانةِ أبنائه، فهذه الكلبة لا يمكن توقع ما ستفعله.

تساءَلت لورا كيف يمكن لطليقة بول أن تتهم رجلًا بشوشًا كهذا بالإساءة والتعنيف. وكانت غاضبةً جدًا حتى أنها لم تلاحظ علاماتِ تحذيرية عديدة في علاقتها مع بول.

لو جلست كريستين وباربرا ولورا معًا وقمن بمقارنة أوضاعهن، لربما يصلن إلى أن شركاءهن لا يتشابهون على الإطلاق. فشخصيات الرجال الثلاثة هؤلاء تبدو متباعدةً أشدّ البعد، وعلاقاتهن تخطو طرقًا منفصلةً تمامًا. ولكنّ ماوري وَفران وَبول يتشاركون صفاتٍ أكثر مما يبدو بادئًا. مزاجيّتهم وأعذارهم ومنظورهم كلّها تنبع من المنبع نفسه. وكُلُّهم رجالٌ مُعَنِّفون.

كارثة التعنيف

يمس التعنيف عددًا لا معقولًا من النساء في العلاقات الحميمية. حتى وإن تركنا حالات العنف اللفظي والنفسي الخالصة واقتصر نظرنا لحالات العنف الجسدي، فالإحصائياتُ مروّعة: في الولايات المتحدة الأمريكية، ما بين مليونيّ وأربعة ملايين امرأة يعتدي عليها شريكها كل عام، حتى أنَّ وزير الصحة الأمريكي أعلن أنَّ هجمات الشركاء الذكور هي المسبب رقم واحد لإصابات النساء من الفئة العمرية خمسة عشر إلى أربعة وأربعين. وتشير تقارير «الجمعية الطبية الأمريكية» إلى أنَّ واحدة من كل ثلاث نساء ستكون ضحيّةَ عنفٍ ألحقه به زوجها أو عشيقها في وقتٍ ما من حياتها. وتشكل الآثار العاطفية لعنفِ الشركاء عنصرًا فاعلًا في أكثر من ربع محاولات الانتحار لدى الإناث وهي المسبب الرئيس لإساءة استعمال المواد المخدرة لدى النساء البالغات. وتشير الإحصائيات الحكومية إلى أنَّ ما بين 1500 و2000 من النساء تُقتَلْنَ سنويًا بواسطة شركائهن الحاليين أو السابقين، مما يشكل ثلث مجمل الضحايا الإناث لجرائم القتل، وأنَّ جرائم القتل هذه دائمًا ما يسبقها تاريخٌ من العنف أو التهديد أو التعقب والملاحقة.

وتعنيف النساء يلحق الأذى بحياةِ الأبناء أيضًا ويرعبه. تقدِّرُ الإحصائيّات أنَّ 5 ملايين طفل يشهدن/ون تعنيفَ أمّهاتهن/م سنويًا، وهي تجربةٌ تصيبهن/م بصدمةٍ نفسية. ويُلاحَظ على الأطفال الذين يشهدن/ون عنفًا في المنزل أنهم يعانون من معدّلاتٍ أعلى من المشاكل السلوكية ومشاكل انتبا، والعدوانية وإساءة استعمال المواد المخدرة والاكتئاب وغيرها من مقاييس صدمة الطفولة. وفيما يتعلق بالطلاق، فتعنيف النساء يشكل سبب حوالي ثلث حالات الطلاق في الزيجات التي تتضمن أبناء ونصف حالات الطلاق التي يتبعها نزاعٌ على الحضانة.

رغم هذه الصورة القاتمة المُقلِقة، فنحن نعلم أيضًا أن الهجمات الجسدية ليست إلّا بداية الاعتداء الذي تتعرَّض له النساء، فهنالك ملايينٌ أكثر من النساء لم يمدّ أزواجهن أيديهم عليهن ولكنّهن تعشن حياةً من هجماتٍ لفظية متكررة وإذلال وإكراه جنسي وغيرها من أشكال التعنيف النفساني، إلى جانب ما يلازمها دائمًا من الاستغلال الاقتصادي، ويمكن لندوبِ القسوة النفسية هذه أن تدوم وتتوغل مثلما جروح اللكمات والصفعات، وإن لم تكن بنفس الوضوح. واقعًا، حتى ما بين النساء اللاتي تتعرضن للعنف الجسدي من شركائهن، نصفهن أو أكثر يُشِرنَ لكون التعنيف العاطفي أسوأ ما يضرّهن.

الفروقات بين الرجل المُعنِّف لفظيًا وذاك المعنِّف جسديًا ليست بالكثرة التي يتصورها الناس، فسلوكُ أيٍّ منهما ينمو عن ذات الجذور ويحفّزه نمط التفكير ذاته. والرجال في أيٍّ من الصنفين يتّبعان عمليّاتِ تغيّر متشابهة لكي يتجاوزوا عقيدتهم التعنيفية – ذلك إن تغيّروا، وهو للأسف ليس بالأمر الشائع. والحدود الفاصلة بين الأصناف هذه ليست واضحة، فالرجال القاسون والمتلاعبون ذهنيًا يميلون تدريجيًا لاستخدام التخويف الجسدي أيضًا. في هذا الكتاب، ستجدين المعنِّفين في طيفٍ يمتد من أولئك الذين لا ولن يستخدمون العنف أبدًا وحتى أولئك المرعبين. ومساحة الأسس المشتركة بينهم قد تدهشك.

أحد معيقات إدراك وفهم التعسّف المزمن في العلاقة الحميمية هي أنَّ أغلب الرجال المُعنِّفين ببساطة لا يَبدون كَمُعنِّفين. لديهم خصالٌ حسنة عديدة، تشمل أوقاتَ إحسانٍ ودفئ وفكاهة، بالتحديد في الفترة المبكرة من العلاقة. وأصدقاء المُعنِّف قد يرونه ملاكًا وقد يكون ناجحًا مهنيًّا وليس لديه أيّ مشاكل مع المخدرات أو الكحول. قد لا يتناسب ببساطة مع تصور الناس للشخص القاسي والمخيف. وبالتالي حين تشعر امرأةٌ ما أنَّ علاقتها فوضوية، قد لا يخطر ببالها أنَّ شريكها مُعنِّف.

ولكن عوارض التعنيف تكون حاضرة ويمكن للمرأة عادةً أن تراها: الوتيرة المتصاعدة للكلام الجارح، والكرَم المبكر في العلاقة يتحول تدريجيًا لأنانية، والانفجارات اللفظية حين يكون متضايقًا أو حين لا يحصل على مراده، أن ترى شكواها من تصرّفاته دائمًا ما تُقلَب رأسًا على عقب حتى يصبح كل شيءٍ خطأها، واعتقاده المتزايد بأنه أدرى منها بمصلحتها، وفي العديد من العلاقات يصاحب ذلك شعورٌ متنامٍ بالخوف والتهديد. ولكنَّ المرأة ترى أيضًا أنَّ شريكها إنسانٌ قادرٌ على الحنان والعطف أحيانًا، وتظل تحبه. ترغب بمعرفة لمَ يتكرر انزعاجه حتى تتمكن من مساعدته في كسر دورة تقلّباته. تنزلق بذلك لتعقيدات عالمه الداخلي، في محاوِلَةٍ لإيجاد الأدلة، تُحرِّك قطع الأحجية المعقدة تلك في أمل الوصول إلى حل.

تحيّرها تقلّباته المزاجية خاصّةًً، إذ تتغير شخصيته من يومٍ لآخر، أو حتى من ساعة لأخرى، فأيامًا يكون عدوانيًا ومخيفًا، ويتكلم بنبرة قاسية، يرميها بعباراتٍ نابية واحدةٍ تتلوها الأخرى وتنبع منه السخرية كما الزيت من الطبلة. وحين يتلبس هذا النمط، فلا وَقْعَ لما تقوله له عليه سوى زيادته غضبًا، ولا قيمة لما تقوله في أيّ جدال، فهو يحرِّفُ كلَّ كلمةٍ تقولها حتى ينتهي بها الأمر في وضع الدفاع. فكما قالت لي العديد من شريكاتِ زبائني: «كل ما أقوم به خطأٌ في نظره».

ولكن في لحظات أخرى، يبدو شريكهن مجروحًا وتائهًا، يلهف إلى الحب وإلى شخصٍ يعتني به. حين يبرز جانبه هذا، يبدو متفتّحًا ومستعدًا للتعافي من الألم، وتصبح وطأتهُ في المنزل أخفّ من ذي قبل، وقشرته الصلبة تَرُقّ، وقد يبدو كالطفل المجروح: صعبٌ ومُحبِط، لكن يستحق الحب والحنان. حين تراه في هذه الحال المثبطة، يصعب على شريكته أن تتخيل عودة ذلك المُعنِّف الكامن في داخله أبدًا. فالوحش الذي يستحوذ عليه في أوقاتٍ أخرى يبدو حينها غير متّصِلٍ بهذا الإنسان الرقيق الذي تراه أمام عينيها.

ولكن عاجلًا أم آجلًا، يخيّم عليه ظلّ الوحش مرةً أخرى، وكأنما لهذا الوحش روحٌ بل وحياةٌ منفصلة. قد تمرُّ أسابيعٌ تعم بالسلام، ولكنها تجد نفسها عرضة للهجوم مرةً أخرى. وبعدها يفترُّ رأسها مع الجهد الجهيد الذي تبذله لتفكيك خيوط شخصيّته المبهمة، حتى تبدأ تشكك فيما إذا كانت هي من في عقلها خطبٌ ما.

وما يزيد الطين بلة أنَّ كل شخصٍ تتحدث إليهـ/ـا لديهـ/ـا فكرة مختلفة حول طبيعة مشكلة شريكها هذا وما يجب عليه القيام به. فقد يقول لها رجل الدين: «الحب يشفي كل مريض. أعطِه قلبك بالكامل، وهو سيجد روحَ الله». ويحدّثها أخصائيّها النفساني بلغة مختلفة: «إنه يستثير فيك ردود فعلٍ قوية لأنه يذكرك بوالِدك، وتستثيره ذكرى علاقته بأمه. على كلٍّ منكما أن تعملا على ألّا تضغطا على بعضكما البعض». وقد يقول لها صديقٌ مدمنٌ سابق للكحول: «إنه مدمن للغضب. يتحكم فيك لأنّه يرتعد من مخاوفه. عليكِ أن تدخليه لأحد برامج الإصلاح الذاتي». وقد يقول لها أخوها: «إنه رجلٌ جيد، أعلم أنه يفقد أعصابه معك أحيانًا – فمن الواضح أنه سريع الغضب – ولكنّكِ أنتِ الأخرى لستِ أفضل منه حالًا بلسانك السليط هذا. عليكما أن تصلحا علاقتكما، إن كان ولا بد فلأجل الأطفال». وبعدئذٍ، كجوهرةٍ على تاجِ هذا الإرباك، تقول لها أمّها أو معلِّمةُ أطفالها أو صديقتها المفضلة: «إنه لئيمٌ ومجنون ولن يتغير أبدًا. كل ما يريده هو إيذاؤك، اتركيه حالًا لألّا يقوم بما هو أسوأ».

كل هؤلاء الناس يحاولون مساعدتها، كلّهم يتحدثون عن المُعنِّفِ نفسه، ولكن كلُّ واحد منهم يتحدث من زاوية نظرٍ مختلفة.

المرأة هذه تعلم، من عيشها مع الرجل المُعنِّف، أنه لا توجد حلولٌ بسيطة. يقول الأصحاب «إنّه لئيم» ولكن يمكن لها ذكر مرّاتٍ عدة كان فيها حنونًا، ويقولون «يعاملكِ بهذه الطريقة لأنكِ لا تحاسبينه، أما أنا فلن أسمح قطعًا لأحدٍ أن يعاملني أنا بهذه الطريقة» ولكنّها تعلم أنَّ المرّات التي واجهته فيها بأصرمِ ما لديها، كان ردّه بأن يتّجه لأقصى درجات الغضب والتهديد. فحين تواجِهه يعزم على أن يجعلها تدفع ثمن ذلك – عاجلًا أم آجلًا. ويقولون «اهجريه» ولكنّها تعلم أيضًا أن ذلك الخيار ليس بالخيار السهل، فهو سَيَعِدُها بأنه سيتغير، وسيدفع أصحابه وأقربائه للشعور بالأسى عليه ويدفعونها لإعطائه فرصةً أخرى. قد يكتئب ويصل اكتئابُه لدرجةٍ تُقلِقها من أنه قد لا يتجه لما هو أسوء إن تركته. وَوِفقًا إلى أي صنفٍ من أصنافِ المُعنِّفين ينتمي، قد تكون عالمةً بأنه سيشكِّل خطرًا عليها إنْ حاوَلَت هجره. وقد تقلقُ من أنّه سيحاول أن يُبعِدَ أطفالها عنها مثلما يقوم بعض المُعنِّفون.

كيف يمكن لامرأةٍ مُعنَّفة أن تخرج بصورة واضحة من كل هذا الإرباك؟ كيف يمكن لها أن تكسب تبصُّرًا كافي لأسباب مشاكله كي تعلم أي طريقٍ تختار؟ إن الأسئلة التي تواجهها مُلحّةٌ جدًا.

خمس أحاجي

على المختصين في التعامل مع الرجال المُعنِّفين والمتحكمين مواجهة ذات المشاكل المحيرة. كنتُ أحد مديري أول برنامجٍ استشاريٍّ من نوعه في الولايات المتحدة – ولربما في العالم – للرجال المُعنِّفين. حين بدأت بإدارة حلقات النقاش للمُعنِّفين قبل خمسة عشر سنةٍ تقريبًا، كنت في حيرة من المعنِّفين قدر ما كانت النساء اللاتي عشن معهم، ووجب علي، وزملائي، تكوين صورة ما استنادًا لذات الأدلة الغريبة التي واجهتها كريستين وَباربرا وَلورا. ظلَّت موضوعات عدة تواجهنا مرارًا وتكرارًا في روايات زبائننا، منها:

الأحجية الأولى:

 روايته لما جرى من تعنيف تختلف تمام الاختلاف عن روايتها

روى لنا رجلٌ ثلاثيني اسمه دَيل القصة التالية في يومه الأول في حلقة الرجال المُعنِّفين التي أديرها:

بدأت علاقتي مع زوجتي مورين قبل إحدى عشر سنة، وفي السنوات العشر الأولى كان زواجنا سعيدًا ولم تشوبه أي مشاكلٍ كسوء المعاملة أو التعنيف وما إلى ذلك. كانت مورين فتاةً رائعة. ولكنها بدأت بمصاحبة تلك الكلبة إلينور قبل سنة، وإلينور هذه تسعى لتدمير حياتي، فبعض الناس يزعجهم رؤية أيِّ شخصٍ آخر يعيش في سعادة. هذه الفتاة كانت عزباء ومن الواضح أنها كانت تغار من مورين لأن زواجنا سعيد، ولذا سعت لتدميره. لا أحد يطيق إلينور، وبالطبع علاقاتها لا تستمر، ومن سوءِ حظّي أنها تعرَّفت على زوجتي.

فهذه الكلبة بدأت بزرع أفكارٍ سلبية في رأس مورين عنّي محاوِلةً قلبها ضدي. تقول لِمورين أنني لست أهتم بها وأنني أعاشر بناتٍ أخريات وغيرها من الأكاذيب. وها هي تصل لمرادها، فقد – أنا ومورين – ي خضنا شجاراتٍ فظيعة، وخلال السنة الماضية فقدنا الأُنْسَ في علاقتنا. لقد قُلت لِمورين مرارًا أني لا أريدها أن تصاحب تلك الفتاة ولكنها لا تستمع إلي، فهي تتسلل وتخرج معها من وراء ظهري. لا أخفيك علمًا، فبصراحة، فقدتُ أعصابي مرّتين أو ثلاث مرّات خلال هذا العام، فلم أعد أتحمل كلّ تلك الاتهامات والصراخ ولذلك صفعتها. أنا أحتاج للمساعدة، لن أنكر ذلك، فعليَّ أن أتعلم كيف أدير توتّري على نحوٍ أفضل، فأنا لا أريدها أنْ تُدْخِلني السجن، ولربما ما زلت قادرًا على التعلم كيف أقنع مورين بألّا تهجر هذه العلاقة العظيمة، فعلى هذه الوتيرة قد ننفصل خلال ستة أشهر.

دائمًا أجري مقابلة مع شريكةِ كلّ زبون بعد انضمامه للبرنامج سرعان ما أمكن. تمكنت من التواصل مع مورين عبر الهاتف بعد عدة أيام، واستمعت لروايتها، وهي كالآتي:

كان ديل رائعًا حين قابلته ولكن عندما تزوجنا، طرأ عليه خطبٌ ما، فقد اتّجه من النظر إلي كملاكٍ كامل إلى انتقادي بلا توقف، وكان مزاجه يتعكر على أتفه الأمور، ويصعب عليَّ أن أعرف كيف أحسّن مزاجه، فَلَمْ يمر شهران منذ حفل زفافنا حتى دفعني بعنف، وكانت تلك المرة الأولى. بعد ذلك، كان ينفجر في وجهي غضبًا مرّتين أو ثلاث مرّاتٍ كل عام. عادةً ما كان يكسر شيئًا من حاجيّاتنا أو يرفع قبضته تهديدًا دونَ أن يضربني، ولكنه دفعني وصفعني بضع المرات. وفي أعوام أخرى لم يقم بأيٍّ من ذلك، وكنت أظن أن ذلك الزمن انتهى، ولكن سرعان ما يعود الوضع السابق – كانت تأتي على شكل موجات. وكان دائمًا، دائمًا يذلّني وينتقد ما أفعله أو ما لا أفعله، وكأنما كلُّ ما أفعله خطأ.

على كلٍّ، كوّنتُ صداقةً قبل عامٍ مع امرأة اسمها إلينور، وأخبرتني أنَّ ما يقوم به ديل يُعدَّ تعنيفًا رغم أنّه لم يلكمني أو يؤذيني، وقالت لي إنني لم أقم بشيءٍ يجعلني أستحق هذه المعاملة. في البداية اعتقدت أنها تبالغ، لأنّي أعرف نساءً وضعهن أسوأ من وضعي بمراحل. ويمكن لِدَيل، في المقابل، أن يكون لطيفًا وداعمًا حتى حين لا تتوقع ذلك، وصدق أو لا تصدق، لقد مررنا بأوقاتٍ سعيدة كثيرة. على كلٍّ، إلينور فتحت عيني على ما يجري نوعًا ما، وبالتالي بدأت بمواجهة دَيل حول طريقة كلامه معي وقلت له إنني أفكر بالابتعاد عنه لفترة. وما حصل هو أنّه جُنَّ جنونه. أكاد أقسم أن شيئًا ما تغير فيه. ضربني بظهر يده مرّتين خلال الثمانية شهورٍ الماضية، ومرّة أخرى رماني على أحد الكراسي فسقطت أرضًا. فبالتالي انتقلت لسكنٍ آخر، وحتى الآن لست أخطط للعودة إليه ولكنّي أعتقد أن ذلك يعتمد جزئيًا على ما سيقوم به في برنامج المُعنِّفين.

لاحِظي الاختلاف الصارخ: دَيل يصف أول عشر سنين من زواجه كسنينَ خالية من التعنيف، بينما مورين تتذكر إهاناتٍ متعددة وهجماتٍ جسدية أيضًا خلال تلك السنوات. مورين تقول أنَّ إلينور تساعدها وتدعمها، بينما دَيل يرى أنّها تفسد مورين وتقلبها ضده. يقول ديل أنّهما ما يزالان مرتبطين، بينما تشير مورين إلى كونهما انفصلا. وكلٌّ منهما يرى أنَّ الآخر أصابه خطبٌ ما. كيف يمكن لمنظوريهما أن يتضادا بهذه القوة؟ في الفصول القادمة، سنتطرق إلى تفكير الرجال المُعنِّفين كي نجيب على سؤال لماذا تحتوي نظرة ديل على تحريفاتٍ شديدة كهذه.

الأحجية الثانية:

إنّه يغار غيرةً جنونية، ولكنّه يبدو عقلانيًا تمامًا في النواحي الأخرى.

في أحد الحلقات يومًا ما، روى شابٌّ اسمه مارشال لنا المواجهة التي حصلت بينه وبين شريكته الأسبوع الماضي:

اتفقت أنا وزوجتي على اللقاء في ردهة المبنى الذي تعمل فيه ونخرج معًا للغداء. كنت أنتظر قرب المصاعد وحين خرَجَت من المصعد أخيرًا رأيتُ أنها كانت فيه وحيدةً مع رجلٍ حسن المظهر. رأيت تلك النظرة على وجهه، وعلى وجهها أيضًا، لا يمكنني وصفها ولكن كان واضحًا أن شيئًا ما جرى بينهما. قلت لها: «علامَ كل ذلك؟» وتظاهَرَت كأنها لا تدري عمَّا أتحدث. أثار ذلك غضبي حقًا، وأظن أنني انفجرت غضبًا في وجهها نوعًا ما، ولربما ارتفع صوتي أكثر مما يستدعي الأمر، ولكني كنت غاضبًا فقلت لها: «كنتِ تمارسين الحب مع ذلك الرجل في المصعد أليس كذلك؟ لا تكذبي عليَّ أيتها العاهرة فأنا لست بأحمق». ولكنها ظلّت تستغبي قائلةً إنها لا تعرفه حتى وما ذلك إلى من هراء.

مارشال رجلٌ شديدُ الغيرة، ولكنني تعاملت معه لفترة تكفي لأن أعرف أنه ليس مجنونًا، فقد كان واضحًا ومنطقيًا في الحلقة، وله تاريخٌ وظيفيٌّ ثابت وصداقاتٌ عادية ولا تبرز عليه علامات العيش في عالمٍ من الخيال أو الهلوسات، أي أنه ببساطة ليس لديه أيّة أعراضٍ من أنواع الأمراض الذهنية الشديدة التي قد تقنعه بأن زوجته يمكن لها أن تمارس الجنس في مصعدٍ ما بين طوابق عمارة مكاتِب مزدحمة، واقفةً ومرتديةً كامل ملابسها. يعلم مارشال بالتأكيد أنَّ اتّهامه لها ليس صحيحًا. وعندما واجهتُه، اعترف بذلك.

إن علمنا أنَّ حتى المُعنِّفون شديدو الغيرة لديهم نظرة معقولة للواقع، لماذا يرمون شريكاتهم بتهمٍ تبدو جنونية؟ هل هنالك شيءٌ يُمتعهم في التصرف كالمجانين؟ ماذا يحقق لهم تصرّفٌ كهذا؟ (سأجيب على هذه الأسئلة في الفاصل الثالث، حيث أتطرق لمسألة حس الملكيّة).

الأحجية الثالثة:

ينجح في كسب تأييد الناس ضدها.

انضم رجل في أواخر عشريناته اسمه مارتن لحلقتي وكان يعقد أيضًا جلساتٍ شخصية مع أخصّائي نفساني. أخبرني في اليوم الأول أنه محتارٌ وغير متأكد حول ما إذا كان يعاني حقًا من مشكلة تعنيفٍ أم لا، ولكن جيني، حبيبَتُه التي بدأ علاقته معها منذ فترة طويلة، كانت تستعد للانفصال عنه بدعوى أنه مُعنِّف. بدأ حينها بوصف حالاتٍ شتم فيها جيني أو تجاهلها أو تعمد جرحها عاطفيًا «كي تشعر بما أشعر به حين تؤذيني»، وأقرَّ بأنه أهانها عدة مرّات أمام الناس، وبمغازلةِ النساء حين يكون غاضبًا منها، وإفساد حدَثَيْن مهمّين في حياتها مؤخرًا بمشاجرتها أمام الحضور. برَّرَ كل هذه التصرفات بأنها نتيجة إحساسه بالأذى منها.

كجزءٍ روتيني من تقييمي لِمارتن تواصلت مع أخصّائيته الخاصة لمقارنة الانطباعات، وتبين لي أن لهذه الأخصائية آراءٌ حادة في هذه القضية:

الأخصائية: أعتقد أن حضور مارتن برنامجكَ هذا خطأٌ كبير. ثقته بالنفس منخفضةٌ جدًا، فهو يصدّق أي شيءٍ سيء يُقال عنه، فإن قلت له أنه مُعنِّف لن يزيد ذلك جرحه إلّا سوءًا. شريكته تصفعه بكلمة مُعنِّف طوال الوقت لأسبابها الخاصة، فَجِيني لديها مشكلة تحكّمٍ كبيرة وهي مصابة باضطراب الوسواس القهري وتحتاج للعلاج. أعتقد أن وجودَ مارتن في برنامجكم هذا سيحقق لها مرادها.

بانكروفت: إذن، أنت قمت بجلساتٍ استشارية زوجية معهما؟

الأخصائية: لا، جلساتنا فردية معه وحده.

بانكروفت: كم مرّة قابلتها إذن؟

الأخصائية: لم تأتي لأي جلسة أبدًا.

بانكروفت: بالتأكيد أجريت مكالماتٍ مكثفة معها إذن، أليس كذلك؟

الأخصائية: لا، لم أكلمها ولا مرة.

بانكروفت: لم تكلمها أبدًا؟ أعطيت جيني تشخيصًا إكلينيكيًا استنادًا على وصف مارتن لها فحسب؟

الأخصائية: نعم، ولكن عليك أن تفهم أننا نتحدث عن رجلٍ ذكيٍّ على نحوٍ غير معتاد، أعطاني مارتن العديد من التفاصيل وهو رجلٌ فهيمٌ وحسّاس.

بانكروفت: ولكنه يُقرُّ بأنه ألحق بِجيني تعنيفًا نفسانيًّا حادًا وإنْ لم يسميه بهذا الاسم. إنَّ الرجال المعنِّفين ليسوا مصادر موثوقة للمعلومات فيما يتعلق بشريكاتهم.

ما كان يتلقاه مارتن من جلسات علاج فردية، للأسف، هو ختم موافقة رسميٍّ لإنكار تصرّفاته ولنظره لِجيني كشخصٍ مريضٍ نفسيًا. كيف شكَّلَ مارتن تصوّرَ الأخصائية لشريكته وجعلها تتخذ صفّه؟ كيف يمكن للمُعنِّفين أن يكونوا ماهرين هكذا في تجنيد أعضاء جدد في صفّهم، مما يشمل أحيانًا أناسًا ذوي مكانة أو نفوذٍ معتبرة، وماذا يريدون من ذلك؟ (أركز على هذه الأسئلة في الفصل الحادي عشر، «الرجال المُعنِّفون وحلفاؤهم»).

الأحجية الرابعة:

في بعض الحوادث يبدو وكأنه فقد السيطرة على نفسه، ولكنَّ تصرّفاته التحكميّة الأخرى تبدو محسوبةً جدًا.

قبل عدة سنوات، قَدِم شابٌّ اسمه مارك لإحدى حلقات المُعنّفين التي أدرت. وحين ينضم زبونٌ ما للبرنامج، أعدُّ له أهدافًا سلوكية سرعان ما أمكن، وكثيرًا ما أبدأ معه بالسؤال: «ما هي أعلى ثلاث أو أربع شكاوى لشريكَتك عليك؟» كان جواب مارك:

أحد أكثر الأمور التي تشتكي منها إيلين هو قولها إنني أتجاهلها. تخبرني أنني لا أعطيها أولوية أبدًا ودائمًا ما أرغب بالقيام بأمورٍ أخرى عوضًا عن قضاء الوقت معها، مما يشعرها بأنها نكرة. أما أنا فأحب أن أخصص وقتي لأقضيه مع نفسي، أو أن أرتاح أو أشاهد التلفزيون، وبالتالي أعتقد أنني أتجاهلها بعض الشيء.

وفق رواية مارك كَتَبتُ في أعلى «الخطة السلوكية» الخاصة به بالخط العريض: «اقضِ المزيد من الوقت مع إيلين. اجعل منها إحدى أولويّاتك».

كانت إيلين لا تردُّ على الهاتف فتعسَّر عليَّ التواصل معها، ولكن بعد ثلاثة أسابيع اتّصَلت بي أخيرًا حاملةً معها قصة مفاجئة:

قبل بضعة أسابيع من دخول مارك برنامجكم أخبرته أنني أحتاج لفاصلٍ تام في علاقتنا، فأنا لم أعد أتحملّه أبدًا؛ كلُّ ذلك الصراخ وتلك الأنانية. كان يحرمني حتى من النوم. ولذلك لم أُرِد أن أتحدث معه لفترة معينة حتى، فكنت أحتاجُ بعضًا من الوقت بعيدًا عنه لكي أتمالك نفسي، وكنت قد طمأنته بأنَّ علاقتنا لم تنتهي وأننا سنعمل على العودة إلى العلاقة بعد بضعة أشهر، بعدَ المُتنفّسِ ذاك.

وبعد أسبوعين من ذلك، اتّصلَ بي وأخبرني أنَّه انضم إلى برنامج للمُعنِّفين وأنَّ استشاريّه يريد منه أن يقضي وقتًا أكثر معي وأنه كتب ذلك في خطّته وأنَّ البرنامج أخبره أن قضاء الوقت معي جزءٌ من كيفية عمله على التعامل مع مشاكِله. لم أكن مستعدة لذلك حينها أبدًا ولكني لم أرغب أيضًا بالتعارض مع برنامجه، وبالتالي بدأنا بالخروج معًا مرة أخرى. إنني أرغب بأفضل ما يمكن أن يساعده على التغير. لكي أكون صادقةً معك، كنت بحاجة للمزيد من الوقت، ولكن إن كان هذا ما ينصح به برنامجكم. . .

نجح مارك في تحوير برنامج المُعنِّفين ليناسب أغراضه، وشرحتُ لِإيلين ما جرى واعتذرتُ لها عن الطرق التي زاد فيها برنامجي من الصعوبات العديدة التي واجهتها معه. إن درجة التلاعب العالية هذه التي وظَّفها مارك هي واقعًا، للأسف، شائعة لدى الرجال المُعنِّفين. كيف يمكن للمُعنِّفين أن يكونوا قادرين على القيام بحساباتٍ كهذه بينما يبدون في أوقاتٍ أخرى فاقدين السيطرة على أنفسهم تمامًا؟ وما هي الصلة بين الحالتين؟ توجد الأجوبة في الفصل الثاني، حيث أتطرق للأعذار التي يستخدمها الرجال المُعنِّفون لتبرير سلوكياتهم.

الأحجية الخامسة:

يبدو أحيانًا وكأنه يتغيّر حقًا، ولكن سرعان ما يختفي ذلك التغير.

كارل رجلٌ عمره ستة وعشرون عامًا اعْتُقِل أكثر من مرة بتهم العنف الأسري وفي آخر مرة قضى بضعة شهورٍ في السجن. قال لي أثناء جلسة الحلقة:

كان دخولي السجن القشة التي قصمت ظهر البعير. أدركتُ أخيرًا أن عليَّ التوقف عن إلقاء اللوم على الآخرين على مشاكلي والنظر في داخلي. قال لي الناس في السجن الشيء نفسه: إنْ كنت لا ترغب بالعودة إلى هذا المكان، عليك أن تواجه نفسك. أنا سريعُ الغضب، ولئيمٌ بعض الشيء لأكون صادقًا معك، وعليَّ مواجهةُ ذلك. لا أريد العودة إلى ذاك المكان لأي سببٍ كان.

في نهاية كل جلسة استشارة، يدلي كارل بتعليقاتٍ مثل، «يمكنني رؤية أن عليَّ العمل على تعديل نظرتي» و«تعلّمت الكثير الليلة حول كيف أنَّ الأعذار تمنعني من التغير». وفي إحدى الليالي نظرَ إليَّ وقال: «أنا مسرورٌ جدًّا بلقائي إياك، لأنني أعتقد أننّي إن لم أتعلم منك هذه الأشياء، لكنتُ اتجهتُ مباشرةً مرةً أخرى إلى الحبس. أنتَ تساعدني على تعديل عقليّتي».

تواصلتُ مع بيغي، حبيبة كارل، بالهاتف وبدأت بسؤالها عن تاريخ مشكلة كارل مع التعنيف. كان صوتها يوحي بوضوح أنّها مشتتة الذهن وغير مرتاحة، مما بعث باشتباهٍ لدي بأنَّ كارل كان يستمع للمحادثة، وبالتالي قدمتُ عذرًا لإنهاء المكالمة بأسرع ما يمكن. وحين قدم كارل لحلقتي الأسبوع التالي، تركتُ لقائد الحلقة الثاني مسؤولية إدارة الجلسة بينما خرجتُ أنا للاتصال بِبيغي مرةً أخرى، لأرى ما إذا كانت تشعر بارتياحٍ أكثر للحديث معي. وهذه المرة تدفق حديثها كالسيل:

يعود كارل إلى المنزل من البرنامج هائجًا كل أسبوع. أخافُ البقاء في المنزل في عشيات يوم الأربعاء، يوم ذهابه للجلسات هذه. يقول إنّ البرنامج محضُ هراء، وإنّه لنيجلس هناك ليتلقى إهانتكم لولا أنّي بلّغتُ الشرطة، ويقول إنّي أعلم أنَّ الشجار في تلك الليلة كان خطئي على أيّة حال. قال إنّه يكره ذاك الرجل لَندي بالخصوص. وقبل بضعة ليالي قلتُ له أن عليه التوقف عن إلقاء اللوم عليَّ على ذهابه إلى جلسات الاستشارة، وصفقني بإطار الباب وقال لي إن لم تخرسي فسأقطع أنفاسك. عليَّ أن أبلّغ الشرطة، ولكنه هذه المرة سيُسَجن لسنتين لأنه تلقى إفراجًا مشروطًا فقط، وأخافُ أنَّ ذلك سيكون كافيًا ليدفعه لقتلي حين يخرج.

واستمرت بيغي بوصف تاريخ الضرب الذي عانت منه على يد كارل قبل دخوله السجن: المرّات الذي كدّم فيها عينيها، وكسَّر الأثاث، وتلك المرة التي هددها بوضع السكين على رقبتها. وقد لامها دائمًا على كلِّ مرة هاجمها فيها، مهما كانت وحشية تعنيفه أو خطورة إصاباتها.

بعد الحديث مع بيغي، عُدتُ إلى الحلقة، حيث دخلَ كارل في روتينه المعتاد من اكتشاف الذات والتعبير عن الشعور بالذنب. بالطبع لم أقل أيّ شيء؛ لو علم أنّ بيغي قالت لي الحقيقة، لكانت بيغي في خطرٍ كبير. بعد ذلك بفترة وجيزة، أعلمتُ الشرطي المسؤول عن إفراجه المشروط أنّه غير مناسب لبرنامجنا، دون إعطائه السبب الحقيقي.

خلق كارل صورة التلميذ الشغوف في كل جلسة، وتعليقاته أوحت بتفكّرٍ وتأملٍ جاد في هذه المسائل، بما فيها آثار التعنيف على شريكته. ما الذي كانَ يجري في ذهنه كل أسبوع قبل عودته إلى المنزل؟ كيف يمكن لِمُعنِّفٍ أنْ يكسب هكذا معرفة بمشاعره ويستمر بنفس التصرفات المدمِّرة؟ وكيف يمكن للتغيير الحقيقي أن يحدث؟ (سنعود لهذه الأسئلة في الفصل 14، «عملية التغيير».)

ليست هذه إلا قِلَّةً من المسائل المحيّرة العديدة التي تواجهها أي فردٍ، سواءً أكانت شريكةُ الرجل المُعنِّف، أو أصدقائه، أو مستشاره، تبحث عن الطرق الفعّالة للاستجابة للتصرفات التعنيفيّة. من خلال خبرتي مع أكثر من أَلفَي مُعنِّف، وصلت إلى الاستنتاج بأنَّ الرجل المُعنِّف يودُّ أن يكون أحجية. لكي يفعل ما يريد دون أي محاسبة ويجنّب نفسه مواجهة مشاكله، يحتاج لإقناعِ كلّ من هم حوله – وحتى نفسه – أنَّ تصرفّه غير مفهومٍ أبدًا. يريد من شريكته أن تركز على كلِّ شيء سوى الأسباب الحقيقية وراء تصرّفاته. لكي نرى المُعنِّف على حقيقته، من الضروري تجريده من طبقاتِ التشويش وأساليب التواصل المُرْبِكة والخداع. مثل أيِّ شخصٍ لديه مشاكل جديّة، يعمل المُعنِّفون بجدٍّ لإخفاء ذواتهم الحقيقية.

جزءٌ من كيفية هرب المُعنِّف من مواجهة نفسه هو إقناعك أنّكِ أنتِ سببُ تصرّفه، أو على الأقل أنّكِ مُلامةٌ مثلما هو ملام. ولكن التعنيف ليس نتاج آلياتِ علاقة سيئة، ولا يمكنك تحسين الأوضاع بتغيير تصرفاتك أو بمحاولة إدارة شريكك على نحوٍ أفضل. التعنيف مشكلة تقع بأكملها في المُعنِّف.

عبر سنواتٍ من العمل المباشر مع المعنِّفين وشريكاتهم، وجدّتُ أنَّ الواقع الذي يستبطنه المُعنِّف الأحجية بدأ تدريجيًا يخرج إلى النور مُشكِّلًا صورةً مقروأة. الصفحاتُ التالية ستأخذ بيدك عبر القطع التي رأيتها تنزل في أماكنها واحدةً تلو الأخرى، منها:

  • لماذا المُعنِّف فاتنٌ في بداية العلاقة ولكنه لا يبقى كذلك.
  • الإشارات التحذيرية المبكرة الممكن أن توحي بأنّك قد تكونين في علاقة مع رجلٍ مُعنِّف أو مُتحكِّم.
  • لماذا مزاجه يتغيّر على أتفه الأشياء.
  • ماذا يجري في ذهنه وكيف يشكّل تفكيرُه تصرّفاتِه.
  • ماهية الدور الذي تلعبه – ولا تلعبه – الكحول والمخدرات في التعنيف في العلاقة.
  • لماذا هَجْرُ الرجل المُعنِّف لا يحل المشكلة دائمًا.
  • كيف تعرفين ما إذا كان المُعنِّف يتغيّر فعلًا – وما يجب أن تفعليه إن لم يكن فعلًا كذلك.
  • كيف يمكن للأصدقاء والأقرباء وغيرهم من مجتمعك المساعدة في إيقاف التعنيف.
  • لماذا العديد من الرجّال المعنّفين قد يبدون مريضين نفسيًّا – ولماذا ليسوا كذلك واقعًا في العادة.

سوف نستكشف إجاباتِ هذه الأسئلة على ثلاثة مستويات. المستوى الأول هو تفكيرُ المعنف – آراؤه ومعتقداته – في التعامل اليومي. الثاني هو عمليّة تعلّمه التي من خلالها بدأ تفكيره بالتكوّن مبكرًا في حياته. والثالث يتعلق بالثمار التي يجنيها من التحكم بشريكته، والتي تشجعه على استخدام تصرفه التعنيفي مرارًا وتكرارًا. ومع كشفنا الستار الدخاني وتشتيته بهذه المفاهيم، ستجدين أنَّ التعنيف ليسَ غامضًا كما يبدو في البداية.

في ذهن المُعنِّف هنالك عالمٌ من المعتقدات والتصورات والتعاملات التي تتناسب مع بعضها البعض على نحوٍ مفاجئ في منطقيته. تصرّفُه يبدو معقولًا فعلًا من منظوره. ووراء قناع اللا عقلانية والطبع الانفجاري، هنالك إنسانٌ بمشكلة يمكن فهمها – وحلُّها أيضًا. ولكنّه لا يريد لك أن تفهميه.

يخلقُ المُعنِّف الحيرة لأن عليه ذلك. لا يمكن له أن يتحكّم بكِ ويخوّفك أو أن يجنّدُ المحيطين به إلى صفه ولا أن يفرّ من عواقب أفعاله إلّا إذا تمكن من تضليل الجميع. وحالما يفهمُ العالَم هذا المُعنِّف، تبدأ قوّته بالانحلال. إذن، سنسافر إلى ما وراء قناع المُعنِّف وإلى قلب مشكلته. هذه الرحلة ضرورية لصحة وشفاء النساء المعنَّفات وأبنائهن، لأنك حالما تدركين كيفية عمل ذهنية شريكِك، يمكنك وقتها بدء استرداد التحكم بحياتك. وكشفُ القناع هذا يفيده هو أيضًا، لأنه لن يواجه – ويتجاوز – مشكلته التدميرية هذه طالما يمكنه البقاء متخفّيًا.

كلما تحسَّن فهمنا للمعنِّفين، يمكننا خلق منازل وعلاقاتٍ هي مأوى للحب والأمان كما يجب أن تكون. السلامُ حقًّا يبدأ في المنزل.

العودة إلى قائمة المحتويات:​

كتاب: نظرة داخل عقول الرجال المتحكِّمين والمعنِّفين

Skip to content